شعرية المعجم أفقا للقراءة/ رشيد المومني
يتدخل المعجم الشعري بشكل مباشر، في توجيه العلاقة القائمة بين النص وقراءاته، حيث يمكن أن يكون بمثابة جسر متماسك يساهم في تفعيل هذه العلاقة، كما يمكن أن يتحول إلى هوة عميقة تفصل بين الطرفين. وهي الحالة التي يحيلنا فيها المعجم ذاته، على مسارات شعرية شخصية أو غيرية، تشكو بفعل استنزافها من خفوت إشعاعها وجاذبيتها. ما يحولها إلى مجرد أطلال موحشة، غارقة في رطوبتها الدلالية. ومرد استنادنا إلى هذا الاقتناع، هو تعاملنا مع التجربة المعجمية، ضمن خصوصيتها الحياتية والإبداعية، التي تعاش عادة بمكابداتها المعرفية الكبيرة والعميقة، وبارتجاجاتها الانفعالية الروحية والجمالية، التي تنحفر آثارها المضيئة في تضاريس النصوص، وبالتالي فإن استعادتنا المفاجئة لبعض مكوناتها من أرض النسيان، وبعد مضي أزمنة طويلة على كتابتها أو قراءتها، تحدث في الذات ردود أفعال ملتبسة. باعتبار أن قوة الاستعادة، تشمل غير قليل من الحيثيات التي عفا عليها الزمن، والتي قد تشمل مثلا، نسبة غير هينة من ضوء الذاكرة الشحيح، النائم على حاشية عتبة النسيان. وبقايا الغبار الذي أثارته حوافر أرق فكري. أو هديل حالات روحية تطل من شرفة الفجر. ولربما كذلك، مطالع انتشاءات على ضفاف رمزية، وروائح احتراقات متسربة إلى القلب من تشققات باب الكون.
ومن المؤكد أن الاستعادة المباغتة لملامح تجربة معجمية موسومة سلفا بحدة اغترابها، وباحتمال فنائها الوشيك، توقظ في الدواخل أرتالا متتالية من بنيات ذلك المعجم، الذي كنا نتوقع أننا واريناه منذ أزمنة غابرة، لا رجعة فيها. وهذا الإيقاظ لا يخلو من تداعياته المتناقضة على الحركية العامة للدلالة المعجمية، التي يمكن أن تساهم في تحقيق تصالح يبث روح حياة جديدة ومغايرة في أوصالها. كما يمكن أن تؤثر في استحداث قطيعة، تخضعها لمحو كامل، يؤدي إلى تفكيك كل الملابسات النظرية التي سبق أن ساهمت في ترسيخ حضورها. بغاية اقتراح ببنيات جديدة، يكون لها دورها الكبير في حفر منعطفات جديدة، ولا متوقعة، بين تضاعيف التجربة، انسجاما مع الشروط التحفيزية المزامنة لها، والمقترنة عادة بمرجعيات اليومي والمعيش، أو بأخرى، ذات طبيعة نصية ومعرفية.
تأسيسا عليه، يمكن القول بأن المنعطفات التي تحدث عادة في تجارب الكتابة ككل، خاصة الشعرية منها، تشتغل ضمن هذه العلاقات المعجمية. علاقات تكون عادة موسومة بتوترها، ومستقاة من معايشة الكاتب، أو الشاعر لأحوال، وثوابت مجتمعية وفكرية، من شأنها إيقاظ وحدات معجمية، تتحكم بشكل أو بآخر، في توجيه مسار اختياراته. فالكتابة هي في العمق، حياة لغوية بامتياز، حيث يصح القول، إن ما نواريه منها في مقابر النسيان لسبب أو لآخر، يظل محتفظا بحضوره، منتظرا لحظة انبجاسه، مثل ماء الأعماق السعيد باكتشافه لزرقة السماء. والمراد بماء الأعماق هنا، هو ذلك المعجم العتيق، الذي سبق له أن أنجز مهام قول ما، كان من قبل مشروطا بخصوصيته الزمنية، على غرار أي حياة فكرية أو إبداعية، سبق لها أن صيغت في قالب معجمي، يمتلك استراتيجيته الخاصة والشخصية، التي يعقد بها تحالفاته وتواطؤاته مع مختلف المقامات والسياقات. بهذا المعنى، لا يكتفي المعجم بأن يحمل صفة ما يتعارف عليه بـ«الرجل نفسه» أي الكاتب أو الشاعر الذي دأب على توظيفه، لكنه فضلا عن ذلك، يصبح دليلنا إلى ماهية الزمن نفسه، الذي ينتظر لحظة انبجاسه من قبل هذه الكتابة أو تلك، بصيغه الثابتة أو المتحولة، انسجاما مع رؤية الكتابة له، حيث يمكن القول، إن المعجم هو الزمن نفسه.
عدا ذلك، فإن فرادة الكتابة، تنهض من قلب الزمن المختلف، الذي لا يطمئن الى مكان نصي ثابت، أو إلى حياة معجمية ثابتة، ومعرضة باستمرار لاستنفاد ذاتها في ضيق الدائرة المغلقة لرتابة التكرار. وهذا الزمن المختلف، يعلن عن حضوره بفضل مطلب أساسي، يتمثل في قوة النسيان، وفي جمالياته المتحررة من سلطة النموذج، وكذلك بفضل ترحيل بذور وفواكه الجسد والروح، إلى أراض أخرى بكر، مستكشفة للتو، باعتبار أن الكتابة، تحتاج باستمرار إلى فقد مضاعف، يعيش معه الشاعر محنة ومتعة فراغ جعبته من حضور معجمي.
ما يؤلب قناعاته على ذاكرته اللغوية، ويحفزه على النزوح عن منازل تلك البنيات اللفظية المتقادمة المهددة باحتمال استنفادها لطاقتها، نتيجة ملازمتها الخانقة لظلمة تلك الدوائر التغريبية، التي تتعطل بموجبها، البوصلة المفضية إلى منازل الاختلاف الدلالي والجمالي. إنه النزوح المفضي بالكتابة إلى التواجد خارج المنزل المعجمي الميت والمبتذل، الذي تعودت التجارب السكونية على الإقامة فيه.
انفلات الكتابة من بؤس المعجم الجاهز، هو الحافز المركزي للبحث عن إقامات ومواقع جديد، ودلالات مختلفة، تكون بمثابة التجسيد الفعلي لحياتك، وأنت تعيش تفاصيلها، جسدا وروحا. كما تكون المجال النموذجي للبحث عن تلك اللغة المؤجلة، التي لن تمل أبدا من تعقب أطيافها المتمنعة عليك، وهي تدمن تجريب مختلف ما تتمتع به من إمكانيات، موحية باحتمال تماهيها وتطابقها، مع أفقك التعبيري المنتظر، ولو على سبيل الوهم.
إن البحث عن المعجم الحي والمغاير، يندرج ضمن إطار التواطؤ الضمني مع شعرية ذات لم تعد مجبرة على التفاعل مع ما يقع خارج دائرة قناعاتها الجمالية، ومع ما يقع بعيدا عن مدارات أسئلتها المعرفية، المتحكمة عمليا في إنتاج وحدات المعجم، وفي تحيين استراتيجياتها التعبيرية. كما أن تجاوز الأسئلة المعرفية لذاتها، يلغي العمل بما لم يعد منسجما مع دينامية بنياتها. فالمعرفة تلعب دورا أساسيا في تغيير زوايا النظر، وفي طي صفحات قيم ومفاهيم وقناعات استنفدت مهامها، حيث ما من بنية تعبيرية، إلا وتكون دليل الذات إلى فضاء معجمي مختلف، يحيل عمليا على انتمائه إلى فضاء معرفي، لا يكون بالضرورة معلنا، وفي متناول المقاربات الكسولة، لمفرغة من طاقة المعرفة والفعل. وذلك بالنظر إلى تخفي هذه البنية، وراء الدوامات التي يحدثها فرع محتمل من فروع معجمها، حيث توجد إلى جانب المجرى العام للمعجم، تفريعاته الخاصة، التي تهتدي إليها العين الخبيرة، المؤهلة لرؤية ما يخفيه المعجم المتقادم والمستهلك، من عوامل ملوثة للهواء التعبيري. ومن المؤكد، أن أزمنة الكتابة المتوقدة، هي أزمنة البحث عن البنيات التعبيرية الملائمة لذلك الشيء المتفرد، الذي لا يمكن أن يكشف عن تعدده، إلا من خلال تعدد البحث عن الاحتمالات الدلالية الكامنة فيه. ولعل هذا التعدد، هو أحد المسالك الأساسية، المفضية إلى الكشف عن أثر الدلالات الحية التي طمستها البنيات المعجمية الميتة. إن الأمر يتعلق هنا بلعبة التنسيل والتجديد الكوني، والطبيعي للعناصر المنفتحة على طاقة الحياة، التي لا تستمر إلا من خلال إجهاضها/تنظيفها، لما يتراكم في أحشائها من زوائد، تستمر هي أيضا، وبكثير من العناد في الإعلان عن وجودها. إما بوتيرة مستمدة من طاقة الحياة، أو بأخرى، منتزعة مع طاقة الموت.
إن المعجم بوصفه جماع مصائر واختيارات، يشتغل عمليا على الطــــريقة ذاتها التي تشتغل بها أضداد المعيش، بما تمتلكــــه من مقــــومات التجدد والانبعاث، أو بما يجعلها أســــيرة دائرة التكرار المفرغ من حياته، كي تتفرد الكـــتابة الشعرية العميقة في نهاية المطاف، بأسفارها المتعددة بين تخوم معاجم وخطابات، تضيق باتساعها وبخصوبتها الحدود.
٭ شاعر وكاتب من المغرب*
القدس العربي