درس القرن العشرين: احذروا الطوباويات/ موريس عايق
سؤال الحرية في مواجهة هذه الأيديولوجيات الكبرى شائك، فهل يمكن للمرء أن يختار بملء حريته ما يتعارض مع المبدأ الكلي والناظم للمجتمع؟ هل تدخل حرية الاعتقاد والخيارات الأخلاقية الخاصة، في الدولة الإسلامية المرجوة لدى المودودي مثلاً، في باب الحرية الفردية؟ لا يبدو ذلك، فالدولة ملتزمة بتحقيق مجتمع قائم على معايير أخلاقية وشرعية على الجميع الالتزام بها، كما على الدولة الانتصار لها.
ينطلق كارل ماركس في نقده للدولة البورجوازية من فصلها بين السياسي والاقتصادي، بين المجرد والعياني. مبرهناً أن هذا الفصل يؤسس لأحد أشكال الاغتراب في العالم الرأسمالي، حيث يفصل بين بعدين للعالم المعيش للإنسان، البعد السياسي – المواطن، والبعد الاقتصادي الاجتماعي- الإنسان العياني.
في صورتها المثالية، تقف الدولة فوق المجتمع متعالية على التباين الذي يسوده وانقسام المصالح بين فئاته المختلفة.
الدولة يكون الإنسان فرداً معزولاً، (بتعبيرها هي: مواطناً) عن أي سياق يؤطره أو انتماء يعرفه مثل الطبقة التي ينتمي إليها. هو مواطن حر ومساو لكل المواطنين الآخرين في قدرته، نظرياً، على التأثير على الدولة عبر الآلية الديموقراطية.
مواطن واحد، صوت واحد. الإنسان – المواطن هو الشكل المجرد، الذي يعيش في السماء. ما تغفله هذه الصورة عن الدولة، كما يرى ماركس، هو الأساس الاجتماعي الذي تقوم عليه، الإنسان الواقعي القابع خلف صورة الإنسان المجرد. في الحياة الواقعية التي تتجلى في المجتمع المدني هناك مصالح متناقضة ونزاعات اجتماعية، الإنسان العياني الذي يخضع لهذه المصالح ويواجه هذه القوى بقدرته المحدودة ويخضع لها باعتبارها القوانين، قوانين السوق، التي تحكمه.
في العالم الفعلي تظهر حقيقة محدودية أثر الإنسان الواقعي، وعدم المساواة التي تحكمه أمام الدولة، فيما في الواقع تمييز وتفاوت وخضوع لقوى السوق والصراع الطبقي.
فكرة ماركس للتغلب على هذا الاغتراب تقوم على إلغاء هذا الفصل واستعادة وحدة التجربة المعاشة للإنسان عبر زوال الدولة وانحلالها في المجتمع، ففي العالم الشيوعي لا توجد دولة، بل جهاز لإدارة الأشياء عوضاً عن إدارة البشر.
إشكالية الاغتراب، الناجمة عن انفصال وحدة العالم المعاش للإنسان وتشظيها، لم تحفز الشيوعية وحدها، بل كذلك التصورات الرومانسية وحتى الفاشية. فالأخيرة حاولت حل النزاع بين الدولة والمجتمع واستعادة الوحدة بينهما بطريقة مغايرة للشيوعية، بانحلال المجتمع في الدولة، فلا معنى لما هو أخلاقي أو إنساني خارج الدولة. وجد هذا الحل جذوره في القراءة اليمينية لهيغل التي قدمها فيلسوف الفاشية جيوفاني جنتيل. النازية بدورها رغبت بتجاوز هذا الفصل عبر حل الدولة والمجتمع في العرق، فلا يعود هناك فرق بين أي من هذه اللحظات في التجربة الإنسانية. غير أنه وعوضاً عن استعادة الوحدة كان لدينا الغولاغ والهولوكوست، والدولة الشمولية التي تحاول أن تتحكم بكل شيء وتقمع أي تحدٍ وتسحق الحياة نفسها.
العرب، مثل جميع الشعوب والمجتمعات يعيدون تأويل الإرث الماضي، الديني والمدني، ويختارون منه، ويصوّرونه أيضا، على حسب حاجاتهم التاريخية، ومن خلال ذلك يقومون بتكوين ذاتيتهم/ ذاتهم في نشأتها الجديدة، التي تأخذ من العصر إشكالاته وقيمه وحوافزه وغاياته الانسانية، ومن الماضي مادتها وبعض رموزها.
الحرية في مواجهة الأيديولوجيات
بالتأكيد هناك خلاف على مستوى الطوبى بين الشيوعية والفاشية، لكن على مستوى الممارسة التاريخية فالشبه بينهما حاسم ومعبر، وعوضاً عن أن نحظى بالملائكة فإننا حظينا بالشياطين.
بعد انهيار هذه التجارب، يظهر الإسلام السياسي اليوم كأيديولوجيا تسعى إلى استعادة وحدة التجربة الإنسانية وتجاوز أشكال الاغتراب والتمزق الإنساني، وهذه المرة عبر إطار موحد جديد وهو الأخلاق، الممثلة بالشريعة لدى أنصار الحاكمية. حيث يخضع كل شيء لسلطان الشريعة، من الدولة إلى المجتمع، من المجال العام إلى الخاص، من الاقتصاد إلى القانون. من خلال هذا الإطار الأخلاقي سيتعرف البشر من جديد إلى حقيقتهم ومعنى حياتهم وغائيتها كما أرادها الله لهم.
هذا التشابه بين المهمة التي يطرحها الإسلام السياسي على نفسه وتلك التي طرحتها الأيديولوجيات التوحيدية سابقاً لم يغب عن ذهن أحد أبرز منظري الحاكمية، أبو الأعلى المودودي. يقول أبو الأعلى: «وبالجملة، إن الدولة الإسلامية تحيط بالحياة الإنسانية وبكل فرع من فروع الحضارة وفق نظريتها الخلقية وبرنامجها الإصلاحي. فإذن هي تشبه الحكومات الفاشية والشيوعية بعض الشبه.
لكن مع هذه الهيمنة لا يوجد في الدولة الإسلامية تلك الصبغة التي اصطبغت بها الحكومات المهيمنة والاستبدادية في عصرنا هذا. فلا يوجد في الدولة الإسلامية شيء من سلب الحرية الفردية، ولا أثر للسيطرة الدكتاتورية والزعامة المطلقة» (نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، ص46).
صعوبة الفصل بين الفردانية وحيادية الدولة تجاه مجتمعها
المبدأ الأخلاقي الواحد ناظم لكل مجالات الحياة، أما الحرية الفردية فستكون مصانة. لكن هذا قد سبق وقرره أيضاً الشيوعي والفاشي، وإن لم ينجحا في تحقيق الحرية في تجاربهما التاريخية، كما قرر المودودي، ولا نعلم كيف سيضمن المودودي أن مصيرها في «دولته» لن يكون كمصيرها في التجارب السابقة.
سؤال الحرية في مواجهة هذه الأيديولوجيات الكبرى شائك، فهل يمكن للمرء أن يختار بملء حريته ما يتعارض مع المبدأ الكلي والناظم للمجتمع؟ هل تدخل حرية الاعتقاد والخيارات الأخلاقية الخاصة، في الدولة الإسلامية المرجوة لدى المودودي مثلاً، في باب الحرية الفردية؟ لا يبدو ذلك، فالدولة ملتزمة بتحقيق مجتمع قائم على معايير أخلاقية وشرعية على الجميع الالتزام بها، كما على الدولة الانتصار لها.
المشترك بين كل الطوباويات السالفة هو التصور الرسالي عن الدولة، إذا استعرنا الصيغة البعثية عن رسالة الأمة العربية الخالدة والتي لا تتحقق إلا في الدولة القومية للأمة. الدولة تناضل من أجل رسالة تحملها على عاتقها وتسعى إلى تحقيقها، قد تكون هذه الرسالة حتمية تاريخية أو حقيقة الأمة والعرق أو القيام بالدين. الدولة ملتزمة بمبدأ عام تسعى إلى تحقيقه وحمل الجميع على الاقتضاء به، والحرية مسموحة طالما أنها لا تتعارض مع هذا المبدأ الناظم لشؤون المجتمع ومعنى الحياة. تملك الدولة سلطة هائلة تسمح لها بالتدخل في كل شيء، حيث لم يعد هناك ما يفصل بينها وبين المجتمع. هي ليست دولة محايدة أو مقيدة أمام المجال الخاص لمواطنيها، إنما دولة تحمل على عاتقها رسالة حول كيف يجب أن تكون الحياة.
صدر كتاب “جدران الحرية” عام 2013 لرسوم غرافيتي من الثورة المصرية وتطورها في ثلاثة أعوام. صدر الكتاب باللغة الإنجليزية للناشر الألماني دون كارل، لكن الكتاب بات ضحية الرقابة المصرية، فقد مُنع إدخال نسخ جديدة منه إلى مصر.
رسم المصريون في القدم على جدران المعابد للتوثيق، وعادت الرسوم ذات الروح الفرعونية في خضم ثورة 25 يناير. رسوم للفنان علاء عوض كانت حداداً على ضحايا مشجعي كرة القدم الذين قُتلوا في 2012.
البعد الرسالي للدولة يتلازم مع الحرب من أجل تحقيق هذه الرسالة في مواجهة من لا يؤمنون أو يلتزمون بها، وبهذا فإن عالم هذه الدولة مقسوم إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان أو البروليتاريا أو الأمة، وفسطاط الكفر أو البورجوازية أو الخونة وأعداء الأمة. نشأت الدولة الرسالية عبر الحرب وعاشت حتى نهاية حياتها في حرب مع مجتمعها.
لا يبدو أنه من الممكن الفصل بين الفردانية وحيادية الدولة تجاه مجتمعها، حياديتها تجاه المعتقدات الدينية والأخلاقية لمواطنيه. حيث تكف الدولة عن النظر إلى نفسها باعتبارها ذات رسالة أخلاقية أو مبدأ أعلى، مكتفية بحماية خيارات الأفراد، وهؤلاء أيضاً يكفون عن النظر إلى أنفسهم باعتبارهم جماعة ذات رسالة كونية ما، عليهم إيصالها للجميع. بالمقابل فإن الفردانية ستؤدي إلى فقدان الناس للإطار الأخلاقي ومعنى الحياة الذي امتلكوه سابقاً. لقد ربحوا فردانيتهم وحريتهم ولكنهم في المقابل خسروا الرابطة الحميمية والألفة مع العالم التي عاشوها، أو تخيلوا أنهم عاشوها سابقاً.
الفردانية وحيادية الدولة وتخليها عن أية رسالية تنسبها لنفسها من جهة، والتشظي في التجربة المعاشة وافتقادها أي بعد أخلاقي أو معنى عام تتعرف فيه إلى نفسها وما يؤدي إليه من اغتراب من جهة أخرى، هي قضايا مترابطة لا تقبل فكاكاً. في المقابل فإن استعادة معنى متعالٍ (أخلاقي أو غائي) للحياة، بما يمكّن من تجاوز الاغتراب، سيتم عبر الفعل الكفاحي لدولة رسالية نشطة وغير محايدة. هذا سيؤدي بدوره إلى إهدار الفردانية وإعادة تربية المواطنين بما يتوافق مع القيم الأساسية وخوض حرب ضد من لا يقبل بها.
التجربة التاريخية للقرن العشرين تُظهر أن الأثمان التي دُفعت لتجاوز الاغتراب كانت أضعافاً مضاعفة لكلفة هذا الاغتراب، ولم تؤد في النهاية إلا إلى توحش أهدر حياة الملايين من البشر ولم يكرس قيماً أخلاقية نتكئ عليها. لكن لم يزل هناك من يريد أن يعيد التجربة وكله أمل أن يكون الناتج مختلفاً.
حقوق النشر: قنطرة 2018