وهم الرهان على انفكاك النظام السوري عن إيران/ أكرم البني
خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، كان ثمة رهان يلقى رواجاً بين أهم الدول المتضررة أو التي لم تكن ترضيها سياسة النظام السوري، فحواه عدم توجيه انتقادات حادة له جراء نهجه القمعي الداخلي وتدخلاته الوصائية في الإقليم، وخاصة في لبنان وفلسطين، والغرض فك ارتباطه بالقيادة السوفياتية، أو عدم دفعه لمزيد من الالتحاق بسياساتها، وقد باء هذا الرهان بالفشل وقتئذ؛ حيث لم يتزحزح نظام دمشق قيد أنملة عن تلاحمه مع الكرملين، واندفع أكثر لإبرام ما عرف بمعاهدة الصداقة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي، ساخراً من، ومستثمراً، في الوقت ذاته، تلك المواقف المرنة على أفضل وجه.
ثم شهدنا في مطلع الألفية، بعد رحيل حافظ الأسد، محاولات أوروبية تقودها فرنسا، لاستمالة الطاقم السلطوي الجديد بغرض إبعاده عن النظام الإيراني، تحدوها مرونة وغض نظر عن الاعتقالات التي جرت ضد رموز ربيع دمشق، وتنازلات لافتة لتشجيعه على توقيع عقد الشراكة مع الاتحاد الأوروبي؛ لكن تلك المحاولات ما لبثت أن وصلت إلى طريق مسدودة، رافقها تصعيد إقليمي لسلطة دمشق بالتنسيق مع طهران، كان أوضحه اغتيال رفيق الحريري في لبنان.
واليوم، ما إن تمكن النظام من الاستمرار في السلطة بعد أن فتك بأرواح السوريين ودمر عمرانهم وأحلامهم وأباح البلاد لقوات حلفائه، حتى عادت النغمة ذاتها، وإنْ بشكل مختلف، عبر إشارات تدعو للتعاطي الإيجابي معه، لإبعاده عن حليفته طهران، على أمل تفكيك عرى علاقة تاريخية وثيقة بينهما، لم تنفك تتطور وتتعزز، بخاصة في فترات الصعوبات والمحن.
صحيح أن إيران ليست الاتحاد السوفياتي، وأن الجذر الاشتراكي للنظام السوري البعثي كان عاملاً مساعداً لتعزيز علاقته مع السوفيات، وصحيح أن ثمة مسافة بين نمط الحياة الذي يستمد منه نظام طهران قوته، وبين اضطرار حكومة دمشق لمغازلة مجتمع الأقليات والتعددية السوري كي تضمن تسلطها؛ لكن بعد سنوات من حرب دموية اتخذت بعداً مذهبياً بغيضاً، لم تعد لهذه الفوارق قيمة، وبات التناغم الآيديولوجي بين النظام السوري والنهج الإسلاموي لحكومة طهران حاضراً بصور متنوعة، إنْ فيما يروجانه عن وجود توافق تاريخي بين العلويين والشيعة وأنهما من جذر واحد، كما الحالة مع جماعة الحوثي في اليمن، وإنْ بالفسحة التي تتسع باستمرار للتعبئة والتحشيد للمذهب الشيعي، ولجعل شعائره أمراً مألوفاً وشائعاً في البلاد. وإذا أضفنا تنامي الجمعيات الخيرية والمدارس الدينية الشيعية، وتكاثر الاتفاقات السلطوية المذلة التي عقدت مع النظام الإيراني، وسمحت لهذا الأخير بالتغلغل والتأثير في المكونات الاجتماعية والاقتصادية السورية، بما في ذلك قطاع التعليم، وأضفنا أيضاً الدور الذي يلعبه «حزب الله» اللبناني بشعاراته ودعايته ضد إسرائيل، والتي تغازل الحساسية الوطنية المعروفة للشعب السوري تجاه القضية الفلسطينية، يمكن أن نلمس ماهية الروابط الآيديولوجية التي يسعى النظامان السوري والإيراني لتنميتها وتعزيزها، والحرص على منع هتكها أو تفكيكها.
وما يزيد الصورة وضوحاً، أن النظام السوري الذي كان يعتبر قوياً نسبياً، زمن الاتحاد السوفياتي، ويستند إلى أداة عسكرية متخمة بالسلاح، وإلى أجهزة أمنية متوغلة في العنف والإرهاب، هو اليوم في أضعف حالاته، وقد خرج مرتبطاً ومرتهناً بشدة للأطراف التي دعمته ومكنته من الاستمرار، ما يجعل من الصعوبة بمكان التعويل على موقف مستقل له. فأنّى لسلطة ضعيفة لم تعد تمتلك قرارها، ومرتكبة لجرائم سافرة ضد الإنسانية، وتتحسب من لحظة يمكن أن تخضع فيها للمساءلة والمحاسبة، أن تجد أوفى من الحليف الإيراني المارق كي تنجو بأفعالها؟
وفي المقابل، يستند البعض في رهانهم على إبعاد دمشق عن طهران، إلى وزن روسيا وما يثار عن وجود مصلحة لها في ذلك، أو إلى حالة العداء التي تتضح أكثر بين إيران والمجتمع الدولي، والمثال مؤتمر وارسو الذي عقد مؤخراً. لكن ثمة مبالغة كبيرة في الاستناد إلى هذين العاملين، ليس فقط لأن لروسيا مصلحة حقيقية أيضاً في توظيف الحليف الإيراني لتعزيز أوراق النزاع على النفوذ في كثير من المناطق وبؤر التوتر في العالم، وإنما أساساً لأن ميليشيا إيران هي من تسيطر ميدانياً في سوريا، ولديها مهارات قوية في إدارة الأمور على الأرض، وتعمل حالياً في عشرات القواعد العسكرية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، والأهم أن نظام طهران يدرك أن القوى الغربية تتحسب من أي مواجهة عسكرية معه، وأن السياسة الأميركية تنحو نحو سحب قواتها المسلحة من بؤر التوتر، وخاصة في الشرق الأوسط، ويدرك أيضاً أن إسرائيل ورغم تصعيدها لإضعاف وجوده ودوره في سوريا، هي أكثر المستفيدين من التسعير المذهبي الذي ينتهجه في المنطقة، لتخريب مجتمعاتها وهتك مقومات تطورها واستقلاليتها. وما يزيد الأمر تعقيداً وضوح حقيقة أمام الجميع حول شدة تمسك نظام إيران بالحلقة السورية، واستعداده لتفعيل مختلف أدواته الضاربة لمنع انفكاكها عنه، ليس فقط لأنه أهدر من أجلها كثيراً من الأرواح والأموال، وإنما أيضاً لخشيته من أن تفضي خسارتها إلى انكماش وانفراط عقد نفوذه في المنطقة، بدءاً من لبنان والعراق وصولاً إلى اليمن.
ولعل ما يقلل فرص تفكيك أواصر التلاحم بين النظامين الإيراني والسوري، هو نهجهما المشترك في استخدام مختلف أدوات العنف والفتك للحفاظ على سلطتيهما وفسادهما وامتيازاتهما، وأيضاً وحدة موقفهما الرافض لأي حل سياسي في سوريا، ما داما يدركان معاً أن هذا الحل ومهماً كان مستواه، سوف يساهم في كشف دورهما الإجرامي والتخريبي وتعريته، هذا فضلاً عن توافقهما العميق في اتباع سياسة الهروب إلى الأمام للالتفاف على أزماتهما.
والحال، مثلما يزيد النظام السوري من جرعات قمعه وإذلاله للشعب السوري كي يخفي عجزه عن حل مشكلاته المتفاقمة، لا تتردد حكومة طهران، في ظل اهتراء الوضعين الاقتصادي والاجتماعي وتشديد العقوبات الأميركية، في توسل منطق القوة والغلبة، وتسخير أشنع وسائل القهر والتنكيل لحماية حلفائها وركائزها في سوريا، ولسحق تنامي احتجاجات المعوزين والجوعى من أبناء الشعب الإيراني، المناهضة لهدر الأموال فساداً، أو بسبب الانخراط في الحرب السورية، وتمويل التدخلات العسكرية في لبنان والعراق وفلسطين واليمن.
الشرق الأوسط