الكاريكاتير السوريّ.. الفنان واحدٌ من ملايين ضحايا انعدام الحريّة/ مناهل السهوي
“لا أحد يتذكر فنَّ الكاريكاتير، أصبحَ من الماضي، بالرغم من أنّه امتلكَ دوراً مهماً في الصحافة السوريّة منذ عام 1906 حين كانت الصحافة مرآة لتوجهات المجتمع وصراع الآراء فيه”- بهذه الكلمات يعبّر الفنان السوريّ يوسف عبدلكي عن خيبة أملّه بما حلّ بهذا الفنّ.
بداية الكاريكاتير كانت في أوروبا خلال فترة الإصلاح الدينيّ لينتقل بعدها إلى العالم أجمع معبّراً عن الهموم والمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها من القضايا، لكن كيف يبدو اليوم هذا الفن في سورية؟ وأيّ دورٍ لعبه خلال السنوات الثماني الماضية؟
لأخذ صورة أشمل كان لـ”ضفّة ثالثة” التحقيق التالي مع عدد من رسامي الكاريكاتير السوريين من أجيال مختلفة:
عبدلكي: إسرائيل والأنظمة
ابتعد الفنان يوسف عبدلكي عن رسم الكاريكاتير منذ 15 عاماً تقريباً، وبحسب رأيه لم يعد هناك مكانٌ في الصحافة العربية للنقد الحقيقيّ أو للحريّة. يقول “كنت كلما رسمت رسماً انتقدُ فيه أحد الأنظمة وقمعها وتضييقها على حريات الناس، يتصل بي رئيس التحرير ويطلب مني رسمَ شيءٍ آخر عن إسرائيل، وهو يطلب ذلك ليس لأن إسرائيل عدوتنا، أو لأنّها قليلة التأثير في حياة العرب السياسية! بل لكيلا أتعرض لهذا النظام أو ذاك! والحقيقة أن مصيبة الشعوب العربية مصيبتان: إسرائيل والأنظمة”.
يتابع أنه ليس للكاريكاتير وظيفة في الظروف المأساوية التي تعيشها بلادنا اليوم لأن لا وظيفة للصحافة برمتها في ظل الاستبداد. وقد انقسم مثلاً الرسامون الفرنسيون إلى رسامين مع الثورة الفرنسية وآخرين مع الملكيّة، وعكس هذا الانقسام انقساماً حاداً في الصحافة أيضاً، وبالتالي انقسم رساموها بدورهم إلى من هم مع ومن هم ضد، وكان هناك سجال وهامش من الحريّة.
من جهة أخرى يجد عبدلكي أنه وقبل الاستقلال في سورية وبعده كان هناك هامش ما وعندما يغيّب كان يغيّب لفترة محدودة، لكن ومنذ أربعين عاماً أُلغي كلّ ذلك، فالاعتراض مُلغى،
والمعارضة حتى لو كانت وطنية ملغاة، والرأي الآخر كذلك. يقول: “يجب أن نسبّح بحمد السلطات ونسكت كالكلاب، وبعد كلّ ذلك يسألون من أين أتت وحشية العديد من المنظمات الإرهابية الطائفية العميلة للخارج والتي ارتكبت مجازر تقشعر لها الأبدان؟ أتت من القمع الطويل، ومن تكميم الأفواه لعقود حتى انفجر البالون”. ويضيف أن هذا لا يلغي أن تلك المنظمات مُوّلت وسُلّحت من أطراف خارجية، لكنها ارتكزت أيضاً على الثأر من الإلغاء المديد.
يرى عبدلكي أن الكاريكاتير في سورية اليوم في الحضيض الأدنى، وذلك ليس بسبب قلّة المواهب، إنما بسبب قلة الحرية، فالصحافة السورية اليوم كلها في حالةٍ يرثى لها، وتحولت الى صفحات للموظفين والمنتفعين وعديمي الموهبة، والسلطات تريد من الصحافة أن تكون ببغاءً يردّد ما تقوله بينما الصحافة في الأصل ومنذ ثلاثة قرون صوت الناس وهي كانت سلطة الناس على السياسة وعلى الأداء الحكومي! ويؤكد: “تريد السلطات لدينا من الصحافة أن تكون ماسح أحذية عند هذا الوزير وذاك المتنفذ”.
يختم عبدلكي بقوله: “لو كان لدى السلطات قليل من العقل لفهمت مصلحتها وسمحت بحريات ولو محدودة، ولسمحت للرأي الآخر ولو خافت، لكنها في نشوة تحكّمها بالبلاد والعباد استمرأت إخراس الجميع ودائماً حتى انفجر الخراء بين يديها”.
الشماع: فنٌ يصعب ترويضه
لم يمنع اعتزال الفنان السوري عبدالهادي الشماع للكاريكاتير السياسي عام 1990 وتوجهه لمعالجة القضايا المحلية والاجتماعية أن يبقى الكاريكاتير وسيلته الأولى للتعبير منذ أكثر من 40 عاماً. يرى الشماع أن دور الكاريكاتير لم يختلف كثيراً فهو فعل إعلامي انتقادي يضيف موقفاً ساخراً – وأحيانا مضحكاً – من ظواهر أو أحداث أو سياسات سلبية بهدف العمل على إصلاحها وتشكيل رأي عام واعٍ وضاغط تجاهها، وقد أظهرت الأزمات والحروب والثورات التي مرّت وتمرّ بها المنطقة العربية إمكانية استخدام الكاريكاتير بقوّة في العمل الدعائي السياسي والتأثير في الجمهور واستقطابه، وخصوصاً أنه فنٌّ يحمل ضمن خصائصه القدرة على تجاوز الانتقاد باتجاه الشتيمة دون أن يراه البعض إسفافاً أو انتقاصاً من جدية الطرح أو سوية العمل وذلك دون الاهتمام بنبل العمل من عدمه.
من جهة أخرى يرى الشماع أن فن الكاريكاتير فقد الكثير من المساحة التي كان يحتلها في وسائل الإعلام الكلاسيكية، فقد تقلصت زوايا الكاريكاتير في الصحف بل انعدمت في بعضها. ويعقّب قائلاً: “ربما أدرك أصحاب هذه الصحف أن الكاريكاتير كائن يصعب ترويضه، فقد يلجأ فيه الرسام إلى تقديم رسوم ذات وجهتي نظر متناقضتين على الأقل وهذا دفع باتجاه
التخلص من أسباب (وجع الرأس)”.
أمّا عن الفنانين فيرى الشماع أن هناك فئتين من الرسامين، إحداهما تسعى لمجدها الشخصي على حساب هذا الفن، والفئة الثانية لا زالت تؤمن بأهمية هذا الفن وتقوم بتأدية رسالته الفنية والتوعوية والخدمية التي قد تعود بفائدة ما – ولو ضئيلة- على مجتمعها. ويعتقد الشماع أنه ينتمي إلى الفئة الثانية خصوصاً بعد ابتعاده عن أسباب الشهرة والمسابقات، فهو الفنان الذي لا يزال يعتمد التوقيع الذي يصعب على الكثيرين قراءته.
وعن الصعوبات التي يواجهها رسام الكاريكاتير اليوم، فإن حريّة التعبير من وجهة نظر الشماع هي ذات المشكلة التي يعاني منها الرسامون السوريون والعرب بمراعاة اختلاف هذه الخطوط الحمراء من بلد لآخر، لكن تبقى مشكلة الرسام السوري الأساسية أن وسائل تقديمه لعمله ما زالت قليلة بل تزداد قلة، فعدد الصحف السورية قليلٌ أصلاً، وبعض الصحف “القليلة” تخلو من زاوية للكاريكاتير. وحول هذه النقطة يقول: “يلجأ الرسام السوري – المطلوب في السوق الإعلامية العربية لجودة منتجه- إلى الصحف الصادرة خارج الحدود، وعدد كبير من رسامي الصحف الخليجية مثلاً هم سوريون”.
هاني عباس: توثيق الألم
ينتاب الفنان السوري المقيم في جنيف هاني عباس اليأس في كثير من الأحيان برغم ممارسته الكاريكاتير منذ أكثر من عشرين عاماً متسائلاً عن التأثير الحقيقي لهذه الفن الذي يرافقه الكثير من الألم والحزن.
يقول عباس إن الرسم في هذه الأوضاع مرعب للغاية ويستهلك الأعصاب بشكل كبير ومع ذلك يجد نفسه يرسم يومياً. ويتابع: “رسام الكاريكاتير في النهاية يرسم قصته، فهو في حالتنا واحد من ملايين الضحايا الذي أصابه ما أصاب الجميع”.
منذ بدايات الثورة في سورية وقبلها في مصر وتونس لم يتخذ عباس موقفاً محايداً فوقف مع
الإنسان، مع الشعب المطالب بحقوقه وكرامته، ولذلك جسدت أعماله صورة الإنسان الطبيعي الذي لا يريد سوى حقوقه البسيطة التي تنتزعها منه السلطات الحاكمة سواء السياسيّة منها أو الاجتماعيّة أو الدينيّة، أو السلطات الكثيرة الأخرى في مجتمعاتنا، وحريّة الإنسان وحقوقه وكرامته ولقمة عيشه هي الخطوط الحمراء التي لا يتنازل عنها في أي طرح فني وفكري.
يميز الفنان هاني بين نوعين من فناني الكاريكاتير الذين يظهرون بشكل أساسي خلال الثورات، فيقول: “في زمن الثورة يكون الفرز واضحاً بين من يمارس رسم الكاريكاتير كمهنة وبين من يمارسه كمهمة في الحياة، وبالتالي نجد الفرق واضحاً بين اتباع الرسّام لهوى المكان أو السلطة أو تفاصيل أخرى والتي تسيطر على الرسام وتحدد خياراته”. ويستذكر عباس أحد الرسامين الذي كان يتغنى بالصواريخ التي ألقتها طائرات التحالف على الموصل وخلّفت آلاف الضحايا الذين لا يزال جزء كبير منهم حتى هذه اللحظة بين الأنقاض وهنالك أمثلة أخرى لرسامين مدحوا قصف المدنيين أو السلطة القمعية التي تحكم بلادهم. يتابع عباس أنه على الضفة الأخرى نجد العديد من الرسامين وهم الأغلبية من وجهة نظره ممن اختاروا الوقوف ضد الحرب وضد القتل وانحازوا إلى مبادئهم ليدفع العديد منهم أثماناً باهظة بسبب هذه المواقف النبيلة كالهجرة وحتى الموت، فالكاريكاتير لا يكون مؤثراً إلا عندما يلامس الحقيقة أكثر وفي الحرب كلما لامس الحزن أكثر وأكثر ينسلخ هذا الفن عن مفهومه المتعلق بفن الإضحاك ويصبح فناً يعبر عن المأساة والقهر البشري.
هاني عباس
يقول: “في النهاية أنا أرسم لأعبر عما يدور في ذهني وقلبي وأريد توثيق كل هذا الألم كاريكاتيرياً وأريد أن أكتب روايتي فنياً عن هذه السنوات فالفن هو التاريخ الحقيقي للبشرية، وألّا ندع (أنا وغيري) الفرصة للأنظمة لكتابة رواياتها الكاذبة كما جرت العادة”.
مرهف يوسف: التذكير بالقضايا
“لقد وجدت نفسي أعمل في هذه المهنة (رسام كاريكاتير) بطريقة غير مباشرة، أفضّل أن يعرّف بي كـ (فنان رسوم متحركة)؛ لا أجد نفسي (رسام كاريكاتير) بالمعنى الصريح لتلك الصفة”- يقول الفنان مرهف يوسف. ويؤكد أن هناك مقومات يجب أن تتوافر في تلك المهنة لا تتوافق مع شخصيته ولا المجهود البسيط الذي يبذله في سبيلها، فشغفه كان ولا يزال الحركة.
وعن دور هذا الفن يجد مرهف أن الكاريكاتير عمل فردي يتخذ من الهم العام قضيته لإيصال رسائله، فالحروب هي المحرك الأساسي للرأي العام في منطقتنا ويمكن أن يكون الكاريكاتير فتيلاً يشعل الحروب أو أن يلعب دوراً هاماً في حلّ النزاعات. يقول: “يجب أن يكون رسام الكاريكاتير على قدر كبير من المسؤولية للمساهمة بشكل بنّاء في فعل المقاومة ضد الظلم والطغيان والفساد والديكتاتورية وأن يخلق مساحة للتساؤل والتفكير، لا أن يكون أداة لبث الفتنة والتحريض”.
رغم عمل يوسف في مجالات بصرية أخرى كالرسوم المتحركة والرسم الزيتي إلا إنه يجد فن الكاريكاتير وسيلة هامة لطرح الأفكار التي يود قولها من خلال رسوم تحمل في طياتها قضايا لا يستطيع البوح بها بشكل مباشر إمّا بسبب طبيعته التي تجنح نحو الفنون البصرية أكثر من فن الخطابة أو بسبب التضييق الممنهج على وسائل التعبير المباشر في مجتمعاتنا العربية. ويضيف: “أرسم أحياناً في أشدّ أوقاتي اكتظاظاً بالأعمال كردة فعل على حدث ما”.
من جهة أخرى يجد مرهف أن هناك قضايا لا نهاية لها في هذا العالم مثل الجوع، البرد، الخوف، الظلم، الفقر، لكن الاهتمام يقلّ بها بين الحين والآخر وبين بلد وآخر بحسب أولويات الشعوب والإعلام العالمي وهنا يأتي دور الكاريكاتير للتذكير باستمرارية تلك القضية أو تلك، فهناك قضايا تخصّ شعوبا مضطهدة، وهنا لا بد للكاريكاتير أن يكون حاضراً لتذكير العالم بأحقيّة تلك القضايا (القضية الفلسطينية على سبيل المثال). وينهي يوسف بقوله: “كما أن الكاريكاتير يعتبر آلية دفع لأصحاب القرار للتوجه نحو حل قضية معينة، هناك صاحب قرار اتخذ قراره متأثراً برسمٍ كاريكاتيري أو خوفاً من قلم ساخر حرّ”.
ضفة ثالثة