ابتكار الطبقة: العمال في الحروب الثقافية الجديدة/ محمد سامي الكيال
عاد مصطلح «الطبقة العاملة» للظهور بقوة في الخطاب العام بعد عقود من الغياب، خاصة في الدول الغربية، فصار استعماله اليوم لا يقتصر على اليمين أو اليسار المتطرف، بل امتد إلى سياسيين ومفكرين وسطيين، أصبحوا يذكرون «مطالب العمال العادلة» بشكل متزايد في طروحاتهم.
لطالما كان تعريف الطبقة العاملة أمراً مربكاً ومختلفاً عليه، فهو قد يعني في بعض السياقات تمييز السكان المؤهلين أكاديمياً عن العاملين بدون تعليم أو بتأهيل مهني متوسط. وقد يشمل كل العاملين بأجر، بمن فيهم العاملون في قطاع الخدمات والمصارف وموظفو القطاع العام، أو ينحسر دلالياً ليعبر فقط عن العمال اليدويين في المصانع والمناجم. البعض يقيم تمييزاً صارماً بين المشتغلين بالزراعة عموماً والعمال، في حين يرى آخرون أن الفلاحين قد تحولوا بأغلبيتهم إلى عمال زراعيين.
إلا أننا عايشنا، حتى وقت قريب، شبه إجماع على أن أهمية العمال، و»الطبقة» عموماً، قد تراجعت، وأننا نعيش اليوم في عالم جديد، يتميز بأشكال غير مسبوقة من الإبداع الفكري والإنتاج غير المادي، يعرّف البشر فيه أنفسهم بالثقافة لا بالعمل، وتحلّ فيه قضايا الاعتراف والهوية والملكية الفكرية وحرية تداول المعلومات، محل القضايا القديمة، كالأجور والاستغلال والقدرة الشرائية وحقوق العمل. هذا الاجماع بدأ يتآكل منذ الأزمة المالية العالمية، وصعود اليمين واليسار الشعبوي. والأهم ازدياد الحركات الاحتجاجية التي تعرّف نفسها بموقعها الاجتماعي ومصالحها المادية، وتصاعد الاضرابات العمالية بشكل غير مسبوق، حتى في بلدان الهوية الأكثر تزمتاً، مثل الولايات المتحدة، والدول ذات الخصوصية الثقافية، مثل الصين والهند.
بناء الطبقة العاملة
مفهوم «الطبقة العاملة»، كما ترسخ فكرياً وسياسياً منذ القرن التاسع عشر، ليس مجرد معطى تجريبي موجود بشكل تام وناجز على المستوى الإنتاجي، بل هو مفهوم مبني ثقافيا بشكل كبير، نتيجة لتراكم أعمال عديد من المفكرين والأدباء والمناضلين الاجتماعيين. في كتابه «شِعر الطبقة»، يؤكد المؤرخ الألماني باتريك أيدن – أوفه أن الطبقة العاملة لم تكن قد وصلت في زمن ماركس وإنجلس، حتى في أكثر الدول الصناعية تطوراً مثل إنكلترا وفرنسا، إلى تكتل اجتماعي متجانس من أصحاب الياقات الزرقاء، كما يتخيل اليوم كثيرٌ من اليساريين، بل كانت خليطاً اجتماعياً مشوشاً من الحرفيين الفقراء والعمالة غير المستقرة، وجيوش العاطلين عن العمل والجماعات «المتنوعة دينياً وثقافياً» التي ترزح تحت البؤس المديني، فضلاً عن آلاف النساء والأطفال الذين عملوا في ظروف غير إنسانية، تحت تهديد الموت جوعاً. النزعة الرومانتيكة المعادية للرأسمالية والظلم الاجتماعي استطاعت إنتاج تصورات أدبية وشعرية، عن «طبقة» تكافح ظلم المدينة وتروس الآلات والماكينات. والفلاسفة بدورهم تبنوا هذه التصورات، وطوروا مفاهيم «العمل المجرد» وعلله وقيمه. سنجد أصداء هذه الفترة في مفهوم ماركس الشهير عن «الطبقات لذاتها»، فتحول الطبقة إلى مقولة سياسة، يتطلب أولاً امتلاك أفرادها وعياً ذاتياً بوجودهم الطبقي. أي يستلزم بناء ثقافياً وسياساً للطبقة.
البناء الناجز للطبقة العاملة المتماسكة، الذي وصل أوجه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان نتيجة نضال سياسي وقانوني، وتفاوض جماعي بين النقابات والحكومات وأرباب العمل، في ظروف الحروب والأزمات الاقتصادية وإعادة الإعمار والسياسات التنموية الشاملة. ما أنتج وضعاً اجتماعياً وقانونياً ممأسساً، يضمن وجود كتلة عمالية منظمة، ذات توظيف شبه كامل وحقوق ثابته وحيز مديني ومعماري مميز. وهو ما كوّن فعلياً «الطبقة العاملة» التي نعرفها. الثقافة لعبت دوراً حاسماً في هذه العملية، يكفي أن نذكر هنا جماعات المؤرخين التي أعادت بناء الوجود التاريخي للطبقة العاملة، مثل المؤرخين الماركسين البريطانيين، مدرسة «الحوليات» الفرنسية، خاصة في مراحلها الأولى، و»مدرسة بيلفيلد»، أو التاريخ الاجتماعي الألماني.
خيال علمي
الحديث عن نهاية الطبقة العاملة ليس جديداً، فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي صرّح سياسيون، من اليمين واليسار، حول ضرورة تجاوز المفاهيم «القديمة» عن الطبقات، لمصلحة تطوير «مجتمع الفئة الوسطى»، الذي تعمّ خيراته الجميع. ومع تصاعد السياسات النيوليبرالية تمَّ التشكيك في مفهوم المجتمع بحد ذاته، وهو الخطاب الذي ميّز شعبوية مارغريت ثاتشر في بريطانيا: «لا يوجد مجتمع، بل رجال ونساء فقط»، وأضافت بعدها: «وعائلاتهم». تحطيم النقابات، والبناء السياسي للهوية والمقولات الثقافوية منذ السبعينيات، كان تمهيداً لأشكال تراكم رأسمالية أكثر مرونة، ولنزع التصنيع في الدول الغربية، ونقله إلى مواطن العمالة الرخيصة. اليوم يتحدث كثيرون عن ثورة صناعية ثالثة ورابعة، مبشرين بنهاية مفهوم العمل كما نعرفه. إلا أن هذه الدعاوى، المستمدة غالباً من بعض المواد الدعائية، والمحاضرات العلمية المبسطة ذات السمت الاستعراضي، تبدو أقرب للخيال العلمي (سيكون مؤسفاً لمحبي الخيال العلمي، مطلع القرن الماضي، أن يعرفوا أننا حتى اليوم لم نستوطن الكواكب البعيدة، ونقضي على كل الأمراض). ومن المفيد في هذا السياق أن نعود للمعطيات التجريبية: العمل لم ينته، والطبقة العاملة لم تنكمش عددياً، بل توسعت بشكل غير مسبوق على امتداد العالم، والحديث عن مجتمع «ما بعد صناعي» هو نوع من «المركزية الغربية»، قطاعات إنتاجية معينة في الدول الغربية هي وحدها من تخصص كلياً بالإنتاج عالي التقنية ذي العمالة غير الكثيفة، في حين تعرف آسيا وأمريكا اللاتينية عمليات تصنيع هائلة.
التكنولوجيا الحديثة لم تلغ التقسيم الهيكلي للعمل بين عمل فكري وعمل يدوي، وتوسع الإنتاج والاستهلاك زاد الحاجة إلى كل أشكال العمل. ورغم أن المكننة تؤدي إلى إلغاء عديد من الوظائف، إلا أن وظائف جديدة تُخلق دوماً نتيجة لزيادة الطلب العالمي، وللتطور التكنولوجي نفسه (في الصين ارتفع عدد عمال القطاع الصناعي المديني، حسب الإحصاءات الرسمية، من 32 مليوناً عام 2000، إلى 52 مليوناً عام 2014، رغم أو بسبب، التطور التقني الهائل في البلاد بين هذين العامين). كما أن التوتر بين البطالة والعمل كان ملازماً دوماً للتوسع الرأسمالي. دعك من أن مكننة العمل كلياً، أي الوصول لحالة «آلات تصنع آلات»، مازال حلماً بعيداً جداً، وسيؤدي، إن حدث يوماً، إلى تجاوز الاقتصاد والرأسمالية، بل وكل الأشكال المعروفة حتى اليوم للحضارة الإنسانية. حتى تطورات كنا نحسبها قريبة، مثل انقراض وظائف سائقي الشاحنات بسبب تطور القيادة الذاتية، تواجه كثيراً من التعثر، وبعيداً عن أشخاص معروفين بتصريحاتهم المبالغ بها، مثل أيلون ماسك، سنجد بعض المطورين يتحدثون عن حاجتنا لعقود طويلة، قبل أن نستطيع الاعتماد على القيادة الذاتية بشكل فعّال وشامل. وعن ضرورة وجود العامل البشري حتى مع القيادة «الذكية».
حروب الثقافة
ضمن حروب الثقافة التي يشنها «الناشطون» حول قضايا الهوية والحساسيات، والتي ارتبطت بأشكال متعددة من المنع والرقابة، جاء الرد من أوساط بعض المحافظين والشعبويين، بأن ما يحدث هو حرب تشنها فئات ذات امتياز على الطبقة العاملة وثقافتها وأنماطها الاستهلاكية. وبرز تعبير «الطبقة العاملة البيضاء»، ليصبح مسألة سياسية أساسية في معظم الدول الغربية. وعلى الرغم من أن هذا الطرح الشعبوي له ما يسنده من معطيات، إلا أنه يعيد إنشاء المسألة بأسلوب الهوياتيين نفسه، فالطبقة العاملة أصبحت بدورها مجرد هوية «مهمشة» تنشد الاعتراف.
بروز المسألة العمالية لا يرتبط فقط بالدعاوى الشعبوية، بل هو نتيجة تصاعد صراع طبقي على المستوى العالمي، يخوضه العاملون والمُعَطَلون، المقسمون إلى فئات مبعثرة، وهويات متصارعة، وفئات تفتقد الحد الأدنى من الأمن الاجتماعي، ضد النيوليبرالية المتعثرة والمتراجعة. بشكل يعيدنا إلى ما هو شبيه بوضع الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر. حتى الربيع العربي ارتبط في بداياته بتحركات عمالية مشتتة، تفتقر إلى الخطاب السياسي، كما حدث في مصر، في حين ساهم التنظيم النقابي في تونس بانتصار الثورة، والبناء الصعب للديمقراطية. يسعى كثيرون في هذا الشرط، من «الاشتراكيين» في الولايات المتحدة إلى المعارضة في الصين، إلى إنتاج بناء ثقافي وسياسي جديد للطبقة العاملة، لكونها معطىً سياسياً شديد الأهمية، له القدرة على ترجيح كفة من يوظفه بشكل صحيح. إلا أن تراكم أربعة عقود من الثقافوية والهوياتية مازال يشكل عائقاً أمام هذه المحاولات. رغم ذلك فإن ضرورة التخلص من حروب الثقافة، واستعادة السياسي والاجتماعي والحيز العام، تبدو الرهان الأبرز في عالم اليوم، ليس فقط في الدول المتقدمة والنامية، بل أيضاً في العالم العربي، الذي ترتبط قضاياه الأساسية بنظرنا، بما فيها العلمنة والديمقراطية والمساواة القانونية وحقوق المرأة والمثليين، ببناء تصورات جديدة عن الشعب، يكون مفهوم الطبقة العاملة في مركزها. وذلك بعد أن جربنا، بدون كثير جدوى، مفهوم «الحرية» المستمد من الثورات البرتقالية، وغرقنا بعدها في محاكاة بائسة لحروب الثقافة.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي