هدى بركات:”بريد الليل” ليست نوفيلا ولا أدب رسائل
حاورها: محمد حجيري
هدى بركات لـ”المدن”:”بريد الليل” ليست نوفيلا ولا أدب رسائل أنا أكثر إلتفاتا إلى ناحية الظل
لا تحتاج الروائية هدى بركات إلى تعريف أو تقديم، وهذه المقابلة معها ليست حول فوزها بالبوكر عن رواية “بريد الليل”، بل اخترناها أن تكون حول الكتابة وطقوسها ومكانها وزمانها والروايات وأبطالها ولغتها…
– قيل الكثير في توصيف رواية “بريد الليل” وعن رسائلها وتيمتها وشكلها وحجمها، وبغض النظر عن كل ما قيل ويقال… كيف تقدم هدى بركات روايتها إلى القارئ؟
أنا ما زلت قاصرة عن مزاولة هذا التمرين، أي تقديم الرواية أو الـ”بيتش”. وهذا ضروري خاصة بالنسبة لدور النشر الغربيّة. أتمرّن على هذا الأداء لكنّي لا أنجح كما أرى عند كتّاب آخرين. أعتقد أنّ فشلي هذا طبيعي بغض النظر عن فن الأداء لأن ما أريد قوله موجود في النص، واختصاره عملية شاقة. كذلك تلك اللّمحة السريعة على الغلاف الخلفي.
أستطيع مثلا القول إنّها ليست من أدب الرسائل، لأنها لا تحترم مرجعيات معروفة لهذا الأدب، بل تستعمل هذه التقنيّة “ملغّمة” إن جاز التعبير لتحملها إلى مكان آخر… ثم هي ليست نوفيلا، كما أُلمح مرّات. على أي حال الـ”نوفيلا” مثلا صفة غير موجودة في فرنسا، ورواية الكاتب إدوار لويس الأخيرة التي لاقت نجاحا كبيرا تقع في 80 صفحة ولم يقل أحد إنها نوفيلا! ثم هي لفظة استُعملت في أميركا لنشر مقاطع جذابة من روايات طويلة وكثيفة لكتّاب مثل سرفانتس أو جين أوستن… إلخ.
– ما الذي يجمع بين هروبك من نار الحرب العام 1989 وبين من كتبت عنهم في “بريد الليل” الهاربين من نار الحرب السورية؟
أنا لم أذكر سورية. لكن يحق للقارىء أن يستدلّ على إشارات في النص. وإن افترضنا ذلك صحيحا فليس كلّ كتّاب الرسائل من سورية. وإن ذهبنا إلى هذه الإشارات سنجد الشخصيات التي تنتمي إلى أماكن/ حروب/ كوارث أخرى. لكن هل هذا مهم؟ أعني المكان الذي تركوه؟ أنا أردت الإبتعاد عن تحديد الموطن لأتجنّب الإيحاءات السياسة، ولكي أقول كم أنّهم متشابهون في وحشتهم وانكسارهم وغربتهم.
ربّما أنا حسّاسة جدا في موضوع الغرباء، لأنّي غريبة وأقيم في بلد بعيد عن بلدي، بسبب الحرب، كما ذكرت. عندي دوما هذا الشعور بأن الحرب دفعتني خارجا غصبا عني. وما تلاها من أوضاع لبنان الحالية ومن ظروفي الشخصيّة لا يسمح لي بالعودة. بل إني بشكل من الأشكال لم “أهضم” غربتي، وكأن الأوان قد فات على المراجعة والآن لم يعد مكان الإقامة الجغرافيّة مهما. أنا موجودة حيث يكون أولادي، ببساطة وقبل كل شيء… هكذا تحملنا الحياة/والحروب/ إلى أماكن بعيدة، في الجغرافيا وفي الذات، لم يكن لنا فيها أو عليها أي خيار.. كما تقول إحدى شخصيّات “بريد الليل”…
– قلتِ قبل مدة “إن ما دفعني إلى الشكل الأخير للرواية كان نفاذ مشاهد المهاجرين الهاربين من بلدانهم إلى وساوسي. هؤلاء المشردون في الأرض، مستقلو قوارب الموت، ولا يريد العالم النظر إليهم إلا ككتلة غير مرغوب فيها أو كفيروس يهدد الحضارة، في حين رحنا نكتشف تراجع البعد الإنساني لتلك الحضارة، وتحصن القوميات بإقفال الأبواب. هذا لا يعني أني أريد للبلدان الغربية أن تشرع الحدود أو تنظر إلى هؤلاء كملائكة. أردت فقط الإنصات إلى حيوات تهيم في صحراء هذا العالم”. وبرأي النقاد أنت تكتبين “بلغة عالية عن الشخصيات والتواريخ، وتنوع في رواياتها بين فنون الكتابة الذاتية والسردية”… كيف توازنين بين اللغة المكثفة الأدبية الرفيعة في “بريد الليل”، وبين اناس مهمشين بائسين هاربين، وحرب قاسية…
لغة “بريد الليل” مقتضبة ومباشرة وليس فيها تجميلات أسلوبيّة. وهي مكثّفة بطبيعتها. الهارب المطارد قصير النفَس ولا يملك الوقت للتدبيج… ربّما تكون الميزة هنا، في هذه الرواية هي شكل التناول. أي النزول إلى قعر الكلام، حتّى الكاذب المضاد لما نسمّيه البوح. كان المحو والتكثيف أهم ما اشتغلت عليه في “بريد الليل” وأصعب ما واجهني… من المؤلم أن ترمي بمقاطع تعتبرها جميلة لمصلحة النصّ المتماسك ككلّ.
على أيّ حال أنا لست من الكتّاب الذين يتنكّبون قول الحقائق باعتبار الرواية كشف واقعي. ملازمة الشخصية سرديا لا تفترض بالضرورة الكلام بـ”اسمها”، أو تمثيلها في الواقع. أعني كان من الممكن كتابة “بريد الليل” بأسلوب آخر، بتورية مختلفة وبـ”لغة رفيعة” على ما جاء في السؤال. في “ملكوت هذه الأرض” استعملت اللغتين بالتوازي، مثلا…
– تقولين في إحدى المقالات “كنت بدأت في كتابة “حجر الضحك” قبل أكثر من خمس سنوات من صدورها. كلّما عدتُ إليها كنت أعاود الكتابة من الأوّل. بسبب أني كنت أتركها حين نهرب من البيت (زمن الحرب)، من البيوت المتعدّدة، وحين أعود إليها أجدها كسمكات الولدين الطافية على المياه الآسنة، ميتة”، “بريد الليل” والروايات الأخرى، كيف كانت كتابتها، لناحية الوقت والطقس واعادة الكتابة والمكان؟
للإجابة على سؤالك ينبغي علي أن أعود إلى كل رواية على حدة. لأن لكل رواية “حكايتها”. على أي حال في ما خصّ الوقت فهو حاجة باذخة، تفترض أنك لا تحتاج للعمل كي تعيش، وهذا ليس وضعي. أي أني لا أستطيع التفرّغ، إلا لفترات قصيرة جدا، كأن أستفيد من إقامة أدبيّة مثلا. الآن بت أشعر كم أن ذلك ضروري للتأمّل في تعميق التجربة. فما نكتبه ينكتب حين نكون إزاء الورقة، أو الكومبيوتر. للسبب نفسه ليس عندي “طقس” للكتابة، لكني أصفى ذهنا في الفجر، ربّما بسبب إنشغالاتي كأمّ في البداية، حين كان الولدان صغيرين، ولكي “أربح” ما بقي من النهار في القيام بأعباء الحياة… وعن إعادة الكتابة فهي ضرورة مطلقة بالنسبة لي. يجب أن “أنسى” النصّ لمدّة قد تطول، لكي أعود إليه بنظرة ناقدة تتخذ المسافة من “تيّار المشاعر” الجذّاب، والذي قد يفخّخ الكتابة. بمعنى أنّه يحدّ من السيطرة على السرد، كما حين “يندمج” ممثل فاشل بدوره..
– في مكان آخر تقولين “كلّما كبرت في العمر أو في الكتابة ازداد شكّي في ما أعرفه. صحيح أنّني أقرب إلى حدس آلام الآخرين، فيصبحون شخصيات متألّمة، إذ يكشف كلامنا القاسي عن الألم قاعاً أو قيعان لا نريد رؤيتها، ونفضّل أن نتناساها ونتناسى مسؤوليتنا فيها وعنها. أنا كإنسان أشكو قلقي وأودّ أن نتواصل عبر وسائل نسمّيها فناً، تساعدنا على كسر الوحشة بشيء من المتعة. أفضّل مثلاً الكتابة الروائية على وسائل التواصل التي لا أملك حساباً في أي منها”، ما الذي تغير في الافكار التي تكتبين عنها أو الأشخاص الذين تكتبين عنهم، بدءا من “حجر الضحك” مروراً بـ”حارث المياه”، واهل الهوى” و”رسائل الغريبة”، وصولاً حتى “بريد الليل”؟
ربّما الذي تغيّر هو أني أصبحت أكثر شجاعة إزاء القارىء، أو الناقد، عموما. أصبح بإمكاني تناسي أدوات التلقّي والقراءة إلى حدّ ما. أصبحت أسمح لنفسي بعدم “الشرح”، أي أن أكون أكثر جرأة، وأكثر اعتمادا على ذكاء القارىء وعلى ثقافته. أنا أطمح لأن أكون “شعبية” لكني أعرف إنّي لست كذلك، وهذا يجعلني أكثر احتراماً للقارىء. مع ذلك أنا أعطي مخطوطتي لقارئ “عادي” (إحدى شقيقاتي أو ابنتها مثلا)، لا مثقّف ولا ناقد محترف، وأهتم لرأيه كثيرا، إذ يفيدني هذا الرأي في الإطلاع على مستويات التلقي…
– هل ثمة قاعدة محددة في كتابة رواياتك الجديدة “ملكوت هذه الأرض” و”بريد الليل” وشكلها؟ أم أنك تنفذين قولك “شكل كتابة الرواية يولد مع فكرتها الاساسية رواياتي مختلفة عن بعضها وفي كل مرة تتركب على ايقاع معين”؟ هذا السياق أو الإيقاع هل قادتك ذات مرة إلى رواية متعثرة النهاية، أو عجزت عن إكمالها؟
بالفعل. كلّ رواية تتركب على فكرتها الأساسيّة، في الواقع على جملتها الأولى. أي أني أحدس بما ستكون عليه الرواية عندما أبدأ فعلا بالكتابة. لأنّي أكتب “في رأسي” طويلا. هذا أيضا بسبب الإنشغالات اليومية وإيقاع العمل من أجل العيش. أنا لا أتشكّى إذ لذلك إيجابية كبيرة على ما أعتقد. لذا حتّى الآن لم ألق تعثّرا حقيقيا يوقفني عن المتابعة حتّى نهاية الرواية…
على أيّ حال أنا بطيئة في الكتابة، ويلزمني وقت طويل، أقلّه أربع سنوات بين رواية وأخرى.
– عادة ما تلجأ بعض الكاتبات (وحتى الكتاب) العربيات إلى تصوير الرجل العربي أو الشرقي في مشهدي الذكوري والعنيف، أما أنت فتختارينه بصورة الهش والضعيف والمريض وحتى حين يكون ذكوريا تضفين عليه واقع الضعف، أي أثر اجتماعي ثقافي جعلك تركزين على صورة الرجال الضعفاء في رواياتك؟ حتى إنك صرحت ذات مرة بأنك “تعذبت كثيراً في السيطرة على شخصية الرجل”؟
هذه الجملة قلتها في مجال تناولي لرجل روايتي “أهل الهوى”، ليس بسبب أنّه رجل، بل لصعوبة تكوّن هذه الشخصيّة في رأسي. كان “يفاجئني” عنفُه إذ ألحق به ويخرج من رأسي بصورة مضنية لأنّه كان يردّني إلى عنفي الداخلي الشخصي الذي لم أكن أعرفه، أو ما اختزنته من عنف دون إدراك مني… الضعفاء يشون بقسوة العنف بشكل أكثر دلالة في قوّة البطش والقدرة- سرديّا – على تلقّي السحق والقهر. لعبة المرايا هذه أكثر غواية عندي، وأنا أكثر إلتفاتا إلى ناحية الظل، والى السؤال في ما قد يجعل رجلا يعنّف الكائن الوحيد الذي يحبّ، مثلا. إذ نعم، هناك من الذكوريين من يستحق الشفقة، ومن يشي بأمراض مجتمعه أكثر من غيره من “الأبطال” والشخصيات. فالفرد قد يكون وعاء صريحا تتجمّع فيه جراثيم الجماعة المأزومة. أنا لا أحاكم شخصياتي أخلاقيا، أنا أقترب، وأنصت فقط. ثمّ أن العلاقة بين الجلاّد والضحيّة، وقد كُتب فيها الكثير، مدعاة للتأمّل.
– تعيشين في فرنسا منذ ما يقارب الثلاثة عقود، ومع ذلك معظم كتاباتك عن لبنان، وجزء كبير منها عن الحرب، وحضور فرنسا يبدو هامشياً اذ جاز القول، هل الكتابة هي مخاض ذاكرة عمر معين من الحياة أو قراءة رؤية موازية للواقع وتجلياته وناسه وحروبه؟
فرنسا، التي لم أختر الهجرة إليها، وفّرت لي الحريّة في انعزالي عن ضرورة التأقلم مع الواجب الإجتماعي ومراعاة فولكلور العلاقات المفروضة علينا. وهي كرّمتني في أوجه كثيرة. لكني لست فرنسية أصلية ولن أكون. ولست فرانكوفونيّة رغم مساهمات لي عديدة وباتت مهمّة باللغة الفرنسية التي أحبّها وأقدّرها أيضا طبعا. لكن لي لغة وهي العربية، لأني ببساطة عربية، وأكتب عن مكان عربي وعن أناس، شخصيات، لغتهم هي العربية. كنت ربّما سأكتب بالفرنسية لو أني أجهل اللغة العربيّة، أو لو أن لكتابتي طموحات “عالميّة” سريعة لا تحبّ التأني أو الإنتظار. الترجمة إلى الفرنسية التي تتبع رواياتي تأتي أحيانا بالتزامن مع النشر بالعربية.
– هل الكتابة باللغة العربية تجعلك بعيدة من الواقع الفرنسي؟
لست بعيدة من الواقع الفرنسي أبدا، لكنّه حتّى الآن ليس “منطقتي” السرديّة، ربّما لأنّي حملت معي ما يكفي لعمرين أو أكثر. وربّما لأن أسئلتي الأكثر إلحاحا تأتي باللغة العربية ومنها. على أيّ حال أصبح العالم أوعية متصلة بحق. واهتمام الغرب بكتاباتنا، كما يحصل حاليا مع “بريد الليل” منذ صدورها، ووصول التعبيرات السرديّة العربيّة إلى مستويات عالية، يؤكّد أن الرواية العربية تركت الهامش إلى المتن. وأكرّر أنّه ليس بالنسبة اليّ وحدي طبعا. أنا لست مع النظرية التآمريّة التي تلقي على الغرب، كلّ الغرب، كلّ شيء في الغرب، نوايا باستهدافنا. الغرب متعدّد. الغرب متعدّد قطعا وهو ليس واحدا، وعلينا أن نكف عن إلقاء اللائمة دوما على غيرنا في ما يصيبنا… لا أحد يستهدفنا إن لم يجد سواعدنا في خدمته.
– ما النصائح التي يمكن توجيهها لمن يود كتابة رواية، خصوصاً من الشبان؟
العوذ بالله! نصائح؟! حتّى لو كان عندي نصائح، ككثرة القراءة مثلا، فهي لا تنفع… المدن