عندما التقى شعراء وفنانون سوريون ولبنانيون/ يوسف بزي
فنان تشكيلي لبناني وصديقه فنان تشكيلي سوري، يجلسان معنا، شاعر سوري وشاعران لبنانيان. هنا، في وسط شارع الحمرا، ببيروت.
بعد لهونا ببعض لقطات “السيلفي”، يقول الشاعر السوري: مستحيل أن ينجح “البعث” في تكوين مدينة. لا بمعنى تشييد عمارات وساحات ومرافق، إنما بمعنى العمران البشري، الحيوية الفردية واقتراحاتها، والمبادرات الحرة للسكان. قال ذلك، مستدلاً بجولاته في شوارع بيروت وأحيائها.
الشاعر اللبناني، بضحكة خفيفة، قال إن “البعث” يحمل ضغينة خاصة للمدن، لكن البعثيين عموماً يحاولون إنكار رثاثتهم الريفية الأصل، عبر احتقار كل ما هو ريفي. لذلك دمروا المدن بعد غزوها وصحروا الأرياف بعد هجرها. لقد صنعوا عيشاً مكبوتاً ومشوهاً.
الفنانان الآتيان للتو من بينالي القاهرة الدولي، كانا واقعين في حيرة العاصمة المصرية، شساعتها وكثافة سكانها، وغليانها البشري، وهذا الصخب اليومي.. قال واحدهما: أعظم فوضى ثقافية. كانا يشعران بقوة القاهرة وفائض حياتها الفنية، وبشيء من الغيرة، يسأل أحدهما: لماذا تبدو بيروت منطفئة. لماذا هذا الخفوت والتشرذم وغياب الحركة الثقافية، كأنها مدينة بلا قدرة على صنع “مناخ” ملهم وجماعي، كما كان الحال قبل هذه الحقبة، التي يهيمن عليها الصمت واللاسجال واللانقد؟
كثيرون اليوم، ينتبهون إلى هذا الكسوف الذي تعيشه العاصمة اللبنانية، بوصفها مجالاً حيوياً للفن والأدب والفكر. ومن الواضح أن الأنتليجنسيا اللبنانية باتت أقل مقدرة على صنع هذا المجال، أو أقل إنتاجاً للسجالات والرؤى. ما عادت تتقدم باقتراحات يعتد بها. هناك مساحة لقاء كانت تجمع العاملين في الفنون التشكيلية والبصرية بمعشر الكتّاب والمعماريين والصحافيين وكل من يعمل بمجالات الابتكار والتفكير والتعبير.. مساحة يبدو أنها اليوم ملغية أو مستعصية على الوجود.
نقاش الشعراء والفنانين التشكيليين بدا إلى حد بعيد غارق في أسئلة تقنية، من نوع حركة النشر والتداول والتسويق وإقامة المعارض والترويج وجذب الجمهور..إلخ، من غير انتباه إلى ما هو أصل المشكلة الكامن في “ما الذي يريد قوله المثقفون، الفنانون، الشعراء، المسرحيون، السينمائيون..؟”. لعثمة القول أو استعصاء الخطاب يحيل الإنتاج الفني إلى مجرد حرفة ومهارة بالكاد يمكن تسميتها “ممارسة ثقافية”.
عندما أسأل الفنانين التشكيليين عن انطباعهما في الأعمال التي حواها بينالي القاهرة، كان جوابهما تقريباً أن ما من شيء مدهش، ما من عمل يستفز العين والعقل والقلب. أعمال “جميلة” لكنها لا تتقدم نحو أي مجهول مغر، ولا تقدم أي تساؤل صادم.
كان من الصعب عليهما تقبل إجابتي أو فهم الرابط الذي أراه بين وجود عبد الفتاح السيسي على رأس نظام بيروقراطي عسكري صارم وبين بُكم القول الفني. تماماً كالعلاقة بين “البعث” واستعصاء المدينية.
على هذا المنوال، يتوضح تبعثر الفضاء البيروتي، في كونه ترجمة للبؤس السياسي والضحالة التي تطبع الخطاب العمومي. ليس لبيروت اليوم ما تقدمه لمشرقها، كما ليس للقاهرة ما تفاجئ به “أمتها” العربية. والأسوأ، هو الطابع التخاذلي لكتلة المثقفين العرب إزاء الصراع العنيف الذي يدور اليوم في بواطن الكيانات العربية وعلى سطحها اليومي. صراع السلطة والمجتمع. فلا السلطة تعير وزناً لما هو ثقافي إلا بحدود الأداة الدعائية، ولا المجتمع، المغدور أولاً ومراراً من هذه “النخبة” تحديداً. نبذ الثقافة يسهل جداً هيمنة العنف.
في بيروت تمت هزيمة الكتلة المدنية ومشروعها على يد نظام سياسي بات بحكم العاجز عن الاستمرار إلا نحو القهقرى والانحطاط. ما كان تسوية طائفية تحول إلى “حرب أهلية باردة”. فيما الاعتراض اليساري مثلاً، والذي كان يبتدع هامشاً بالغ الأهمية النقدية، بات كمعظم اليسار العربي ملحقاً طوعياً تحت عباءة “الممانعة” الإيرانية الصنع المذهبية الهوية. لغته الخشبية كارهة للنقد، للثقافة. أما اليمين التقليدي، فقد ذاب الآن في أسيد اليمين الشعبوي الفاشي، الذي يمثل عصارة الضحالة، والذي لا يتورع عن احتقار كل ما هو ثقافي.
على امتداد العراق وسوريا والأردن وفلسطين وإلى مصر والسودان والبلاد المغاربية، ولا ننسى بلاد الجزيرة العربية، ما من سؤال ثقافي يستحق أن يكون سجالاً أو مادة استلهام، أو محور بناء. “الموضوع” هناك، في هذا الصدام الذي لن ينتهي قريباً بين المجتمعات الغاضبة، والأنظمة التي لا تنتج سوى “مسلسلات تلفزيونية” مشغولة بالتزوير والكذب وتسويق الأوهام. الموضوع الجوهري والمصيري، يتحاشاه أرباب الثقافة العربية، إما ترفعاً كاذباً عن السياسة وإما تواطؤاً مع شروط النظام الحاكم.
بهذا المعنى، كل محاولة لفصل ماهية “الثقافة” (ونتاجها) عن السياسة أدت إلى هذه النتيجة التي حيرت صاحبينا الفنانين التشكيليين السوري واللبناني. ليست معضلة ألوان ومشهد في لوحة. ليست مشكلة سوق وأسعار وتيارات فنية.. هي تماماً ما قاله الشاعر السوري، الطغيان لا يصنع مدينة ولا حياة ولا ثقافة، إلا إذا كان الظن أن تماثيل حافظ الأسد وتصريحات السيسي وخطب حسن نصرالله وعصا عمر البشير وروايات القذافي وصورة عناق علي أحمد سعيد إسبر لعلي عبد الكريم، مضاف إليها الحفلات الغنائية التي يحييها وينظمها ولي العهد بن سلمان وما شابه هي الثقافة!
تلفزيون سوريا