الرغبة والتحرر: ثلاث ثورات في العالم العربي/ محمد سامي الكيال
تتجاوز فعالية الثورات العربية نتائجها السياسية المباشرة، ولا تقتصر آثارها على الدول والمجتمعات التي عرفت تحركات جماهيرية كبرى. يمكن القول إن البنى الاجتماعية في العالم العربي تشهد انحلالاً بطيئاً يطال مختلف المجالات، لم تعد فيه القوى والمؤسسات القديمة قادرة، مهما بلغ عنفها، على تحقيق الضبط الاجتماعي، ولهذا آثار كبرى على المستوى السياسي والثقافي والأخلاقي. ننطلق هنا من فرضية أن حيوية البشر، وإمكاناتهم الجسدية والذهنية والنفسية، سابقة على آليات السلطة وممارساتها، بما في ذلك عملها على تشكيل الذوات الفردية والجماعية، وإنتاج الهوية. وبالتالي فإن عمل السلطة هو في الواقع رد فعل على «عالم الحياة»، وليس العكس. هذه الفكرة دافع عنها عربياً، أو بالأصح مارسها على أرض الواقع، المثقف السوري عمر عزيز (توفي في سجون النظام الأسدي عام 2013)، الذي رأى في الموجات الثورية العربية «توقاً للحياة» في وجه منظومات طال أمد تحللها. وعلى أساس هذا المنظور الحيوي- السياسي Biopolitics ، يمكننا الحديث عن ثلاث ثورات اجتماعية متزامنة ومتداخلة شهدها العالم العربي في العقدين الأخيرين: ثورة سياسية – اقتصادية، وأخرى جنسية – اجتماعية، وثالثة ثقافية – لغوية. لا يعني وصف «ثورات» هنا أنها تحركات استهدفت التغيير السياسي، أو كانت قادرة عليه، بقدر ما هي خطوط للهرب والانفلات، استدعت في ما بعد كثيراً من محاولات استعادة السيطرة، التي لم تؤد إلى أكثر من الحالة الملتبسة التي نعيشها اليوم، بكل عنفها واضطرابها.
ضمن هذه الواقع غير المستقر يعود الجسدي والنفسي ليصبح «بيئة» الأنظمة الاجتماعية، أي الخارج الذي يجب إعادة استيعابه، ضمن مرجعيتها الداخلية، وتبسيط تعقيده ليتناسب مع السياسة والاقتصاد والدين والأخلاق والقانون، وغيرها من النظم الفرعية. ما يطرح كثيراً من الأسئلة حول قدرة الأنظمة الاجتماعية في العالم العربي على ترميم نفسها والقيام بوظائفها، وعن ممكنات أجساد باتت على تخوم سلطة متهاوية. فلا هي تخضع لأُطرها تماماً، ولا هي قادرة على بناء فضاءات جديدة.
ما وراء الثورات
من الصعب اختصار الثورات الاجتماعية المذكورة بأحداث «الربيع العربي»، التي وقعت ضمن فترات محدودة، بشعارات وسقف مطالب محافظ غالباً. ما يدفعنا للبحث عن الفعالية الثورية في ما وراء «الثورات» نفسها. على المستوى السياسي – الاقتصادي شهدت الانتفاضات العربية الأكثر تأثيراً (التونسية والمصرية والسودانية) بوادرها الأولى مع فقدان النظام السياسي قدراته على استيعاب الأوضاع الديموغرافية: مجتمعات فتية شديدة الحيوية، يعاني كثير من أفرادها من أسوأ أشكال البؤس الاجتماعي، مثل البطالة والفقر وارتفاع نسب العزوبية وضعف المؤسسات الصحية والتعليمية. تلازمت انتفاضات المُعطَلين عن العــــمل مع تحـــركات عمالـــية لم تكـــن متوقعـــة آنذاك، مثل أحداث الحوض المنجمــي في تونس، والاضرابات العمالية في مصر، وتصاعد العمل النقابي في السودان. ورغم أن الحراك الثوري لم يستطع على الأغلب ترجمة هذه التحركات إلى برامج سياسة واضحة وواقعية، إلا أن أنظمة السياسة والاقتصاد لم تعد قادرة على استيعاب هذه التطورات، طغت البيئة على النظام محدثةً كثيراً من الاختلال الاجتماعي.
إلا أن هذا الاختلال لم يقتصر على المستويين المذكورين، بل طال أيضاً نظام الأخلاق، الذي يحدد ما هو لائق ومحترم اجتماعياً، ومفاهيم الصواب والخطأ، وهي أمور مرتبطة في السياق العربي بالجنس لدرجة كبيرة. هذه الظاهرة لم تُبحث كثيراً لأنها تعتبر غالباً من الموضوعات «الأدنى». ولعل كتاب الباحث الفرنسي ماتيو غيدار «جنس وشريعة»، الذي يرصد السياق التونسي أساساً، هو المحاولة الأكثر جدية في هذا السياق. يُشبّه غيدار، ربما ببعض المبالغة، ما عاشه الطلاب التونسيون قبيل وأثناء الانتفاضة، بالثورة الجنسية، التي عرفتها فرنسا أثناء ثورة الشباب عام 1968. ويحاول وصف التغيرات التي طالت مفاهيم الجنس والنظرة للمرأة وأشكال العلاقة الجنسية وقيمة «العذرية»، إلا أن الجانب الأهم في عمله هو متابعته محاولة نظام الأخلاق، وكذلك الدين (وهذا الأخير لم يصبح في السياق العريي نظاماً اجتماعيا ً فرعياً مستقلاً، فيظل متداخلاً مع بقية الأنظمة) استيعاب هذا «التفلت» غير المسبوق، عبر توثيق آلاف الفتاوى الصادرة حول القضايا الجنسية، التي حاولت من خلالها المؤسسة الدينية، وحركات الإسلام السياسي، الالتفاف على التحرر الشبابي، عبر الخضوع له مرحلياً، وإجازة بعض أشكال العلاقات غير المألوفة اجتماعياً، تمهيداً لما يراه غيدار إجهاضاً للثورة الجنسية، واختطافاً لها من قبل الإسلاميين.
توجد ظاهرة أخرى لاحظها غيدار وآخرون، وهي الانتقام من النساء، بوصفه وسيلة أساسية لاستعادة الانضباط الاجتماعي، لا يقتصر الأمر على عمليات الاغتصاب الجماعي التي قامت بها السلطات في عدد من الدول العربية، وآخرها ما شهدناه في السودان، مع فضّ اعتصام القيادة العامة، ولا ممارسات مهينة مثل كشوف العذرية في مصر، بل أيضاً في تصاعد التحرش والاعتداء على النساء، حتى في ميادين الثورات نفسها، لإجبارهن على الانسحاب من الحيز العام، وهي ممارسات لم تقتصر على السلطة الحاكمة، بل ارتكبها أيضاً عدد من «الثائرين» الذكور، لم يستطع الحراك العربي في كثير من الأحيان تحقيق تضامن فعّال بين فئاته العديدة، ورفع مطالبها بشكل متوازن، وأنتج أحياناً صيغه الخاصة لاستعادة الضبط الاجتماعي.
لغة مدنّسة
ارتبطت فعالية الأنظمة الاجتماعية العربية، باستخدام معين للغة الرسمية، يعطيها سمتين متلازمتين: انفصال عن لغة الحياة اليومية، ونوع من التعالي والقداسة، الناتج عن هذا الانفصال، يتجسد في الأنماط الوعظية والأخلاقوية والعاطفية من الخطاب، ما يضع استخدام اللغة العادية في منزلة أدنى. ويعيق كثيراً من إمكاناتها التواصلية على المستوى الاجتماعي والسياسي، من الصعب استعادة الحيز العام بلغة يعتبرها مستخدموها ذات منزلة وضيعة. إلا أنه حدث قبيل وأثناء الثورات، تغيّرٌ مهم في التعامل مع اللغة، ولا نعني بذلك زيادة حضور العامية على حساب الفصحى، بل الميل المتزايد لتفكيك الرطانة السائدة، والسخرية من مدلولاتها الثقافية والأخلاقية. ظهر العديد من الأعمال الفنية والأدبية، التي تهدم المعاني المستقرة، أو تقدم محاكاة ساخرة عنها. فضلاً عن أشكال غير مسبوقة من البذاءة والحسيّة والتمرد. لم تكن هذه الصيغ اللغوية ثورية دوماً، بل استُخدمت بشكل قمعي في أحيان كثيرة.
كما أن الخطاب المعلن للحراك الثوري كان خطوة للوراء، لاستعادته كثيراً من الخطابة الوطنية والعاطفية والدينية. رغم هذا فإن جانباً كبيراً من قداسة اللغة انهار. ما يجعل من الصعب على الأطر السلطوية استعادة عافيتها.
هنالك جانب آخر للتغيّر الثقافي، تجسّد أساساً بنقل أساليب عمل ولغة المنظمات غير الحكومية إلى السياق العربي، وعلى الرغم من النواحي السلبية لهذه الظاهرة، وأهمها نشوء مستوى لغوي منفصل جديد، يحاول فرض نفسه بشكل فوقي على عبارت البشر وخيالهم، والميل لإثارة القضايا بشكل استعراضي، واستيراد سلبيات سياسات الهوية والصواب السياسي، إلا أن بعض الأفراد والفئات الأكثر تضرراً استطاعت الاستفادة جزئياً من هذا العامل المستجد، لطرح قضاياها والتعبير عن نفسها بشكل أجرأ. لا تفتقر الحروب الثقافية في العالم العربي للأهمية والضرورة في كثير من الأحيان.
ثورات فاشلة
على الرغم من كل هذه التطورات الثورية حقاً، لا يبدو أن عالم الحياة في بلاد العرب قادرٌ على التعافي، أو أن البشر قادرون على إطلاق رغباتهم وقدراتهم بشكل يخلق فضاءات جديدة للتضامن والمحبة. ذكرنا رأي ماتيو غيدار عن «سرقة» الإسلاميين للثورة الجنسية. كما يمكننا بسهولة أن نلحظ مآلات تجارب من المفترض أنها تمت خارج نطاق السلطة وبالضد منها، مثل المجالس المحلية في سوريا، التي تحولت من نطاقٍ للتسيير الذاتي لشؤون الحياة، إلى إمارات حرب ومحاكم شرعية، ربما تكون أكثر قسوة وتسلطاً من النظام نفسه. سبق لعمر عزيز أن كتب في جريدة «السفير» اللبنانية عام 2007 أن «الفضاءات المستقلة لن تكون حاملة لمشروع إنساني إلا إذا كانت فضاءات مُحبّة ومختلفة وفرحة ومنفتحة. وما نراه في بلادنا من تكوينات بشرية تنتظم بترتيب عائلي أو ديني، لا يمكن أن تكون تكوينات مُحبّة لأنها ترتيبات تعتمد أساليب تسلطية من أنواع مختلفة». يمكننا إعادة قراءة هذا النص بعين جديدة اليوم. انهيار النظام الاجتماعي المرتبط بالدولة، لن يعني انفتاح آفاق جديدة للحرية، بل إعادة الاعتبار لبنى أهلية متهالكة، لا هي بقادرة على ملء الفراغ الذي يخلّفه تراجع الدولة، ولا على إعادة فرض القيم التقليدية، التي انقرضت فعلياً. ما يجعل الفوضى الاجتماعية هي السائدة، ويمكّن السلطة من إعادة ضبط الذوات، من خلال الحرب الأهلية الدائمة، أو التهديد بها. تبقى هنالك فرصة لاستغلال رثاثة سلطة الدولة والبنى الأهلية، ولكن ذلك يتطلب عملاً طويل النَفَس على المستويات المختلفة، وإدراك تعقيدها وتراكبها.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي