تابعية المثقف العربي: بين أوهام السلطة ومراثي الحرية/ علي حسن الفواز
قد يبدو السؤال عن صورة المثقف في مرحلة ما بعد (الربيع العربي) مثيرة للجدل، وللشفقة في أن معا، فالخلاص من الديكتاتوريات الكبرى لا يعني الخلاص من العصبيات الصغرى، التي تملك الكثير من عدوى الديكتاتورية، إذ أسهمت، وخلال زمن وجيز في فرض شعاراتها وخطاباتها، فانتهى الربيع العربي إلى كابوس، وإلى شتات وهجرات، وإلى تابعيات وأقنعة لا حدود لها.
الصورة الآن تبدو غائمة، والثوار لا ملامح لهم، والطغاة الصغار أعادوا ترتيب أدواتهم ليمارسوا صناعتهم القديمة في إنتاج الرعب، وعبر أقنعة أصولية أو ليبرالية متطرفة، أو عبر عنف سلفي، أو ربما عبر تابعية تجعل من المثقف بوقا، أو (قردا) أو جهازا في صناعة الفضائح والترويج لها، حتى أن كانت هذه الفضائح لا علاقة لها بالثقافة ولا بالعلم ولا بالكتابة، لأنها ستجد (روبوتا) جاهزا لصياغة قواعد اللعبة والذهاب بها إلى أقصى الاستعارات، والهدف منها هو تبرئة السياسي والطاغية ورجل الأمن من أي تُهمة حقوقية أو أخلاقية..
المتوالية الثورية كما يسميها الأكاديمـــي المغربي يحيى بن الولـــيد منذ 2011 فقدت إيقــــاعها، وعدنا معا إلى التوصيف الأدونيسي بأننا عاجـــزون وعاطلون عن الثورة، مقابــــل ما نعيشـــه من هاجس أنثروبولوجي للانقراض، وهـــي فكرة رددها أدونيس ليبقى معها- متوهما- بوصفه المواطن الأخير الذي يتبــنى فكرة التحوّل الدائم، على افتراض أن الآخرين مسكونون بالثابت الذي يجعلهم نياما وعالقين بالتاريخ والسيرة والفرقة الناجية.
الحرية والدولة والعقل
هذا الثلاثي لا علاقة واضحة بينها، لكنها مترابطة بالضرورة، وأن جمعها يعني صناعة الاكتفاء والرفاه، فالحرية هي القيمة العليا الغائبة، والدولة هي المؤسسة الصيانية، والعقل هو القوة العميقة التي تمنح الإنسان إحساسه بطعم الحرية، وبأهمية الدولة كإطار دستوري وقانوني لحماية التنوع والمختلف. مثقف (الربيع) إذا جازت التسمية لم يعد يساريا ولا ماركسيا بالكامل، ولا حتى قوميا أو بعثيا بالمعني الإيقاظي لمفهوم الأمة، إنه مثقف القلق والخوف والهروب إلى كلّ الجهات بحثا عن (مستعمرات آمنة) وعن زوايا لا يبحث فيها أصحابها عن المرجعيات والملفات القديمة. هذا الهروب هو المجال العمومي على حدِّ وصف هابرماز لتشكيل (الذات) المُعرّاة وللإبانة عن طبيعة الرأي الثقافي الذي يستحق الإفصاح، والتقويل والانحياز، فلا مجال الآن لوضع تلك الذات في غابة الأسلحة، ولا في حقل الألغام الأيديولوجية، ولا حتى في سياق التموضعات الأصولية من أي جهة كانت، المهم في الأمر هو إعادة توصيف الأشياء بنوع من الواقعية الحادة، حيث لا سحر فيها، ولا تصوف، لأن السحر والتصوف سيكونان باعثين على التأويل، والتأويل نوع من الكفر والزندقة.
مشكلة ثقافتنا الآن أنها محاصرة بنوع من القهر المفاهيمي، وطبعا المفاهيم المترجمة والمؤولة، خالية من طعم الحرية والاختيار، والمثقف يعيش معها هوس الاصطفاف، والتوصيف والتأطير والحاجة. ولأن بعض جماعات الدولة العميقة – في الجامعات والجوامع والمراكز الدولتية، لم يعد لديها صبر، ولا رغبة للقبول بهذه الثقافة الضاجة، ولا لاحتضان هذا المثقف الصبور و(المتفلسف) والكسول، إنها تريد ثقافات حارة، لا تُسبب لها عسرا في الهضم، مثلما تريد مثقفا عجولا وسريعا، يؤمن بنظرية الأكلات السريعة، وبطاقة التحوّل والقفز في المعرفة والسياسة والأدلجة، وحتى في تحويل الهوية والوجه والوجهة.
القطيعة بين الدولة والحرية والعقل ليست قطيعة أبستمولوجية، إنها قطيعة إجرائية، تقررها جهات غامضة، لا شأن للمؤسسات الثقافية فيها، ولا شأن للمثقف فيها أيضا، فالجميع يعيش لعبة الخوف، والبحث عن حماية من (زوار الفجر) ومن أصحاب الفقهيات المباركة، التي تحارب المثقف بوصفه زنديقا استثنائيا، وخارجا عن نسق المقدس، ولأنّ ثقافته (وضعانية) و(تجريبية) وعلى الدولة العميقة أن تؤدبه، أو تُعلمه أصول الطاعة، أو أن تميّعه في ضجيج الإعلام العربي/ الثقافوي الذي لم يعد يؤمن بالأمة الواحدة، ولا باليسار الطبقي، ولا بالثورة على الإمبريالية، وهو ما جرى ويجري في عديد الجبهات الثقافية، التي اصطنعت لها أبواقا ومريدين، وحتى محللين سياسيين ومستشارين ثقافويين، مهمتهم الكبرى هي التطهير، والبحث عن ضحايا بين أصحاب النسق المضمر كما يقول النقاد الثقافيون.
توطين الثقافات المضادة
من شروط المثقف حيازة أسئلة النقد، وأحسب أن هناك تعريفا للمثقف يربط وجوده بفاعلية هذا النقد، لكن النقد لم يعد بريئا، ولا معرفيا، بل صار تورية، واختباء، وهروبا من ممارسة المعرفة داخل السياق وليس خارجه، لأن هذا الداخل سيظل مجالا للرعب، والعنف بكل تجلياته الطائفية والعلمانية واليسارية واليمنية. فمنذ أن كتب ديبيش شاكرابرتي مقالاته عن (صحوة التابع) ونحن نفترض أن العالم الثالث، بما فيه عالمنا العربي سيتخلص من عقدة التابعية، وستتحول أطروحات (مابعد الكولونيالية) إلى مجال رحب لتصفية الحساب مع الكولونيالية ذاتها، ومع كل قوى الشر التي نهبت وسرقت واستعبدت، وجعلتنا نتوق للحرية المثالية، الحرية التي جاءت بحركات التحرر، والتي تحولت في ما بعد إلى ديكتاتوريات بغيضة، استوجبت الثورة، والعودة الاضطرارية إلى اليسار لممارسة الحق الغائب في وعي الحرية، وفي عقلنة المعرفة والحاجة إلى التغيير.
دولة الديكتاتورية هي دولة العسكرة القديمة، ودولة توطين الشعارات الكبرى، مثلما هي دولة التصفيات السرية والغامضة للمثقفين، حتى أضحى الديكتاتور يقـــترح أنموذجا بديلا للمثقف النمطي، وللمثقف العضـــوي الذي يٌقلقه، وفي لحظات فنطازية – حضرها حشد من المثقفــــين نقادا وروائيين عربا- وضع الديكتاتور نفسه بوصفه المثقف الكبير، والروائي والشاعر والمُنظّر في الفلسفة والعلم السياسي، وطالب العديد من النقاد والاكاديمين والمستشارين بضرورة توطين ثقافته الصافية بوصفها تملك القوة الصيانية الكبرى لمواجهة الكولونيالية، والأعداء الصغار من اليسار واليمين، الموزعين على سطوح أنثروبولوجية شوهاء.
لا أحسب أن مشكلات مثقفي العالم الثالث لا علاقة لها بالأنثروبولوجيا، ولا بأوهام أفكار بن خلدون القارّة عن الحكم، و(الرياسة في العصابة) بل إنها محنة ترتبط بمركزيات السلطة والفقر، وعطب الحرية، وموت الدولة العاقلة، وهذا ما يجعل صناعة الرعب هي الصناعة البديلة لتكريس ما هو مُقدّس في حاكمية الجماعة والفرقة وحتى الأمة، وعبر أدوات العسكرتاريا والأدلجتاريا، والطائفية، حتى بات أي حاكم عربي له علاقة بالمعسكرات القديمة يلبس رتبة الجنرال، أو يحرق المراحل العسكرية ليحظى بنجومها وبعلاماتها الكثيرة.
هذا التوطين القهري هو الضد النوعي لـ(توطين الحداثة) التي تحدث عنها شاكراباتي، كنوعٍ من حداثة ما بعد الكولونيالية، التي ظلت تائهة وسط صراعات فادحة للرعب الطائفي، الجماعاتي، وللحروب الإثنية، ولتشظي مركزيات الدولة العربية القديمة، التي تاه معها المثقفون العرب، فلم نعد نسمع صوتا ثقافيا نقديا، ولا حتى بيانات ثقافية ساخطة، فما يحدث هو تمثيل آخر لحروب ثقافية لها أمزجة الحروب الأهلية، ولجماعات تلبس أقنعة الثقافة وتمارس وظائف الدعاة والفقهاء والثوار الذين عفا عليهم الزمن.
٭ كاتب عراقي
القدس العربي