أحد كنوز الغوطة الشرقية…قمر الدين يتنفّس الحياة من جديد/ زينة شهلا
-“صباح الخير يا عمّ. قمر الدين من الغوطة؟”.
-“الغوطة؟ الله يرحم إيامها. هاد من حمص، بس كمان طيّب ممكن تجربوه”.
لا يخفي أبو توفيق وهو أحد باعة المواد الغذائية في سوق البزورية في دمشق القديمة، حسرته إن سأله أحد الزبائن عن مصدر قطع قمر الدين التي يبيعها، والتي اشتهرت غوطة دمشق الشرقية بصناعتها من المشمش المجفف: “قمر الدين الأصلي من الغوطة صار قَطْع نادر، وهلأ كله تمشاية حال”.
يُباع قمر الدين ذو اللون البرتقالي على شكل شرائح مربعة اللون، أو قطع صغيرة أشبه بالسكاكر، وهو من الحلويات التقليدية الشائعة في سوريا خاصة خلال شهر رمضان حيث يُصنع منه أيضاً شراب قمر الدين.
قبل الحرب، كانت غوطة دمشق الشرقية المركز الأساسي لصناعته وتعبئته ومن ثم توريده للأسواق المحلية والخارجية، حيث تعتبر درجتا الحرارة والرطوبة فيها مثاليتين لزراعة المشمش ولتجفيفه.
يعود الرجل الستيني بذاكرته إلى الوراء بضع سنوات، ويتحدث عن أرضٍ كان يمتلكها في الغوطة يزرع فيها أنواعاً عديدة من الفواكه والخضراوات، وعلى رأسها المشمش: “كانت الغوطة أرض الخير لكن الحرب دمّرت معظم أراضينا الزراعية التي حُرقت وقُطعت أشجارها أو ذبلت”، ويضيف بعينين حزينتين: “طال الدمار أيضاً الكثير من المعامل والورشات ومنها بالطبع تلك التي تصنّع قمر الدين”.
يجد كثير من مزارعي المشمش ومالكي معامل قمر الدين صعوباتٍ كبيرة في العودة لإحياء زراعاتهم وصناعاتهم، حيث يحتاج الأمر مبالغ طائلة لشراء غراسٍ جديدة، وتأمين الوقود اللازم، سواء للزراعة والحراثة أو لتشغيل الآلات، إضافةً لدفع إجرة اليد العاملة، غير أن “أبو توفيق” يبدو متفائلاً: “مع ذلك، يمكنني القول بأن قمر الدين اليوم يعود للحياة، وإن كان بخطى بطيئة، وفي العام القادم لا بد أن يمتلئ محلّي بقمر الدين الغوطاني”.
نحو الحياة من جديد
على طول الطريق الواصل بين مدخل غوطة دمشق الشرقية وبين البساتين الواقعة في عمقها، يبدو المشهد للزائر الذي يعرف المنطقة، صادماً للغاية، فالطريق الذي اشتهر بين سكان دمشق وريفها بأنه أشبه “بالخيمة” كنايةً عن كثافة الأشجار فيه وحجبها لأشعة الشمس وتظليلها لمساحاتٍ واسعة، بات اليوم مجرّد أرضٍ ترابية تنمو فيها بعض الأعشاب والشجيرات، نتيجة قطع آلاف الأشجار أو حرقها أو ذبولها بسبب الإهمال خلال أعوام الحرب.
وعند بداية الطريق القادم من بلدة المليحة والمتجه نحو بلدة مرج السلطان، وفي أحد الشوارع الفرعية، يمكن للمارة أن يتنشّقوا رائحةً مميزة، ويسمعوا أصوات عمّال تعلو بين الحين والآخر، يطغى عليها ضجيج آلاتٍ ضخمة تُنبئ بعودة معامل قمر الدين إلى أراضي الغوطة الشرقية، بعد سنواتٍ من التوقف الجزئي أو الكلي.
يستقبل صاحب أحد هذه المعامل، والذي يدعى “بلال الزبيبي”، جميع الزوّار بابتسامةٍ عريضة. لا يخفي فخره من قدرته على إعادة هذه الصناعة التي ورثها عن والده إلى الحياة، حيث اضطر للنزوح عن أرضه ومنزله ومعمله في العام 2012، بسبب المعارك العنيفة الدائرة في المنطقة، وعمل على نطاقٍ ضيق جداً في مدينة جرمانا في ريف دمشق الشرقي، قبل أن يقرر العودة هذا العام إلى الغوطة، ويُعيد ترميم المعمل وما ينقصه من آلاتٍ وأدوات كانت قد تعرّضت للسرقة أو الدمار.
يبدو الرجل الستيني سعيداً وهو يتجوّل بين الآلات والعمّال، ويشرح عن مراحل تحويل المشمش إلى تلك الشرائح برتقالية اللون التي يعتبرها واحدة من كنوز الغوطة الثمينة، والتي يعود تاريخ ظهورها في المنطقة لمئات السنين، كما يرتبط اسمها برواياتٍ مختلفة، حيث يقول البعض أن أشهر صانعيه كان يدعى قمر الدين أو أن هذه الكلمة تعني “الرجل الصالح”، وآخرون يربطون البدء بتقديمه مع رؤية هلال رمضان والاحتفال بأول أيام الصيام.
مراحل صناعة قمر الدين
تبدأ العملية بغسل المشمش لأربع مراتٍ متتالية بواسطة آلةٍ مخصصة، ومن ثم تعبئته ضمن صناديق ووضعه لمدة يومٍ كاملٍ في غرفةٍ صغيرة تُدعى “المبخرة”، بغرض التعقيم والتخلص من كافة الحشرات والديدان التي يحتمل وجودها داخل الثمار، وذلك عن طريق إشعال مادة زهر الكبريت والاستفادة من البخار الصادر عنها.
بعد ذلك تُعرّض الثمار لأشعة الشمس وتُنقل لآلةٍ متعددة المراحل، حيث تُعصر وُترمى بذورها جانباً، ويُضاف إليها السكّر والقطر مع التحريك المستمر، ثم تُصفى 4 مرات متتالية، وهنا تتكفل مجموعة من العاملات والعمال بنقل عرباتٍ تحوي هذا العصير إلى جزءٍ آخر من المعمل، حيث تمتد مئات الدفوف الخشبية التي تلمع تحت أشعة الشمس الحارقة، وتبدأ مرحلة التجفيف.
“لهذه المرحلة شروط خاصة للغاية”، وفق ما يشرح “الزبيبي” في حديثه لرصيف22: “أولاً علينا دهن الدفوف بزيت الزيتون الأصلي وإلا سيختلف طعم المنتج النهائي، كما أن سكب عصير المشمش في الدفوف بكمياتٍ متساويةٍ يحتاج مهارةً كبيرةً للحصول على شرائح لها نفس الارتفاع”.
يبدو العمل في هذه المهام مقسّماً بشكلٍ واضحٍ، إذ تتكفل ثلاث أو أربع نساء بعملية الدهن بزيت الزيتون، في حين تقوم نساء أخريات بنقل الدفوف المدهونة إلى جانب عربة العصير، وهنا يأتي دور “طلال” والذي يُطلقون عليه اسم “المدّيد”.
“مهمتي تقتصر على سكب مكيالين من عصير المشمش من العربة إلى كل دف، قد يبدو عملاً سهلاً لكنه دقيق للغاية، إذ يتعيّن عليّ تعبئة كمية محددة في كل مكيال للحصول على السماكة المطلوبة. باختصار هي لبّ المصلحة”، بحسب ما يؤكده الشاب العشريني، مضيفاً بأنه بدأ بتعلّم مهنة المدّ منذ حوالي سبع سنوات، وبات اليوم يمارسها بإتقانٍ وشغف.
في غضون ثوانٍ ينتهي “طلال” من تعبئة الدف، وتتابع نساء أخريات نقل الدفوف الممتلئة إلى مصاطب خشبية لتوضع عليها بشكلٍ مستقيمٍ دون ميلان، وتترك لأربعة أو خمسة أيام لتجفّ تماماً وتصبح جاهزة للطيّ ثم التغليف: “هذه المراحل الأخيرة بدورها تستغرق أسابيع وشهوراً، حيث ننقل الشرائح الجافة لمستودعات بغرض تنظفيها وتقطيعها ومن ثم تعبئتها وبيعها”.
خسائر لا تقدّر بثمن
هذه السعادة بعودة صناعة قمر الدين للحياة رويداً رويداً، لا يخفيها حزنٌ من تدهورٍ غير مسبوق طالها خلال سنوات الحرب، ولا يبدو تجاوزه اليوم بالأمر السهل.
يكشف “طلال الزبيبي” أن الخسارة الأكبر طالت الثروة الزراعية في الغوطة، سواء أشجار المشمش أو غيرها من الأشجار المثمرة، والتي اختفى حوالي ثمانين بالمئة منها، فبالعودة إلى تقديرات وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي السورية، فإن محافظة ريف دمشق كانت تحتوي على أكثر من مليون وثمانمئة ألف شجرة مشمش في العام 2011.
من جهته خسر “الزبيبي” حوالي ألف وخمسمئة شجرة مشمش كان يمتلكها في أرضه: “كنّا فيما مضى نشتري يومياً ما بين 20 إلى 30 طن من المشمش، النوع “الكلابي” حصراً، وننتج قبالها ما بين 15 إلى 20 طن قمر الدين، أما اليوم بالكاد نحصل على 2 أو 3 طن باليوم، ومعظمها من خارج الغوطة، فإنتاجنا هنا لا يزال خجولاً ولا يتجاوز بضع مئات الكيلوغرامات كل يوم”، يقول الرجل ويشير إلى الجرن الكبير حيث يُحّرك بعض العصير مع السكر في أسفله، مضيفاً بأن هذا الجرن كان يمتلئ بالعصير فيما مضى لا بل ويفيض عنه لينسكب إلى الارض: “رحم الله والدي الذي أسّس هذا المعمل. أقول أحياناً بأنه محظوظ لأنه توفي ولم يشهد كل هذا الخراب”.
هناك مصاعب أخرى تواجه عمل “الزبيبي”، وتتعلق بتأمين اليد العاملة الخبيرة والتي كانت تأتي من محافظة إدلب في السنوات السابقة للحرب، وتوفير الوقود اللازم لتشغيل المولدات مع عدم توصيل الكهرباء بعد لكامل المنطقة: “تبلغ تكلفة تصنيع الشريحة التي تزن 400 غرام حوالي 650 ليرة سورية (قرابة دولار أميركي)، ولا يمكنني بيعها بأقل من 800 ليرة”.
وهنا تكمن معضلة إضافية مع انتشار قمر الدين الأقل جودة في الأسواق، حيث يعمد بعض المصنّعين لخلط المشمش مع الجزر والطحين لخفض التكاليف، ومن ثم بيعه بثلاثمائة ليرة، الأمر الذي يبدو مقبولاً لكثيرٍ من السوريين في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية لمعظم العائلات.
أما بالنسبة إلى “الزبيبي” فإنه يقوم بتصدير إنتاجه للأسواق العربية كي يتمكن من تغطية تكاليف الإنتاج وتحقيق هامش ربحٍ معقول.
مع ذلك، لا يراود الرجل أي شكٍ بصواب قراره بالعودة إلى الغوطة، ويضيف بإصرار: “كان والدي يقول: خذ ابناً من أبنائي ولا تقطع عرقاً من أشجاري. أرواحنا معلّقة بأرضنا، ولن أكتفي بصناعة قمر الدين بل سأزرع الأشجار وأحيي الأرض من جديد، ولديّ يقين بأن الغوطة ستعود خضراء خلال سنواتٍ قليلة”.