ضدّ مقولة «لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين»/ وسام سعادة
التحجج بـ«تكرار 1933» أصبح واحداً من أخطر موانع التفكير على امتداد العالم. المقصود هنا، إسقاط تجربة وصول أدولف هتلر والحزب النازي إلى السلطة من طريق الإنتخابات، في وضع بلد كألمانيا في ظل جمهور فايمار، والزجّ بهذا الإسقاط لوضع الديمقراطية في علاقة إشتباه ومطاردة دائمتين لأولئك الذين يمكن أن ينظر لهم، لسبب أو لذريعة، بأنّهم «يتحايلون» على اللعبة الديمقراطية، وغرضهم من خوض غمارها والفوز فيها تعطيلها والإطاحة بها.
من أساليب التحجج بـ«فزّاعة 1933» أنّ الديمقراطية ينبغي أن تكون نادياً محصوراً بالديمقراطيين فقط. هذا في الوقت الذي تناقض فيها عمومية مفهوم الديمقراطية نفسه هذا الحصر. بحجّة أنّه يمكن للديمقراطية أن تتدهور أحوالها وأن يفتك بها أعداء لها يقرّرون الإنخراط بها لهدمها يجري الفصل بين «الديموس» و«القراطوس» في إصطلاحها وفي مفهومها. فكرة أن لا ديمقراطية لغير الديمقراطيين هي بحد ذاتها تراجع عن الديمقراطيين لغير الديمقراطيين! فكيف إذا أتبعت هذه الفكرة بملحقاتها، وأبرزها أنّ إنتاج الديمقراطيين الذي سيغلق لأجلهم هذا النادي السياسي التداولي الذي اسمه ديمقراطية لا يمكن أن يتم في ظل الديمقراطية نفسها.
لا يعني هذا أنّه ليس للديمقراطية أعداء لها، ولا أنّ هؤلاء الأعداء هم فقط الذين يجتنبونها ويقاطعونها. لكن تطوير نظرة للديمقراطية على قاعدة تجذير غريزة الإشتباه طول الوقت بأنّ هناك متحايلين عليها هو ابتزاز ذاتي مضرّ ومضجر.
استخدمت حجة لا ديمقراطية لغير الديمقراطيين في أيام الحرب الباردة والمكارثية ضد الشيوعيين، وهي تستخدم اليوم سواء بسواء ضد اليمين المتطرف من قبل بعض الداعين إلى إستبعاده بشكل أو بآخر، هذا في أوروبا، وضد الإسلاميين، في كل مكان من العالم الإسلامي تقريباً تتاح فرصة للإحتكام إلى صناديق الإقتراع، وما أن يظفر الإسلاميون بها حتى تستعاد رمزية «1933»، رمزية متحايلين على الديمقراطية يكسبون بها ويطيحون بمؤسساتها تباعاً.
ما يغفله هذا المنطق الأعوج ثلاثة أشياء أساسية.
أوّلها أنّ النازيين «لم يتحايلوا» على ديمقراطية جمهورية فايمار. بالعكس، خاضوا الإنتخابات ضدّ هذه الديمقراطية على نحو واضح. ليس من أجل رجعة إمبراطورية آل هوهنتزولرن، إنما من أجل انبثاق إمبراطور من الشعب، وفسّروا ذلك على أنّها «ديمقراطية عضوية». ومع كل هذا، لم يطح النازيون تماماً بدستور جمهورية فايمار، بل استخدموا مادة اجازة أحكام الاستثناء فيه لتعليقه. في نهاية الأمر، وكما تلفت النظر حنة ارندت في «أصول التوتاليتارية» لم يكن بوسع النازيون نقل ألمانيا من ديمقراطية فايمار المتصدّعة إلى التحكم التوتاليتاري الشامل بمجرّد وصولهم إلى السلطة، وضربهم كافة الأحزاب تباعاً، بدءاً من الشيوعيين والإشتراكيين الديمقراطيين، بل احتاجوا الى اندلاع فتيل الحرب العالمية الثانية لإحداث هذه النقلة الكلّية.
ثاني عناصر بطلان هذا المنطق الأعوج، هو أنّ الديمقراطية هي دائماً شكل من أشكال استمرار حرب أهلية ما، في بلد ما، بوسائل أخرى، أي بوسائل السلم الأهلي. حتى الأحزاب التي تبدو في البلدان المحكومة منذ عقود بل قرون بالديمقراطية، أحزاباً سلمية، بل أحزاب لم تعد مختلفة جذرياً عن بعضها البعض، هي في الأصل استمرارية لحزبيات تناحرت مع بعضها البعض في الحروب الأهلية الغابرة في هذه البلدان. الديمقراطية شكل لإنهاء، وإستمرار مفعول إنهاء هذه الحروب الأهلية، هذه الحروب للكل ضدّ الكلّ. أما استثناء قوى منها بحجة أنها غير صالحة لها، أو أنّها غير مؤمنة بها، فهو إلى حد كبير، تخليط لمنطق الحرب الأهلية بمنطق السلم الأهلي.
ثالثاً، «الإيمان بالديمقراطية» ليس أصلاً من أصول الإنخراط في اللعبة الديمقراطية، ولا ينبغي أن يكون شرطاً لخوضها. الديمقراطية هي منظومة وسائل إحتكام بين متخاصمين ومتنافسين لكن لا ينبثق عن هذه المنظومة مسلك تنسّكي أو تعبّدي لهذه الفكرة، أو لا يعتبر مثل هذا مسلكاً ديموقراطياً بالمرّة، بل تشويه لفهم كما الممارسة. بالعكس تماماً، «الجحود» بالديمقراطية قد يفيدها أكثر. المهم خلوها من الإبتزاز، وأخطر أوجه الإبتزاز هو أن الديمقراطية سريعة العطب إن خاض الانتخابات فيها فلان وهو يضمر لها الطعنات والمكائد. ينبغي التعامل دائماً مع الديمقراطية، كي تكون ناجحة، على أنّ كل طرف يخوضها عنده نية سيئة تجاهها، أو أنّه، إذا ما أتيح له السبيل للإنقلاب عليها فلن يتردّد لحظة. تتطور التجربة الإحتكامية للشعب، التداولية للسلطة، الفاصلة بين السلطات، عندما يحصل العكس تماماً، أي عندما يعطّل الجميع القدرة الايذائية الموجودة عند الجميع.
العالم العربي والإسلامي ليس باستثناء في كل هذا. جردة النزعات غير الديمقراطية لدى غير الاسلاميين كثيرة، ولدى الإسلاميين كثيرة، والإشكال الأساسي لماذا لا تعطل النزعات التسلطية والطغيانية بعضها البعض، لأن هذا التعطيل المتبادل هو الذي يؤسس للتداول، وللتأطير السلمي الممأسس لعمليات المشاركة والتبادل.
«لا ديمقراطية بلا ديموقراطيين» هو دوران في حلقة مفرغة. في الواقع لا ديمقراطية الا بأعداء ديمقراطية سابقين، دفعهم الاضطرار والسأم من التناحر وتبدل القناعات والإحالات والأفكار والرغبة في حقن الدماء إلى الديمقراطية، ودفعتهم هذه الديمقراطية إلى خيانة أنفسهم منطلقاتهم جزئياً، إلى أن لا يعودوا مهمومين بتشكيل صورة مطابقة لما هم عليه، وإلى التصالح مع كون البشر جميعاً صورهم عن أنفسهم هي غير ما هم عليه في الواقع.
والديمقراطية تزيد وتنقص، ليس الخيار فيها يختزل بين إما أن تكون مطلقة وكاملة وإما أن تكون غائبة، ولأجل هذا التعميم بأن كل البلدان العربية عندها نفسها تعثر الحظ في الديمقراطية غير صحيح. حيثما هناك انتخابات تنافسية غير مزيفة هناك شيء من الديمقراطية. هناك من يسعى إلى وضع مؤشرات عينية لهذا، وعليه يوزع الدول والأمم في سلّم الديمقراطية من الأكثر تقدّماً فيها إلى الأكثر تأخّراً، لكنّ هذا السلّم بحدّ ذاته عنده مشكلاته أيضاً، وهي أنّه مطواع لمقولة «لا ديمقراطية من دون ديموقراطيين» وللإكثار من الإشتباهات ضد «المتحايلين على الديمقراطية» التي ينصح بحرمانهم منها.
كاتب لبناني
القدس العربي