الاسد والعمائم الموالية/ إياد الجعفري
ألهبت صور العمائم التي التفت حول بشار الأسد في صلاة عيد الفطر الأخيرة، مشاعر الحنق من جديد، لدى شريحة واسعة من السوريين، حيال “رجال الدين” الإسلامي بسوريا، وأطلقت سيلاً من الاستياء الذي تم التعبير عنه لفظياً، ووصل في كثير من الأحيان، إلى حد السباب والشتائم، التي طالت “العمامة”، بصورة لم تخلُ، في تعليقات كثيرة، من التعميم.
واللافت، أن العلاقة بين ما يمكن وصفه بـ “المؤسسة الدينية الرسمية” في سوريا، وبين نظام الأسد، ازدادت متانة خلال السنة الأخيرة، ما دفع بمؤسسات بحثية مرموقة إلى مناقشة تاريخ تلك العلاقة، وكيف تطورت وصولاً إلى حالة الاستتباع الكاملة لصالح النظام. في الوقت نفسه، انطلقت أصوات من البيئة الموالية للنظام، تُحذر من مخاطر تجذّر هذه العلاقة، غالباً ما كانت تصل ذروتها على لسان عضو مجلس الشعب، نبيل صالح، الذي كان قد حذّر بعيد إصدار قانون الأوقاف الجديد، نهاية الصيف الفائت، من “سعودة” النظام السوري.
وطوال الأشهر الماضية، كانت الأبحاث التي ناقشت العلاقة المشار إليها، قد أطلقت جدلاً بين مراقبين ونشطاء سوريين، دفعت بالكثيرين إلى توصيف “المؤسسة الدينية الرسمية” في سوريا، بأنها “المؤسسة” التي شهدت أقل نسبة “انشقاقات” عنها، لصالح المعارضة. وبغض النظر عن مدى دقة هذا التوصيف، من حيث المقارنة مع مؤسسات أخرى، خاضعة للنظام السوري، فإن نسبة “الانشقاقات” عن الخط الموالي أو المهادن، السائد في أوساط معظم “رجال الدين” الإسلامي، بسوريا، كانت بالفعل ضئيلة، إذا ما قارناها بأعداد “رجال الدين” الذين يُقدرون ربما بعشرات الآلاف، من أئمة وخطباء مساجد، ومدرسين شرعيين في المدارس.
وتمحور النقاش طوال الأشهر الماضية، حول محاولات جادة لتفكيك ظاهرة هذه العلاقة، حول سؤال: كيف نجح نظام الأسد في تحقيق حالة استتباع شبه كاملة، لـ “رجال الدين” في سوريا؟ وكانت الأجوبة دوماً تركز على “رجل الدين”. ونتيجة ذلك، كانت الأجوبة من قبيل، السطوة الأمنية، وفي قراءات أكثر جدّية، “العلاقات الزبائنية” بين عائلات وأوساط “علمية” تقليدية، وبين النظام، بصورة سمحت للأولى، بالتوسع على صعيد جمع الموارد المالية من المتبرعين، وأتاحت في الوقت نفسه، وجود حالة تنافسية بين فئة واسعة من “رجال الدين”، على الموارد المالية، شجع عليها نظام الأسد أيضاً.
ورغم جدارة الأجوبة السابقة، على الصعيدين الأمني والاقتصادي – الاجتماعي، إلا أن النقاش دوماً كان يبتعد عن الأساس العقائدي – الفكري، الذي يحكم نظرة غالبية “رجال الدين” الإسلامي حيال الأنظمة الحاكمة. ذلك أن حصر النقاش في حدود العلاقة بين “المؤسسة الدينية الرسمية” في سوريا، وبين النظام السوري، بالتحديد، تدفع إلى إجابات من قبيل ما سبق الإشارة إليه. فيما أن توسيع نطاق هذا النقاش، بصورة مقارنة، بين بلدان، كسوريا والسعودية والمغرب..، يدفعنا قسراً لطرح أسئلة لم تُطرح في النقاش بخصوص العلاقة المشار إليها في سوريا بالتحديد. أسئلة من قبيل: لماذا معظم “رجال الدين” موالون أو مهادنون للأنظمة الحاكمة في العالم العربي؟
ولا ندّعي في هذا الحيز، أننا قادرون على الإجابة على هذا السؤال الكبير. لكن من الممكن أن نشير إلى جانبٍ قلما يتم النقاش حوله. ففي سياق العلاقة بين “رجال الدين” الإسلامي، والأنظمة الحاكمة، في معظم الدول العربية، يمكن بسهولة أن نميز بين فئة أولى، تمثل غالبية عظمى من “رجال الدين”، موالية أو مهادنة للأنظمة، مهما عَتت تلك الأنظمة، أو شطّت في غيّها. ويمكن أن نلحظ أن هذه الفئة، الغالبة، تتمتع بردود “فقهية” متينة، في الإجابة على سؤال: لماذا تُؤيد النظام الحاكم؟ ردود تستند إلى ركيزتين أصيلتين في الفهم الديني الرائج للإسلام. الأولى، كمّ كبير من الأحاديث النبوية، التي تُوصف بالصحيحة، والتي تحرّم الخروج على الحاكم، خشية الفتنة. والثانية، كمّ هائل من الفتاوى والتجارب الفقهية لـ “رجال الدين” في العصور الوسطى، الذين يشكلون المصدر الرئيسي للفقه الإسلامي اليوم، والذين يدعمون الأحاديث النبوية، أو يدعمون فهمهم لها، بأن الخروج على الحاكم فتنة أعظم من طاعة حاكم “فاجر” أو “فاسق”. تلك الردود وركائزها، استقرت، وتجذرت، منذ القرن العاشر الميلادي، بحيث أصبحت تبريراً لا يمكن نقاشه، لحالة قعود “رجال الدين” عن لعب أي دور فاعل في مواجهة المُستبد، في عالمنا العربي والإسلامي.
وفي مقابل تلك الفئة الغالبة من “رجال الدين” الإسلامي عبر أكثر من عشرة قرون، كانت هناك فئة محدودة من “رجال الدين”، الذين خرجوا عن الركيزتين المشار إليهما، مستندين إلى ما يصفه البعض بـ “روح الدين”، ليكونوا في صفوف الشعوب والفئات الثائرة. وفي الحالة السورية الراهنة، نجد فئة ملحوظة من “رجال الدين” اصطفت بالفعل مع الشارع الثائر، أبرزهم، الدكتور أحمد راتب النابلسي، وعلماء ما يسمى بـ “المجلس الإسلامي السوري” المعارض. لكن، حينما تستمع إلى تعليقات “رجال الدين” هؤلاء، الداعمة للحراك الثوري المعارض، تجدها محمّلة بحمولة أقل من “الحديث والفقه”، وبحمولة أكبر من “البعد الإنساني والأخلاقي”. فيما نجد الفئة الأولى من “رجال الدين”، الموالين للأنظمة، أو المهادنين لهم، يتمتعون بخطاب مثقل بحمولة كبيرة من “الحديث والفقه” الداعم لمواقفهم.
تحيلنا النقاط الأخيرة إلى تساؤل يستحق النقاش، إلى جانب الأبعاد الأمنية والاقتصادية – الاجتماعية، لتفسير سبب اصطفاف غالبية “رجال الدين” الإسلامي، السوريين، إلى جانب النظام، أو مهادنته على الأقل، رغم حجم الكارثة غير المسبوقة التي تسبب بها، لسوريا، وللسوريين. هذا التساؤل هو: هل “رجل الدين” أو “المؤسسة الدينية الرسمية” هي الخاضعة للنظام؟، أم أن الفقه الموروث، والقراءة التقليدية السائدة للإسلام، هي التي تدعم التوجه القائل بعدم الخروج على الحاكم، مهما بلغ “فسوقه”، ووجوب مهادنته؟
وهل الحل لمواجهة الاستبداد في مجتمعاتنا المتدينة، بشدة، هو إقناع “رجال الدين” بخطر الاستبداد، فيما أن عقولهم غُسلت عبر سنوات من “التربية الفقهية”، بأحاديث من قبيل الحديث الشهير في صحيح مسلم، “.. تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ؛ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ”.
هل المشكلة في “رجال الدين” في سوريا، أو في بلدان عربية أخرى؟ أم المشكلة في الفقه والفهم الشائع للإسلام، والذي ساد لعشرة قرون ماضية، والذي تربى عليه “رجال الدين”، وتشرّبوا به، في مدارسهم وجامعاتهم الدينية؟
المدن