التعبئة الزينبية على طريق الحرب الأهلية العامة/ وضاح شرارة
بادرت الحركة الحوثية اليمنية، وهي تسمي نفسها “حركة أنصار الله” على مثال إسلامي جهادي تشترك فيه حركات سنية وشيعية، إلى إنشاء وحدات عسكرية جنّدت فيها نساء وخصصتها لهن. والواقعة ليست جديدة. فالتجنيد يرقى إلى هجوم الحركة على صنعاء، والاستيلاء عليها في أيلول (سبتمبر) 2014. وذريعة الخبر أو مناسبته هي تخريج كتيبة الزهراء-2 في آخر أسبوع من نيسان المنصرم، غداة شهور قليلة على تخريج الزهراء-1. وجهزت الكتيبتان بنادق خفيفة وعصي كهربائية صاعقة. والسلاحان يستعملان في تفريق التظاهرات، النسائية على الأغلب. وإلى اليوم، يبلغ عدد الزينبيات المجندات في هذا الصنف من التشكيلات شبه العسكرية نحو 4 آلاف، وقد انقضت على التجنيد الأول نحو 5 أعوام.
وقياساً على ملايين النساء المسنّات والأمهات والبنات غير البالغات، لا بد من الإقرار بضآلة عدد “الزينبيات”. وحمل تجنيد 4 آلاف امرأة فتية، في سن العمل والزواج والانجاب، على “تجييش المجتمع (اليمني) بالكامل”، وعلى وجه من وجوه مثل هذا التجييش، مبالغة يدعوا إليها جهاز الدعاية والتحريض في الاعلام اليومي. وقد تكون المبالغة ترتبت على عامل غير العامل الإحصائي والمقارنة، هو ملاحظة خروج التعبئة النسائية على “الأعراف” اليمنية الاسلامية، وعلى تقاليد “مجتمع مسلم عُرف بالمحافظة والتمسك بعاداته” على قول صحافي الوكالة.
أعلام المقاتلات
وإذا حاول قطب الصراع اليمني، الأهلي والإقليمي، الآخر، استثارة حماسة جمهوره وعصبية هذا الجمهور، لوّح بدوره بانخراط النساء في الأعمال الحربية. ونظير المجندات اللائي يبلغ عددهن الأربعة آلاف، وبرزت منهنن نساء ينعتن بـ”القائدات” مثل زينب الغرباني (قائدة كتيبة الزهراء -1) وشراق الشامي (قائدة كتيبة الزهراء -2)، يحصي الصحافي اليمني العدني 3 نساء مقاتلات هن هناء حسين النمشة (من قبائل حجور في محافظة حجة)، وأصيلة الدودحي (من جبال العود في منطقة ظفار)، وزينب القيسي (من مديرية الأزارق في محافظة الضالع). وعلى خلاف تعليل التجنيد الحوثي بعوامل سياسية عامة وظرفية، مثل الحاجة إلى قمع “احتجاجات نسوية” صنعانية أو “تعزيز صفوف” المقاتلين وتعويض خسائر في الرجال، تسوق الرواية الصحافية النساء الثلاث تعليلاً يخصها وحدها. فالأولى حملت السلاح ثأراً لأخيها المقتول والمحروم من الدفن. والثانية قاتلت دون أهل قريتها وقتلت. والثالثة لا تزال “تقاتل كأسد يرى صنعاء أمامه رأي العين”، على قول وزير الاعلام اليمنية (عدن) نجيب غلاب في مدونته.
وعلى هذا الضوء، تنتفي تهمة الخروج على “التقاليد اليمنية”، و”وضعها للمرأة خارج المعادلة التي يختص بها الرجال وفي المقدمة من ذلك حمل السلاح والقتال” (علي ربيع). فالمُقاتِلة في صف حكومة عدن (اختصاراً) إنما تُقاتل تحت لواء القبيلة والحي والقرية، وثأراً لأخ أو عم أو رداً على “وطأة الهجمات الحوثية”، التي تتهدد الأهل الأقربين. ومن هذا شأنهن، ويبعثهن على القتال، من غير تجنيد ولا تدريب ولا سلاح خاص ولا قيادة، (يبعثهن) داعٍ قبلي أو تقليدي “بطولي”- لا بأس عليهن إذا هن قاتلن، وقتالهن ليس من باب “التجييش الكامل” أو التعبئة العامة، بعبارة أخرى “حديثة” وسياسية.
سلطان فوق الجماعات
والمثالان اليمنيان المختلفان، الحوثي والعدني، قرينة على “ثقافتين” سياسيتين تتنازعان الأفكار والأبنية والممارسات السياسية العربية على وجه عام. وجلي، على رغم ضيق دائرة التجنيد النسائي الحوثي، أن الحاكم في علله ومسوغاته وغاياته هو مثال أمري وإيديولوجي مختلط: فليس هو بالقبلي المجزأ والظرفي، وليس بالمركزي العام والمستغني عن الوسائط المحلية والقرابية. ومن يأمر بتجنيد “الزينبيات”، ويُعد وسائل التجنيد من تسليح وتدريب ورواتب، ويملك تسويغ خروج النساء من دور أهاليهن و”حصانة” الآباء والإخوة والأزواج وبني الأعمام إلى الشوارع والحواجز- إنما يفعل هذا بقدرة تعلو (فوق) الاعتبارات المحلية والعشائرية الجزئية. ونعت إجراءات التعبئة الحوثية بـ”التجنيد القسري”، وبـ”الانتهاك السافر لحقوق المرأة اليمنية والتجاوز الخطير (المنافي) كل الأعراف والمبادئ والأخلاق الاسلامية”، وهو رأي ينسبه صحافي الموقع إلى “أكاديميين”، يطعن في أمرين متلازمين: ندب النساء والأولاد إلى القتال خلافاً لأعراف ومعايير سائدة ولا تزال غالبة على دوائر اجتماعية ليس في مقدورها تجنيد النساء ولا تريده، من جهة، وقيام سلطان يتعدى حدود الجماعات الجزئية إلى دائرة واسعة تدمج هذه الجماعات بعضها ببعض وتبرر انقيادها لسلطان جامع ومستقل بعض الاستقلال عن الجماعات المؤتمرة بأمره.
سلطانان مختلفان
والزعم أن التجنيد النسائي الحوثي “قسري” يخالف إشارات واضحة إلى أن “القوة الناهمة”، على قول صحافة “لايف ستايل” الذكوري، “ينحدر معظم عضواتها (كذا!) من الأسر التي تنتمي إلى السلالة الحوثية. وينبه التحقيق إلى أن “القوة النسائية”، وفروعها القتالية (البوليسية فعلاً) والاستخبارية، “تخضع لإشراف زوجات وبنات وشقيقات قيادات حوثية”. وتتمتع “قيادات نسائية تنتمي لسلالة زعيم “الجماعة”، عبد الملك الحوثي، بمكانة على حدة. ويقيد هذا الوصف، إذا صح، عمومية السلطان الحوثي واتساع دائرته، وصدوره عن محل “أرفع” من المشيخات القبلية والأهلية. ولكنه (الوصف) لا ينفي الفرق بين المثالين السياسيين والسلطانيين، العدني والحوثي. فالأول يلابس الدوائر القبلية ومراتبها ومعاييرها ومحافظتها وينكر على السلطان المركزي القدرة على إيجاب روابط وأحكام ومعتقدات جديدة، بينما ينزع الثاني إلى إيجاب مثل هذه الروابط والأحكام والمصالح المتجددة بتجدد الدواعي والأسباب.
وبينما تراعي السلطة العدنية، الائتلافية والمنقسمة والمتغيرة (فعدا عبد ربه منصور هادي لم يبقَ “مسؤول” يمني واحد، مدني أو عسكري، في منصبه منذ 2014)، الخليط المحلي الجهوي والقبلي والحزبي، وتحاول مسايرة موازينه المتقلبة، تتربع العصبية الحوثية في القلب من جماعات متحالفة ومتماسكة، تقوي تلاحمها سياسة تستبد بالأمر وحدها، وتضعف الحلفاء وتستتبع الفروع الضعيفة، وتتولى توزيع الغنائم. ومثل هذه السلطة تترجح بين تقوية عصبيتها المركزية، فتدمجها في الدولة ومرافقها وإداراتها، وبين إرساء سيطرتها على عمومية سلطات الدولة ومساواتها بين الجماعات وأهل هذه الجماعات.
وهذا المسعى يتناقض أو يتدافع. فمكانة عصبية الدولة والحكم وصدارتها تنفخ في العصبية المركزية المستولية، وتعظمها وتشد لحمتها، من وجه. ولكنها تنفخ في عصبيات الجماعات المستتبعة والملحقة، وتقوي روابطها الداخلية، ما حظيت هذه الجماعات بمشيخات تتصدر رئاسات وقيادات ذات شأن وما أتاحت لها مواردها وعلاقاتها وموقعها فرص المنافسة، من وجه آخر. ومثالات الاستيلاء السوري والعراقي والفلسطيني (وعلى نحو آخر) اللبناني واليمني اليوم، في مجتمعات مختلطة، وحروبها الأهلية والإقليمية “الطويلة الأمد”، تكاد تكون رسوماً بيانية عن أوجه النزاعات ومصائرها في هذا الصنف من المجتمعات وأحوالها.
وسائط وحواجز
والمثال اليمني صورة قريبة عن التباس المنازعات الاجتماعية على السلطة وازدواج مفاعيلها. فالحركة الحوثية تطمح إلى السيطرة على المجتمع (المجتمعات) اليمني، وإلى تعبئته تعبئة عامة في حربها الأهلية الاقليمية على عدوها (الأهلي الوطني والإقليمي معاً)، وتسعى في الاستيلاء على الدولة، الاجهزة والأرض والرعية. ولكن دون السيطرة، ودون التعبئة وعموميتها، وسائط وحواجز ليس في وسع الحركة الحوثية الاستغناء عنها، ولا إلغاءها أو تجنب التوسل بها إلى بلوغ “القاع” اليمني. فإذا أرادت الحركة، وهي صاحب (ة) الأمر والنهي في صنعاء، تجنيد سكان أحياء الصفيح العشوائية في أطراف المدينة، أو بين حاراتها القديمة، اضطرت إلى تعيين “مشرف” منها (من الحركة) على “المحوى” (الحي) المحلي. وعمد المشرف بدوره إلى تعيين نائب له من أهل المحوى. ويوكل إلى نائب المشرف “استقطاب الشباب والرجال والأطفال إلى دورات (…) توعوية (…) طائفية” تنتهي، على قول مراسل أحد المواقع، بالقتال على جبهة من جبهات القتال القريبة أو البعيدة. وهذه الوكالات تقيد السلطان الحوثي على نحو ما تقيد السلطان العدني، وإن على قدر أقل كثيراً.
وفي اللقاءات والاجتماعات والدورات والبطولات الرياضية التي يرعاها الحوثيون في الأحياء والمربعات السكنية بصنعاء في شهر رمضان، تتولى مكاتب الاشراف والدوائر التربوية الحزبية تقسيم لاعبي الحي إلى فئات، والفئات إلى فرق. وتتباين الفرق التي تسمى بأسماء قتلى الحركة في دوري كرة القدم أو كرة الطائرة. ويلزم أعيان الحي وتجاره وأعضاء المجالس المحلية وعُقال الحارات بدعوة الفتيان والشبان إلى الانخراط في الفئات والفرق والدوري المحلي، ثم يلزمون بتمويل إجرائها وأنشطتها، وشراء ألبسة اللاعبين. ويدعى خطباء المساجد في الأحياء إلى استعمال منابرهم في حشد المصلين، في غير أوقات الصلاة بذريعة مناقشة الخدمات والاحتياجات والمساعدات ومعالجتها. ويستولي مندوبو الحركة الحوثية على الاجتماعات هذه، ويجرونها إلى التداول في قضايا حكمهم وحربهم وتعبئتهم. وينهون الأهالي عن إقامة صلاة التراويح. ويؤدي عقال الحارات ومشايخ القبائل أدوار الجباة والمحكمين والمخبرين والمبلّغين والكفلاء والأوصياء والموزعين والمجندين، جميعاً.
“جهاز الأنساب”
ويُحمل الحوثيون، وهم لم يتخلوا عن صفتهم الأهلية ولاعن صفة سلطة استيلائهم “الواقعة”، على الاضطلاع بمهمات بيروقراطية مركزية هي جزء جوهري وراجح من دولة لم تنشأ من “تحت”، ولم تقضم تدريجاً الأبنية الوسطية والحاجزة بين أولي الأمر وأصحاب الدواوين وبين “الشعب” وعامته المؤلفة من أفراد آحاد أو ذرات. وشطر أساسي من هذه الأبنية هو “جهاز الأنساب”. وعلى هذا، فـ”تأطيرهم” المحاوي والحارات والأحياء والنهوج، من طريق العقال والمشايخ القبليين والأعيان والتجار وخطباء المساجد، يفتقر إلى التجزئة الوريدية (نسبة إلى الأوردة الدموية)، على قول أحدهم، وإلى دقتها الحسابية والهندسية. وذلك قرينة على تجريدها من تتناولهم السلطة وتسوسهم من متعلقاتهم الاجتماعية والقرابية والمحلية والدينية والجنسية والثقافية التي تحجز بينهم، وتقرهم على مشتركاتهم وخصوصياتهم وفروقهم. فتحميهم من السلطة ولكنها تتركهم نهباً لنزاعات موضعية كبيرة، وتحول بينهم وبين الاحتكام إلى هيئات وقوانين وقواعد عامة.
وعلى شاكلة لجان الدفاع عن الثورة، الكوبية الكاستروية، وشاكلة أمثالها التي تقحمها أحزاب وحركات سياسية مستولية على الجماعات والأفراد، تتولى “الزيبيات”، واللجان الحوثية المتفرقة والمنظمات الأمنية وشبه العسكرية التي شكلها حسن عمر البشير السوداني في الجامعات والثانويات والاحياء، الرقابة الفجة والمباشرة على الرعايا. وتحل اللجان الحزبية محل عمل تنظيم إيديولوجي وريدي، على ما تقدم القول. وتولت العمل هذا أسلاك الرهبنات والأديرة في الولايات، وهيئات الانتاج في المحترفات والمعامل، وهيئات التوزيع والمواصلات والأسعار والتداول في أبنية الادارة والتجارة والنقل والشرطة والقضاء، وهيئات طبابة الأوبئة في ميدان الصحة، وهيئات التعليم في مجال التربية والإعداد، وهيئات الحرب في حقل التعبئة العامة. وتولى النشرُ والطباعة والصحافة والجامعات والأكاديميات والمختبرات والمقاهي والمسارح والأسواق الدورية اختبار الأفكار المتنازعة، وابتكار “أشكال الحياة” ومقارنتها بعضها ببعض، والتحكم في علل المصالح. ولا ريب في أن هذه أفضت إلى “مجتمع المراقبة”، وإلى “الضبط المعياري” ومعارفه، على ما خلصت إليه مناهج تأريخية متجددة. ولكنها أفضت كذلك إلى تصور التدبير الذاتي، الجمهوري والمدني، على خلاف التعبئة البوليسية والحزبية.
المدن