الثقافوية العربية الجديدة بوصفها ثورة مضادة/ حسام الدين درويش
مثلها مثل أي ظاهرةٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ، يبدو أن المقاربة الثقافوية تخضع لصيرورة التغير، ويبدو أنها قد تطورت/ انحدرت، في السنوات الأخيرة، لتتخذ شكلا ومضمونا جديدين، في تناولها للأوضاع في البلاد العربية، لدرجةٍ تسمح بالحديث عن «ثقافوية (عربيةٍ) جديدة». وتتمثل «الثقافوية التقليدية» عادة في القول إن الثقافة السائدة عموما هي السبب (الأساسي) الذي يشرح طبيعة الأنظمة السياسية (الاستبدادية) السائدة في البلاد العربية، وسبب وجودها واستمرارها، وسبب نجاح أو فشل الثورة عليها، وسبب مواقف الناس من هذه الأنظمة، ومن الثورة عليها. وما زالت «الثقافوية الجديدة» تتبنى الرؤية ذاتها عموما، لكنها أخضعت نفسها لعمليات تجميلٍ/ تقبيحٍ، أخفت بعض معالمها، ومن هنا تأتي ضرورة تحديد التغيرات الأساسية التي طرأت عليها، من خلال انخراطها في «الثورة المضادة لثورات الربيع العربي».
ولفهم ماهية «الثقافوية الجديدة»، سأعمل في ما يلي على بناءٍ نموذجٍ أو نمطٍ مثاليٍّ تتبلور فيه سماتها الأساسية. وكما هو الحال في كلِّ نمذجةٍ مثاليةٍ، يمكن لهذه النموذجية أو النمذجة، أن تساعدنا على فهم الواقع (واقع «الثقافوية الجديدة» تحديدا)، بدون أن تكون مطابقة (مطابقة كاملة) لأي خطابٍ محدٍّد من الخطابات المتبنية للثقافوية الجديدة.
يحيل الحديث عن «الربيع العربي» إلى الثورات العربية التي قامت منذ نهاية 2010 في عددٍ من البلاد العربية، وتحيل التسمية إلى ثورات الربيع الأوروبي 1848-1849، ذات الطابع الديمقراطي. الثقافيون الجدد يشككون في ربيعية «الربيع العربي»، وفي ثورية «الثورات العربية»، أو ينكرون صراحة هذه الربيعية وتلك الثورية؛ ويرون أنه لا يمكن لتلك الثورات المزعومة أن تقوم، وأنها، إن قامت، لن تسعى إلى الحرية والديمقراطية، وأنها ستفشل بالتأكيد، في كل الأحوال. الثقافوية الجديدة تنفي ثورية الثورات العربية لأنها، من وجهة نظرها، ليست تحررية أو تقدمية (بالدرجة المطلوبة). وهذه الثورات المزعومة محكومةٌ بالفشل، لأنها ليست تحررية؛ فهي لا يمكن أن تكون إلا على نمط الثورة الإيرانية، ويستحيل أن تكون على نمط ثورات الربيع الأوروبي.
وعلى هذا الأساس تركز «الثقافوية الجديدة» على انتقاد/ مهاجمة الثائرين والناشطين والباحثين المؤيدين للثورة والمشاركين فيها والمدافعين عنها، فعليّا أو تنظيريّا؛ كما تقوم بالتنظير والتسويغ، ليس لمواقف «الرماديين» والممتنعين عن المشاركة في الثورة، أو تأييدها وحسب، بل لقيام الكثيرين من هؤلاء بتفضيل النظام المستبد وشبيحته على الثورة والثائرين عليه.
فالثقافوية الجديدة، بوصفها جزءا من «الثورة المضادة»، هي صيغةٌ جديدةٌ ومتقدمةٌ من «معارضة المعارضة». فعلى الرغم من أن الطرفين لا يلتفتان كثيرا لنقد/ انتقاد النظام المستبد، أو يقللان من أهمية أو فائدة هذا النقد/ الانتقاد، لصالح تركيز الجهود على نقد/ نقض معارضي النظام والثائرين عليه، إلا أن هناك اختلافا مهمّا بين الطرفين. ﻓ»معارضو المعارضة» ينتقدون عادة «قيادات المعارضة أو الثورة» أو «نخبتها» المزعومة أو الفعلية، ويحملونها المسؤولية الأكبر عن النتائج السلبية التي حصلت بعد قيام الثورة. وعادة لا يوجه «معارضو المعارضة» انتقاداتهم إلى الناس العاديين والثائرين غير القياديين. في المقابل، يركِّز «الثقافويون الجدد» انتقاداتهم إلى (ثقافة) الشعب الثائر عموما، بدون أن يوفروا نخبته الثائرة أو المعارضة، من انتقاداتهم المحقة أو غير المحقة.
على العكس من «الثقافوية التقليدية»، ذات المضمون العامّ والمرن والجذَاب، الذي يسمح بتبنيها من قبل عددٍ كبيرٍ من الأطراف المختلفة إلى حدِّ التناقض، فإنَّ الثقافوية الجديدة ذات مضمونٍ أقل جاذبية وشعبية، ولهذا فإن انتشارها محدودٌ عموما، ويقتصر على أفرادٍ ينتمون إلى فئاتٍ أو أطرافٍ محددةٍ: علمانويةٍ، أقلياتويةٍ، معاديةٍ للمتدينين/ المسلمين إلخ. فالثقافوية الجديدة ترى أن المشكلة/ المعضلة الأساسية التي ينبغي تركيز الانتباه عليها هي إسلامية/ إسلاموية الشعب المحافظ، أخلاقيّا واجتماعيّا وسياسيّا. فها هنا تكمن المشكلة/ المعضلة الأكبر، وها هنا ينبغي لنا أن نبحث عن الحل. فهذه الإسلامية/ الإسلاموية، المحافظة/ المتخلفة، هي ما يعطي شرعية ما للأنظمة المستبدة، وهي ما يعرقل قيام ثورةٍ شعبيةٍ حقيقيةٍ عليها، وهي السبب في عدم انضمام أفراد الأقليات الدينية والطائفية والإثنية، وأفراد من الطبقة الوسطى، لهذه «الثورة/ الفورة»، في حال حصولها. وحيث تكمن المشكلة ينبغي لنا البحث عن الحل؛ والحل الثقافوي هو تخلي الإسلاميين/ الإسلامويين، طوعا أو قسرا، عن إسلاميتهم/ إسلامويتهم، وتبنيهم لخطابٍ ديمقراطيٍّ وطنيٍّ جامعٍ، وإلا فلا يلوموا إلا أنفسهم، ولا يلوموا مطلقا من يمتنع عن الوقوف معهم، ضد النظام، ويفضِّل الوقوف مع النظام وشبيحته، بوصفهم أهون الشرين! فعلى عاتق المسلمين/ الإسلاميين/ الإسلامويين، تقع مسؤولية المشكلة والحل، في آنٍ معا؛ فهؤلاء هم من يمنعوننا، نحن السوريين أو المصريين، على سبيل المثال، من أن نكون شعبا، وهم من يمنعون عموما أفراد الأقليات وقسمٍ كبيرٍ من أفراد الطبقة الوسطى من الانضمام إلى الثورة و/ أو تأييدها. ﻓ «الإسلام (الذي يتبناه معظم المسلمين) هو المشكلة»، و»تعديل هذا الإسلام أو تغييره جذريّا هو الحل». فقبل العمل على تغيير النظام، وفي الطريق المفضي إلى تحقيق مثل هذا التغيير، ينبغي العمل على تغيير الشعب، أو إحداث تغييراتٍ جذريةٍ في ثقافته (السياسية) المحافظة/ المتخلفة، سياسيّا واجتماعيّا وأخلاقيّا. ولا تقتصر الثقافوية الجديدة على تبني منطق «كما تكونوا يولى عليكم» وحسب، كما تفعل «الثقافوية التقليدية»، بل تذهب أيضا إلى تبني منطق «على نفسها جنت وتجني الشعوب» و»الشعوب أسوأ من حكامها». فالأنظمة الحاكمة مستبدةٌ سياسيّا، لكنها متحررةٌ، جزئيّا ونسبيّا، اجتماعيّا وأخلاقيّا، على العكس من الثقافة (السياسية) المهيمنة لدى غالبية أفراد الشعب، فهي محافظة/ متخلفة/ مستبدة، ليس سياسيّا وحسب، بل أخلاقيّا واجتماعيّا أيضا. وبسبب ذلك، فإن هذه الأنظمة، المستبدة سياسيّا، قائمةٌ ومستمرةٌ، منذ زمنٍ طويلٍ. فالثقافوية الجديدة تخضع للتخيير، الذي تفرضه الأنظمة الاستبدادية، والمتمثل في «القبول بالنظام القائم أو الانزلاق إلى ما هو أسوأ: حرب أهلية، خراب ودمار، حكم الإسلامويين المحافظين/ المتخلفين إلخ». ويبرز خضوعها في تفضيلها، الصريح أو الضمني، للأنظمة المستبدة وشبيحتها على التنظيمات الإسلامية/ الإسلاموية المتطرفة الممثلة، من وجهة نظرها، للأيديولوجيا أو للثقافة السياسية لغالبية أفراد الشعب (الثائر)، أو في تسويغها لهذا التفضيل وتشديدها على انعدام وجود خيار ثالثٍ أو خياراتٍ أخرى. فالثقافوية الجديدة لا ترى إمكانية أو فائدة أو جدوى وجود طرفٍ ثالثٍ (فاعلٍ) يواجه الطرفين ويرفضهما معا، ولا ترى إمكانية وجود شعبٍ أو ثورةٍ شعبيةٍ تحرريةٍ أو تقدميةٍ أو تعبئةٍ شعبويةٍ مهيمنةٍ؛ كل ذلك غير ممكنٍ، من منظور الثقافوية الجديدة، بسبب أيديولوجيا الإسلاميين/ الإسلامويين، بالدرجة الأولى.
تتبنى «الثقافوية الجديدة»، غالبا، وجزئيّا ونسبيّا، خطابا إنسانيّا، مفرطا في إنسانيته. فالثقافوية الجديدة إنسانيةٌ، مفرطةٌ في إنسانيتها، أو بالأحرى إنسانويةٌ جدّا؛ وهي تعلن تبنيها الصريح لكل القيم الكونية المتعلقة بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان؛ وهي تُظهر، على الرغم من ذلك، أو بسببه، كرها أو نفورا من البشر/ العرب/ المسلمين الذين لا يطابقون أو يطبِّقون معاييرها أو قيمها الإنسانية، وهم أغلبية البشر/ العرب/ المسلمين. وهي أيضا تقدميةٌ، أو تقدمويةٌ، جدّا، لدرجةٍ تجعلها ليس ضد التخلف وحسب، بل ضد كل المتخلفين/ المحافظين أيضا؛ وأغلبية الناس (العرب على الأقل)، من منظور الثقافوية (الجديدة)، متخلفون/ محافظون، أخلاقيّا واجتماعيّا وسياسيّا.
وعلى الرغم من محاكماتها الأخلاقية لأغلبية أفراد الشعوب العربية، وقولها بأنهم متخلفون/ محافظون أخلاقيّا، وبأن ثقافتهم مضادة للحريات والثورة والتنوير إلخ، وعلى الرغم من تناولها لمواضع أخلاقيةٍ بامتيازٍ، إلا أن الثقافوية الجديدة ترفض أن تخضع لأي مقاربةٍ/ محاكمةٍ أخلاقيةٍ مماثلةٍ، وترى في ذلك ممارسة منبوذة أشبه بممارسات «الشرطة الأخلاقية» أو «محاكم التفتيش»، سيئة السمعة. وعلى الرغم من أن الثقافوية الجديدة أشد جرأة أو وقاحة من الثقافوية التقليدية، إلا أنها غالبا أكثر ممارسة للتقية، وأكثر إنكارا لثقافويتها. فعلى الرغم من اتسام خطابها (شبه) الكامل بالسمات الأساسية للثقافوية، إلا أنها ترفض القول بثقافويتها، وترى في ذلك تجنيّا وتحاملا ينمَّان عن سوء فهمٍ و/ أو عن سوء نيةٍ.
وتزعم أو تتوهم «الثقافوية (الجديدة)» أن المقاربة الثقافوية هي الطريق الوحيد أو الأفضل لنقد الثقافة، وأن ناقدي الثقافوية أو منتقديها هم بالضرورة أناسٌ محافظون، يرفضون نقد الثقافة، ويحاولون تفسير كل شيءٍ بالاستبداد وحده، كما لو كان الاستبداد هو مصدر كل استعمار وإمبريالية، أو مصدر كل تأخر وتخلف». في مقابل ذلك نحن نعتقد، مع ياسين الحاج صالح وغيره، أن نقد الثقافوية، هو الشرط الضروري، والمدخل الأفضل والأنسب، لممارسة النقد الضروري والجذري للثقافة. وفي الواقع، تكشف الثقافوية عن كثيرٍ من السلبيات، القائمة أو الكامنة، في الثقافة العربية، لكن ثقافوية النقد الذي توجهه لهذه الثقافة، وطرق توظيفه، والتنظير له، يجعل تبني بعض مضامين نقد الثقافوية للثقافة متلازما بالضرورة مع نقد الثقافوية ونقضها. تبدو الثقافوية عموما محقة في قولها بوجود مضامين منحطةٍ في ثقافتنا، وفي ممارساتنا الثقافية، ولولا هذا الانحطاط، لما رأينا هذا التبني الجريء/ الوقح للثقافوية من قبل أعدادٍ كبيرةٍ من الكتاب العرب؛ إذ يصعب فهم كيف يستسهل هؤلاء الكتاب تبني الثقافوية، وتضمينها كل هذه العنصرية والطائفية التحقيرية والمهينة، واستخدامها استخداما لا أخلاقيّا، لتعيير الناس/ الضحايا بثقافتهم وتحميلهم مسؤولية الجرائم المقترفة بحقهم. وعلى الرغم من الأصول الغربية للمقاربة الثقافوية، إلا أنه يصعب كثيرا، في الوقت الحالي، حضور مثل هذا الخطاب الثقافوي/ العنصري، في «الثقافة الغربية». يمكن مقارنة «الثقافوية الجديدة» بمحجوب عبد الدايم بطل رواية «القاهرة الجديدة»، لكونها ترى، مثله، ضرورة الخضوع المؤقت للحكام/ الرؤساء والاستسلام لقمعهم ورغباتهم، أملا في الحصول على بعض المكاسب التي لا يمكن الحصول عليها بدون القبول ﺑهؤلاء الرؤساء. وتشبه «الثقافوية الجديدة» «الليبرالية الجديدة»، من حيث أنها تحمِّل «المتخلفين» مسؤولية تخلفهم، وتعيِّرهم بهذا التخلف، كما تفعل الليبرالية الجديدة حيال فقر الفقراء الكسالى، من وجهة نظرها.
٭ كاتب سوري
القدس العربي