الرواية العربية المعاصرة وأنماط مواجهة خطاب الاستبداد/ رزان إبراهيم
تعريف: يأتي مقال الأستاذة الجامعية د. رزان إبراهيم هذا في إطار ملف خاص تحاول “ضفة ثالثة” أن تقارب من خلاله كيفية انعكاس موضوع الاستبداد والحرية في الرواية العربية المعاصرة، وبدأت به بمقال الروائي السوداني أمير تاج السر، الذي نشر هنا يوم 16 مايو الحالي [المحرّر].
***
إن كنا نؤمن بأن الكتابة الروائية تأتي من الانشقاق والتساؤل، لا من التوافق والانسجام، فلا غرابة لو أقررنا بأن روائياً يعيش في ظروف العنف والقهر والاستغلال سينشغل بالضرورة بأسئلة الاستبداد بكل ما يتبعها من وقفات تأملية تدين عوالم مليئة بالدكتاتوريات والرشوة والفساد، وأنه سيكون في مقدمة الداعين والطامحين إلى أشكال إنسانية تعيد للإنسان حقه في العدل، مع ردة فعل طبيعية تقول: إن البديل الوحيد للعنف والقهر والاستغلال هو العدالة الاجتماعية والشرعية السياسية. والروائيون وإن لمس جلهم ما ينطوي عليه المنحى السياسي والاجتماعي للسلطة من أخطار، فإنهم اختلفوا في تقنيات القص المستخدمة للتعبير عن مواقفهم الرافضة لمظاهر الاستبداد المختلفة؛ فبعضهم راح باتجاه تقنيات القص المراوغة، كما فعل نجيب محفوظ حين وضع سعيد مهران اللص في مقابل الكلاب ليقول لنا إن قضاة اللص هم اللصوص الحقيقيون وهم الكلاب، وكما في “ثرثرة فوق النيل” حين وجهت إحدى شخصياته اللوم إلى الفرعون الذي ملأ رجاله الوادي ظلما؛ علما أن محفوظ وخوفا من المساءلة ومن باب التقية مال باتجاه التعبير الرمزي الذي يراه جابر عصفور متماشيا مع اطراد خطى الدولةالتسلطية في القمع. أما البعض الآخر فنراه وقد اتخذ التاريخ والفولكلور ملاذاً متوسلاً رموزهما، لنكون قبالة وجهة تسعى إلى نقل واقع معقد من خلال التاريخ العربي. ولا أدل على هذا الشكل من جمال الغيطاني في روايته “الزيني بركات” المعارضة لحوليات ابن إياس التاريخية، والتي مكنت الكاتب من إبراز علاقة جدلية بين عصرين تظهر فيهما الدولة جسما مترهلا ينخره الفساد والمحسوبية والفقر، وتعمد إلى جهاز البصاصين الذي يعد مفخرة السلطة ومصدر اعتزاز لها.
آخرون ممن شعروا بوطأة القهر الذي تمارسه السلطة اختاروا نقد الممارسات القمعية تصريحا وبشكل مباشر، وإن خلت من النمطية، كما في روايات صنع الله إبراهيم المختلفة، فنراهم وقد طلعوا علينا بسرد جريء رغم ضيق هامش الحريات المدنية والسياسية. وبعض النصوص السردية تناولت موضوع الحرية بكثير من المجاز المسلح بلغة شعرية جمالية، مع استعارات وصفية من عالم الطبيعة كما حين يقترح واسيني الأعرج على من يرغب في تأمل الفراشات أن يذهب نحو الحقول يتأملها وهي تطير وتتلامس بأجنحتها بفرح، وهي الفراشات ذاتها التي يؤكد موتها حين تصادر حريتها، بل ونراه أحيانا وقد عمد إلى اختيار شخصيات رامزة للحرية كما شخصية زوربا على شاطئ البحر بشاربيه الطويلين يستحضره رافعا رأسه إلى السماء، راقصا على الرمل في حركة دائرية ترمز للحرية والانطلاق، وكما صورة الطيور والنوارس التي ترسخت في أذهاننا رمزاً للحرية والانطلاق لتعذر اصطيادها لأن لحمها لا يؤكل، مما يضاعف إحساسها بالحرية والأمان.
نرى من الروائيين من اختار تناول مسألة القمع من خلال السجن الذي يمثل جانبا مهما من جوانب عملية تمثيل الاضطهاد الإنساني، كما في رواية عبد الرحمن منيف الشهيرة “شرق المتوسط” ورواية مصطفى خليفة “القوقعة” وغيرهما الكثير ممن أسس لخطاب مثير حول حقوق الإنسان المختلفة، فأتاح لنا نحن القراء فرصة الدخول إلى السجن كي نكون جزءا لا يتجزأ مما كان السجين يتعرض له من ألوان التعذيب والإهانة، بما يسمح بالتوغل عميقا في أجواء القمع المدمر اللاإنساني. وفي هذا السياق يبدو لافتا ما صرنا نراه من أن موضوع الرواية المتمركز حول القهر والعذاب الذي يتعرض له الإنسان العربي حرّك الروائي باتجاه تجاوز الشكل التقليدي، وبات الروائي منحازا لفكرة تعدد الأصوات، حتى وإن ظلت في العمق محكومة بصوت الراوي الذي يحكي عنها، ليبدو أن عجزا في تحقيق الحرية على صعيد الواقع العملي أصبح بإمكان الروائي تحقيقه من خلال الهروب من أشكال كلاسيكية باتجاه أشكال فنية جديدة.
مؤخرا وبشيوع ظاهرة العنف والإرهاب رأينا الرواية العربية لا تغفل عن قوى عنف داخلية
اعتمدت المذابح أداة أساسية للاستيلاء على السلطة وتأمينها، وبالتالي فإن الرواية كثيراً ما تناقش العنف في إطار أنظمة سياسية يصعد معها العنف أو يهبط وفقاً لدرجات انفتاح أو انغلاق تعتمدها الدولة، فقارئ التاريخ الذي تستمد منه الرواية مادتها يدرك كم إن إقصاء تنتهجه الدولة يفضي في نهاية المطاف إلى عنف سياسي، أو مذابح ستخلف بالضرورة مهزوماً منطوياً على ذاتية مظلمة تتحين الفرص كي تعيد إنتاج قسوة مورست عليها بأخرى تضاهيها، إن لم تكن تتفوق عليها في دورة تبادل عنف واضحة. في هذا السياق تبدو القلعة في “حرب الكلب الثانية” لإبراهيم نصر الله في شرورها التي يضعها الروائي أمامنا رمزا لأنظمة تمارس شراً بحجة الوقاية من شر أكبر، وكذلك يبدو حزب وقائد مستبد في رواية خالد خليفة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” وغيرهما من روايات مدعاة للربط بين عنف وإرهاب أعقب ظاهرة الربيع العربي وبين أنظمة مستبدة فاسدة اجترأت الرواية العربية على إبراز مسؤولية فشلها في ظروف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ليكون القائمون على هذه الأنظمة هم المسؤولون عن ظاهرة كان للأنظمة الفاسدة يد طولى فيها.
ضفة ثالثة