بل أسانج وبعده/ فاطمة العيساوي
ق
اعترض المعترضون، وشمت الشامتون، في توقيف مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان أسانج، لمرآه وهو يُجرجر كالفأر من مخبئه في سفارة الإكوادور في لندن، بعدما قرّرت الإكوادور سحب الوضع الخاص الذي منحته له بصفته لاجئا سياسيا معرّضا للملاحقة في الولايات المتحدة، على تسريبات وثائق رسمية سرية. بصرف النظر عن مصادر تسريبات المنظمة، أو الجدل حول ما كان بالإمكان اعتبار الجهاز مؤسسةً صحافيةً أم لا، باعتباره نشَر وثائق موثوقة ذات صلة بالصالح العام. ساهم “ويكيليكس” في إسباغ مشروعيةٍ على فعل تسريب معلومات ذات أهميةٍ للشأن العام، بما شحذ عزيمة الحاصلين على معلوماتٍ، لكشفها على الرغم من كل العواقب.
كشفت تسريبات “ويكيليكس” معلوماتٍ عن جرائم لم يكن في الوسع الحصول عليها عبر تحقيق صحافي اعتيادي، مثل جريمة قتل أفراد فريق عمل صحافي تابع لوكالة رويترز في العراق، للاشتباه بأنهم إرهابيون، إذ يُظهر الشريط تفاصيل عملية القتل من طائرةٍ عسكريةٍ أميركيةٍ بدماء باردة. نشر الموقع العدد الأكبر من الوثائق المسرّبة تاريخيا من مختلف المصادر، من دون أن يكون فعل التسريب عاريا من الاعتبارات السياسية، من تسريب الرسائل الإلكترونية للمرشحة الرئاسية الديموقراطية السابقة، هيلاري كلينتون، ما اعتبر دفعا لحظوظ المرشح الشعبوي، دونالد ترامب، أثنى الأخير عليه، إلى محاولة زعزعة الانتخابات الفرنسية، عبر
اختراق البريد الإلكتروني للمرشح المستقل، إيمانويل ماكرون، في مواجهة مرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبن. حوّل جوليان أسانج ما اعتبر أبرز التطورات في عالم المعلوماتية، والتواصل السياسي، إلى مشروع خاص، التصق بشخصه وبأجندة سياسية وإنسانية مثيرة للجدل. لا يزال التساؤل حول آلية انتقائه التسريبات ومصدرها الفعلي قائما: هل صحيحٌ أن أسانج ينشر ما يحصل عليه من دون أي انتقائية، وكيف أن هذه الوثائق لم تكشف أيا من انتهاكات حقوق الإنسان في الأنظمة المناهضة للولايات المتحدة، ومنها روسيا التي سعت، بحسب معلومات نشرها موقع أتلانتيك، إلى تهريبه، ومنحه ملاذا آمنا في موسكو، وتراجعت عن المشروع، بعدما اعتبرته خطيرا.
أظهر تقرير المحقق الأميركي الخاص، روبرت مولر، أن أسانج ادّعى أن تسريبات الرسائل البريدية لكلينتون جاءت من مصدر داخلي في الحزب الديموقراطي، في حين كان على تواصلٍ مع أجهزة الاستخبارات الروسية، المصدر الحقيقي للتسريب. الإيحاء بعلاقة بين التسريبات ومقتل الموظف في الحزب الديموقراطي، سيث ريك، في جريمة سرقة في واشنطن في الفترة نفسها ساهم في التشويش على المصدر الحقيقي للتسريبات، وغذّى مخيلة أصحاب نظرية المؤامرة من مؤيدي ترامب، وغيرهم من اليمين المتطرّف حول “هيلاري المجرمة”. وقد شكّل تلاعب أسانج بهوية مصدر التسريبات خرقا كبيرا لسرية المصادر التي تشكل عمادا للعمل الصحافي، وهو عمل ادّعى أسانج القيام به عبر “ويكيليكس”.
بصرف النظر عن أسانج، الملاحق أساساً في دعوى اعتداء جنسي من سيدتين، ساهمت تسريبات “ويكيليكس” في ترويج ثقافة جديدة في التعامل مع المعلومة، باعتبارها حقا للعامة، مهما كانت أهميتها أو خطرها على العلاقات الدبلوماسية بين الدول. شجعت هذه الثقافة عمليات الفضح اليومي للانتهاكات في أشكالها البسيطة، خصوصا في المنطقة العربية، حيث عاد الإعلام التقليدي منصة مفضلة للدعاية للأنظمة في غلواء الثورات المضادة. أطلق نموذج “ويكيليكس” أشكالا محلية من التسريب، ومنها المسرّب المغربي، المدعو كريس كولمان، الذي سرّب مئات الوثائق التي أحرجت المخزن، وأظهر بعضها أشكالا من التعاون بين جهات نافذة في الأمن وصحافيين بارزين في ترويج حملات مناهضة للحراك الشعبي في فبراير/شباط 2011.
في بريطانيا، خرجت أصواتٌ من داخل حملة المناهضة لبقاء المملكة في الاتحاد الأوروبي، لتفضح تجاوزات خطرة في تمويل الحملة، خرقت القوانين المرعية البريطانية. فضح الشاب شامير ساني، المتطوع في الحملة الرسمية للخروج من الاتحاد الأوروبي، انتهاكات كبيرة في نفقات الحملة، تم إتلاف الأدلة عليها، كما كشف دور شركة معلوماتية عملت مع الحملة متورّطة مع “كامبردج أناليتيكا”، شركة المعلوماتية العملاقة التي تلاعبت بالمعطيات الشخصية لرواد “فيسبوك”، لاستهدافهم برسائل انتخابية خاصة، للتأثير على خياراتهم الانتخابية، عبر تغذية مخاوفهم لدفعهم باتجاه اليمين المتطرّف. واجه شامير الشاب المتحدر من بيئة باكستانية محافظة حملة تشهير، ركّزت على أنه مثلي الجنس، كما أدت إلى صرفه من عمله ثمناً لمواقفه.
على الرغم من الدور الرئيسي لموقع “ويكيليكس” في ثقافة الفضح، لم يعد يمتلك تلك العصا
السحرية لإخراج المعلومة من فم الأسد. التحقيقات التي كشفت المستور أخرجها إلى العلن صحافيون وصحافيات في عمل مهني، لا مكان فيه لوثائق مسرّبة بالمئات، بل شهادات لأشخاصٍ اختاروا علنا كشف معلومات خطرة، ودفع الثمن غالبا من سمعتهم. أمضت صحافية الغارديان البريطانية، كارول كادوالادور، حوالي العام، لإقناع مدير الأبحاث السابق في “كامبردج أناليتيكا”، كرستوفر ويلي، (28 عاما)، لفضح انتهاكات الشركة في التلاعب بالمعطيات الشخصية لرواد “فيسبوك” في ملفاتٍ، أطلقت عليها اسم “وثائق كامبردج أناليتيكا”. تحوّلت الوثائق إلى مادة أولية لتقرير رسمي للبرلمان البريطاني، اتهم “فيسبوك” بممارسة دور “عصابة معلوماتية”، بعد الاستماع ساعاتٍ لشهادات مديرين وموظفين من “كامبردج أناليتيكا” و”فيسبوك” وخبراء معلوماتية. واجهت صحافية “الغارديان” حملات إسكات وتشهير، غالبها من صحافيين من إعلام اليمين وصولا إلى حد نعت أحدهم لها بأنها “امرأة مصابة بالهستيريا”. لا تزال الصحافية تخوض حربها وحيدةً، من أجل دفع الحكومة إلى اتخاذ خطوات جدية في وجه المتلاعبين، في حين يقف غالبية الإعلام البريطاني صامتا، بما فيه هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (بي بي سي).
قبل جوليان أسانج، كان تسريب معلومات الصالح العام تقليدا طوّرته الصحافة الناقدة. بعد أسانج، سيستمر هذا التقليد بخير.
العربي الجديد