فيلم 300 ميل رحلة حقيقية غير مخترعة في زمن الحرية وزمن الحرب/ هشام الزعوقي
بذكاء يقودنا المخرج السوري عروة المقداد في رحلة عبر الواقع السوري ما بين مكانين حلب في الشمال وحوران في الجنوب لنتعرف من خلالها على بعض من وقائع سنوات الثورة.
هي ليست رحلة مخترعة ولا حتى رحلة إلى عالم الخيال، وإنما تكاد تكون رحلة امتدت من يافا في فلسطين واستمرت لتعبر سوريا نحو زمن الحرية وحلم الانعتاق من الاستبداد.
الحكاية تبدأ مع الجدّة (مشايخ اللحام) التي هرب والدها من العصابات الصهيونية في فلسطين واستقر في قرية (غصم) في حوران
في بدايات القرن الماضي حيث ولدت جدّة المخرج الذي بعد عدة سنوات سيحمل كاميرته ويبدأ بتسجيل بعض حكايا المرابطين على إحدى جبهات القتال في مدينة حلب قبل اقتحامها من قبل قوات جيش النظام.
المسافة ما بين حلب في الشمال وحوران في الجنوب هي 300 ميل ومن هنا جاء عنوان الفيلم، هذه المسافة قد تكون أصبحت مستحيلة بالنسبة للمدنيين، ولكن بنفس الوقت هي مسافة مكونة من “خطوط الجبهات والجيوش والحواجز والعصابات والانتحاريين والقتلة”.
إنه حلم الثورة التي في لحظة من لحظاتها استحالات “إلى حرب ومؤامرات وخيانات” بإيقاع صوته المتهدج يفتتح المخرج فيلمه عبر رسالته إلى ابنة أخيه الطفلة نور (12عاما).
ابتداءً من تلك اللحظة أصبح زمن التظاهرات السلمية بعيداً جداً وعوضاً عنه نحن الآن في -زمن الحرب– وهنا ستغدو الطفلة نور عين المخرج في الجنوب تخبره عن أحوال حوران، عن الحياة عن الأهل وعن أشجار الدار.
يتتالى تدفق شريط الصور (والتي كانت إلى حدٍ ما أشبه بلوحات فنية) في الفيلم فنشاهد بلداً مقطعاً من شماله إلى جنوبه، بلداً لا كهرباء فيه ولا تدفئة، وحتى المدينة الواحدة أصبحت أيضاً مقطعة ومنفصلة، عندها لا يجد المخرج وسيلة أفضل من مقاطع الفيديو للتواصل مع أهله في الجنوب وهو في حلب يعايش ويصور مجموعة من مقاتلي الجيش الحر في الجبهة على الخطوط الأمامية المواجهة لقوات النظام.
هناك نتعرف إلى بعض شخصيات الفيلم (أبو يعرب) رجل أربعيني وقائد لمجموعة من المقاتلين المتطوعين، و(عدنان) الناشط المدني، طالب الفلسفة الذي ترك جامعته والتحق بالثورة.
ثورة تبحث عن أبنائها
في الفيلم نتعرّف على هذه المجموعة من الشبان “الرومانسي” الذي آمن بالثورة بطريقة أشبه ما تكون “بالدونكيشوتية” وكأنهم خليط من ثوار “كمونة باريس” ممزوجة بحركات “اليسار الجديد” من أميركا اللاتينية، ترى صورة غيفارا على الجدار وتسمعهم يغنون أغاني الشيخ إمام ويهتفون للحرية مثلما فعلوا أيام المظاهرات، يتخلل ذلك تعليقات “ساخرة” على الحال التي وصلوا إليها الآن حيث لا ذخائر كافية ولا قطع سلاح ولا حتى طعام وليس لديهم أي تفسير عن أسباب طول انتظارهم في مواقعهم وعن ظهور خيانات في بعض الجبهات، ولما أصبحت هذه الفوضى؟
تحت وابل زخات الرصاص وصراخ المقاتلين، وأثناء اشتباكات حقيقية عنيفة على خطوط التماس يواصل المخرج التصاقه بشخصيات الفيلم يصور وعند أول استراحة لا يستطيع أن يخفي ما يقلقه، ويستمر يفتش عن أجوبة لأسئلة مازلت عالقة في أذهان كثيرين منا..
إلى أين تتجه الثورة في ظل هذا التسليح والعسكرة؟ وهل الموت ضروري لنستنشق الحرية؟ وهل الموت هو هدفنا؟
ينظر أبو يعرب بعد طول صبر إلى المخرج ويطلب منه أن يطفئ الكاميرا عندما باغته عروة بسؤال: أين هي الثورة الآن؟
مسافات تنتظر من يقطعها وسنوات عاصفة من عمر الانتفاضة السورية
في مشاهد لنيران أشبه ما تكون بالكوابيس وليالي مظلمة حيث لا صوت سوى نعيق الغربان وهدير مدافع النظام الثقيلة وهي تدك ما تبقى من أبنية على رؤوس المتمردين من ساكنيها، تظهر حلب مدينة مكسورة موحشة، ويظهر ما تبقى من المدنيين من تحت الأنقاض وكأنهم أشباح أريدَ لهم أن تغيب ملامحهم. خرجوا هذه المرة أحياء. ومع بداية تغلغل “الجهاديين الجدد ودكاكينهم” أصبحت أكثر المناطق أمناَ هي منطقة “الجبهة” حيث “لا خطف.. ولا اغتيالات.. ولا تصفية حسابات”. كيف بدأ هذا التحوّل، في لحظات الصمت تهيمن أفكار متشائمة ويسود القلق.. “من هو عدونا.. الجيش؟ المتطرفون؟ أم الخونة؟” ليأتي جواب (أبو يعرب) واضح ونقي “سأحارب الجميع قدر الإمكان.. الثورة غربلت كل شيء.. المدنيين والعسكريين وكل شيء ” .
نور الطفلة ورسالتها إلى العالم
الانتقال من أجواء مدينة حلب – المهددة باقتحام قوات النظام لها – إلى أجواء حوران لم يكن فقط بمثابة نافذة لنا لنتنفس قليلاً من الأوكسجين بعيداً عن رائحة البارود وإنما أيضاً ليبين لنا الترابط بين أوجه الثورة المتعددة.
الطفلة نور تشتاق إلى عمها في حلب و تسأله عبر أحد تسجيلات الفيديو إذا كان عندهم (في حلب) عصافير وأشجار، كهرباء و ماء، تسأله
عن أصدقائه وصديقاته وهل هم سعداء..؟ لا أدري فيما إذا كان حديث نور موجّها هنا لعمّها فقط، أم لنا، أم أنه رسالة موجّهة إلى العالم عن مأساتنا السورية.
بعد فترة يتغير حديث نور. تغيب مفردات الطفولة في لغتها وتظهر عوضا عنها كلمات قاسية مثل كلمة “تصفية”، “وقف إطلاق النار” و”قصف طيران” عندها ندرك أن الخراب أصبح شاملاً.. والفيلم لا يتهرّب من المسؤولية – كبعض الأفلام السورية المنتجة في السنوات الأخيرة – في الإشارة إلى المسؤولية المباشرة والأساسية لهذا النظام عن دمار الوطن سوريا.
الجحيم السوري أم جحيم دانتي
بنية الفيلم السردية أشبه ما تكون ببنية الدراما الإغريقية الكلاسيكية (بداية ذروة نهاية) يتخللها غناء الجدّة الشجي من (الفلكلور الحوراني) معلناً في كل مرة يظهر عن بداية فصل جديد، صوتها وكأنه مثال الجوقة مليء بالحزن والأسى على بلد يحترق بنيران القصف وشباب يغيب. لكن هذا لم يمنع المخرج من اللجوء إلى تنويعات أخّاذة على صعيد الصورة للوصول إلى نهاية آمنة للفيلم بمشهد عظيم لكاميرا تطير فوق حقول القمح في سهل حوران مترافقة مع تكبيرات صباح العيد، أما (أبو يعرب) في جبهة حلب فلقد اختفى بعد عودته من الاختطاف بين أشجار الزيتون في مشهد ضبابي ينذرنا بقسوة الأيام القادمة. هنا نجد أن شخصيات الفيلم (المخرج، أبو يعرب، الطفلة، عدنان، الجدّة، العم فراس، وغيرهم) كلها ارتبطت مع بعضها البعض بطريقة قدرية لتقدم لنا هذا الفصل من الجحيم السوري. وكان الرحيل مؤلماً ولو عن جبهات القتال. يذكّرنا ذلك بألم رحيل قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد صمود بيروت سنة ١٩٨٢.
مسار الصوت في الفيلم كان مدروسا وموظفاً بعناية ساهم بشكل فعال في عملية السرد الدرامي سواء من خلال خلق فضاءات محيطة بالأحداث والشخصيات أو من خلال تفعيل إيقاع الصور والمشاهد، هذا التوتر الذي خلقه الصوت لم يكن استخداما مجانيا ولا زركشة “موسيقى تصويرية” تابعة للصورة بل كان عنصراً أساسياً من عناصر الفيلم، أهميته كأهمية الصورة..
فمنذ افتتاح الفيلم بتعليق المخرج نجد بوضوح كيف اختلط الخاص بالعام بطريقة جدلية فلا نستطيع فصل الشخصي عن الهم الجمعي وهذا التناغم ما بين الصوت والصورة أعطى الفيلم أجواء كابوسية.
ولكن في نفس الوقت لا نستطيع أن نتجاوز أو نغض الطرف عن لمحة الجمال في هذه الكوادر والأجواء، والكاميرا في هذا الفيلم لم تعرف الراحة عموما ولا حتى في وقت استراحة المحاربين فلغة الفيلم البصرية كانت مزيج من جمالية الصورة وواقعية التوثيق.. حتى وإن كان إيقاع الفيلم أحياناً يبدو بطيئاً إلاّ أنه كان انعكاساً صادقاً لوطأْة الصمت والانتظار.
نادراً ما استطاع مخرج سوري أن يوظف الصوت بطريقة فعّالة وجميلة في فيلمه مثلما استطاع عروة توظيفه هنا في هذا الفيلم.
الفيلم الوثائقي 300 – ميل من الأفلام الهادئة التي لم تثر ضجة ولم تصنع ضجيجاً لكنها تثير المتعة وتحرّض على التفكير، تحترم عقل المشاهد وتدعوه للمشاركة في البحث والتوثيق ومحاولة فهم فصل هام من مسيرة ثورة لا تحلم فقط بالنصر وإنما تسير باتجاهه رغم كل شيء.
* الفيلم تم عرضه في العديد من المهرجانات العالمية المهمّة مثل (مهرجان لوكارنو- سويسرا) وحائز على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان (دوك ليزبوا – البرتغال).
تلفزيون سوريا