على شفا المستقبل/ بن أوكري
ترجمة لينا شدود
أتذكّر التاريخ جيدًا:
الجنود والسياسيون ظهروا للعيان
مع حقائب جلدية وبنادق
في مهرجانات ليالي المدينة.
ضبطوا الفوضى
استعرضوا تاريخنا
شهدوا الإعدامات في الفجر
ومن ثم تعاقدوا مع رجال شرطة سرّيين
وقرروا أن على شيء ما
أن يُنجَز.
ضبطوا الفوضى
ومن الأزمنة الرديئة
نبشوا المخططات القديمة
واقتفوا أثر المدن الآفلة
لاحقًا أدركوا
أن لا شيء يمكن تجاوزه
لذا تغاضوا عن كل شيء.
أتذكّر التاريخ جيّدًا.
من بين ركام نفاياتنا نشأنا
لنكتشف السماء
بينما كان الهواء يشتعل من القيظ.
عبر مشهد المدينة القائظ
استعدنا شريط
الإعدامات على الشواطئ
والعرق يسيل من حواجبنا.
في كل مكان ضحايا مشدوهون في انتخابات مزوّرة
وحوادث متماثلة على دروب الجوع
شبكة لا نهائية من سياسات عرقية
وأحلام سلطة تحملها رياح محمومة.
الأمة خريطة مُقتطَعة
من لحم المستقبل
تهرول في طين التاريخ.
على شفا الحاضر
نشأنا
بين أدخنة ملتهبة
من أبراج مشتعلة.
ألسنة اللهب تنير الاجتماعات السياسية
بدأنا الحرب
أنهيناها
وحلمنا بفرصتنا.
السمكة الكبيرة تلتهم السمكة الصغيرة
الكبار ينظّمون الإعدامات
وعمليات السطو المسلّح
نفاياتنا كوّنتنا جميعًا.
أتذكّر التاريخ جيّدًا
الهدير بيع
بعملة الصمت
الفارغون يغدون أكثر أهمية.
الوجه القبيح انكشف.
على شفا الحاضر
أنا فتى
بقروح مستديمة.
ومن التاريخ الذي أتذكره
أرقبُ الغرز وهي تفتق
منتظرًا قهقهة البركان
في رياح محمومة.
مُنصِتًا إلى صرير أسنان من سينضمون إلينا
إزاء البوابات الهائلة
مع مخططات جديدة.
الندى كعلامة
والنار مستعرة،
مشاهد تصلنا عبر الزمن.
من يتذكر التاريخ جيّدًا
كنا ننسج الكلمات بالدم
وعلى حافة الأسى نغني بأعصاب يقظة.
من نفاياتنا نغزل الحرير
وبإصرارنا نصنع الحاضر.
برج غرينفيل يونيو/ حزيران 2017
بدا كعلبة كبريت مشتعلة في السماء.
كان داكنًا وشاهقًا ومشتعلًا في السماء.
رأيتموه عبر أرومات الأشجار المزهرة.
رأيتموه من خلف برج الكنيسة رصاصي اللون.
رأيتموه في دموع من نجوا.
رأيتموه في نقمة من نجوا.
رأيتموه حين مروركم بالملصقات عن أولئك الذين ترمّدوا.
رأيتموه حين مروركم بالملصقات عن أولئك الذين قفزوا إلى حتفهم.
رأيتموه في مشاهد التلفزيون عن ألسنة اللهب المتطايرة عبر النوافذ
من أفاريز الألومنيوم.
رأيتموه في مشاهد مصوّرة عن ألسنة اللهب المنفجرة من الأسقف.
سمعتموه في الأصوات الصاخبة في الشوارع.
سمعتموه في الصراخ الذي يملأ الهواء مولولًا من أجل الرحمة.
سمعتموه في الحانات، والشوارع، والأقبية والمناجم.
سمعتموه في عويل النسوة وفي الزعيق المكتوم
لليتامى الهائمين في الشوارع.
رأيتموه في أطفالكم الذين لم يستطيعوا النوم ليلًا
مروّعين بالأشباح التي تطوف المكان وهم يجرّبون
أن ينجوا من النيران الداكنة والصادمة التي جاءتهم.
رأيتموه في أحلامكم عن موتى يسألون عن أحياء
لا قيمة لهم كونهم فقراء تلك الأرض،
حيث يموت الفقراء حرقًا دون إنذار.
ولكن حين رأيتموه بأمّ أعينكم، بدا وكأنّ ما رأته أعينكم
لا معنى له، ولا يمكن أن يكون له معنى، ولن يكون له معنى.
رأيتموه هناك في السماء قاتمًا وشاهقًا ومشتعلًا.
أحصيتم النوافذ والدّور،
ورأيتم الصفرة الشاحبة للأفاريز نصف المحترقة.
ما رأيتموه لا يمكن رؤيته سوى في الكوابيس،
كمنطقة حرب أتَت على بلدة حديثة وأبادَتها،
كمنطقة حرب غُرِزَت في المدينة،
لتشاهدوا بأعينكم ما يمكن لشخص أن يراه فقط في
الكوابيس التي تبدّل الليل بالنهار، وتقلب العالم رأسًا على عقب.
أولئك الذين كانوا أحياء هم الآن موتى.
أولئك الذين كانوا يعيشون على تلك الأرض المُفعَمة بالحياة.
ولو أردتم أن تروا كيف يلقى الفقراء حتفهم، تعالوا إلى برج غرينفيل،
شاهدوا البرج، ودعوا تغيّر الرأي العالمي يُثْمر.
على الأصوات هنا أن تُنصف الموتى.
تكلموا باسم الموتى، تكلموا باسم الموتى.
شاهدوا صورهم تغطّي الجدران، البؤس عنوانه
وسمةُ عرقهم، كانوا مسلمين ومسيحيين،
سودا وبيضا ومن أعراق أخرى. كانوا يافعين،
وكبارا في السن وجميلين، وفي منتصف العمر. كان هناك فتيات
في أبهى ملابسهن، وقلوبهن مشرّعة على المستقبل.
كان هناك كهلًا مع أحفاده.
وكانت «أمايا توكا» ابنة الثلاث سنوات
التي ترمّدت قبل أن ترى أكاذيب العالم.
وثمة أسماء لمن كانوا أحياء ممن حلموا
بالشهرة والطمأنينة أو بالعلم أو الحب
الذين صاروا الآن رمادًا في هياكل ممسوخة ومحترقة.
كان هناك إيطاليان يافعان ورائعان
وقد طالهما الجحيم بينما كانا على اتصال مع الأصدقاء على الموبايل،
وقد اختنقَ صوتيهما بالدخان.
وكان هناك الرضيع الذي قذفته أمه من عدة طوابق عالية،
على أي حال كانت تعلم أنه سيموت،
وكان هناك من قفزوا من نوافذهم،
ومن ماتوا لأنه طُلِب منهم أن يبقوا
في غرفهم المشتعلة. وكانت هناك فتاة صغيرة تحترق،
وقد شوهدت وهي تندفع من الطابق العشرين.
هل أنا بحاجة إلى ذكر المزيد؟
من كانوا أحياء هم الآن موتى،
أولئك الذين كانوا يعيشون على تلك الأرض المُفْعمة بالحياة.
إذا رغبتم أن تروا كيف يموت الناس، تعالوا لرؤية برج غرينفيل.
شاهدوا البرج ودعوا تغير الرأي العالمي يُثمر.
ودائمًا ثمة تناقض
بين ما حدث وما أُخبِرنا به.
كانت الأرقام الرسمية متوقفة عند الرقم ثلاثين.
الحقيقة في هذا العالم أكثر ندرة من الذهب.
أجساد برزَت في الظلام.
وأجساد ما زالت في الظلام.
قاتم هذا الدخان والرأس متفحم.
الذين كانوا أحياء هم الآن موتى.
وبينما كان البرج يشتعل كانوا يتعثّرون
بالأجساد على الأدراج.
لأن المكان كان حالك السواد،
ومن نجوا
ينامون الآن كلاجئين على الأرض
في المركز الرياضي
كمخلوقات مذعورة من الظلام.
عاليًا يطير شخص
مخاطبًا
رجال الشرطة والإطفاء الجسورين،
متجنّبًا الضحايا
الذين أُتْرِعَت قلوبهم بالخوف،
أولئك الذين كانوا أحياء هم من تلك الأرض المُفْعمة بالحياة.
في حال غادرتم مباريات التنس وعشاءكم الفاخر
وذهبتم إلى برج غرينفيل.
حيث البقايا المتفحمة لذلك البرج المأهول،
ما زالت راسخة في الفراغ بشكل خرافي
كتهديد لأبراج مشابهة من الحريق،
ستستنشقون الهواء المُثقَل بالأسى، وبأصوات
نسوة ينتحبن بعفوية،
بينما يهيم الأطفال في الجوار مصعوقين،
ورجال يكفكفون دموعهم خفية.
وأناس يحدّقون غير مصدّقين بهذا الرعب المقبل من السماء.
وسترون الأشجار بأوراقها اللامعة الخضراء،
وتستنشقون الأبخرة المَعنيّة بتنقية
الهواء من الكآبة
وستلحظون أكوام الأزهار
وورق جدران أبيض ينشج بالكلمات
وشموعًا تحترق لأجل راحة الموتى.
سترون المعنى الحقيقي للمجتمع.
الطعام المشتَرك والقصص المِرويّة، ومتطوعين في كل مكان.
ستستنشقون رائحة المحارق
المختلطة بعطر الزهور.
لو أردتم أن تروا كيف يفنى الفقراء تعالوا إلى برج غرينفيل.
إصنعوا لهؤلاء الأشخاص معنى
من أجل أن تُخلّد الروح حيث الحقيقة لا تقتل.
عشر ملايين تُنفَق على الزيف
بينما خسر المئات في الحريق كل ما كانوا يملكونه.
خمسة ملايين قُدّمت لمساعدتهم
كان حريًا بها أن ترغم الأمّة على تغيير رأيها.
مشهد يمنح الحياة ومشهد يقتل.
الضمير يكشف عن ذاته بعيدًا عن حذاقات السياسة
في عصر القسوة هذا يموت الفقراء
من أجل رخاء الآخرين.
دور الحضانة والمكتبات تضاءلت في ذلك المكان.
عهد غريب يتشكّل على الشاطئ
سيف القدر يتوعّد تجاهل السلطة.
شاهدوا البرج ودعوا الفكر الجديد المتغيّر عالمياً يُثمر.
النيجيري بن أوكري… حين يموت الفقراء من أجل رخاء الآخرين
بن أوكري شاعر وروائي وكاتب قصة قصيرة من نيجيريا ويقيم في لندن. ولد عام 1959، قضى طفولته المبكرة في لندن، ومن ثم انتقل للعيش مع عائلته في نيجيريا وكان شاهدًا على عنف الحرب الأهلية خلال تواجده هناك، ومن ثم عاد إلى إنكلترا للدراسة في جامعة إسكس.
نشر بن أوكري الذي شغل منصب محرر الشعر لمجلة «غرب إفريقيا» الكثير من الأعمال الأدبية المهمة، منها روايته الشهيرة «طريق الجوعى» التي حازت عام 1991 جائزة بوكر البريطانية للكتاب وعلى جائزة رابطة كتاب إفريقيا. حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعتي وستمنستر وإسكس. وشغل منصب عضو في الجمعية الملكية للآداب. كما أنه عمل في مجلس إدارة المسرح الوطني الملكي.
عُرِف أوكري باستخدامه للواقعية السحرية في كتاباته لرصد معاناة شعبه من الاستبداد والفوضى، وتوقه إلى الحرية، كونه نشأ في أرض تعجّ بالأساطير وأرواح الأسلاف.
القدس العربي