بانكسي.. ساحر الفضاء العمومي/ أشرف الحساني
هنالك من الفنانين من يشبه نبتة الظل، يظل في مكانه سادراً لا يبارحه، غير مهتم لا بالشهرة ولا بأضوائها الكاشفة، يتملكه هسيس الفن حتى يذوب فيه ويتماهى معه، بل ويصير جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني لدرجة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فنانون كبار كثر حملوا معهم شرارة الفن في دواخلهم في صمت غير مكترثين بواقعهم، حملوا معهم ألم البشرية جمعاء في صمت دون أن يجهروا بآلامهم وما ينخر أجسادهم يوما بعد يوم، لكن مشاعرهم الدفينة تندلق في لحظة ما داخل فسحة وجودهم من تحت الجلد لتتفجر في إبداعيتهم المفزعة عبر الألوان والأشكال والكلمات، التي تنضح بها مصائر حيواتهم، إنهم شموع تحترق فينا من الداخل راسمين للإنسانية مستقبلها عبر الحب والجمال.
تطفح إلى مخيلتي الآن، إحدى مقولات سيوران “الواقع يصيبني بالربو” لكن هل يجوز أن يكون هذا “الواقع” فعلا مؤلما إلى هذه الدرجة، التي تجعلنا نتخلى عن حياتنا وأحلامنا التي شيدناها قصورا وقلاعا محصنة في طفولتنا؟ وهل يجوز في هذه الحالة أن يكون الصمت موتنا المشتهى وملاذنا الآمن؟ يكبر في دواخلي كل يوم هذا الجرح وأنا أشاهد عملا فنيا أو أقرأ قصائد سليم بركات، أو عبدالله زريقة، أو أمجد ناصر، أو قاسم حداد، وكل هؤلاء الذين تنضح قصائدهم بالغياب والسفر في تخوم الجسد ومجاهيله، لكن ماذا حين يتعلق الأمر بعمل فني لا تختار أن تراه في وقت ما ولا حتى أن تشتري تذكرة لمشاهدته في السينما، بل يباغتك ويصدمك وأنت تخرج من منزلك متوجها إلى العمل لتجد صوبك على جدار بال هدّه المطر عملا فنيا بدمه خرج من رحم الواقع يتحرك في مخيلتك ويبتزك يثير فيك فتنة المجهول، عمل يخيل إليك في تلك اللحظة أنك حلمت به قبل أن تشرب قهوة الصباح. إنه نفس الإحساس الذي
“يقول سيوران: “الواقع يصيبني بالربو”! لكن هل يجوز أن يكون هذا “الواقع” فعلاً مؤلماً إلى هذه الدرجة، التي تجعلنا نتخلى عن حياتنا وأحلامنا التي شيدناها قصوراً وقلاعاً محصنة في طفولتنا؟”
خالج الساحة الفنية العالمية سنة 2003، وهي تشهد بزوغ اسم جديد سيكون له وقع كبير جدا على حياتها. كان ذلك في إحدى صباحات بريستول الماطرة، حيت خرج سكانها كعادتهم صوب عملهم وحياتهم الرتيبة ليصطدموا على حين غرة، بخربشات فنية صادمة على إحدى جداريات المدينة، تعالت الأصوات هنا وهناك وتجمهر الناس حول الجدار محملقين في تضاريس وجغرافيات العمل الفني الصادم، لتكثر تساؤلات الساكنة في ذلك الصباح الرهيب عن هوية هذا الفنان، الذي باغت بصيرتهم بأعمال جد صادمة تجعل من الواقع العربي والعالمي سنداً فنياً وفلسفياً لها. لم يكن العمل الفني، إلا مجرد مولود جديد خرج من رحم الواقع، إنها إمرأة الموناليزا تنظر بعينين جاحظتين صوب ساكنة بريستول المرفهة وهي تحمل بين يديها قنبلة. لقد أعلن العالم الغربي في ذلك الصباح عن ميلاد فنان جرافيتي كبير ثائر على الأنظمة الغربية برسومات جريئة تمتح عوالمها من قاع الواقع العربي والعالمي وما يشهده من حروب وتذمير وترحيل وانتهاك لحقوق البشر في كل جغرافيات الأرض، أنظمة غربية وعربية أثبتت عجزها عن تحقيق أحلام شعوبها ولا عقلانية تسيير دواليب حكمها وما أصابها من شرخ وعجز دائم ينخر عجلة تقدمها ليزج بها في أحضان بدائية أبدية.
تقنية الستنسيل
بانكسي أو هكذا اختار العالم أن يسميه فنان جرافيتي إنكليزي مجهول الهوية، لا أحد رآه أو شاهد صورته يوما في الصحف أو المجلات أو على شبكات التواصل الاجتماعي، يعرف اليوم بشكل خطأ ربما باسم “روبرت بانكس” المولود سنة 1974 بإحدى البلدات الإنكليزية القريبة من مدينة بريستول. بزغ نجمه في مطالع تسعينيات القرن المنصرم من خلال تقنية الرسم. وبعد سفره إلى لندن سنة 2000، سيغير طريقته التقنية في الرسم من خلال تقنية جديدة وهي الستنسيل Stencil وهي عملية تقوم على ملء لوحات مختلفة الحجم تكون مفرغة مسبقاً بالألوان، وقد ساعدته كثيراً هذه التقنية في إنجاز أعمال فنية (بلا توقيع) بسرعة هائلة في دكنة الليل والتنقل بين عواصم المدن العالمية دون الكشف عن هويته الحقيقية. لقد اعتاد بانكسي أن يمارس عمله الفني ليلاً في غفلة من العالم، وبينما الناس نيام يتجول بانكسي وحيدا في الليل يصنع خلاصهم ويرمم أحلامهم ويصنع هداياهم لصباح مرتقب غير مكترث لنفسه ولا لاسمه فبطاقة هويته فنان صانع هدايا العالم يثير رعب الأنظمة السياسية القمعية ولسان حال كل
“في صباح صادم من عام 2003، تفاجأ سكان بريستول بعمل فني جداري كمولود جديد خرج من رحم الواقع، إنها إمرأة الموناليزا تنظر بعينين جاحظتين صوب ساكنة بريستول المرفهة وهي تحمل بين يديها قنبلة”
المستضعفين والمنهوكين والحالمين بغد أفضل.
نادرة وشحيحة هي الأسماء الفنية العربية، التي حاولت الخروج من إسار اللوحة المسندية بمفهومها “الكلاسيكي” لتفتح لنفسها آفاقا جديدة أكثر معاصرة من خلال ولوج الفضاء المفتوح أو العمومي من انستليشين وبرفورمانس، حيث يكون الجسد في لحظات الانتشاء الفني. إن عدم انفتاح الفنانين العرب على هذا المكون الجمالي، الذي يتمثل في الفضاء العمومي، هو من الإشكالات العويصة التي تعترض سير وتقدم الفن العربي وتجعله بعيدا عن متناول الفرد العربي العادي، لكن هذه الإمكانيات الثرة الغنية التي يتيحها فن الجرافيتي في كونه فنا قريبا من عامة الناس مقارنة مع باقي الفنون من مسرح وتشكيل (اللوحة المسندية)، هي التي أتاحت له هذا الانتشار الواسع فضلا عن قدرته في استقطاب بصيرة المتلقي، لأن موضوعاته تكون في الغالب ذات بعد سياسي ثوري مرتبطة بقضايا الراهن، باعتبار أن الفضاء العمومي هو أكثر الأماكن التي يتحقق فيها فعل التواصل في نظر هبرماس، لأنه يشكل مرتعا ومسرحا لمختلف الأفكار الأيديولوجية والسياسية والفنية، التي تدور على شكل مساجلات فكرية بين الأفراد في جملة من القضايا والاهتمامات الراهنة، كما هو الشأن فيما سمي قديما بـ”الآكورا AGORA” في أثينا التي شكلت مرتعا سجاليا للحكم وطرق تسيير دواليب المدينة وأيضا لمناقشة القضايا الفكرية بين الفلاسفة وذلك منذ سنة 406 قبل الميلاد. ولم يقتصر الأمر عند هابرماس لتحقيق التواصل في الفضاء العمومي فقط، بل اعتبر أيضا أن “الدعاية” للشأن الثقافي وتسويق العمل هو شكل من الأشكال الناجحة لتحقيق تواصل فعال. “لقد نجحت الدعاية في العصر الحديث في خلق وسيلة أخرى للتواصل وقامت بتكوين مذهب علائقي جديد، أو نمط واسع وراسخ من الاتصالية، فالدعاية حاليا قد غدت واقعا فعليا وليس معطى، لأنها أصبحت بحد ذاتها أساسا ومصدرا لمعطيات جديدة، فقد شملت كل شيء… حتى النظام السياسي الذي أفرزها قد سقط داخل نطاق احتوائها، وذلك عبر تطورها السريع والمذهل أفقيا على أرضية الواقع السياسي وعموديا داخل هرمية المؤسسات” (1).
فن الجرافيتي
بدأ تداول فن الجرافيتي في نيويورك بأميركا مع موجة الهيب هوب وبزغ نجمه مع موجة التمييز العنصري الذي كانت تعاني منه بعض الأقليات الأفروأميركية، لينتقل صداه الفني إلى باقي دول العالم، سيما فناني الدول العربية الذين تبنوه كفعل فني / نضالي إبان الربيع العربي أو الربيع الديمقراطي، للتذكير بحجم الألم والدم والتنكيل والجرائم، التي مارستها الأنظمة السياسية العربية في حق شعوبها، وهو ما أظهره فن الجرافيتي بقوة إلى اليوم، والذي ما زالت رسوماته شاهدة على مرحلة كبرى في تاريخ الدول العربية، وما ترتب على هذا الربيع من أعاصير عرت كل اليقينيات السطحية التي تشكلت وتغذت منها الأنظمة السياسية القمعية عبر الرأسمال الديني، كما أبان عن العوز والعطب والفساد المستشري في هياكلها السياسية والاجتماعية والإدارية…
وأنت تتجول وحيدا في الممرات الخفية لبعض مدن العالم كلندن وبريستول ومدن أستراليا والولايات المتحدة الأميركية وكندا وغزة وباريس، لا يمكن أن لا تباغتك أعمال بانكسي
“اعتاد بانكسي أن يمارس عمله الفني ليلاً في غفلة من العالم، وبينما الناس نيام يتجول بانكسي وحيدا في الليل يصنع خلاصهم ويرمم أحلامهم ويصنع هداياهم لصباح مرتقب غير مكترث لنفسه ولا لاسمه”
الطافحة بقوة على جداريات مدنها، أعمال جد صارخة في وجه الأنظمة السياسية الليبرالية، تعبر في جوهر خطابها الفني عن رسائل سياسية قوية. فن الجرافيتي كان الملاذ الآمن الذي احتضن بانكسي منذ صغره للتعبير عن قلقه تجاه هذه الأنظمة السياسية القمعية بأسلوب فني ساخر يتأسس في جوهره على خطاب سياسي واجتماعي، ولم يبق بانكسي صامتا تجاه ما تشهده الدول العربية من حراك سياسي يومي، بل خرج بأدواته التعبيرية البسيطة ليحتج ويقف في وجه الأنظمة العربية وجبروتها وما تمارسه من تعنيف مادي ورمزي في حق شعوبها من خلال الانتهاكات والقرارات السياسية المجحفة في حق الإنسان لتحقيق مصيره بمختلف الأشكال التي حلم بها.
وتأتي قوة أعمال بانكسي من قدرتها على النقد اللاذع والتسلل إلى كيان الإنسان المقهور عبر العالم وأيضا باعتبارها صورا تنقل لنا الواقع بطريقة ساخرة ونحن نعرف حجم الفتنة التي تمارسها علينا الصورة مقارنة مع الكلمة، لكون الصورة بتعبير جاك أومون لها “منحى رمزي، لأنها تستطيع أن تنقل معاني متصلة دومًا باللغة الكلامية، وثمة فلسفات حول الصورة ترى فيها وسيلة تعبير مباشر عن الواقع، تُحرك حياتنا النفسية وفق طرق خاصة، مستقلة عن اللغة”.
لا أعرف حقا إن كان “روبرت بانكس” هو بانكسي الحقيقي أو لا، لكني جد متأكد من أن بانكسي يعيش في كل واحد منا، إنه لساننا وقدرنا الذي لا مفر منه..
الهوامش:
1- علاء طاهر، مدرسة فرانكفورت.. من هوركهايمر إلى هابرماس، منشورات دار الإنماء القومي، الطبعة الأولى، بيروت، ص: 105
ضفة ثالثة