مناهضة الرأسمالية وسبيل التحرر من القرن العشرين/ وسام سعادة
بالنسبة إلى الأفراد والمجموعات التي لا تجد نفسها مضطرّة للتسليم بأنّ الرأسمالية هي آخر ما يمكن أن تتفتّق عليه عبقرية سكّان كوكب الأرض، ستبقى فكرة تجاوز الرأسمالية تطرح نفسها بما لا يتناهى من صيغ وأشكال. يبقى أنّ فارقاً أساسيّاً بين قرننا والذي سبقه، هو أنّ قوى وأنماط «مناهضة الرأسمالية» في عالمنا اليوم تبدو أقل ارتباطاً برهان «تجاوز الرأسمالية». فلا عجب، بل مفارقة جمّة، أن يكون القرن الماضي قد انتقل بسرعة من الوعود بتجاوز الرأسمالية على الصعيد العالمي في نصفه الثاني إلى شيوع مناخات «تجاوز تجاوز» الرأسمالية في نهاياته، وأن يكون القرن الحالي، وبعد فترة تقهقر لقوى التغيير الاجتماعي فيه إلى عتبة «تحسين الرأسمالية» لا أكثر، قد عادت إلى ديناميات «مناهضة الرأسمالية»، إنّما على قاعدة فصل هذه المناهضة إلى حد ما، بل إلى حد كبير، عن إستراتيجيات «تجاوزها»، أو أخذت تعقلن فكرة «تجاوز الرأسمالية» نفسها وتؤجلها إلى أقصى مدى زمني ممكن، أي تقصيها إلى قرون إضافية.
هي إذاً حلقات ثلاث: تحسين الرأسمالية، ومناهضة الرأسمالية، وتجاوز الرأسمالية. «اليسارات» عبر العالم دارت مطوّلاً بين هذه الحلقات. وإلى حد كبير يمكن القول إن ما تراجع هو كل من الرهان على منحى «تحسين الرأسمالية» والرهان على منحى «تجاوزها»، في مقابل نوع من مدى أوسع متروك لأفكار وأنشطة مناهضة الرأسمالية.
تبقى أنّ هذه الحلقات الثلاث ليست بنقائض مطلقة ولا بجزر مفصولة عن بعضها البعض، وإن لم يكن من الممكن تداولها كمجرّد حلقات مستكملة لبعضها البعض أو متناغمة.
والمفارقة أن مناهضة الرأسمالية مقطوعة عن السعي لأجل «تحسينها» أو «تخفيفها»، ومقطوعة عن السعي لأجل تقويضها وتجاوزها، تعود فتكرّر نفس منطق النزعة التنقيحية عند ادوارد برنشتاين، في الاشتراكية الديموقراطية الألمانية نهاية القرن التاسع عشر. فتبعاً للمراجعة التي أعملها برنشتاين لأثر ماركس، وبالضدّ من المنهج الثوري عند الأخير، فإن «الهدف النهائي لا شيء، والحركة هي كل شيء». على هذا تأسست الإصلاحية في الحركة الاشتراكية، وعلى هذا أيضاً تنبني الأنتي رأسمالية جذرية الطابع، والأنتي إصلاحية، إنّما المقطوعة الوصل مع «الهدف النهائي»، أو المرحّلة لهذا الهدف النهائي أجيالاً وقروناً إلى الأمام.
بيدَ أنّ هذا الانقطاع عن «الهدف النهائي» هو، إلى حد كبير، تبرّم من تاريخ القرن الماضي. فبعد القرن الماضي، تبدو مناهضة الرأسمالية أسهل من العمل على تحسينها أو تخفيفها من جهة، ومن العمل على تحطيمها وإيجاد ما بعدها من جهة ثانية. لهذا إيجابيته، طالما أنّ الحركة الاشتراكية بكل أطيافها عاشت القرن الماضي كـ»عصر انتقال إلى الاشتراكية»، لينتهي تراكم موجات الانتقال إلى رجعة مدوية للرأسمالية، وعلى أوسع نطاق كوكبي. بعد قرن حافل بـ»الزمن الانتقالي»، بات الاكتفاء بالمناهضة بحد ذاتها بمثابة إعادة اعتبار إلى «الزمن الحدثي اليومي»، الزمن العادي.
لكن تعلّق مناهضة الرأسمالية بهذا الزخم المعطى للزمن اليومي العادي سيعيد إنتاج تصورات، خرافية إلى حد كبير، عن «التراكم». التراكم السلحفاتي (بالإذن من مقولة بوخارين عن بناء الاشتراكية بسرعة السلحفاة، في وجه القائلين بالتصنيع التسريعي الفظ لتطور القوى المنتجة) الذي سيستعيد فكرة «تجاوز الرأسمالية» إنما لتلبيسها طابعاً خلاصياً، برزخياً، مقطوعاً عن التاريخ.
ما ميّز الاشتراكيّين في القرنين الماضيين أنّ أحداً منهم لم يكن «مستعجلاً» نهاية الرأسمالية في بضع سنين، لكن أياً منهم لم يؤجّل هذه النهاية إلى قرون.
وما يميّز «مناهضي الرأسمالية» في قرننا أنهم يميلون إلى تأجيل الإطاحة النهائية بها لقرون، مع أنّهم غالباً ما يستشفون «علامات النهاية» فيها عند كل أزمة مالية.
لكن مشاريع مناهضة الرأسمالية ستبقى «ريوعاً» لأزمات الأخيرة إلى أن تتبلور مجدّداً استراتيجات «إعادة ربط» الحلقات الثلاث: التحسين، والمناهضة، والتجاوز.
وفي نهاية الأمر، إذا كان الاعتبار الرائج في القرن الماضي أنّ نهاية الرأسمالية وشيكة، وصارت القناعة في قرننا بأنّها أكثر استغراقاً واستدامة مما خيّل للمرء، فإنّ إيجاد تعليل للسبب الذي نقلنا من كون ظروف تجاوزها «ناضجة» إلى كون ظروف تجاوزها عادت فتأجلت هو مسألة تطرح نفسها، بإلحاح، وبإحراج حقيقي لكافة اليساريين عبر العالم، لا يسعهم ركنها فقط بـ»أخطاء» التجارب الماضية. فكل التجارب الماضية لا تختزل مدى السؤال عما إذا كانت ظروف تجاوز الرأسمالية نضجت أو فسدت؟
ومما يسجّل هنا أنّ «البرنامج الانتقالي للأممية الرابعة» الذي صاغه ليون تروتسكي أواخر الثلاثينيات قد استهل بمفارقة غريبة وفي غاية الأهمية، إذ انطلق من كون الظروف الموضوعية لهذا التجاوز نضجت، بل نضجت فوق اللزوم، ولم تلتقط إلى درجة أن الثمرة الناضجة عادت ففسدت.
«فساد» الظروف الموضوعية نتيجة لتأمنها إلى وقت طويل من دون استثمارها بالشكل الصحيح هو فكرة «لاهوتية» إلى حد كبير. واحدة من «مجازات الأفكار» المستخدمة لوصف القرن الماضي، الذي ظهر فيه أن تجارب تجاوز الرأسمالية إما لم تكن تجاوزية لها بما فيه الكفاية، وإما كانت تجارب في توسع نمط الإنتاج الرأسمالي على الصعيد العالمي، أو حتى توليد إنتاجية رأسمالية مختلفة، أو قل رأسماليات سوق من ناحية، ورأسماليات دولة من ناحية ثانية، رغم أن الفصل بين هذه وتلك ليس فصلاً مطلقاً.
وإلى حد كبير، القرن الماضي ما زال يمسك بقرننا. سهل جداً في قرننا المسارعة إلى القول حيال كل بعد من أبعاد الواقع، وتجاه كل قضية، بأننا دخلنا في عصر جديد، وأن الكلام القديم ما عاد ينفع. لكن الواقع الذي ينفر من وراء هذا التكرار اللفظي المتحزّب لـ«الجديد» المبهم، هو أنّ قرننا ما زال يحاكي القرن الماضي، ويأتي حلول المئويات لمناسبات مختلفة، ليظهر كم سيبقي قرننا تبعياً للذي سبق، إلى وقت طويل، وكم أن ثلاثية «تحسين» الرأسمالية، و»مناهضتها» و»تجاوزها» ترتبط أساساً بإشكالية علاقتنا بالقرن العشرين، قبل المستقبل، وبإشكالية «تحسين» النظرة إلى القرن الذي مضى، ومناهضته.. وتجاوزه.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي