التغيير في العالم العربي.. تعقيب على برهان غليون/ علي العبدالله
مال الدكتور برهان غليون في مقالته “ما الذي يجعل التغيير عصيّاً في العالم العربي؟” إلى وصف ظواهر المشهد السياسي المحلي والدولي ومترتباته، وربطها بأسباب وعلل ضعيفة. ركز على ضياع المبادئ والأخلاق في العصر الراهن، ما جعل التغيير في العالم العربي عصيا. فالتغيير “عصي”، برأيه، لأن النظاميْن، أو العقدين الاجتماعيين، الوطني والدولي، دخلا مرحلة “اهتلاك كبير، ليس على مستوى الممارسة فحسب، وإنما على مستوى النظرية والشروط المادية للاستمرار والبقاء”، وربط ذلك بسيادة “خدمة المصلحة الخاصة، بصرف النظر عن مصير الآخرين ومصالحهم، وعلى حسابهما، وتقدّم مبدأ (أنا ومن بعدي الطوفان) على جميع مبادئ الحق والعدل والقانون”. واستنتج “يكاد الانسداد في جميع الميادين، وعلى جميع المحاور، وفي موازاة ذلك انغلاق الآفاق الإقليمية وانعدام المبادرات التاريخية، يكون العنوان الوحيد للمرحلة”، حيث “لم يعد الاندماج الوطني، وبناء الأمة الموحدة القائمة على المواطنة المتساوية، هو الذي يلهم النخب الحاكمة أو الطامحة للحكم في البلاد العربية، وفي دول عديدة مجهضة، ويلهم خياراتها السياسية. وبالمثل، لم يعد السلام هو الذي يشكل اليوم الهدف أو التطلع الرئيسي لسياسات الدول الكبرى والقوية التي كانت وراء تأسيس النظام الدولي، ووضع مواثيقه، ردّا على حربين مدمرتين، كما لم يعد تجنب الحرب والنزاعات العسكرية المحلية والدولية الدافع الرئيسي لسياساتها”، في ظل “تقوقع القوى والنخب المتنازعة حول نفسها ومصالحها الخاصة والتمسّك بالسلطة وحرمان الآخرين منها إذا أمكن، وصرف النظر عن نتائج سياساتها الأنانية وأفعالها”، وختم بلغةٍ وعظيةٍ “ليس للديمقراطية طريق آخر سوى استعادة روح التضامن والقيم الإنسانية التي لا يمكن من دونها قيام مجتمع ولا مدنية ولا حضارة”.
لم يلحظ غليون علة “اهتلاك” أو “انهيار النظامين الوطني والدولي معا”، بسبب منهجه الوصفي، والرومانسية السياسية التي حكمت قراءته التي جسدها استغرابه السعي الأميركي إلى خدمة المصالح القومية على حساب السلام والاستقرار العالميين والمحليين؛ مع أنه طبيعي بالنسبة لأميركا، وتذمّره من “المناورات السياسية”، على الرغم من علمه أنها ألف باء السياسة، خصوصا عند عدم التوافق على حلٍّ محدّد. وهذا حوّل معالجته من بحثٍ عن سبب الاستعصاء إلى “إلقاء” اللوم على “المناورات السياسية” و”أهدافها: تمديد أجل الحرب، وتحسين مواقف الأطراف المنخرطة فيها”، وعلى فقدان “معايير ومبادئ وتصورات مشتركة، ترجع إليها الأطراف المتنازعة، محليةً كانت أم دولية”، أخذت مكانها “معايير القوة والتمحور حول الذات، والبحث من دون ضوابط عن المصالح الخاصة والمباشرة”.
تكمن علة “استعصاء” التغيير في العالم العربي في سمتين مركزيتين/ جوهريتين: طبيعة
الدولة العربية، وحقيقة النظام الدولي، فالدولة، التي قال عنها غليون “قامت السياسة الوطنية/ المواطنية، ونجحت في تأسيس الدول، وضمان استقرارها واستمرارها على مسلمةٍ أساسيةٍ وجوهريةٍ هي إمكانية التوصل إلى تسوياتٍ مرضيةٍ، أو متوازنة، تسمح بتوافق الأطراف المتنازعة”، لا تنطبق على الدولة العربية التي قامت في سياق تاريخي غير طبيعي، حيث تشكلت مؤسساتها الأولى في ظل الاستعمار المباشر وعلى يدي المستعمر، لتلعب دورا وظيفيا في إدارة وتسيير شؤون الشعوب المستعمرة، وتحولت بعد انسحاب المستعمر، على خلفية الكلفة الباهظة للاستعمار القديم/ المباشر وانتقاله إلى استعمارٍ جديد، إلى خدمة مصالح الدول المستعمرة/ المتروبول، حيث تقوم الأنظمة المحلية بخدمتها نظير دعم وحماية، من جهة، وغضّ طرف دول المتروبول عن ممارسة الأنظمة مع شعوبها، بما في ذلك طبيعة الشرعية التي ترتكز إليها، والعصبية التي تحكم باسمها؛ وما تفرزه من فساد ومحسوبية وزبائنية؛ وما تجرّه من استئثارٍ بالسلطة والثروة ونهبٍ لخيرات البلاد، اعترفت مستشارة الأمن القومي الأميركي في إدارة جورج بوش الابن، كوندوليزا رايس، بتأييد الولايات المتحدة الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط فترة تزيد عن ستين عاما، لعل اتفاق عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على ظهر الطراد يو إس إس كوينسي (سي آي-71) يجسّد الظاهرة التي بقيت مخفية في الحالات الأخرى.
لم تُعرف الدول العربية بسلوكها الدستوري، مع وجود دساتير وطنية مصاغة بصيغ قانونية قوية، أو بسيادة القانون على أرضها وبين مواطنيها. إنها تشبه الدول، وفق تعبير الفنان المصري القدير صلاح السعدني في حديث تلفزيوني، قال: “لدينا شبه دولة، وشبه برلمان، وشبه قضاء، وشبه إعلام..”. وقد تعزّزت تبعية الدول العربية لدول المتروبول بتطور النظام الدولي ومرتكزاته القانونية والاقتصادية وتطور آليات عمله، ميثاق الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية، القانون الدولي العام والخاص، وقواعد بريتون وودز وصندوق النقد والبنك الدوليين، وهيمنة الشركات العملاقة على مفاصله وتعاملاته، وتحوّلها إلى شركاتٍ عابرة للحدود. حتى الجمهوريات العربية بطبعتها “التقدّمية” التي قامت، في الغالب، بعد انقلاباتٍ عسكريةٍ بواجهة سياسية حزبية يسارية أو قومية يسارية، وفق صيغة “جيش له حزب ودولة”، بحسب محمد عابد الجابري، بقيت أسيرة علاقات التبعية مع دول المتروبول، بالإضافة إلى تنفيذ مطالب الدول النافذة في النظام الدولي، تنفيذا لاستحقاقات المقايضة معها في إطار صفقة “الحكم في مقابل تبنّي سياسات تحقق أهداف الدول النافذة على صعد سياسية واقتصادية”. لذلك لا يمكن الركون إلى وجود عقد اجتماعي وطني في الدول العربية، فللعقد طرفان يتم برضاهما وفق آليات سياسية، غدت تقليدا دوليا؛ مثل مؤتمر وطني تشاوري وهيئة لصياغة دستور اختارها المؤتمر الوطني، حيث تم فرض ما اعتبر عقدا اجتماعيا وطنيا على الشعوب، من دون أخذ رأيها أو مشورتها في طبيعة الدولة وشكل النظام السياسي والاقتصادي، أخذت العقود الاجتماعية في الدول العربية شكل صفقةٍ غير متوازنة ومضرة في آن: بحبوحة اقتصادية؛ اعتمدته أنظمة الريع النفطي، وتسهيلات اجتماعية، مثل دعم الاحتياجات الرئيسة للأسر، المواد الغذائية والمحروقات والكهرباء والماء، ومجانية التعليم والعلاج، في الدول العربية الفقيرة وشبه الريعية، التي قام اقتصادها على ثنائية الإنتاج والتوزيع، في مقابل تخلي الشعوب عن المشاركة السياسية، وعن مساءلة الحكام عن صحة سياساتهم وجدواها.
أما النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، في بعديه الأساسيين: النظام الليبرالي والحرب البادرة، فعرف تقلباتٍ وتحولاتٍ بين الاستقرار والتهدئة والاهتزاز والاضطراب، حالات انفراج واختناق وأزمات باردة وساخنة، لكنه بقي محافظا على بنيته وتوازناته، حيث بدأت عوارض التفكك والانهيار تظهر بخسارته عامل تماسكه وتوازنه: الحرب الباردة عام 1989، وتفاقم عوامل ترهله في بداية الألفية الثالثة، على خلفية تطوراتٍ وتغيراتٍ متشابكةٍ وعميقة، أولها تراجع قدرات الولايات المتحدة، مع بقائها الأولى دوليا، على إدارة النظام الدولي وحمايته. ثانيها نشوء قوى دولية صاعدة ومتحدية للهيمنة الأميركية. ثالثها ظهور عوارض الفشل والانحسار على نظام العولمة، بعدما فقد ثقة الشعوب الغربية، قبل شعوب الدول النامية، به، “لم يعد مناسبا أو جذابا بمؤسساته التي تعاني اختلالا وظيفيا وسلبياته التي قادت إلى الاستحواذ على ما في جيوب الشعوب من أموال”، وفق نقاده. رابعها صعود لاعبين من غير الدول: الجماعات الإرهابية وعصابات المخدّرات والاتجار بالبشر، التي يمكن أن تشكل خطراً كبيراً في داخل الدول وفي ما بينها. وخامسها ظهور تشقّقات واهتزازات في البنى السياسية والتكتلات الإقليمية، الاتحاد الأوروبي، على خلفية عودة النزعة القومية الشعبوية.
لقد أدركت الولايات المتحدة تراجع قدراتها في ضوء نتائج غزوها أفغانستان 2001 والعراق 2003 وحصول تحولات في التوازن الإقليمي والدولي بوجود قوى صاعدة تتحدى هيمنتها على النظام الدولي، الصين وروسيا على الصعيد الدولي، وكوريا الشمالية وإيران على الصعيد الإقليمي، وتشكّل تجمعات اقتصادية وأمنية، مثل منظمة “معاهدة الأمن الجماعي”، ضمت روسيا، أرمينيا، كازاخستان، طاجيكستان، قرغيزستان، وأوزبكستان. و”منظمة شنغهاي للتعاون” ضمت الصين، روسيا، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، وباكستان، وإيران دولة مراقبة. وضمت “مجموعة بريكس” الصين، روسيا، الهند، البرازيل، وجنوب أفريقيا. وضم الاتحاد الأوراسي الاقتصادي روسيا، روسيا البيضاء، كازاخستان، قرغيزستان، وطاجيكستان، وتراجع حصتها في الاقتصاد العالمي واختلال ميزانها التجاري مع معظم شركائها التجاريين، وفشلها في حشد المعارضة ضد “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” الذي أنشأته الصين، حتى المملكة المتحدة، حليفتها التقليدية، لم تتجاوب معها، بالإضافة إلى مديونية عالية قرابة العشرين تريليون دولار، فدخلت في عملية تكيّفٍ حساسةٍ بالمساومة مع روسيا وإيران، لتسهيل خروجها من أفغانستان والعراق، والانخراط في مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع إيران حول برنامجها النووي؛ والقبول بفصله عن دورها الإقليمي واختراقها سيادة دول في الإقليم، متخليةً بذلك عن مبدأ كارتر “استعادة ميزان القوى الإقليمي عند اختلاله في أي إقليم في العالم”، فما بالك بإقليم له أهمية الشرق الأوسط، من أجل التفرغ لمواجهة الخطر الداهم: الصين، عبر عقد اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادي”، ضمت الولايات المتحدة وأستراليا وكندا واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة وفيتنام وتشيلي وبروناي، ونشر مزيد من القوات في بحري الصين الجنوبي والشرقي، فالصين انتقلت، بعد ما حققته على الصعيد الاقتصادي، إلى مرحلةٍ من التحدّي والتمدّد الدولي عبر مبادرة “الحزام والطريق” الذي تم إطلاقها في العام 2013، لتوفير الوصول إلى المواد الخام والأسواق عبر تمویل البنى التحتیة في العالم النامي، أنفقت نحو أربعمائة ملیار دولار على “المبادرة”، بعدما تمكّنت من إقناع 86 دولة ومنظمة دولیة بالتوقیع على نحو مائة اتفاقیة للتعاون، وفردت جناحيها على بحري الصين الجنوبي والشرقي باعتماد عقيدة عسكرية جديدة أساسها “منع الوصول/ الحرمان من الأرض”، فعن طريق تطوير قدرات عسكرية غير متكافئة ومنخفضة الكلفة نسبياً، تمكنت من تعقيد أي خطة أمیركیة للقدوم لنجدة الیابان، أو الفيليبین أو تایوان، بالإضافة إلى الانخراط في نشاطاتٍ أكثر دهاء، مثل مضایقة السفن والطائرات الأمیركیة بطرق غیر عسكریة؛ وهو ما یسمح لها بالإنكار واحتواء رد فعل الولایات المتحدة، لدفع القوات الأميركية إلى الخروج من منطقة المحيطين الهندي – الهادي، كما أعلنت عن ملكيتها لجزر في بحري الصين الجنوبي والشرقي، وأنشأت أخرى صناعية، نشرت عليها قوات جوية وبحرية، مادة حدود مياهها الإقليمية والاقتصادية، محقّقة مكاسب سیاسیة وإقلیمیة مهمة، من دون عبور العتبة إلى صراع مفتوح مع الولایات المتحدة أو حلفائها. وهذا مع قيام روسيا باستفزازات صارخة باستخدامها القوة العسكرية في جورجيا عام 2008 وفي أوكرانيا عام 2014، وتدخلها العسكري في سورية عام 2015، واستخدامها العدواني للحرب السيبرانية للتأثير على نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة ودول أوروبية، تعبيرا عن اعتراضها على توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقا، وعلى غزو أميركا للعراق عام 2003، وتدخل الحلف عسكريا في ليبيا عام 2011، والذي جرى تحت راية حماية المدنيين، وتحول إلى إسقاط النظام، باعتبارها أفعالا تنطوي على سوء نيةٍ وغير متوافقةٍ مع القانون الدولي، واعتراضا على القيود الأساسية التي فرضها النظام الدولي القديم.
أثار التدافع بين القوى المهيمنة على النظام الدولي، الولايات المتحدة والدول الصاعدة، وضعف النظام الدولي، وتآكل أسسه في ضوء تبعات التغيرات في القوتين الاقتصادیة والعسكریة، وتآكل التماسك السیاسي، بفعل الضغوط الشعبية من أجل المشاركة الديمقراطية، وصعود النزعات القومیة والشعبوية، على خلفية ارتفاع وتيرة عدم المساواة داخل الدول الليبرالية، والخلل الناجم عن الأزمة المالية للعام 2008، وفقدان الوظائف، بفعل تغيّر طرق التجارة والتطور التقني، وزيادة تدفق المهاجرين واللاجئين، ودور وسائل التواصل الاجتماعية في نشر الكراهية، والدور الذي لعبه التطور التقني في مجالات النقل والاتصالات والتسليح على السياسة والاقتصاد والحروب، وترهّل الأمم المتحدة وفقدان مجلس الأمن الدولي أهميته ودوره في الصراعات الدولية، وفشل منظماتها في التعاطي مع التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها العولمة وزعزعتها للاستقرار (تعاظم عدم المساواة الاقتصادية، وانهيار التسويات السياسية القديمة بين رأس المال والعمالة، وتآكل الدعم الاجتماعي، وتوزيع فوائد العولمة والتوسع الاقتصادي بشكل غير متناسب لصالح النُّخب، وازدهار سلطة الأقلية. وتحول الرأسمالية إلى ليبرالية جديدة). وقد زاد في دقة اللحظة السياسية وحساسيتها رفض الولايات المتحدة مشاركة القوى الصاعدة في إدارة النظام الدولي والقبول بالصين، في ضوء الوزنين، الاقتصادي والعسكري، للدولتين، شريكا في نظامٍ ثنائي القطبية، وانفجار التنافس على الأسواق والمیزات التقنية، بدءا من الذكاء الاصطناعي، وصولا إلى شبكات الجيل الخامس للاتصالات، والتي تتجلى في شكل نزاعات حول الأعراف والقواعد التي تحكم التجارة، والاستثمار، والاستخدام، وأسعار صرف العملات، والملكیة الفكریة، وتمسّك الولايات المتحدة بموقعها على رأس قائمة الدول المنتجة للغذاء والضغط على الشركاء التجاريين لشراء كميات كبيرة منها، أثار المخاوف مما سمّاه المنظّرون “فخ ثیوسیدیدیس”؛ حیث أسفر صعود أثينا، والخوف الذي غرسه هذا الصعود في إسبارطة عن جعل الحرب حتميةً، بوقوع صراع مسلح بين الطرفين.
نستطيع في ضوء المعطيات، السياسية والاقتصادية والعسكرية، المذكورة أعلاه، استنتاج علة استعصاء التغيير في العالم العربي، فالعلة تكمن في اجتماع عنصرين وازنين: طبيعة “الدولة” العربية والتطور الذي شهده النظام الدولي. فـ”الدولة” العربية ليست دولةً بالمعنى المتعارف عليه في علم السياسة، وقد زادها تشوّها ارتكاز حكامها إلى عصبية ضيقة: أسرة، عشيرة، منطقة، طائفة.. إلخ، ما جعلها حسّاسة لكل تباين في المواقف والآراء يظهر بين مواطنيها؛ والاستنفار، والقتال، ضد كل دعوةٍ إلى الإصلاح والتغيير، فكون أنظمتها استبدادية وغير ديمقراطية يجعلها عند مواجهة أزمة أو تحدٍّ جدّي، “انعزالية أكثر، ودفاعية أكثر، تتراجع إلى عصبيتها، ترصّ صفوفها على قاعدة “نحن أو هم”، تتمسّك بالكرسي، وتشدّد قبضتها على القمّة”، وفق آمي تشو في مقالته، “عالَم قبَلي: هوية المجموعة هي كل شيء”. (فورين أفيرز، يوليو/ تموز- أغسطس/ آب 2018، ترجمة علاء الدين أبو زينة، الغد الأردنية: 27/8/2018). وقد منحها عقد تبادل الخدمات الذي اتفقت عليه مع القوى الخارجية، قوة وحماية. وهذا يفسّر انخراط قوى إقليمية ودولية كثيرة في الصراعات التي فجرتها موجات الربيع العربي، استدعتها تفاهماتها مع حكام الدول العربية على مصالحها فيها؛ وتنافسها، وتضارب المصالح في ما بينها، ما جعل التوافق على مخرجٍ سياسي شديد التعقيد، إن لم يكن مستحيلا، في ضوء تمسّك كل طرفٍ بمصالحه واستعداده لدفع الصراع نحو معادلة صفرية، طالما أن الصراع يدور خارج أرضه، وبقوى وكيلة في الغالب، فـ”النزاعات التي ينخرط فيها العديد من اللاعبين المستقلّين تدوم أكثر من غيرها، ذلك أن نطاق الاتفاقات المقبولة لجميع الأطراف يكون ضيّقاً جدّاً، ناهيك عن أن التحالفات قد تتبدّل، وأن المجموعات المتحاربة تملك حوافز تشجّعها على الصمود قدر الإمكان”، وفق ديفيد كانينغهام، في مقالته “عرقلة القرار: كيف يمكن للدول الخارجية إطالة الحروب الأهلية”، (جريدة أبحاث السلام: 16/2/2010). وقد زاد في تأجيج هذه الصراعات واستمرارها مدة أطول من المتوقع تزامنها مع تصاعد الصراع بين القوى الكبرى على النظام الدولي، طبيعته وأسسه وقواعده الناظمة، بعد التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي عرفها العالم في العقود الأخيرة، حيث أصبحت ساحةً للتعبير عن المواقف والضغوط وتصفية الحسابات.
العربي الجديد