كُتاب ضد عسكر… من سوف ينتصر؟/ سعيد خطيبي
■ نعود إلى روايات من أمريكا اللاتينية كي نفهم أشكال الحياة تحت قبعة العسكر. نستنجد بماركيز ويوسا وسيبولفيدا وغيرهم، كي نفهم أوجه الشبه بين ما حصل عندهم وما يحصل عندنا. فحين يُقمع الرأي ويصير الاختلاف جرماً، نلجأ للأدب من أجل مراوغة الواقع المستعصي، الذي نعيش فيه. سنجد من خلال إعادة قراءة بعض كتاب أمريكا اللاتينية تفصيلاً وإحاطة بمظهر حكم العسكر، وما يلقيه من غبن ومكر على حياة الناس العادية. لا يخفى على القارئ جزئيات يمكننا إسقاطها على الحالة التي نرزح فيها، ففي أمريكا اللاتينية، ومع تمكن العسكري من المدني، تجلت خطابات مضادة، في العودة إلى ما يعتقدون أنه «الأصل»، مع دفع المجتمع إلى إعادة اعتناق التقاليد المسيحية الوطنية.
يلعب الدين، في كل مرة، دور الوسيط، أو بالأحرى الفخ، من أجل توحيد الآراء حول رأي واحد، ولم يغب عن كتاب لاتينيين التنبيه لهذا الأمر، فالحاكم القادم من ثكنة ليس مثل الحاكم القادم من الشعب، الأول تهمه المبايعة، والثاني لا يخشى مُجابهة المعارضة. الأول يريد صوتاً واحداً يصدح في البلد كله، والثاني تدرب على المناورة، وقبول الأصوات كلها، ثم الفرز بينها. والدين يخدم العسكري أكثر من المدني، فهو الممر الآمن لكسب تعاطف الناس، استخدامه ليس صعباً، وإشهاره في وجه من يُخالفه الرأي أيضاً سيكون أمراً سهلاً، بحكم أن الشعوب، في أمريكا اللاتينية (لا يختلف الحال عن الجزائر) ترى في الدين قارب نجاة، تتوارثه عن الآباء، وتتغاضى ـ سهواً ـ عن أن هناك من يوظفه لغرض شخصي، وليس لمصلحة عامة.
يرتبط الدين بالقومية، التي لا تسقط من حسابات العسكري، وكثيراً ما ذكرنا بها ماريو بارغاس يوسا، فاللعب على الحواس وإثارة العاطفة القومية يقومان بدور حاسم في «إرضاء» الشعب، وتفتيت أي محاولة لكسر عصا الطاعة. كل من يخرج ضد الرجل الواحد يُقذف بعبارات وشائعات وتهم بأنه يهدد «اللحمة الوطنية»، ومفعول توصيف كهذا لا يقل عن نعت شخص ما بالزندقة أو الردة. قد يكون الدفاع عن قيم وطنية أمراً محبباً، لكنه في أزمنة العسكر، كما يرد في روايات لاتينية، يتحول إلى مرادف للفاشية، نذكر ما حصل في تشيلي من تفريق بين أهالي أصليين وذوي البشرة الملونة، مع أنهم كانوا كلهم مواطنين يعيشون تحت راية واحدة. ولتثبيت الخطاب القومي، طرأ عامل آخر يتهم من يُعارض بصفة «الأيادي الخارجية»، مع أننا نعلم أنه لا عنصر خارجي بإمكانه أن يتدخل في العلاقات الداخلية في بلد ما، إذا لم يجد أرضية يتغذى منها. هذا المصطلح طوره عسكريون برازيليون، وابتكروا له أسباباً وأقنعوا الناس به، وسافر من البرازيل إلى خارجها ووصل إلى الجزائر. تهمة «الأيادي الخارجية» تشبه علبة تونة موجهة للتصدير، يمكن أن نفتحها ونلقيها في فم أي شخص نشاء، دونما الحاجة إلى تقديم دلائل أو حجج.
تاريخ العسكر، كما وردنا في الرواية اللاتينية، يبلغ أوجه من سياسة التخويف، وتعويم المجتمع بخطابات الدين والقومية والتخوين. تاريخ يتناقض مع نفسه، يدعي الحياد والانصراف عن الحياة المدنية، لكنه متوغل فيها ولا يرى نفسه بعيداً عنها. لقد فهم العسكري، قبل أن يدخل معركته أمام المدني، دور العامل النفسي، يُراهن على العواطف أكثر من الفعل، يعلم أنه في مواجهة مختلفة، لا تحتاج إلى أسلحة ثقيلة ولا طلقات نارية، بل خطابات وتصريحات، ولا يخدمه أكثر من مقالات تكتب على لسانه، ولن يجد في الطريق من يرد عليه سوى الأدب، لقدرته على التحايل وعدم المخاطبة بشكل مباشر، ما يوفر للكاتب هامشاً من الحرية، ويقدم للقارئ نظرة مخالفة، ويزيل عن العسكري نياشين التمجيد التي تعود عليها.
ينقل مؤرخون أن سيمون بوليفار قال، وهو على سرير الموت، أن أكثر ما يخشاه أن تقع أمريكا اللاتينية بين أيدي ديكتاتوريين «صغار». تحققت رؤيته ـ في ما بعد ـ لكنه نسي أن ذلك سينجم عنه شيء آخر إيجابي، فالديكتاتوريات الصغيرة خرج من ضلعها كتاب، وأدب لاتيني، لا نزال نعود إليه ـ كل مرة ـ كي نفهم ما يحصل في بلداننا، كي نفتش فيه عن أوجه شبه عما يحصل عندنا، فقد كثرت الروايات التي تجعل من الديكتاتور بطلاً لها، أو تطوف حول الأجواء التي يفرضها على الشعب.
نقرأ قصصا عن العبثية زمن الديكتاتور العسكري، وشكل الحياة التي يختفي خلف ستارها. تحكي الأرجنتينية أنجينا ألمييدا قصة مؤثرة في روايتها «الباص»، التي تدور عام 1976. رجل وامرأة ينتظران وصول الباص، وبعد ساعات يصل لكن بدون أن يتوقف. يجربان مرة أخرى، ويتكرر السيناريو نفسه في اليومين المواليين. يزداد قلقهما من ذلك الأمر، وشيئا فشيئاً تصلهم الأخبار، عبر ألسنة الآخرين والراديو عن وقوع انقلاب عسكري، وتأخذنا الكاتبة في روايتها، إلى أجواء الحكم العسكري، وكمية السخرية التي ترافقها. الكاتب البيروفي ألفريدو بيتا يتهكم من حكم العسكر، ويتألم من ضغطه ومآسيه في روايته «الصياد الغائب»، يحكي كيف أن أحلام الثورة، التي عاشها بطله في شبابه تحولت إلى أوهام. وقصد فهما معمقا وكاملا للحياة تحت حكم ديكتاتور، وقراءتها موثقة أدبياً، يمكن أن نعود إلى كتاب «الشيلي 11 سبتمبر/أيلول 1973، الديمقراطية المقتولة» لإدواردو كاستيلو، كما فعل لويس سيبولفيدا، في كتابه «جنون بينوتشي»، حيث كتب يقول: «أكتب لأن لي ذاكرة، أحفظها بالكتابة».
هذه الذاكرة المثقوبة اليوم، التي تنصب حيطانا بيننا وبين النظر إلى الماضي، وتمنع عنا الالتفات إلى أمريكا اللاتينية، كي نقرأ تاريخ العسكر، وكيف تصدى له الكتاب، بجسارة وصبر.
العسكري مهوس بالتاريخ، يمحو ما قبله، ويكتب فقط ما سوف يحصل منذ وصوله إلى قبة الحكم، يُمارس هواية التعديل والتغيير والتزييف، ويملأ وقت فراغه بتشويه سير سابقيه، مستعيناً بالحديد والبارود في كسب حواريين إلى جانبه، ولن يُضايقه سوى الأدب، الذي يضغط، في الكفة المقابلة، قصد حفظ ما أمكنه من توازن، وإعادة كتابة ما أضاعه العسكري عن قصد، ذلك ما نتعلمه من أدب أمريكا اللاتينية، فهل تنتقل عدوى أدبهم إلينا مثلما انتقلت عدوى الديكتاتوريات؟
٭ كاتب من الجزائر
القدس العربي