من التشيع الطوعي إلى جهاز التشييع…اليمن بعد لبنان مثالاً/ وضاح شرارة
في دوامة المنازعات الأهلية المسلحة التي تسود اليمن، وتغلب على علاقات جماعاته العصبية والمحلية والحزبية والمذهبية منذ نحو عقدين ونصف العقد (1994، عام حرب الجنوب والشمال بعد “وحدة” 1990). تبادر الجماعات التي استولت على ناحية أو نواح من البلاد أو بقيت بعض البلاد في حوزتها، إلى إرساء استيلائها أو حكمها على أسس تحسبها قوية ومستقرة، وتعول على استقرارها. وبينما ينهض حكمُ وارثي السلطة “المركزية” السابقة والمفترضة، أي حكومة عدن، على الأحلاف القبلية ومناطق نفوذها وهيئاتها الجماعية الخاصة وروابطها المعقدة، بإدرات الدولة وأبنيتها المدنية والعسكرية وبأهل المصالح التجارية وأقطاب النفوذ الإقليميين، يتربع “أنصار الله” الحوثيون في سدة بناء هرمي ومرتبي. ويجمع هذا تراثاً عصبياً ومذهبياً وبلدياً (السادة من آل الحوثي وعقيدة الإمامة الزيدية وبعض “بلاد” صعدة)، تماسك تدريجاً في أثناء “الحروب الست” التي شنّها علي عبدالله صالح على صعدة في 2004-2012، إلى مبانٍ مستحدثة، حزبية دعوية ومركزية وخدمية، أنشأتها الحركة الأهلية وتنشئها تباعاً في معرض تثبيت سلطتها على بعض الوسط والشمال اليمنيين.
تطهير الإدارات
وتولت الحركة، منذ اجتياحها معظم البلاد اليمنية وسيطرتها على عدن في غضون عام 2014، إدارة مرافق الإدارات، ومستوياتها المتفرقة، بواسطة موالين دانت كثرتهم بالولاء إلى الرئيس السابق، ولم تنفك الجماعة المستولية والمنتصرة عن السعي في إقصائهم واستبدالهم بمواليا، من غير واسطة حلف ظرفي. وإلى اليوم، بعد نصف عقد على اكتساح اليمن وسنتين على اغتيال صالح وتصفية أنصاره وصنائعه، تتوالى فصول عزل هؤلاء الأنصار وتعيين مريدينُ خلص محلهم. وكان تعيين عبدالملك المتوكل مديراً لقسم التسويق في شركة الاتصالات المختلطة، يمن موبايل، محل عامر هزاع، وفي إشراف عصام الحملي، رئيس مجلس الإدارة الجديد، ومحمد شرف الدين المسؤول المالي. وعامر هزاع، مدير التسويق المعزول أو المعلق، هو من محازبي حزب المؤتمر (حزب صالح) ويرجع نسبه إلى محافظة تعز. ومحافظتا تعز وإب، على خلاف صعدة، من “رؤوس” الشقاق على الولاية الحوثية.
ويتفق “التطهير” الإداري والسياسي، المتعاظم منذ اغتيال الرئيس السابق، مع توسع الحرب الأهلية والاقليمية، وازديادها شراسة، وزجها بأصناف قاتلة من السلاح وبلوغ قتلاها نحو 70 ألف قتيل ومصابيها ومعوقيها نحو 240 ألفاً ومهجريها ما يقرب من أربعة ملايين إلى ستة ملايين. وينخرط الطرفان في الحرب على نحوين أو نهجين مختلفين. فبينما يتفاقم اتكاء “حكومة عدن” على قوى “التحالف العربي”، وعلى عمليات طيرانه ومدفعيته وخبرائه الميدانيين و”متطوعيه” العرب، تعمد سلطة “أنصار الله” الحوثيين إلى تشكيل قواها وقواتها تشكيلاً جديداً، وإرساء هذا التشكيل على معايير حشد وتنظيم وتفعيل وقيادة لا عهد للمجتمعات اليمنية بها.
و”الزينبيات”، أي الفتيات والنساء الحوثيات اللاتي يُحشدن في سرايا شرطة ومراقبة وتفتيش وحراسة ويدربن على هذه المهمات، مثال على معايير السلطة والحكم هذه. وركن المثال هو مبادرة السلطة إلى إنشاء أدوار وعلاقات لا تقتصر على التنسيق بين العوامل السابقة (استبسال المرأة في الدفاع عن أخيها أو الثأر لأبيها)، بل تتعداها إلى إيجاب العوامل وتجديدها. وهذا طور مختلف و”حديث” من أطوار السلطة نشأ مع سعي المجتمعات (الأوروبية أولاً) في حكم نفسها بنفسها، وصناعة مادتها وعلاقاتها. وليست “ثيوقراطية” الحوثيين، ومرجعهم الإيراني والإمامي الجزئي، حائلاً دون التحديث عموماً، وهذا الضرب منه على الخصوص. فالوجهان متضافران على تعبئة موارد متفرقة المصادر توظف في خدمة انقلاب السلطة من حال إلى حال، ومن أدوار إلى أدوار.
سياسة “الصرخة”
ويبذل الحوثيون جهوداً وطاقات ضخمة في سبيل تعليم أولاد رعاياهم وأنصارهم ومريديهم أركان العقيدة الحوثية. وعلى خلاف حركات سياسية عربية كثيرة، تكاد تكون أفكارها وأحكامها صدى مباشراً وغير محرف لأفكار وأحكام متداولة في المجتمع كله، أو في جزء منه ينحو إلى التجانس، يعلن الحوثيون “ثوريتهم”، على معنى “الثورة الإسلامية في إيران/لبنان/العراق…”، أي انقطاعهم من المفهوم بالسياسة في مجتمعهم اليمني الواسع. وعنوان انقطاعهم، وتوجههم إلى معنى سياسي آخر، هو “صرختهم”، على ما يسمون باسم قبلي قديم (صرخة الحرب الجامعة والاستصراخ كناية عن طلب النجدة)، شعارهم المكتوب على أعلامهم المركوزة في حواجزهم والمرفوعة في مهرجاناتهم وحشودهم. وهم احتفلوا في 28 حزيران/يونيو، شأنهم كل سنة في هذا اليوم، بيوم الصرخة: “الموت لأميركا… الموت لاسرائيل… اللعنة على اليهود… النصر للإسلام”. وكان حسين الحوثي، “صريع” الحرب الأولى في 2004، وشقيق مرشد “أنصار الله”، وكُفء أو نظير سفينة النجاة المجازي، موطّن الشعار الخميني في مران، مديرية حيدان إلى الغرب من صعدة.
ولا ينهض الانقطاع على “مضمون” الشعار، أي على اعلان العداء لأميركا وإسرائيل واليهود واستنزال اللعنة والموت على هؤلاء جميعاً. فلو كان المضمون هو المسألة، أو مناطها، لكان برنامجاً تقريرياً ينص على إحصاء “الأعداء” والتجييش عليهم، على ما هي الحال في البرامج السياسية المعروفة والشائعة. ولكن “الصرخة” لا تفترض دليلاً على العداوة (أو “الصداقة”، في الانتصار أو الدعاء بالنصر) ولا قرينة، ولا مساراً أو سياقاً مثبتاً. فهي وكيان الجماعة أو السلالة واحد. وذلك على مثال قبلي حقيقي ومادي وغير مجازي. والمثال هذا متخيل خالص. وكيان الجماعة (الحوثية) الواحد أو المتحد والمتماسك لا تبلغه الجماعة من طريق وسائط أو مراحل أو اختبارات وامتحان. فهو شرطها الأول والسابق، وهو علم أو لواء حربها. وحربها هي ركن كيانها الواحد.
وحين عمدت الجماعة، أو عمد مرشدها وشهيدها الأول إلى “رفع” الصرخة، وجهت شفرتها ونصلها إلى علي عبدالله صالح ونظامه ويمنه. فعرَّف الشعار المرفوع في المساجد والساحات قبل أن يصك علماً لازماً، على نحو “تجهيزي” (بيرفورماتيف) مقصود واستدراجي، بصديق أميركا واسرائيل واليهود وبعدو الإسلام، في آن. وأما المناسبة بين الشعار وبين أحوال اليمنيين ومآلاتهم، في أعقاب نحو ثلاثة عقود من استيلاء الضابط اليمني و”تدبيره”، فشأن أقل من ثانوي. فالصدارة إنما هي لـ “ولي الأمر في نفسه”، على قول فقهي. والاستيلاء على “الأمر” هو مقدمة المقدمات وخاتمة المطافات. وهذا معنى السلطة “الإلهية” التي لا شأن للناس بها ويعجزون عن تدبرها، على قول مأثور. و”الجمهورية”، في هذا المعرض، وعلى معنى مصدرية الجمهور ورأيه، تمويه لفظي وشرك يحاكي العصر و”ترهاته”.
“جهاز الدولة الايديولوجي”
وعلى هذا، فالشعار- الصرخة الحربية والقبلية العصبية هو صرف للسياسة وعنها بالتي هي أسوأ، وصرف عن الحياة المشتركة والمتعارفة وعن همومها. وإذا نجح في ضوي الجماعة الحوثية وتوحيدها تحت لواء سليل بيتها الموسوم بميسم “الأمر” وعلامته، وذلك في أثناء “الصعود” (الإصعاد) إلى السلطة في ديرات الجماعة، فليس ذلك قرينة على استطاعة الجماعة الحاكمة أو المستولية حكمَ مجتمع مركب من جماعات ومصالح وتطلعات كثيرة وبعضها متنافر. ويقود هذا إلى ترجح الطائفة الحوثية بين “سياستين”: واحدة تحل القبيلة وتسكن أوصالها وتقوم منها مقام اسمها وتعريفها وهويتها الحربية والوجودية ولو افتقر الناس الحوثيون إلى أضعف تجربة بمقوم هذا “الروح”، وهي سياسة الحرب على “الصليبيين واليهود” (في اصطلاح بن لادن و”جبهته العالمية”) – وأخرى تتسلط على الجماعات اليمنية المتفرقة والمقيمة في ديرات الاستيلاء والإدارة الحوثييّن، وتحملها الجماعات الخاضعة على “تنزيل” خالص، وسلاح استتباع وقهر.
ويتوسل “الشقيق الأعظم” (“بيغ براذر” في رواية جورج أورويل الأشهر 1984) ومركز المركز، ووارث “السيد” الوالد من طريق الشقيق الشهيد على رسم علوي – حسني – حسيني، يتوسل إلى دمج الجماعات المتفرقة والمتنافرة، غير الحوثية نسباً أو سلالة ومعتقداً، في “أمة” واحدة، بالتعليم والتلقين والتدريب والترويض والجمع في مراكز ومخيمات مشتركة. ويزعم الإعلام المناوئ، ولا ينكر الاعلام الموالي الزعم، أن محمد بن عبد السلام فليتة، أحد المتحدثين باسم الطائفة، قدر عدد المراكز الصيفية التي دعي التلامذة، فتيات وفتياناً، إلى الالتحاق بها صيف 2019 بـ2600 مركز. وبعضها، مثل مركز جامع الشعب (كان جامع الصالح على اسم من أجراى جراية إنشائه) الذي تنفق عليه جمعية الشعب (الصالح سابقاً) في عهدة عبدالله الكبسي الحوثي – يجند 500 من طلبة المدارس الصنعانيين الفتيان وصغار السن.
وبعض مواد التدريس في الدورات الاستثنائية هو من مقررات التعليم الرسمي السابق والمشترك. وهذا ما يلمح إليه تحقيق “أريج” (شبكة “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية”) من طريق يكاد يكون خفياً. ويطنب التحقيق في وصف الأنشطة غير المنهجية، الدعوية والتلقينية حصراً وعلناً. ويلزم طابور الصباح التلامذة والطلاب الصريخ. وفي أثناء رفع “الصرخة” يدعى الطلاب إلى مراقبة بعضهم بعضاً والوشاية بالممتنعين والمستنكفين. وتتولى فقرات الإذاعة المدرسية إلقاء الدروس في رفض التطبيع و”معاني” دوس العلمين، الأميركي والاسرائيلي. ويحاضر مدرسون ومديرون استمالتهم الطائفة في “الثقافة القرآنية” المقتبسة من كتابات “الشهيد الصريع” حسين بدر الدين الحوثي، شقيق عبد الملك، المحاضر غالباً على شاشة تلفزيون المسيرة (منار الجماعة). وتلصق على الجدران صورٌ كبيرة ومفصلة لقتلى بعض غارات التحالف على مرافق مدنية. وندبت وزارة التربية، وعلى رأسها يحيى الحوثي شقيق الشقيق، الداعية عبد الفتاح الجبري إلى المحاضرة والتثقيف إلى آخرين منهم أبو هاشم. ويمزج الدعاة، على رواية “أريج”، قراءة “الملازم” في المذهب وشرحها العملي والتطبيقي بالحض على القتال على الجبهات المشتعلة. ويبلغ عدد الذين سقطوا قتلى، من إحدى مدارس صنعاء الكبيرة ومتطوعيها الذين يعدون بالمئات، أكثر من عشرين قتيلاً. وغني عن القول إن “أنشطة” كثيرة تصرف إلى أيام الموالد والشهادة، فلا يكاد يخلو يوم من إحياء ذكرى مولد أو من الحداد على قتيل.
“أمة” الفتيان
ويتعمد التعليم على هذا النحو أموراً تعول الجماعة عليها في بلوغ غاية سياسية حاسمة هي إرساء الاستتباع (والالتحام الداخلي هو شرطه ومتممه) والهيمنة على أسس ثابتة وبسيطة. فـ”التعاليم” الحوثية، وهي ليست تعليماً وتدريساً بل إنشاء جديد لفطرة المتعلم المنسية على مقالة نهضوية إسلامية جوهرية، تسهم في “خلق جيل جديد” تحرر من المناهج القديمة، ومن “ثقافة التدجين” والخنوع التي بثتها هذه المناهج، التقليدية والغربية معاً. وتعليم المدارس ومقرراته الرسمية والغالبة هو “استحمار”، على قول عبد الملك الحوثي في خطبة بثتها قناة المسيرة في الاسبوع الأول من تموز/يوليو الجاري. ويستعيد الخطيب تقليب علي شريعتي- الكاتب والأستاذ الايراني المعارض الذي قتل في أواخر عهد الشاه محمد رضا بهلوي إهمالاً صحياً وألحقه الخمينيون بثورتهم قبل أن يطويه النسيان – لفظة الاستعمار على وجوه معنوية ولغوية تعليمية.
ويجرد هذا الثقافةَ السائرة والمتداولة- وهي ثقافة “عالم الحياة” التي تحفظ لغات مخاطبة الناس بعضهم بعضاً، ومن طريقها يتفاهمون ويتداولون الرأي والتذوق والحس- من مشروعيتها، ويرميها بالفوات، وبهز ثقة أصحابها فيها وفي عالمهم، ويحل محلها لغته الركيكة والمفهومة، “لغة” الصرخة (“نوفلانغ”، في مملكة “الشقيق الأعظم”). والتشكيك في حقيقة عالم الحياة العادية والمتقاسمة، وفي صلاح اللغة المشتركة التي يتناول الناس بواسطتها العبارة عن عالمهم واختباراته، هذا التشكيك هو من أركان عالم الحروب والشرور والمؤامرات الذي تنشئه حركات التسلط “المطلق” على المجتمعات، وتتوسل به إلى إغراقها في تصوراتها البطولية أو “الإلهية”.
ولا يحصل هذا في اطار تعليم صفي عادي أو منهجي، ولا من طريق التلقين الكلامي والخطابي وحده. فهو يتوجه إلى جماعة تشترك في فئة السن أو بابه، والأرجح أنها تبلغ ما بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة. وهذه سن “أزمة الهوية” الانتقالية وحيرتها وتجاذبها في مجتمعات ضعف فيها التقليد الأبوي والعائلي، وتأخرت سن الانخراط الاجتماعي- الاعتبار والتحصيل والعمل والزواج- إلى قرابة العشرين أو قبلها بقليل، وعمها التعليم والخدمة العسكرية الإلزاميين (ويلوح “الأنصار” الحوثيون بإحياء هذه الخدمة، وهي تطاول نحو 8 ملايين يمني).
وتعزل جماعة الفتيان في فئة على حدة من العلاقات الاجتماعية واليومية المختلطة. ولم يكتم روح الله الخميني في رسالته ولاية الفقيه ميله إلى الدعوة والمشاهد والمناسك والمشاعر” على شاكلة عاشوراء والحج ومحاولته جعل شعيرة التلبية والبراء تظاهرة سياسية سدد الحاج الايرانيون ثمنها في 1983 مئات القتلى. ومعسكرات الشباب مثال تعبوي وسياسي وعسكري درجت عليه أنظمة الاستبداد المتشددة في أحوال كثيرة، ومهدت الطريق بواسطته إلى إعداد “مؤمنين” راسخي الإيمان بمذهب منظمي المعسكرات، ومتخففين من معتقدات أهلهم المحافظين و”المعتدلين” الذين قد يحسبون “الإرادة” وحدها سلاحاً حاسماً في المعارك كلها. ومن الأمثلة “الحديثة” على هذا الصنيع ما خلص إليه باحث ألماني أدريان زينز، من دراسته وثائق صينية رسمية تصف تولي أجهزة الدولة الشيوعية في ولاية تشينغيانغ (الاسلامية)، تربية أولاد المعتقلين والمنفيين المسلمين في مخيمات خاصة تضطلع بتعليهم اللغة الغالبة والعقيدة السياسية “المناسبة” أي عقيدة الدولة الصينية الشيوعية (عن لوموند الفرنسية، 12/7/2019). ويُعزل الفتيان في أماكن على حدة، وينتزعون من ملابسة حياتهم العادية في أسرهم ودورهم وسككهم (شوارعهم) وحاراتهم وبلداتهم أو مدنهم. وبعض هؤلاء الفتيان، يتوج انخراطه في المعسكر الحوثي فصلاً عائلياً درامياً” يمده بقوة وطاقة ذاتيتين.
دراما “بيتية”
فبعض ذوي هؤلاء الطلبة، في محافظات صنعاء وإب وعمار وحجة، يروون أن “من التحقوا بمراكز الجماعة وشاركوا في دوراتها الثقافية وبرامجها… لا يعودون إلى أهاليهم”. ويروي أحد الآباء أن ابنه ربطته في أول الأمر معرفة بـ”مشرف” حوثي يقيم بحيهم. وتحولت المعرفة “صداقة قوية” حملت الابن الشاب على “المشاركة… في تجمعاتهم ودوراتهم…”، ثم على التطوع للقتال على الجبهات والموت هناك. ويقول الوالد أن دالة “المشرف” غلبت دالة الأب. وهذا شبيه برواية “الملتزمين الرساليين”، من أنصار الحزب الخميني اللبناني وجنوده في ثمانينات القرن الماضي، تحزبهم (فصل الملتزم الرسالي أو ولادة الأبناء الآباء، من المدينة الموقوفة، 1986، للكاتب).
وبعض السبب في هذه الحال، أي حمل الفتيان والشبان على الخروج على أهاليهم “المخالفين”، إلى الأسباب الظرفية الراجحة، هو اعتقاد إماميين كثر مسؤولية الفتيان الشرعية أو القانونية، الجنائية أو الشخصية (زواج القاصرات عند بعضهم، في سن مبكرة). ويقول محمود أميري مقدم، رئيس منظمة حقوق الإنسان في إيران، إلى إحدى الوكالات أن الحكومة الايرانية أو جهازها القضائي الشرعي، قضت بإعدام 500 مدان إلى 600 في السنة بين عام 2011 وعام 2016. و”أكثر من 70 في المئة من أحكام الإعدام النافذة في قصَّر (…) على مستوى العالم (…) نفذت في إيران”، على قول أميري مقدم.
وليس تشييع الفتيان والشبان في المعسكرات والتظاهرات والحسينيات والمهديات على صيغه الوطنية المختلفة والمتغيرة، إلا عوداً على بدء تاريخي. ويروي أحد الجغرافيين الفرنسيين المعروفين، كزافييه دي بلانول، في أمم النبي (1993)، أن اسماعيل الصفوي، التركماني السني والمتصوف ورأس السلالة الصفوية التي تشيع الإيرانيون، والفرس أولاً، في عهدها، دعا الايرانيين إلى التشيع، وهو لم يكن شيعياً، على طريقته. فكان يلزم بعض أهل المدن الكبيرة، وتجارهم وأعيانهم على الأخص، ومعهم أسرهم وخدمهم، بالانتقال إلى جوار العتبات والمراقد، والإقامة بها أشهراً متصلة، ونصب الأسواق، والتردد إلى مساجد العتبة، وقراءة مجالس العزاء بها والبكاء على صرعى أهل البيت. وعلى هذا، حُمل مئات الآلاف وربما الملايين من أقوام إيران طوال عقود، على التشيع من طريق مثل هذه “الاحتفالات”.
واليوم، يلزم الحكم الخميني التلامذة والطلاب على اختلاف مذاهبهم والسنة منهم في المرتبة الأولى، بأداء “الزيارة” إلى المراقد، وسماع قراءة المجالس. وحيث يفتقر الحكام الخمينيون إلى المراقد أنشأوها، على نحو ما أنشأوا مزار السيدة خولة، على مثال مزار السيدة زينب بدمشق، في بعلبك اللبنانية، وعلى نحو مزار عين علي، في قرية حطلة بدير الزور. وبنوا الحسينيات في قرى زغير جزيرة والصَعوة وحوايج ذياب وحوايج بومصعة والكسرة ومراط وغيرها حول حطلة.
المدن