زكريا تامر.. التسعيني الشاب/ بشير البكر
قبل أن أرحل عن لندن، قرّرت زيارة زكريا تامر في مدينة أكسفورد، وهذا أمرٌ درجت عليه في العامين الأخيرين. لا أترك ربيعا يمر من دون أن أذهب لقضاء نهارٍ مع هذا الرجل الذي يشكل أثراً سورياً فريداً، وآخر الكتاب السوريين الكبار الأحياء. واخترت نهاية مارس/ آذار الماضي، لأن نشرة الأرصاد الجوية بشّرت بطقسٍ مشمس ودافئ، وهو ما يشجع على مشوار مع زكريا خارج المنزل، وهذا ما حصل، حيث تناولنا الغداء في مطعم سوري يبعد عن منزله كيلومتر تقريباً، وسرحنا في حارات وشوارع أكسفورد التي يسمّونها المدينة الحالمة.
ترافقت في تلك الزيارة مع كل من الروائي فواز حداد والشاعر والصحافي حسام الدين محمد الذي حملنا بسيارته، وكان حديثنا في الطريق يدور حول زكريا في عزلته في مدينة أكسفورد التي لم يعد يبرحها، على الرغم من الدعوات الكثيرة التي تصل إليه، وصرنا نطلق التخمينات والتكهنات عن هذا الرجل الذي سيبلغ التسعين من العمر في يناير/ كانون الثاني المقبل. وحين وصلنا، وفتح لنا زكريا باب البيت، وجدناه على عكس تخميناتنا، في عافيةٍ تامةٍ، ويتمتع برشاقةٍ جسديةٍ وذهنيةٍ، وأكثر من ذلك بذاكرةٍ صافيةٍ وخصبةٍ وقلبٍ نديٍّ ودافئ، وكل ما فيه يطفح بالود والدعابة الشامية العتيقة.
في ذلك النهار، تحدثنا مع زكريا عن أشياء كثيرة، ولكننا لم نبرح الشام، كلما تشعّبنا في الحديث عدنا إليها، وقادنا محدّثنا إلى حاراتٍ ومقاه وبساتين وأسواق وبشر لم يعد لهم وجود في هذه المدينة التي يشكل زكريا أحد أبرز كتابها الكبار وأعمدتها التي بقيت صامدة، على الرغم من الأهوال التي عبَرتها منذ حكمها العسكر.
أردت من زكريا أن نسجل حديث ذكرياته عن الشام والحركة الثقافية السورية التي عاش في صلبها طيلة 70 عاماً، وبرز فيها أهم كاتب قصة قصيرة، ومن ألمع كتاب الزوايا الصحافية الناقدة والمعبرة عن نبض الناس. وعلى الرغم من أن زكريا لا ينقطع عن الكلام والمرح، ويتمتع بذاكرة قلّ نظيرها، تحتفظ بتفاصيل دقيقة تعود حتى سنوات الطفولة، ولكنه يرفض تسجيل الحديث، وهو عنيدٌ إلى حد كبير، ومتعبٌ على نحو لا يوصف. وما زلت أذكر أن الناقدة والصحافية، ديمة الشكر، أجرت حواراً فريداً مع زكريا عام 2015 لـ “العربي الجديد”، بعد أن صرفت وقتاً كبيراً على التحضير الهاتفي، وسافرت إلى أكسفورد للقاء الكاتب، ولكنها خرجت بحصيلةٍ ثمينة جداً. وفي تقديري، يشكل ذلك الحوار وثيقةً ذات قيمة خاصة، لأنها تؤرّخ لواحدٍ من أكبر كتاب سورية في القرن العشرين. وساهمت في ذلك الامتياز الصحافي النادر الصداقة التي تربط زكريا بعائلة ديمة ووالدها المثقف المعروف ياسين الشكر. وحين تتم دراسة زكريا تامر، سيتم الرجوع إلى ذلك الحوار، بوصفه من أوفى المراجع وأهم المفاتيح لعالم زكريا.
وفي جلستنا مع زكريا، تناولنا قضايا كثيرة، وسير أصدقاء عديدين ربطت زكريا بهم علاقات امتدت زمنا طويلا. أحدهم الشاعر محمد الماغوط الذي لا يزال زكريا يشكل موسوعة كاملة عن تفاصيله لزمن طويل. وهذا جانبٌ من ذاكرة لم يسجله زكريا، ويرفض حتى الآن أن يكتبه. وهنا يجدر الوقوف عند نقطة خاصة، تتعلق بمذكرات زكريا التي لم يكتبها، وأزعم، من خلال معرفتي بزكريا وصداقتي معه، أنها ستكون سجلا عن سورية القرن العشرين، على قيمة ثقافية وسياسية عالية، بالنظر إلى ما عاشه وعرفه، وما يمكن أن يشهد عليه.
سيبلغ زكريا في يناير/ كانون الثاني المقبل عامه التسعين، وهو يستحق احتفالا كبيرا بهذه المناسبة. أولاً للاحتفاء بروحه الشابة، وتكريما لمنجزه الكبير في القصة والصحافة. هذا القاص المؤسس له دَينٌ كبير أن نقول له شكرا أيها الكبير. وبانتظار ذلك اليوم، تحية حب إليك أيها الكاتب.
العربي الجديد