العمل الفنّي وتحوّلاته بين النّظر والنّظريّة/ شربل داغر
تتوسع العربية في معانيَ ودلالات: “نظر”، إذ تشير إلى “نظر إلى الشيء”، أي الفعل البصري، وإلى “نظر فيه”، أي الفعل التفكّري في الشيء. هذا ما يقوم به د. خليل قويعة، وما يجمعه، وما يتوسع فيه في كتابه الموسوم بـ”العمل الفنّي وتحوّلاته بين النّظر والنّظريّة- محاولة في إنشائيّة النّظر” الصادر مؤخّرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، الدّوحة – بيروت. فالفن، في حسابه، لا يقوم على فعل بصري وحسب، وإنما على فعل تفكّري أيضًا. بل يجعل من كتابه فرصة مزيدة للتفكير في الفن، من ناحية بنائه، ومن ناحية العلاقات التي تنبني فيه. وهو، في هذا، يبتعد عن كثير من كتب الفن العربية، التي تكتفي بوقائعية أخبار الفنانين، وبتناولات إحساسية أو تأملية في الأعمال الفنية.
يقترح كتاب الدكتور خليل قويعة جديدا في خطاب الفن بالعربية، إذ ينصرف إلى معالجة الفن وفق النظر الفلسفي المعزز بمقاربات تأويلية في الغالب، من دون أن يُعدم الوقوف -ولو سريعا – عند فنانين، بمن فيهم فنانون تونسيون.
هذا الكتاب مختلف عما اعتاده الخطاب العربي في الفن ومسائله وفنانيه. إذ انصرف هذا الخطاب إلى نسق إخباري، تسويقي واقعًا، عما كانه هذا الفنان أو ذاك، أو هذه الجماعة الفنية أو تلك. كما أن بعض هذا الخطاب انشغل بكتابة تاريخ “وطني” للفنون التشكيلية في هذا البلد العربي أو ذاك، فيما انتظم التاريخ “الفعلي” لهذه الفنون قبل نشوء هذه الدولة العربية أو تلك بعقود أو أكثر.. عدا أن “ظهور” الفن لا يعني ظهور ممارسٍ أول له في هذا البلد العربي أو ذاك. إلى هذا انشغل تاريخ الفن بكتابة خطابه طبقًا لقيام “الدولة”، متناسيًا أو غير مدرك أن الصنيع الفني بدأ – ما عدا المغرب- في النطاق العثماني، وفي تجلياته في غير ولاية (عثمانية) عربية. وهذا ما يصح تاليًا في التأثير الأوروبي الداهم على المجتمعات العربية، قبل الاستعمار نفسه…
مثل هذا الخطاب “التاريخي” – الخبري واقعًا، والمحدود والجزئي – قام لحسابات تسويقية في العديد من الأحوال: حاجة المتحف إلى مادة توثيقية، حاجة المجموعة، أو صاحب صالة العرض، أو الفنان نفسه، إلى ما “يُنزل” العمل الفني في مساقطه التاريخية اللازمة له…
لهذا الشق (التاريخي) من خطاب الفن كتبُه ومصادره وكُتابه في العربية وبأكثر من لغة أجنبية، حتى يمكن الحديث عن شق يخص الفن في هذا البلد العربي أو ذاك، أو يخص الفنانين “الرواد” أو “المكرسين”، أو الذائعي الصيت والبيع في الزمن الجاري.
ما يقترحه قويعة، في هذا الكتاب، جديد وحيوي في آن. ففي عالم العربية صدرت منذ عقود، وعلى التوالي، مقالات وبحوث وكتب اعتنت بالجانب الفلسفي من خطاب الفن. نجد منها ما يتناول هذه المدرسة الفنية أو تلك، أو يتوقف عند مدرسة “الباوهاوس”، أو عند السوريالية في التشكيل، أو عند هايدغر في نظرته إلى الفن، وغيرها من الطروحات. إلا أن هذه الكتابات اتسمت، في العديد منها، بمنهج تلخيصي، تبسيطي، قد يكون في أساسه محاضرات “الأستاذ” على طلابه الجامعيين قبل أن يحولها ويصنفها في كتاب.
مثل هذه الكتابات ضعيفة، وقد تشوّه الخطاب-المصدر، أو تُسيء فهمه، أو تحيله – في غالب الأحوال- إلى خطاب تسويقي، شرحي، ويختفي أو يذوب فيه الشاغل الفلسفي الناظم له. كما يضاف إلى ذلك أن بعض هؤلاء يكتفون بكُتاب من دون غيرهم، أو بمصادر ثقافة بعينها من دون غيرها…
خليل قويعة، الجامعي التونسي، تنبّه إلى مثل هذه المشاكل، إذ اختار وجهة أخرى، أو مختلفة، في تناول الفن. فله العديد من الكتابات حول فنانين (نجيب بلخوجة خصوصًا)، أو عند “مسائل” فنية أو اجتماعية شائكة، إلا أنه اختار، في كتابه هذا، معالجة الفن في نصابه الفلسفي، بوصفه “إنشاء” (حسب اللفظ الفلسفي اليوناني القديم).
ما يقترحه قويعة مستقى في غالبه من مصادر غربية هي الأشد اشتغالًا في “النظر” المتجدد إلى الفن، أكثر منه إلى العمل الفني نفسه. إلا أنه إذ يقرأ، يفكر؛ وإذ ينتقي، يناقش ويعترض ويضيف. لهذا يمكن القول إن ما يقترحه هو حاصل فكر حيوي، متفاعل، في حراك الفن. فهو ينصرف -كما سبق القول – إلى “الفن” في كونه بناء، في كونه حاصل علاقة مسبوقة ومستلحقة: بين الفنان والمتلقي عبر العمل الفني. فهذا الأخير ليس، في حساب قويعة، لوحة، أو تمثالًا، بل وسيط (حتى أتجنبَ الحديث عنه بوصفه: مرآة) تشده أسباب واقعة في التداول، في الزمن التاريخي والاجتماعي.
هذا ما ينتظم في ثلاثة أبواب، فضلًا عن المقدمة والخاتمة، وفق منظور يتعين في “عالم الفن” على أن العمل الفني جزء منه. بل يمكن القول إن النظر إلى الفن هو نظرٌ في الثقافة قبل أي شيء آخر، في ثقافة الفكر الجمالي. وهو ما يستقيم أيضًا في النظر إلى العمل الفني بوصفه مرئيًا واقعًا بين الذات والعالم. فالعمل الفني ليس فعلًا صنعيًا وحسب، يمكن تتبعه في محترف الفنان، أو في أدوات عمله، وإنما في الخيارات والتمثلات والعلاقات التي يصدر عنها ويصب فيها، أي في “مسار النظر”، و”سلوك العين”. هذا ما يصدر عن منظور “ظاهراتي” (فينومينولوجي) في المقام الأول، ما دام أن “العين تفكر”، وهي ذاتها العين التي “تعكس كونَ الأنا الداخلية” (بلغة التحليل النفسي).
هكذا لا يعود العمل الفني رقعة، لوحة، له بنية “مغلقة”، وإنما “كونًا”، له بنية “مفتوحة”، ما يخرجه من نطاقه الضيق إلى نطاقه الكلي، الأرحب والأصح. بهذا المعنى، لم يعد العمل الفني لونًا أو مادة، ريشة أو منقاشًا، وإنما باتت هذه وغيرها من صنيع الثقافة نفسها، أي ما يوجبها ويوجهها. هكذا خرج العمل الفني إلى نطاقه الواسع، إلى “الحياة” نفسها بما هي حياة المجتمع والتاريخ، أو إلى حياة التحولات التكنولوجية الجديدة (مثل السبيبرنطيقا). فالفن ليس رؤية أو متعة للنظر، وإنما هو أيضًا طاقة إدراكية، ما يجمع الحس بالعقل.
ما هو جدير بالانتباه هو أن هذا النظر الفلسفي يوافق الكثير من مدارس وأساليب الفن في العقود المتأخرة، حيث إنها، في عديدها، تصدر من شاغل فلسفي، ثقافي، في المقام الأول، قبل أن تكون شاغلًا تقنيًا، أو صنعيًا وحسب (كما يمكن لها أن توصف الفنون القديمة).
ما أنجزه قويعة في كتابه قابل للرد والنقاش بأي حال، إلا أنه طرحٌ جدير بالنقاش، بأن يكون في المكتبة، وبين أيدي الدارسين والأكاديميين، لما يشتمل عليه من طروحات تقع في صميم النظر الفلسفي المتأخر إلى الفن. وهو ما يكتبه بلغة عربية متقنة ودقيقة ومجتهِدة.
ما يكتبه يتعيّن في عربيةٍ اشتغل عليها، ما يتضح في الكثير من اجتهاداته في نقل الاصطلاحات الغربية الكثيرة التي يحفل بها كتابه؛ وهي مقترحاته واقعًا، إذ يضيف قائمة بها في نهاية كتابه. وهو في ذلك ينمّي كتابة بحثية بالعربية تفتقر إليها المكتبة العربية، والثقافة العربية. فمن لا يفكر في لغته، يجعلها فقيرة، محدودة القدرة في تمكنها من العالم ومما يشغل الإنسان.
كاتب وناقد من لبنان
العرب