ج. م. كويتزي: نكتبُ لنعرف ما نُريد قوله
أندريس سيوني
“لقد كانت نيّتي الأصلية هي أن أنشر مجلّدات فارغة، بلا عنوان، حتى يتمكّن القارئ من أن يعثر على هذا التوازي مع حياة يسوع، الذي في المقابل ليس هو يسوع التاريخي”، هذا ما صرّح به الكاتب الجنوب أفريقي جون ماكسويل كويتزي (كيب تاون، 1940) بخصوص روايته الأخيرة ضمن “ثلاثية يسوع” خلال زيارته لإسبانيا العام الماضي. غير أن متطلبات التحرير البديهية جعلت من المستحيل تحقيق هذه الرغبة، وهو ما يعكسه الإيمان الراسخ للمؤلف: “إذا لم يستطع كتابٌ ما أن يتحدّث عن نفسه فهو كتاب فاشل، ومؤلّفه لا ينقل أيّ شيء إلى العالم، إذ ليس لديه ما يقوله وعليه أن يصمت”.
لكن الهوّة التي تفصل بين أن يمتلك الكاتب ما يقوله وأن يقدّم كلّ الإجابات الممكنة، هو ما يستكشفه ج. م. كويتزي في “ثلاثيته” الروائية، التي بدأت مع إصدار رواية “طفولة يسوع”، ثم تلتها رواية “تربية يسوع”، واكتملت أخيراً مع الجزء الثالث الّذي يحمل عنوان “موت يسوع”.
في هذه الثلاثية يعالج كويتزي معظم الثيمات الإنسانية الكبرى، التي تسعى كلّها نحو البحث عن معنى الحياة، أو طرح الأسئلة بهذا الخصوص على الأقلّ. ومرّة أخرى، يركّز الجزء الأخير من هذه الثلاثية على الطفل دافيد، وهو طفل استثنائي يبحث عن الحقيقة في عالم يخلو من الذاكرة. ورغم أنه يمكن توقُّع خاتمة هذه الرواية من خلال العنوان، إلّا إنّها تبقى مع ذلك تحفة “سقراطية” مثالية، لا ينصح بقراءتها للدوغمائيين الباحثين عن اليقين، وقطعة من الأدب الخالص لا يدّعي حتّى مؤلفها أنها ستكون مفهومة تماماً.
بمناسبة صدور الترجمة الإسبانية لرواية “موت المسيح”، فيما يلي ترجمة لحوارٍ مع صاحب نوبل للآداب عام 2003، حول هذه الرواية الجديدة، وحول “ثلاثية المسيح” بشكلٍ عام:
(*) في روايتك، يقول دافيد لوالده المفترض سيمون: “عندما نحاول أن نفهم، نخرّب كلّ شيء”. هل تفكر حقاً على هذا النحو، ولماذا ترعبك المقابلات؟
في رأيي، نحن نكتب لنعرف ما نريد قوله. وهذا صحيح، على الخصوص بالنسبة لشكل سردي طويل مثل الرواية. على مدار السنوات التي تقضيها في كتابة رواية، ينمو تفكيرك ويتطوّر ويتغيّر. لا يقتصر الأمر على أن العمل الّذي بدأت في كتابته ليس هو نفسه العمل الّذي انتهيت منه، ولكن حتّى الإنسان الّذي كنتَه في بداية المشروع ليس هو الإنسان الذي صرتَه في النهاية. هذا هو السبب في أنّ أيّ جواب محتمل عن سؤال بسيط بخصوص هذه الرواية النموذجية غير ممكن من خلال المقابلات، لأنّ هذه الأخيرة قد تترجم بشكل سيّء ومختزَل تلك العملية الطويلة والمعقّدة، وأحياناً العميقة، الّتي ولدت منها الرواية. وهي عملية قد لا يفهمها الكاتب نفسه تماماً، كما هي حالتي في الواقع، أو قد لا يرغب في فهمها على الإطلاق.
(*) أنتَ عالم رياضيات، اخترتَ أن تكرّس نفسك للكتابة: هل هذا هو مصدر نفور دافيد من الرياضيات وحبه للأرقام، لأنّك تخلّيت للشخصية الرئيسة عن هذه الصفات؟ وأيّهما يخلق الكون وينظّمه: الكلمات أم الأرقام؟
يبدو أنّ دافيد يميِّز حتى بين الأرقام نفسها، حيث يربطها بالأجرام السماوية، والاستعمالات التي
“في إنجيل القديس يوحنا، نقرأ أنّ الكون يولد من “لوغوس” الرب. و”اللّوغوس” عند الإغريق له العديد من المعاني، بما فيها معنى “الكلمة”، وهو ما لا يعني “الرقم” بالتأكيد”
ننسبها إليها: الجمع والطرح، وما إلى ذلك. نتحدّث عادة عن الرياضيات، لكن المصطلح الأفضل هو الحساب. السؤال الّذي طرحت في غاية الأهمية. في إنجيل القديس يوحنا، نقرأ أنّ الكون يولد من “لوغوس” الرب. و”اللّوغوس” عند الإغريق له العديد من المعاني، بما فيها معنى “الكلمة”، وهو ما لا يعني “الرقم” بالتأكيد. من جهة أخرى، يبدو أنّ مدرسة فيثاغورس تقترح أن يكون الكون محكوماً بالأرقام. كانت الأرقام موجودة قبل أن نولد، وستستمرّ موجودة بعد موتنا. وعليه فإنّ الرياضيات، كما تصوّرها الفيثاغورسيون، ليست من صنع العقل البشري.
سبب انبهاري بـ”دون كيخوتي”
(*) كيف تولّد انبهارك بـ”دون كيخوتي”؟ ولماذا اخترت أن يكون هو الكتاب الذي يتعلّم به دافيد القراءة، والكتاب الوحيد الذي استمرّ في قراءته؟
ثمّة جانب فريد في “دون كيخوتي”: لقد دشّن شكلاً جديداً في الأدب، هو الرواية، واختتمه في الوقت نفسه. بمعنى أنّه تغلّب على كلّ اللّاحقين، بلا استثناء. ولهذا السبب، يبجّل الروائيون تحفة ثيربانتس إلى اليوم. عندما قرأ دافيد “دون كيخوتي”، على طريقته الخاصّة، لم يعد لديه أيّ سبب لقراءة كتاب آخر. لقد صار مثل أولئك الذين يكتفون بقراءة الإنجيل أو القرآن، لأنّهم يجدون كلّاً منهما كافياً لتلبية كلّ احتياجاتهم.
(*) يرتبط تكريمك الواعي لـ”دون كيخوتي” بالتزام أدبي آخر، وهو التزام جمالي وسياسي أيضاً: أن تكون اللغة الإسبانية هي اللّغة الأولى التي تصدر بها رواياتك الجديدة، وبعدها تترجم إلى لغات أخرى، بما فيها الإنكليزية. هذا ما قمت به حتّى بالنسبة لكتابك الأخير “سبع قصص أخلاقية”؟
إنّه قرارٌ واعٍ تماماً، وهو ينبع من اختياري الابتعاد عن وجهة النّظر الأنجلوساكسونية وعن خطر أن تصبح وجهاتُ نظرِ لغةٍ مّا عن العالم عالميةً هي أيضاً، وهذا أمر غير جيّد على الإطلاق.
(*) هناك أمور تحدث لبطل الرواية، يعيش في عالم بلا ذاكرة، وبالتالي فهو خالد. في هذا السياق، يبدو البحث عن الهوية كأنّه مفتاح لأسئلة دافيد المستمرّة: لماذا أنا هنا؟ لماذا أنا ما أنا عليه؟ ومن هذه الأسئلة المتعالية بُنيت الرواية، حيث يهيمن فيها أسلوب تخطيطي مطلق، مثلما كانت الحال في رواية “يوميات عام سيء” (2007)، وهي الرواية التي سبقت مباشرة هذه الثلاثية؟
إنّ الشعور المتزايد بالانفصال عن العالم أمر يحدث طبيعياً بالنسبة لكثير من الكتّاب، وهي عملية يمكن تفسيرها على أنّها تحرّر، كما هو الشأن بالنسبة لاكتساب المزيد من الصفاء الذّهني الذي يسمح لنا بمواجهة الأمور الأكثر أهميّة.
(*) قلت إنّك كنت مفتوناً دائماً بحياة يسوع “الوحشي والهشّ”، وخصوصاً بوفاته، ما الّذي أثار اهتمامك بصورة المسيح، علماً أنّك مدين في ثلاثيتك لهذه الشخصية الإنجيلية؟
عندما نصِفُ يسوع بأنه إنجيلي، فنحن نعتبر الإنجيل، والأناجيل الكنسية على وجه الخصوص،
“عندما قرأ دافيد “دون كيخوتي”، على طريقته الخاصّة، لم يعد لديه أيّ سبب لقراءة كتاب آخر. لقد صار مثل أولئك الذين يكتفون بقراءة الإنجيل أو القرآن، لأنّهم يجدون كلّاً منهما كافياً لتلبية كلّ احتياجاتهم”
نصّاً أدبياً وليس سرداً تاريخياً. إنّ البناء الأدبي والنصّ الوثائقي ليسا سوى طريقتين من الطرق العديدة لقراءة الأناجيل. بعض الناس يعتبرون أنّ الكتاب المقدس بأكمله هو “كلمة الله”، ما يعني أنّ مؤلف هذه الكتب المختلفة كانت تسكنه روح إلهية. أنا لستُ باحثاً متخصّصاً في اللّاهوت، لذلك أفتقد إلى المصطلحات التقنية، لكنني أقترح طريقة أخرى للتفكير في يسوع (أو في شخصية يسوع) خارج إطار الزمن تماماً. بهذا المعنى، يسوع حاضرٌ دائماً / أو غائبٌ دائماً، بينما يمّحي الفرق بين مقولة “الواحد الدائم” و”الآخر الدائم”.
العقل والعاطفة
(*) تثير هذه الثلاثية الانفصام بين العقل والعاطفة، هل هناك سبب حقيقي لهذه الحالة، ولماذا يحضر ذلك بقوّة في شخصية دافيد؟
في هذا الجزء الثالث، تصير المعارضة بين سيمون، والد دافيد المفترض، وصديقه المتعصب ديمتري، أكثر وضوحاً من أيّ وقت مضى: كيف سيكون شكل العالم إذا قبلنا بحكم العقل؟ وكيف سيكون حاله إذا قبلنا بحكم العاطفة؟ سيكون ذلك أمراً رائعاً، ولا يصدَّق أيضاً، إذا ما تمكَّنتُ من تقديم إجابات بسيطة عن هذه الأسئلة الّتي يحاول الأدب، وهذه الرواية على الخصوص، أن يأخذ كثيراً من الوقت ومن التّعقيد للتفكير فيها.
(*) ختاماً، بعد ثلاثية روائية، لا نجد أيّ رسالة، لأنّ حتّى الكتاب المقدّس يقول إنّه لم يكشف أيّ شيء. هل الرسالة التي طال انتظارها من دافيد، وربما منك ككاتب، تشير فقط إلى عدم وجود أيّ رسالة؟
من الواضح أنّنا ندخل هنا عالم المفارقة، كما اقترحتُ سابقاً عندما تحدّثت عن الانفصام بين “الحاضر دائماً” و”الغائب دائماً”. إنّ مقولات من قبيل “توجد رسالة” أو “لا توجد رسالة” تنتمي إلى هذه المملكة نفسها. وحين نفكّر في هذا الأمر، يجب أن نطرح السؤال حول معرفة ما إذا كان ينبغي دائماً لكلّ روايةٍ أن تحمل رسالةً ما، لكن، لصياغة السؤال بشكلٍ أكثر دقّة: هل يعدُّ تصرّفاً ذكياً، بالنسبة لشخص يريد أن يبعث رسالة إلى العالم، أن يدمج هذه الرسالة في شكلٍ سرديّ طويل جدّاً، غير مريح ومعقّد، مثل الرواية؟
*نُشر الحوار يوم 24 يونيو/حزيران 2019 في صحيفة “إلكولتورال” الإسبانية.
ترجمه عن الإسبانية: نجيب مبارك.
ضفة ثالثة