عن تبرير العلمانيين المصريين للاستبداد/ عمرو حمزاوي
لم تكن الدوافع الوحيدة لتحالف النخب العلمانية (ليبرالية ويسارية) مع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية للخروج على الإجراءات الديمقراطية في صيف 2013 هي فشل إدارة الرئيس الأسبق، محمد مرسي، في إخراج البلاد من أزماتها وعصفها بسيادة القانون والإطار الدستوري القائم (الإعلان الدستوري الاستثنائي في تشرين الثاني/نوفمبر 2012). كذلك لم ترتبط دوافع النخب العلمانية في الانقلاب على الديمقراطية فقط، بما طرح آنذاك كفعل ضرورة لحماية مصر من خطر استبداد ديني محقق والحفاظ على هويتها الوطنية. فالموقف المضاد للديمقراطية الذي تبنته النخب العلمانية في ذلك الصيف ثم تأييد أغلبية عناصرها لعودة السلطوية وصمتها على انتهاكات مفجعة لحقوق الإنسان، مثل وما زال ترجمة مباشرة لميراث تاريخي طويل حدد منذ القرن التاسع عشر جوهر العلاقة بين النخب العلمانية ونظم الحكم المتعاقبة، كما بينها وبين فعاليات المجتمع وعموم المواطنات والمواطنين.
فقد كان تشكل النخب العلمانية في أعقاب نشوء الدولة الوطنية الحديثة (دولة محمد علي الذي حكم البلاد بين 1801 و1840) وثيق الصلة بالتحالف مع نظام الحكم والسلطة القائمة، وتبلورت (باستثناء فترات عابرة) مقولاتها الكبرى وأنماط ممارستها لدورها السياسي والمجتمعي في سياق الدفاع الدائم عن الحكم ودعم السياسات الرسمية وتبرير إخفاقاتها ونتائجها السلبية. لم تر النخب العلمانية في الدولة الوطنية سوى قوة التنوير والتحديث والتقدم القادرة على تجاوز الجهل والفقر والتخلف، وتجاهلت في الأغلب الأعم حقائق القهر والقمع وإهدار الحريات واحتكار الثروة التي وصمتها منذ نشأتها. ولم يصنف العلمانيون حكام البلاد إلا كحماة للفكرة العلمانية ولفصل الدين عن الدولة حتى حين وظفت الرموز والمقولات الدينية لإضفاء شرعية قبول شعبي زائفة على الحكام، ولم يمتعضوا لا من اختزال المؤسسات والأجهزة الفاعلة للدولة إلى المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية ولا من إلغاء حكم ما بعد 1952 للتعددية السياسية والحزبية التي تواصلت لبضعة عقود بعد ثورة 1919. بل إن العلمانيين تجاهلوا الاختلال طويل المدى في العلاقات العسكرية-المدنية الذي أسس لسلطوية صريحة، ولم يقاوموا إن بالكلمة أو بالفعل امتداد سطوة المكون العسكري-الأمني إلى مجمل الفضاء العام والانتهاك الممنهج للحريات الفكرية والأكاديمية ولحرية الإبداع وذلك على الرغم من كون الحريات هذه تأتي تقليدياً في صدارة ما تهتم به النخب العلمانية.
على الرغم من العبث الأخلاقي والإنساني والسياسي التام الذي يعبر عنه دفاع النخب العلمانية عن إهدار كرامة الإنسان وإلغاء حقوقه وحرياته الشخصية والمدنية والسياسية. فالفكرة العلمانية رامت بالأساس تحرير الإنسان والانتصار له في مواجهة قمع وتغول السلطات الدينية والدنيوية، ولم تنهض على تبرير الاستبداد
في مقابل ارتباطها العضوي بنظام الحكم واستقوائها بالسلطة القائمة، استحضرت النخب العلمانية دوماً خوفاً وتوجساً مزمنين من المجتمع وعموم الناس. منذ تبلورت المقولات الكبرى للعلمانيين المصريين، والمجتمع يصنف ككيان «لا عقلاني» ومساحة شاسعة تعمل بها «الظلامية الدينية» و«الأفكار الرجعية» مفاعيلها الهدامة. وبالتبعية، باتت المهمة الرئيسية للدولة وحكامها هي إخراج المجتمع من حالته الرثة وتجاوز لا عقلانيته وظلاميته بمساعدة العلمانيين وعبر نظم التعليم والتنشئة الحديثة. إلى يومنا هذا، لم يتغلب العلمانيون على خوفهم من المجتمع على الرغم من عقلانية وتقدمية المجتمع وفعالياته مقارنة بالدولة وحكامها في محطات مفصلية كثيرة في تاريخ مصر الحديث، من الحركة العرابية في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر التي قاومت الاحتلال البريطاني إلى ثورة 1919 التي حظيت بتأييد شعبي كاسح للتحرر الوطني والحكم النيابي، ومن التماسك المجتمعي في أعقاب هزيمة 1967 إلى ثورة يناير 2011 التي أرادت التخلص من السلطوية واستعادة مضامين العدل والحق والحرية والمساواة.
إلى يومنا هذا، لم يزل خوف العلمانيين من المجتمع هو المفسر الأساسي لترويجهم لمقولات غير ديمقراطية منذ 2011 وإلى اليوم، من المطالبة بالتمييز بين الوزن النسبي لأصوات المتعلمين وغير المتعلمين في الاستفتاءات والاستحقاقات الانتخابية إلى تمرير وثائق مبادئ فوق دستورية لإقرار وضعية الدولة فوق الدولة للمؤسسة العسكرية وتمكينها من التدخل المستمر في شؤون الحكم والسلطة. إلى يومنا هذا، لم يزل خوف العلمانيين من عموم الناس هو محرك قوي لإطلاقهم الأحكام الاستعلائية على تفضيلات الأغلبية السياسية والانتخابية (أساطير الحصول على الأصوات الانتخابية بالسكر والزيت) ولاستعدادهم للتحالف مع الاستبداد والسلطوية والانقلاب على الديمقراطية نظير إسكات المواطن وتهجيره من الفضاء العام، نظير إخضاع واستتباع ما يصنفونه زيفاً كالمجتمع اللاعقلاني.
لذلك، ليس بمستغرب على الإطلاق أن تقف النخب العلمانية، منذ القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، مدافعة ومروجة لمقولة الدولة الوطنية المسيطرة على المجتمع والمهيمنة على الفضاء العام والفارضة للرأي الواحد وللصوت الواحد على الناس، دون أن يربط العلمانيون بين مفهوم قوة الدولة ومفاهيم العدل والحق والحرية والمساواة وباستبعاد كارثي للميراث السلبي المتراكم للدولة القمعية ولحكمها السلطوي إن لجهة التحديث والتقدم المجتمعين أو لجهة الحفاظ على فاعلية مؤسسات الدولة نفسها. لذلك أيضاً ليس بمستغرب البتة أن تروج النخب العلمانية لمفاهيم ذات جوهر استبدادي صريح كمفاهيم الضرورة الوطنية التي تلزم بالاصطفاف خلف الحكام، وحالة الاستثناء التي تمنح الحكام رخصة شاملة للعصف بسيادة القانون وبإخضاع المجتمع والمواطن، وأولوية الدفاع عن الأمن والاستقرار وإنجاز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على أي حديث عن الديمقراطية. يروج العلمانيون لكل ذلك على الرغم من الوهم الكامل الذي يمثله انتظار نشوء حالة أمن واستقرار وتقدم اقتصادي واجتماعي في ظل السلطوية وعلى الرغم من العبث الأخلاقي والإنساني والسياسي التام الذي يعبر عنه دفاع النخب العلمانية عن إهدار كرامة الإنسان وإلغاء حقوقه وحرياته الشخصية والمدنية والسياسية. فالفكرة العلمانية رامت بالأساس تحرير الإنسان والانتصار له في مواجهة قمع وتغول السلطات الدينية والدنيوية، ولم تنهض على تبرير الاستبداد.
كاتب من مصر
القدس العربي