لوغوس وبوليس: قوة الخطاب/ باربرا كاسان
ترجمة عبدالرحيم نورالدين
باربرا كاسان (Barbara Cassin ) الفرنسية الجنسية من مواليد 1947، فيلسوفة وعالمة فيلولوجيا ومترجمة، كما أنها مختصة في البلاغة والفلسفة السفسطائية. مديرة أبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي، الذي منحها الميدالية الذهبية عن أعمالها، وتم انتخابها لتصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية (ابتداء من أكتوبر/تشرين الأول 2019). ألفت 30 كتابا منها «مديح الترجمة، تعقيد الكلي» (2016 )، و»الحنين.. متى يكون المرء في منزله» (2014 )، و»أرخبيل أفكار باربرا كاسان»( 2014 )، و»أرسطو واللوغوس، حكايات في الفينومينولوجيا العادية» (1997) و»جاك السفسطائي: لاكان، اللوغوس والتحليل النفسي» (2012)، إلخ. كما أشرفت على إنجاز «المعجم الأوروبي للفلسفات: قاموس المتعذر ترجمته».
خلال تطرقها إلى مشاريعها المستقبلية، تحدثت باربرا كاسان عن مشروع «بيوت الحكمة» الذي بدأت في إنجازه في منطقة «أوبيرفيلييه» (Aubervilliers. Seine- Saint-Denis) في مدينة مارسيليا، قائلة: «نزور مجددا تقليد «بيوت الحكمة» التي كانت مزدهرة في العالم العربي الإسلامي بين القرنين السادس والرابع عشر. لقد كانت فضاءات تبادل، وكانت تضم أحيانا مكتبات، ومستشفيات، ومراصد فلكية، حيث كان انتقال النصوص والمعارف والتقنيات يتم عبر تنوع الألسن والديانات والأجيال، بفضل ممارسة الترجمة» (جريدة «ليبراسيون» الفرنسية، 15 و16 ديسمبر/كانون الأول 2018). في النص التالي، تتناول الفيلسوفة كاسان علاقة المدينة (بوليس)، كاختراع إغريقي، بالكلام (لوغوس) كما توضح أن السفسطائي الذي يعلم الفصاحة، هو الفاعل الضروري في اللعبة السياسية.
المدينة الإغريقية، كما يعلم الجميع ذلك، هي نموذج الديمقراطية بامتياز. منها استمدت كل المتطلبات المكونة لأي سياسة معاصرة، في الشمال كما في الجنوب: الحرية والمساواة (أمام الكلام والفكر والتربية والقانون)، بإجراءاتها الأساسية المتعلقة بالضبط، مثل إجراءات التصويت والمحكمة. لكن المدينة الإغريقية، كما يعلم الجميع ذلك، ليست ديمقراطية نموذجية. إنها تشتغل بالاستبعادات: حفنة مواطنين ضد باقي العالم، أجانب وبرابرة. وضمنه، النساء، الدخلاء، ولما كانت المكوكات لا تسير لوحدها، كتلة العبيد، المحصورين بحسب طريقتهم، بجانب الأطفال والبهائم، خارج دائرة السياسة – حتى إن لم يكن البرابرة والعبيد أولئك الذين نظن. ديمقراطية صورية ضد ديمقراطية واقعية، لم تكن المدينة الإغريقية إلا أوليغارشية مخفية – حكم البعض- وبالتالي قابلة للتملك لغايات مضادة للديمقراطية بصورة عنيفة، من أجل خدمة الرجعية ضد الديمقراطية المعاصرة. إن الطريقة الجيدة لإبقاء هذا النوع من الحقائق البليدة بعيدة هي المختارة هنا: معالجة نصوص، والامتناع عن قراءة دنيا لها. يمكن لبلاد اليونان أن تصلح إذن لجعلنا أقل تأكدا من مفاهيمنا ومن الوقائع التي تشير إليها: وأن تصلح لإبقاء الخطابات المريحة بعيدة، بما فيها تلك حول بلاد الإغريق. أي يونان بالضبط؟ في اليونان التي ترتسم في نقطة التقاء نصوص، السياسة واللغة لا تسير الواحدة منهما دون الأخرى، إنهما يتعينان بشكل متبادل. لهذا السبب، كان السفسطائيون، بحسب تعبير هيغل، «أساتذة بلاد الإغريق»، في الآن ذاته، أساتذتها، أولئك الذين «جاءت بفضلهم الثقافة بحصر المعنى إلى الوجود»، ومعلميها في السياسة. وذلك لذات السبب الواحد: لأنهم كانوا «معلميها في الفصاحة». لولاهم، لما كان للمدينة اليونانية ـ «النسق الأكثر ثرثرة من كل الأنساق الأخرى»، بحسب الباحث في الحضارة الهيلينية، جاكوب بوركهارت ـ أن توجد.
المعاينة الأولى: هناك ما هو سياسي؛ politeuetai tis، «نمارس المواطنة»، يؤكد بقوة السفسطائي أنتيفون؛ ليس ما هو سياسي مجرد هيئة بين هيئات أخرى، قد تكون متوقفة على كيان أعلى، مثلا عند أفلاطون، فكرة الخير. ما هو سياسي هو الواقع بكل بساطة، ومستوى التماسك حيث نحن، مهما حدث. يعيد أرسطو قول ذلك بطريقته الخاصة: المدينة توجد في الطبيعة. ليس بمعنى أن المدن أو الدول تنبت «طبيعيا» مثل نباتات، بل لأن طبيعة الإنسان هي ثقافته، إذا ما قلنا ذلك بكيفية معاصرة. بالفعل، إن الإنسان هو بالطبيعة «حيوان مزود بلوغوس»، وفي الوقت نفسه وموازاة لذلك، هو «حيوان سياسي»: بمجرد ما يتعلق الأمر بالمدينة (بوليس) يكون التعريفان معقودين. «إن الإنسان هو بالطبيعة حيوان سياسي»، يكتب إذن أرسطو، لكنه «سياسي أكثر من أي نحلة أو حيوان قطيعي» لأن «الإنسان هو الوحيد من بين جميع الحيوانات الذي يمتلك اللوغوس».
لوغوس متعدد
لا أترجم لوغوس، وأضيف بوليس بين هلالين، بعد لفظ «مدينة»، معادله التقليدي. وذلك لأننا هنا داخل اللغة اليونانية، شبكة أخرى غير شبكتنا ألقيت على العالم. تشير بوليس إلى مدينة، دولة، أمة، مجتمع، متميزين بِـ politeia دستور، نوع من النظام، بما في ذلك النظام الديمقراطي الذي نسميه فضلا عن ذلك poleteia بكل اختصار إنها تؤشر إلى مجال المشترك والعمومي بالاختلاف مع oikos التي تشير إلى المنزل، والخاص، و»الاقتصاد» من حيث كونه متعلقا بالمصلحة الخاصة، وبما كان الإغريق يسمونه idios – الذي أعطى كلمة «idiot» (أبله) الفرنسية: نحن نقدر المسافة مقارنة معنا نحن من تبدو لهم عبارة «اقتصاد سياسي» بديهية. أما عن لوغوس، فهو لفظ يعقد فيه اليوناني فعلي التفكير والكلام. تمتلك المفردة معنى واسعا إلى حد يستحيل معه ترجمتها، عدا استعمال تعدد من الكلمات المتميزة ـ خطاب، لغة، لسان، كلام، عقلانية، عقل، ذكاء، أساس، مبدأ، باعث، نسبة، حساب، علاقة، سرد، أطروحة، استدلال، حجة، تفسير، ملفوظ، قضية، جملة، تعريف، حساب/قصة، إلخ. هذه المجموعة السياسية، الكلام إذن هو الذي يجعلها توجد وتتآلف: البوليس هي نتيجة خلق مستمر للوغوس. تشهد على ذلك منذ البداية أهمية البلاغة، «فن الإقناع» بحسب أفلاطون، وبالخصوص، «فن التفكير في وسائل الإقناع» بحسب أرسطو. إنها تمارس، مثلما هو الأمر عندنا، في الجمعية العامة، بغرض التداول، وفي المحكمة، من أجل الاتهام والدفاع. لكنها نشيطة أيضا في المناسبات الكبرى، بل حتى «عند الحاجة في مناسبة ما « (kairos )، مع ما يسمى «الفصاحة البرهانية»، في المدائح، والخطب الجنائزية، والولائم. والحال أن هذا النوع الذي يبدو لنا اليوم عتيقا إلى حد كبير، يشير إليه أرسطو مع ذلك باعتباره «الأكثر سياسية على الإطلاق»! إذ لا يتعلق الأمر فقط باقتناع وبإقناع، وإنما، بجوهرية أكثر، بإجماع وقيم. وتعتبر «الإشادة بهيلين» للسفسطائي غورجياس بحق النموذج الذي يمثله أكثر: يثني الخطيب «على الجدير بالثناء، ويلقي اللوم على من يستحق اللوم»، ويجعل المستمع ينتقل من طقس ديني يعكس الإجماع حول القيم المقبولة عبر جميع الكلمات الكبرى للسان («النظام بالنسبة للمدينة هو امتياز رجالها، وبالنسبة للجسد هو الجمال، وبالنسبة للروح هو الحكمة، وبالنسبة للفعل هو القيمة، وبالنسبة للخطاب هو الحقيقة») إلى خلق قيم ومواضيع جديدة.
«اللغة تصنع الأشياء»
بقوة الخطاب، تصبح المرأة المدانة أكثر من جميع النساء، هيلين، التي حولت اليونان الهوميروسية إلى ساحة حرب ودمار، الضحية الأكثر براءة؛ هيلين جديدة تلج العالم بهذا الشكل، والتي سنصادفها عند يوريبيديس، وأيضا بعد زمن طويل عند أوفنباخ أو كلوديل. باختصار، إن الطاهرة هي معلول قوة اللوغوس الكبرى، هذا «السلطان الكبير الذي ينجز بأصغر الأجسام وأقلها ظهورا الأفعال الأكثر سماوية» (محاورة غورجياس). لم يعد الأمر يتعلق إذن بإقناع بل بِـ»أداء»: أجل، إن ما هو سياسي هو بطريقة مفضلة من تلك الأشياء التي ننجزها بالكلمات.
هذا الحدس، الذي ما فتئ أفلاطون يشدد على المخاطر الكامنة فيه، يبقى رائعا من حيث كونه مُكَوِّنا «لقوة الضعيف». وهكذا، في أثينا الجديدة التي ود أن يكونها جنوب إفريقيا وقت خروجه من الأبارتهايد (التمييز العنصري)، يظهر مجددا مطلب من هذا النوع بكامل قوته. «التعامل مع اللغة فقط ككلمات وليس كأفعال هو قول مبتذل»، قال ديزموند توتو، رئيس «لجنة الحقيقة والمصالحة»، هذه الآلية المؤسسة من أجل تفادي إراقة الدماء، وإيجاد «الشعب قوس قزح». «تتمنى اللجنة هنا تبني وجهة نظر أخرى. إن اللغة، كخطاب وبلاغة، تفعل الأشياء. إنها تبني الواقع. «إذا كان وضع الإنسان المعاصر لا يزال إغريقيا، فإن ذلك يعود إلى الارتباط بين السياسة والكلام، الذي لا يقبل الاختزال.
المصدر:
مجلة لوبوان عدد ممتاز رقم 34
القدس العربي