حدِّثْنا عن وحش لا نعرفه/ عمر قدور
مع قرب إسدال الستار على فلول داعش الأخيرة، يُتوقع وصول الملف السوري إلى عتبة أدنى من الاهتمام الغربي، فمعركة الغرب كانت بإصرار محصورة بهذا التنظيم، وبإصرار أشد على ألا تكون مدخلاً للتورط في استحقاق تغيير التنظيم الأسدي. فزّاعة “الأسد أو داعش” تنتهي بعد انتفاء الحاجة إليها، وهي أصلاً لم تكن موجودة إلا لدى الذين رغبوا في تصديق العبث السياسي المسمى “دولة الخلافة”، سواء من قبل قلة من الحالمين بها أو الكثرة القوية والغالبة من أعدائها.
التمايزات البسيطة في الغرب تنحصر الآن بين متحمسين لإعادة تدوير الأسد وآخرين لا يريدون تلويث أيديهم، لكنهم لا يعارضون أن تتلوث أيدي غيرهم، وأقصى موقف معارض ينص على ترك المستنقع السوري يتعفن بالتركيبة الأسدية وحلفائها. الموقف الأخير ينص على سحب الجزرة الغربية المتعلقة بإعادة الإعمار، وسحبها يعني سحب الإغراء الوحيد لحلفاء الأسد كي يقتنعوا بوجوب إجراء تغيير ضمن الحد الأدنى. أما المتحمسون لتقديم الجزرة فلا يملكون مشروعاً أفضل من إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة، بشرط أن تدفع دول الخليج القسط الأعظم من الفاتورة.
لقد خسر في سوريا، وفي دول الثورات العربية، من راهن على القيم الغربية، وربح أولئك الذين ناصبوها العداء، والذين سيبقون على عدائهم لها إخلاصاً للاستبداد. من ضمن الرهان خسر التعويل على إبراز عدالة القضية السورية، وعلى إبراز وحشية الأسد، فلم نرَ من مواقف الحكومات ما يليق بالمقتلة، ولم نرَ أيضاً من الشعوب الغربية تحركاً لتنبيه الحكومات إلى ضرورة اتخاذ سياسات أكثر حزماً. وجود فزاعة داعش، أو الإسلاميين عموماً، لا يفسر وحده مجمل التخاذل الغربي، فدوائر اتخاذ القرار تعرف العلاقة العميقة بين الاستبداد وصناعة التطرف، وتعرف أن إخلاء الساحة للطرفين بعد تجريفها من القوى الديموقراطية لن يجلب استقراراً في جوارها.
يبقى من المستغرب “نظرياً” أن تعاطف الشارع الغربي مع السوريين أخذ يتراجع مع تعاظم وحشية الأسد، ثمة قوى من اليمين واليسار المتطرفين ساهمت في التراجع، إلا أنها وحدها لا تفسره أو تبرره. نستطيع القول أن فئات واسعة في الغرب قد تعايشت لعقود مع فكرة الاستبداد المشرقي، أي أنها لا ترى فيه شيئاً جديداً، وهي تالياً على المستوى السياسي أقل حساسية تجاه الفكرة مما نتوقع. بل هناك فئات تعايشت مع فكرة وجود الاستبداد خارج المنظومة الغربية، بدلالة موجات اللاجئين السياسيين من مختلف البلدان، وسلّمت بأن دور الغرب يقتصر على هذه الاستضافة بمفهومها الإنساني.
لقد بُني جزء من خطاب نشطاء الثورة السورية على فكرة مفادها أن الغرب لا يعرف تماماً ما تعنيه وحشية الأسد، وعلى أن ارتفاع عدد الضحايا سيُحرج الحكومات الغربية أمام شعوبها أولاً. ثمة عوامل كانت مساعدة في البداية، من نوع الاهتمام الرسمي الغربي بموجة الثورات، وأيضاً بسبب فضول الشارع الغربي إزاء شعوب كان يُنظر إليها كشعوب مستكينة. هذا الفضول سيتراجع لمصلحة الفهم السابق، ولمصلحة الإشباع بمشاهد وحشية ليست غريبة بالمطلق عنه. لسان الحال هنا هو: هذا وحش نعرفه.
لدى الشرائح التي تملك اهتمامات خارج حدود الغرب هناك إرث سابق من الفظائع، من كمبوديا إلى كوريا الشمالية إلى أفغانستان والشيشان مروراً برواندا وبوروندي. تلك جميعاً أمثلة على الوحش، من دون تحمّل وزرها الإنساني إلا لدى قلة، وهذا مفهوم في أوروبا على نحو خاص لأنها لم تكن منخرطة بشكل مباشر في أيّ منها. حتى ازدياد التعاطف مع القضية الفلسطينية، مع تراجع الاهتمام بقضايا أكثر جدة وسخونة، يمكن ردّ نسبة منه إلى الإحساس بالمسؤولية الغربية عن الهولوكست وعن قيام الدولة العبرية لاحقاً، فوق الاهتمام التقليدي بكل ما يمس الأخيرة.
في وسعنا أيضاً إضافة عناصر ثقافية، من نوع تضافر الحس الاستشراقي والنزعات المضادة للمركزية الأوروبية، ليصبح الخارج مختلفاً مع الإقرار بأحقية اختلافه، من دون حدود واضحة تميز بين التنوع الثقافي والعتبة المطلوبة من الحقوق الإنسانية. عصر المعلومات بدوره لم يقدّم الخدمة المفترضة للضحايا، لا لأنه استُخدم من قبل الأقوياء والجلادين، وإنما لأن السيولة الهائلة من المعلومات ترافقت مع تراجع الحساسية إزاءها. نستطيع مثلاً الجزم بأن تكرار مشاهد المجازر في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أدى مفعولاً عكسياً من الاعتياد عليها لدى فئات واسعة، ولا تٌستبعد تأديته وظيفة عكسية من نوع الإلفة مع فكرة القتل نفسها على النحو الذي كانت تُنتقد فيه أفلام العنف من قبل.
ما حدث في السياسة حدث ما يشبهه في حقلي الأدب والفن، فالفضول المؤقت إزاء الوضع السوري استتبع اهتماماً بنصوص أو مفردات بصرية تشرحه، مع قلة اكتراث بمستواها الفني، أو مع تسامح فني ينبع من الإحساس بعدم التكافؤ أصلاً. ذلك في العديد من الأحيان أضاف شرحاً فائضاً للوحش الذي يعرفه الغرب، من دون أن يضيف خبرة جديدة في استكشافه، أو خبرة جديدة في استكشاف الضحية، وهو لذلك يفتقر إلى القدرة على التأثير خارج المؤقت الذي أتى به.
لا شك في أن ذلك كله يزيد من عوامل الريبة إزاء الغرب، بعد تاريخ من معاداته، فاكتشاف عدم جهله مع عدم اكتراثه قد يكون أبلغ تأثيراً من فكرة الجهل. الخطير في الأمر أن قسماً من الاستنتاجات سيصب في مصلحة صورة الغرب كمتآمر دائم، بعد فقدان الأمل به كمخلّص، وهذا إذا كان سيؤدي إلى “الكفر” بقيم الديموقراطية الغربية لدى البعض فهو سيؤدي إلى اليأس أو العدمية لدى البعض الآخر. لنا أن نتخيل مثلاً سورياً متحمساً يحدث غربياً عن استبداد الأسد، فيجيب الأخير بهدوء: هذا وحش نعرفه، حدّثْنا عن وحش لا نعرفه. هذه ربما صورة كاريكاتورية وقحة عن الواقع، لكنها توضّح الرهان القادم الأصعب، وهو يتطلب القدرة على إقناع ذلك الغربي بأن معرفته السابقة بالوحوش غير نهائية، وغير كافية ليكون في منأى عنهم.
المدن