من طرزان إلى فرنكنشتاين: انشطارات الهيمنة/ صبحي حديدي
يروج في مناسبات شتى إغواء استخلاص لوائح «الـ100» الأفضل في ميادين مختلفة، تخصّ ظواهر متباينة يمكن أن تشمل أيّ، وكلّ، اهتمام سياسي أو أدبي أو اقتصادي أو علمي أو فنّي. ولعلّ الأشهر، في عصرنا، كانت تلك السلاسل التي تناولت خلاصات الألفية المنصرمة، ساعة أزفت سنة 2000 ودخلت البشرية في ألفية جديدة. وبالطبع، يظلّ أمراً مسلماً به أنّ الثقافات المهيمنة كونياً، لاعتبارات عديدة هنا أيضاً، هي التي تفرض معطياتها بصفة طاغية؛ حتى حين تدرج، من باب التنويع أو الترغيب أو إبراء الذمّة، عناصر محدودة من ثقافات أخرى، أقلّ نفوذاً إذا جاز القول.
على سبيل المثال، في كتاب صدر قبل أيام، باللغة الإنكليزية، تحت عنوان «الشخصيات الأدبية الـ100 الأعظم»، يستقرّ جيمس بلاث وغايل سنكلير وكيرك كرنت على عدد قليل من الشخصيات غير الغربية، بينها علاء الدين مثلاً. عاقبة هذه المقاربة أنّ القارئ لا يُحرم من فرصة اطلاع أوسع على آداب الأمم خارج النطاق الغربي فقط، بل تفوته كذلك فرصة تثقيف ذاتي أفضل حول المناخات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أنتجت تلك الشخصيات وخلّدتها في الأدب المكتوب أو الشفاهي. مثال ثان هو كتاب «اسمي لم يكن فرنكنشاين أبداً»، وفيه يحرّر بريان فورونيس مجموعة مساهمات لكتّاب أعادوا تخيّل شخصيات أدبية شهيرة؛ ابتداءً من طرزان، مروراً بصاحب القناع الشهير زورو، ثمّ المخلوق/ الوحش الأشهر في التاريخ فرنكنشاين، وليس انتهاءً بالدكتور جيكل ونظيره هايد.
غير أنّ الشخصية التي يندر، أو الأحرى القول: من المحال، أن تغيب عن أيّ من هذه السلاسل، بصرف النظر عن الجهة التي تحررها، أكاديمية رصينة كانت أم صحافية خفيفة؛ هي السيد طرزان، لصاحبها الروائي الأمريكي إدغار رايس بوروز، الذي قدّمها ضمن سياقات عنصرية صريحة تمتدح دور الرجل الأبيض في تمدين «الهمج» الأفارقة، ولعلّ هذا هو السبب الأوّل في أنّ أولى روايات السلسلة باعت ملايين النسخ. فيما بعد سوف تنقضّ هوليوود على الشخصية، فتبرز أو تختلق الرموز التي تدغدغ مشاعر أمريكي «قياسي»، خرج ظافراً من حربين عالميتين، وصدّق أنّ القرن سُمّي باسمه وحده، وهو مبتدأ الهيمنة ومنتهاها، سواء في مخابر تصنيع القنبلة النووية أو في أدغال أفريقيا وقلب الظلام!
وفي مقالة بعنوان «نداء الأدغال»، تعود إلى العام 1987، اشار إدوارد سعيد إلى ما لاحظه فرانز فانون، من أنّ جمهور السينما في المارتينيك كان يتعاطف مع طرزان ضدّ السود، في حين أنّ مواطني المارتينيك المقيمين في فرنسا اتخذوا موقفاً مختلفاً إزاء الفيلم ذاته، فتعاطفوا مع السود لأنّ هويتهم كانت جريحة في فرنسا. وهكذا فإنّ طرزان اتخذ صفة البطل في موقع سياسي ــ اجتماعي وثقافي، وصفة الغازي العنصري في موقع آخر مماثل ولكنه مختلف السياقات. وفي لفتة أخرى بارعة، وثاقبة، يذكّرنا سعيد بأنّ طرزان كان مهاجراً في نهاية المطاف، وكان صامتاً لا يملك سوى صرخاته التي تحاكي لغة الضواري في الأدغال؛ وهو، استطراداً، ميدان مفتوح للتحليلات الفرويدية (عقدة أوديب، مثلاً)، أو الماركسية (الشيوعية البدائية).
ليس أقلّ مغزى، في المقابل، أنّ أمثولة طرزان ظلّت تثبّت قاعدة استعمارية عتيقة، مفادها أن نزوع امرئ ما إلى التحضّر لا يمكن أن تتحقّق إلا إذا كان متحضّراً أصلاً؛ وهذا جزء مكمّل لتلك الرسالة العتيقة بدورها، حول «عبء الرجل الأبيض» في تمدين البشر البدائيين. صحيح أنّ طرزان، في الحكاية، يرضع حليب القردة ويتربّى في كنف الأفيال، ولكنه من محتد غربي أبيض، وبريطاني نبيل. وهو، بسبب هذا الصفاء العرقي، يفلح في تعلّم اللغة الإنكليزية لاحقاً، ويتمكن من محاربة السود الأشرار (أو «الأقوام الأصلية» كما يسمّيهم بوروز!)، ويغري الصبيّة البيضاء جين بورتر فتقع في غرامه. المهاجر انقلب إلى غازٍ، إذن، والتأقلم مع الطبيعة صار هيمنة عليها، وعلى مخلوقاتها جمعاء!
شخصية فرنكنشتاين لا تتمتع، في المقابل، بالمقدار ذاته من الرواج والشعبية في المخيال الغربي، والعالمي استطراداً؛ رغم أنّ رمزيات انشطار النفس البشرية إلى خير وشرّ، وجمال وقبح، و»ذات» و»آخر»، تستحثّ الكثير من الجاذبية. لعلّ السبب يكمن في ميل ماري شيللي، مبتكرة الشخصية، إلى اقتراح مقاربة نقدية لهذه المفاهيم مجتمعة، أو منفردة؛ لصالح خلاصة قدّرت أنها قد تكون أشدّ إغراءً، في الواقع: أنّ البشريّ/ الوحش غريب ودخيل، حتى حين يلجأ إلى حلقة تمدّن مهما صغرت؛ وأنه، إضافة إلى هذا، ملزَم بالتنازل عن العناصر ذاتها التي تكوّن فرادته حتى يحوز إمكانية، وليس بالضرورة حتمية، القبول.
وفي العودة إلى حكاية الـ100 الأفضل، فإنه ليس أمراً عابراً أمام الذائقة الشعبية العريضة أن يتجاور، في كتاب أو صحيفة أو مجلة أو موقع إلكتروني، أمثال دون كيخوته، بطل سيرفانتس؛ وليوبولد بلوم، بطل جيمس جويس؛ مع أمثال جيمس بوند، بطل إيان فلمنغ؛ وهيركول بوارو، بطل أغاثا كريستي… وأن تكون خلفية الجوار هذا حافلة بمضامين الإخضاع والهيمنة وعلاقات القوّة؛ خاصة وأنها لم تعد نصوص آداب فقط، بل صارت حوليات غزو واستعمار وإمبريالية!
القدس العربي