رشا عمران: لم يستطع أي عملٍ أدبي أو فنّي حتّى الآن أن يُحيط بسوريا
مصطفى ديب
رشا عمران شاعرة سورية من مواليد 1964، وضعت مجموعتها الشعرية الأولى عام 1997 تحت عنوان “وجع له شكل حياة”، وأتبعتها بخمس مجموعاتٍ شعرية حتّى تاريخ الآن: “كأنّ منفاي جسد” (1999)، و”ظلّك الممتد في أقصى حنيني” (2003)، و”معطف أحمر فارغ” (2008)، و”بانوراما الموت والوحشة” (2014)، و”التي سكنت البيت قبلي” (2016).
هنا حوار معها.
هناك سؤال مُبتذل جدًا، ولكن لا بدّ منه. لذلك، دعينا نعد قليلًا إلى الطفولة، باعتبارها مصدر كلّ شيء؛ هل اكتشفتِ القراءة في تلك الفترة؟ نبحث عن الكتاب الذي هزّك بعنف. كما نبحث في الوقت نفسه عن الذي سار بكِ نحو الكتابة، وقاد خطواتك الأولى إليها، وفجّر لديكِ شهوة الحكي هذه؟
لا يوجد كتاب مُعيّن هزّني بعنف. كلّ كتابٍ قرأته في حياتي، خصوصًا في فترة نهايات الطفولة وبدايات المراهقة، فعل ذلك. كنت حينها أقرأ كلّ شيء، وكلّ ما يقع بين يديّ، مُستندةً إلى الغرفة التي كانت جدرانها ممتلئة بالكتب من السقف وصولًا إلى الأرض. كانت تلك الغرفة بالنسبة لي صندوق الدنيا الذي كان مفتوحًا على وسعه، ومنه قرأت كُتُبًا لا تتناسب مع عمري إطلاقًا، دون أن يكون هناك أحد يوجّهني للقراءة، أو يمنعني عنها، وهذا من حسن حظّي. الآن، لم أعد أملك لا الرغبة ولا الشغف لقراءة كتب تُشبهها. ولا أقرأ أيضًا إلّا ما يجعلني أكثر هدوءًا، رغم أنّني أشتاق لتلك المرحلة، وأتمنّى لو أنّني أستعيد شغفي السابق بالقراءة.
أنا الآن ممتنّة لتلك المرحلة من حياتي، وللسنوات العشر التي تلتها، باعتبارها، بالإضافة إلى كلّ الذين قرأت لهم، وكلّ الكتب التي قرأتها، مسؤولة عن صناعة شخصيتي، ووصولي إلى ما أنا عليه الآن.
بالنسبة إليكِ، كيف تأتي القصيدة؟ نبحث عن منابع الكتابة طبعًا، وعمّا تعوّلين عليه عادةً في تشييد قصيدتك؟
لم يخطر لي يومًا أن أسأل كيف تأتي القصيدة؟ لا أعرف! وليس لدي طقس مُعيّن للكتابة. كلّ شيء يُمكنه أن يكون أساسًا لأي نصٍ أكتبهُ: حديث مع صديق، كتاب قرأته، حوار في فيلم، نص شعري قرأته في الفيسبوك، أو لوحة تشكيلية، وأنا مُغرمة بالفن التشكيلي.
ولكن، باستثناء ما سبق، هناك تلك الشحنة العاطفية والدفقة الشعورية العالية التي لا تأتي فقط من القراءة، بل من التجربة، ومكابدات الحب والشغف والجنس والصداقة والفقد والخوف واليأس والمرض والتقدّم في السن والوحدة وغياب الأمان وسقوط فكرة الوطن، ومن الموت الذي أصبح بسهولة شرب كأس ماء.
يثير كلّ ذلك لدي شهوة الحكي. وأيضًا، شهوة الكسل. قد تستغرب، ولكن أنا من هواة الكسل، وهواة الجلوس على الكنبة وعدم فعل أي شيء، سوى محاولة الانفصال عن الواقع والدخول في حالة من الفراغ الكامل. يُشبه هذا الفراغ الموت، ولكنّه في الواقع حياة بكاملها. وحتّى نصّي أحيانًا يُبنى في ذلك الفراغ، لأنّني لم أدخل يومًا في هذه الحالة إلّا وانتهيت منها بكتابة قصيدة. وهذا يعني أنّ فكرة النصّ الشعري قد تأتي في أي وقتٍ ومكان.
يبدأ كلّ كاتب الكتابة مُتَّخذًا نظرةً ما مُعيّنة عنها، قد تستمر أو تتغيّر مع الوقت. ماذا عن رشا عمران؟ هل تغيّرت نظرتها نحو الكتابة عمّا كانت عليه في البداية؟
بكل تأكيد لا أكاد اليوم أعرف من هي تلك التي كتبت كُتبي الأولى. أحيانًا، أعود إلى تلك الكتب وأتساءل: كيف تجرأت على كتابة هذا السخافة؟ كيف اعتبره البعض شعرًا؟ لم يكن لي حينها صوت، وكلّ ما كتبته في البدايات كان أصوات الآخرين، من قرأت لهم وأحببتهم. ببساطة، كنت أحاول أن أقلّد الجميع وأتبنّى فكرتهم عن الشّعر. ولكن، ماذا لو أنّني لم أكتب ما أعتبره الآن سخفًا؟
أعتقد أنّ بداياتنا هي ما تصنعنا. وأنّه علينا أن ننظر بعين الناقد إلى كلّ ما كتبناه وما سوف نكتبه لكي تتطوّر تجاربنا. تخيّل مثلًا لو أنّني أنظر إلى بداياتي بعين الرضا! كنت سأظّل أقلّد نفسي، وأكتب باللغة نفسها، وكذلك المواضيع والشكل، ولم أكن لأتجاوز مخيّلتي الأولى. وقد لا يكون هذا التطوّر لصالح النص الذي أكتبه، وقد يكون ما كتبته في السابق هو الأهم، لا أعرف! ولكن المهم أنّني أجرّب وأدخل أماكن أخرى وجديدة.
نُتابع اليوم انتقال الكثير من الشّعراء نحو السرد عمومًا، والرواية خصوصًا. كيف تُفسّرين هذا الأمر؟ وكيف تنظرين إليه؟ وبالنسبة إليكِ، ألا تُغريكِ الكتابة الروائية؟
أظنّ أنّ للمنتقلين من الشعر إلى الرواية أسبابهم الخاصّة. وقد يكون التجريب في أنواع الكتابة أحد هذه الأسباب. سهولة الحكي في الرواية والسرد تُغري بالانتقال لها، ونحن الذين تمتلئ ذاكرتنا بتفاصيل استثنائية تراكمت في السنوات السابقة، لا يُساعدنا الشعر كثيرًا على قول كلّ ما نريد قوله. وهذا سبب مهم في رأيي.
السبب الآخر مُتعلّق بالتسويق والجوائز، ففي الوقت الذي تستنكف غالبية دور النشر عن تبنّي الشّعر، بحجّة أنّه خاسر في المعادلة التجارية، نراها تتهافت على أي عملٍ روائي وإن كان متواضعًا، لأنّه يستطيع الدخول في سباق الجوائز الخاصّة بالرواية، والتي توفّر فرصة للانتشار والشهرة والترجمة، والتخلّص من العوز المادّي. بالنسبة لي، لم أفكّر حتّى هذه اللحظة بدخول هذا الماراتون. قد أفعلها يومًا، لا أعرف، لكن أظنّ أنّني لم أفعلها كسلًا.
الانتقال من مرحلة إلى أخرى أمر طبيعي وضروري أيضَا لتجربة أي كاتب. في هذا السياق، ما المراحل التي مرّت بها تجربة رشا عمران، منذ “وجع له شكل حياة”، وحتّى “التي سكنت البيت قبلي”؟ ما الثابت في هذه التجربة؟ وما الذي تغيّر أيضًا؟ ولماذا؟
هناك افتراقات كثيرة حصلت منذ كتابي الأوّل وحتّى اليوم. أمّا الثابت في تجربتي، وإن كانت مفردة تجربة صحيحة، أنّني ما زلت أشكّ بأنّ ما أكتبّه شعر حقيقي أم مجرد لغو وهذر لا معنى له. عدا عن أنّني ما زلت أرى نفسي مبتدئة، وأصاب بدهشة حقيقية حينما يُعرّفني أحد بـ: الشاعرة الكبيرة. صدقًا ليس هذا ادعاء أبدًا، وإنّما شعور بأنّ ثمّة الكثير من الأماكن التي لم أتمكّن بعد، شعريًا، من دخولها.
في الوقت نفسه، لا أنكر أنّني استطعت تشكيل هوية شعرية لي. وأقصد بذلك أنّني أثق اليوم بأنّ نصّي حتّى لو كان مجهولًا لجهة اسم كاتبه، إلّا أنّ القارئ سيتمكّن من تمييزه ومعرفة أنّه لي. وهذا ليس غرورًا، هو فقط تثبيت لما اشتغلت عليه بدأب وجهد لأكون أنا؛ رشا عمران.
يُقال إنّ على الشاعر الحقيقي أن يكون دائمًا مواجهًا لا مُصالحًا؛ أن يُفضّل مواجهة الأنظمة والعالم وغيره، بدلًا من المصالحة والانخراط فيها. ماذا عنكِ؟ وبرأيك، لماذا يقف بعض الشعراء على النقيض تمامًا مما ذكرناه؟ لماذا يختار بعضهم الانحياز إلى كلّ ما لا يُعبّر عن الشعب وهمومه، بل والوقوف ضدّ تطلّعاته أيضًا؟
الشاعر شكّاك ويقيني، كما يُفترض. واليقين ضدّ الشّعر حتمًا. والإصلاح يأتي من اليقين. والشك المتواصل يُمكن أن ينتج ثورة. ولكن، دعنا نتّفق أوّلًا أنّه، عربيًا، وفي الزمن الفائت، قلّما كان هناك شعراء معارضون للنظام بشكلٍ حقيقي، لأنّ معارضة هذه الأنظمة تعني عدم حصول الشّاعر على أي امتيازاتٍ تُقدّمها له.
أعتقد أنّنا جميعًا صمتنا واستفدنا بشكلٍ ما منها. ولكن هذا لا ينكر أنّ الكثير منّا رفضوا أن يكونوا أبواقًا أو مُطبّلين للأنظمة. شخصيًا، أحتجّ على إطلاق صفة مُعارض على عدد كبير من الشّعراء العرب. الشّعراء لا يقومون بثورة، ولكنّهم يؤيدونها ويساندونها. وأعتقد أنّ أهمّ الشعراء العرب كانوا مُنحازين للأنظمة، حتّى محمود درويش كان صديقًا لياسر عرفات الذي كان سلطة، بغض النظر عن مكانته في القضية الفلسطينية.
حين حدث التحوّل الكبير عام 2011 وقلب كلّ الموازين، ظهر المعدن الحقيقي للشعراء العرب، وكشفت تلك اللحظة التاريخية انحياز العديد منهم إلى الأنظمة ضدّ الثورات، وخوفهم من التغيير.
الأحداث الدائرة في سورية غيّرت أشياء كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، ونسفت أفكار ومفاهيم وقناعات عديدة. في هذا السياق، كيف كان تأثير هذه الأحداث عليكِ؟ وهل سلبت الحرب منك نصًّا ما؟ نقصد، هل كانت هناك مشاريع شعرية تشتغلين عليها قبل الحرب، وحين قامت الأخيرة، اضطّررتِ إلى تأجيلها؟
تغيّرت حياتي كلّها وانقلبت رأسًا على عقب. وكحال أغلب السوريين. لم يخطر في بالي يومًا أن أغادر سوريا. وها أنا ذا منذ أكثر من سبع سنواتٍ بعيدةً عنها. خلال السنوات الماضية، دخلت اختبارات مهولة شخصية وعامّة، لم أتوقّع أن أدخلها يومًا، واكتشفت عبرها تفاصيل في شخصيتي لم أعرفها من قبل، وكذلك اكتشفت سوريا بتركيبتها المجتمعية وما فيها من محاسن ومساوئ. تغيّر مفهوم الوطن عندي تغيّرًا هائلًا، ومفهوم الهوية والانتماء إلى مكانٍ ما، وكذلك الشعر. توقّفت وقتًا طويلًا عن كتابته، ووضعت جانبًا كتابًا شعريًا كان مرحبة ما قبل الطباعة، وظلّ مهملًا حتّى الآن. وفي هذه المرحلة، لم أعد أشعر أنّه يعنيني، لأنّني تغيّرت، ولم يعد يمثّلني. ولا شكّ في أنّ رؤيتي للشّعر ومفهومه ولغته تغيّرت أيضًا.
تُحاول الرواية السورية اليوم تأريخ ما يجري في البلاد، وربّما تستطيع أيضًا أن تشكّل سيرة كاملة لها. ماذا عن الشعر؟ وهل ما كُتب حتّى الآن يبدو كافيًا أو قادرًا على تشكيل سيرة لهذه الحرب؟ نتحدّث عن سيرة أو توثيق شبيه بما وثّقته الرواية، ولكن بأسلوب مختلف.
الروايات السورية التي استطاعت أن تكتب سيرة الحدث كما هو فعلًا، قليلة. وسوريا بعد الثورة هي عبارة عن أطراف ومجموعات متعدّدة، لم يستطع أي عملٍ أدبي أو فنّي حتّى الآن أن يُحيط بها مجتمعة. وأعتقد أنّ ما تمّ إنجازه حتّى اليوم، رصد جوانب من السيرة السورية المهوّلة، لا كلّها. والشّعر في هذا السياق لا يُمكنه فعل ذلك إطلاقًا، إلّا لو تحدّثنا عن ملاحم شعرية على طريقة الأوديسة أو الإلياذة مثلًا.
نحن اليوم داخل الحدث وفي قلب المأساة، نكتب ما تتركه الأخيرة فينا، ومعها انعكاس كلّ هذا الخراب علينا بشكلٍ فردي. ولم يكتب أحد حسب علمي، شعريًا، سيرة سورية وثورتها والحرب المجنونة التي عممت هذا الخراب. هل يُمكن للشعر أن يفعل ذلك؟ لا أعرف فعلًا!
قبل أن ننهي حوارنا، لدينا سؤال حول عنوان مجموعتك الشعرية الأخيرة الذي جاء مختلفًا جدًّا عمّا سبقه. ما هي حكاية هذا العنوان؟ ومن هي التي سكنت البيت قبلك؟ ماذا عن البيت نفسه؟
لا أحب العيش في شقق مفروشة، لأنّها تشعرني بعدم الراحة، وفرشها الذي استخدمه الشعرات قبلي يشعرني بأنّني عابرة، كمن يعيش في فندق، وأنا بحاجة للاستقرار. كنت قد قرّرت حين أتيت إلى القاهرة أن أسكن بيتًا فارغًا، وأفرشه فرشًا بسيطًا. بحثت في وسط البلد عن بيت مناسب، ووجدته بسرعة؛ بيت بجانب ميدان التحرير، يتناسب مع دخلي، ومساحته تناسب امرأة وحيدة. وحين بدأت أجهّز البيت، لاحظت أنّ هناك تفاصيل صغيرة متروكة عادةً ما تفعلها امرأة، وحين سألت حارس العمارة عمّن سكن البيت قبلي، قال: سيدة يونانية وحيدة كانت في مثل سنك تقريبًا، عاشت طويلًا هنا ثمّ عادت إلى اليونان.
خطر ببالي حينها أنّ هذا البيت قد يكون منذور للنساء الخمسينيات الوحيدات والغريبات. وبدأت أتخيّل تلك المرأة تعيش معي، وتعيش حياتي نفسها، أتقمّصها وتتقمّصني. هكذا، صرت أكتب عنها نصًّا وراء الآخر، أي المرأة التي سكنت البيت قبلي، والتي ليست سواي.
والمدهش أنّ ثمّة شيئًا في حياتي ارتبط بهذا البيت، لأنّني حين استأجرته، عرفت أنّ مالكه جرّاح قلب مشهور في مصر، وعيادته ملاصقة للبيت، وتمنّيت وقتها لو أنّه أخصائي هضم، لأنّني مريضة أبدية بمرض القولون العصبي. ولكن، تشاء الصدف أن أعاني من مشاكل في القلب فيما بعد، وأن ينقذ مالك الشقّة حياتي فعلًا، حين أجرى لي عملية قلب مفتوح خطيرة، وأن أستعيد حياتي وعافيته على يديه.
أشعر أحيانًا أنّ ثمّة قدرًا ما قادني إلى هذا البيت تحديدًا، والمدهش أنّ ديوان “التي سكنت البيت قبلي”، صدر وأنا في المستشفى، أي كتبته قبل أزمتي الصحية، وقبل أن أعرف أن عندي مشكلة في القلب. وهناك عدّة نصوص في المجموعة تحكي عن الفراغ في الجهة اليسرى من جسدي، وعن الندوب في صدري، وقلبي الموضوع جانبًا. وبالتالي، ثمّة ما يربطني بهذا البيت متعلّق بالشعر والحياة معًا.
أخيرًا، ما هو جديدك؟
كما قلت لك سابقًا، أنا بارعة في الكسل. لدي ديوان جديد يحتاج إلى اللمسات الأخيرة قبل إرساله للناشر. منذ سنة وأنا أقول التالي، غدًا سوف أبدأ بترتيبه ولا يحدث هذا. ربّما لأنّني أشعر أنّه لم ينته في داخلي بعد. ربّما أبدأ غدًا وأصدره قريبًا.
الترا صوت