في مديح الهامش وأهمية أدعياء الثقافة/ محمد سامي الكيال
ارتبطت الأوساط الثقافية والسياسية غالبا بأنماط معينة للحياة والتعبير، اعتُبرت إشكالية وغريبة، أو مدّعية للغرابة، ما جعلها مثارا لسخرية ونقد، يصل أحيانا لدرجة المحاكمات الأخلاقية الصارمة، التي لا تجريها السلطة أو الفئات الاجتماعية التقليدية حسب، بل غالبا أفراد من هذه الأوساط نفسها. في العالم العربي يوجد إنتاج غزير من الأعمال الدرامية والقصائد والمقالات، ومؤخرا (تريندات) مواقع التواصل الاجتماعي، المكرسة لسخرية المثقفين والناشطين من دوائرهم القريبة. وإذا كان هذا النوع من التهكم والمحاكاة الساخرة يدّل على الحيوية الاجتماعية غالبا، ويصبح أمرا محببا وضروريا في فترات النهوض الثقافي وتوسع الحريات العامة، فإنه في فترات الانحطاط وتصاعد القمع السياسي والقيود الاجتماعية، يبدو مثيرا للتساؤل عن كيفية وعي المجتمعات لذاتها، وميول الفاعلين الأساسيين فيها، خاصة إذا ترافقت الإدانة بمسطرة أخلاقية، معلنة أو مضمرة، يتم قياس سلوك البشر عليها.
ارتبطت الدوائر الثقافية – السياسية بالسلطة كثيرا من الأحيان، وانخرطت في مشاريع سياسية أو وطنية، كحال المثقفين اليساريين في العهود الناصرية والبعثية، الذين ساهموا في بناء الهيمنة الأيديولوجية لهذه الأنظمة، سواء كانوا يتقلدون مناصب ثقافية فيها، أو حتى قابعين في سجونها. إلا أن هذه الدوائر في فترات أخرى، كالتي شهدناها قبيل الربيع العربي، وبعد انحسار موجته الأولى، تصبح هامشا، لا يملك بحد ذاته السلطة المادية أو المعنوية، ومجالا للهرب وتحقيق الحد الأدنى من الانعتاق الاجتماعي والثقافي. هذا الهامش قد يصبح منطلقا لكثير من التحركات السياسية المضادة. ولذلك فإن التعامل معه، وكيفية اندراجه في معادلات السلطة والهيمنة، كان دائما هاجسا مقيما للأنظمة الحاكمة.
«خليهم يتسلّوا»
اشتهر الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بعبارة «خليهم يتسلّوا»، في سياق سخريته من «البرلمان الموازي»، الذي أقامه بعض نواب وناشطي المعارضة. ما يعكس منظور الأنظمة آنذاك في التعامل مع الهامش: مجال غير مؤثر لأفراد معزولين، يمكن التسامح معه جزئيا للتنفيس عن النقمة الاجتماعية. وبالفعل شهدت معظم الدول العربية، بدرجات متفاوتة، فتحا لهامش محدود من الحريات، بوصفه نوعا من الرشوة الثقافية لفئات معينة، ومظهرا يمكن تسويقه خارجيا للإصلاحات التي تجريها الأنظمة، إلا أن هذا الهامش تم استغلاله بقوة، وأنتج حراكا اجتماعيا مهما، تجسد في بعض مظاهر الحرية الإعلامية (مثل جرائد المعارضة في مصر قبل الثورة)، وانتشار المدونات على الإنترنت، وتوسع العمل النقابي والسياسي، وبروز منتديات ثقافية ودور نشر أكثر جرأة من المألوف. بعض الأنظمة انتبه لخطورة ذلك مبكرا، مثل النظام السوري، الذي سارع بضبط الأمور من جديد، في حين أن ثقة حكام آخرين، مثل مبارك وبن علي، أودت بحكمهم. فمن وسط «التسلية» التي سمحوا بها، ظهرت أولى بوادر الربيع العربي.
وإذا كانت «التسلية» مفردة ذات دلالات سلبية غالبا في السياق العربي، بوصفها نقيضا للجدّية والمسؤولية، فهي عكست حاجة ملحة لدى كثيرين: وجود حيز مكاني واجتماعي، تقلّ به القواعد والقيود الصارمة التي يفرضها المجتمع والدولة، ويمكن للمرء أن يكون فيه فردا غريبا مستقلا وضائعا في الزحام، وبالتالي له الحق في التجربة والخطأ: أن يكون ملتزما أو عابثا أو مدعيا؛ مغرقا في الصدق أو الكذب؛ الغرور أو التواضع. كان هذا انبعاثا محدودا لمفهوم المدينة في السياق العربي، أي المكان الذي يتخفف فيه الفرد، إلى حد ما، من التزامات الأصل والعائلة والطائفة والعشيرة، والآداب التقليدية للسلوك والتعامل، وفروض الرطانة الوطنية والأخلاقية. في جو كهذا من الطبيعي ظهور كثير من المدعين والأفاقين والانتهازيين. ولكن ما يمكن تسميته «الحق في الخطأ»، هو الشرط اللازم لإمكانية الحرية الاجتماعية. فصواب مفروض، لا سبيل لغيره، ليس صوابا، ويتسم بكثير من سمات العبودية والنفاق، ما يجعله اعتداء على التجربة الأخلاقية الذاتية. ومن ذلك الوسط «المدعي» خرج عديد من الثائرين، الذين دفعوا ثمن تمردهم قتلا وسجنا وتعذيبا، وسعوا دوما لاحتلال المجال العام، بعد أن كانوا على هامشه، أي السيطرة على قلب المدينة وساحاتها العامة، المكان الذي سمح لهم أن ينالوا شيئا من التحرر. ما جعل «الميدان» في مواجه مباشرة مع الدولة، بعد أن اضمحل دور التنظيمات الاجتماعية الوسيطة التقليدية، التي كان الأنظمة تعتمد عليها في بسط هيمنتها.
هذا الحال ليس خصوصية عربية، فلطالما كانت الهوامش التي يشغلها الشتات المديني، من مهاجرين ومثقفين وعمال وباحثين عن الفرص، منطلقا لكل محاولات التغيير، من صالونات باريس ومثقفيها الذين «يتسلون» بتحرير الموسوعات وتهريب الكتب، مرورا بربيع الشعوب الأوروبي عام 1848، وصولا لكثير من حركات التحرر الوطني والتمردات العمالية والطلابية في القرن العشرين. حتى انشغال الكتابات الماركسية بالسخرية من «البورجوازية الصغيرة»، كان يدل على مدى مشاركة هذه الفئة في كل موجات التغيير. وعلى الرغم من أن الهامش العربي لم يستطع، كثيرا من الأحيان، تجاوز اللغة السائدة، أو الإتيان بجديد فعلي في مواجهة الأرثوذوكسية الاجتماعية والوطنية، فقد انتبهت الأنظمة لخطورته، وكان إغلاق المساحات الثقافية المحدودة، والتضييق على روادها، واعتقالهم لأتفه الأسباب، من أهم إجراءات ترميم سلطة النظام القديم.
تسليع الهامش
يمكننا أن نجد أمثلة أخرى على كارثية ضياع الهامش، تأتي، للمفارقة، من الديمقراطيات الغربية الحالية. فبعد عقود «الثقافة المضادة» و«تفكيك السلطة»، أصبحت الهامشية سلعة ثقافية تحقق مكاسب مادية ومعنوية، وصار لـ«التمرد» داعموه من أرباب المال والنفوذ، ليصبح من حِليّ التيار السائد، وخطابا رسميا للسلطة. الأمر الذي يطرح سؤالا جديا عن الجهة التي يجب معارضتها وتوجيه المطالب لها في الدول الغربية، إذا كانت الأغلبية الساحقة من الحكومات والشركات الكبرى ومؤسسات الإعلام والثقافة تتبنى رسميا معاداة العنصرية وحماية البيئة والنسوية والتنوع والتعددية الثقافية، وتمولها بسخاء لا نظير له، عبر «المنظمات غير الحكومية».
هذا الواقع أفرز أشكالا غير مسبوقة من «الالتزام». فعقب عقود من السخرية من الفن والأدب الملتزم، الذي اتسمت به دول المعسكر الاشتراكي السابق، صار لكل ميادين الثقافة النخبوية والشعبية في «العالم الحر»، من الأكاديميات، مرورا بالصحافة والمسرح، وصولا للأفلام التجارية والموضة، قضايا أخلاقــية، على الجميع الالتزام بها بشكل شديد الفجاجة. وتحولت المهرجات الفنية والثقافية، بما فيها فعاليات الإنتاج الثقافي «المستقل»، إلى منابر للخطابة، ولعب دور الضحية. فضلا عن حالات الإجبار على إبداء الندم العلني على الممارسة أو التفكير والتعبير الخاطئ، ما يذكرنا ببعض فصول الثورة الثقافية الصينية. أما رقابة ومنع ووصم كل ما هو مخالف للسائد فأصبحت مطالب «ليبرالية». هنا يصبح نقد «البرجوازية الصغيرة»، وشتات أوساط المدن المعولمة الكبرى، حاسما وضروريا، بعد أن امتلكت السلطة، والقدرة على قمع الآخرين، والتدخل في أنماط حياتهم وتعبيرهم.
في وسط هذا الجو ذي الخطاب الأحادي يصعب إيجاد الهوامش، إلا في الأوساط اليمينية والعنصرية، المعزولة والمكروهة. وهذا يدل على مدى الأزمة التي تعيشها الثقافة الغربية المعاصرة، والتي تسربت عناصر منها، مع عولمة «المنظمات غير الحكومية» وقيمها، إلى الوسط الثقافي والسياسي العربي.
نقد أخلاق «الالتزام»
تشهد معظم الدول العربية اليوم، باستثناء السودان والجزائر، انحسارا للحراك الشعبي. ما يجعل الانضباط السياسي الشامل يفقد كثيرا من ضرورته، الأهم ربما التركيز على فتح مساحات جديدة للانعتاق الاجتماعي والثقافي. أما السخرية من عدم الالتزام بالأخلاق والسلوك واللغة السائدة، فلن تصب إلا في مصلحة الأنظمة، التي تسعى، بشكل سيريالي أحيانا، لإعادة الاعتبار للقيم المحافظة.
اتخاذ المنتج الثقافي مسافة عن الأيديولوجيا المسيطرة، ما يمكّن من مساءلتها ونزع هالة «الطبيعية» والأخلاقية عنها، هو برأينا أمر ضروري في الشرق والغرب، وبالتالي فإن قيم الالتزام المعاصرة تصبح عائقا يجب تجاوزه للخروج من الشمولية.
من السهل على المرء أن ينتقد الطرف الأضعف، ويزاود في التهكم عليه، ما دام يأمن ردة فعله، ولكنه بذلك لا يسلك إلا الطرق التي يسمح بها من يملكون القوة والهيمنة. وإذا كان الهدف نقد الفساد والابتذال حقا، فربما يكون أدعياء الثقافة والباحثين عن مظاهر التمرد ليسوا المشكلة، فهم جزء ضروري من حالة جانبية، قد تكون مليئة بالإمكانيات، نسيها مؤقتا أصحاب التوجهات «القويمة»، فلا داعٍ لتذكيرهم بها دوما. وفي مجتمعات يتم بها تنظيم البشر أرتالا، لتحية القائد والوطن وجيشه ودينه، الأجدى تفكيك هذه الأرتال، لا الاستقواء على من يحاولون مغادرتها، حتى لو فعل بعضهم ذلك بأسلوب يبدو مضحكا وسخيفا. فلا أحد يملك دليلا جاهزا للحرية «الحقيقية». قد تعكس الأوساط «المدعية» كل آفات المجتمع ومشاكله، ما يجعل نقدها ضروريا، ولكن هذا يختلف عن الوصم الجماعي، الذي يصادر مسبقا إمكانية الانشقاق والتمرد.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي