جوزيف ضاهر : الظُلم كسياسة
مايكل يونغ
يعتبر جوزيف ضاهر، في مقابلة معه، أن مقاربة إعادة إعمار سورية تؤدي إلى إفقار شعب منهك أصلاً.
جوزيف ضاهر أستاذ في جامعة لوزان في سويسرا، وأيضاً أستاذ مشارك بدوام جزئي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورانس، إيطاليا، حيث يعمل على مشروع زمن الحرب وزمن ما بعد النزاع في سورية. حصل ضاهر على دكتوراه في الدراسات الإنمائية من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن في العام 2015، ودكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لوزان العام 2018. هو مؤلّف كتاب “Syria After the Uprisings: The Political Economy of State Resilience” (سورية بعد الانتفاضات: الاقتصاد السياسي لقدرة الدولة على الصمود) (منشورات بلوتو وهاي ماركت، 2019)، وكتاب “Hezbollah: The Political Economy of Lebanon’s Party of God” (حزب الله: الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني) (منشورات بلوتو، 2016). كما أنه مؤسس مدوّنة سوريا الحرية للأبد.
أجرت “ديوان” مقابلة مع جوزيف ضاهر مطلع أيلول/سبتمبر لمناقشة مقاله الأخير الذي نشره مركز كارنيغي بعنوان “مفارقة إعادة إعمار سورية“، حول مقاربة النظام السوري بشأن إعادة إعمار سورية والمشاكل التي تولدها.
مايكل يونغ: ما النقطة الرئيسة التي تطرحها في مقالك الأخير الذي نشره مركز كارنيغي؟
جوزيف ضاهر: أطرح بشكل رئيس واقع أن أطر عمل وسياسات إعادة الإعمار التي ينتهجها نظام الأسد، مُصمّمة لتعزيز سلطته من خلال تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية للنظام. فاستراتيجية إعادة الإعمار والاقتصاد تسعى إلى ضمان أن تصبّ السلطة بكاملها في يد النظام وشبكاته من العملاء، ولاسيما من خلال تعزيز سيطرة المحاسيب الرأسماليين على الاقتصاد والأصول العامة على حساب مصلحة الأغلبية الساحقة للسوريين. وينطبق ذلك بشكل خاص على الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية الأفقر، التي نجد في صفوفها لاجئين ونازحين داخلياً.
ويتوقّع الآن أن تتواصل خصخصة وتحرير مشاريع إعادة الإعمار هذه، ما سيرسّخ أنشطة النظام الافتراسية أكثر فأكثر. وفي الوقت نفسه، سيواصل النظام السياسات الاقتصادية والتقشفية التي تعمّق الفقر في سورية وكذلك عدم المساواة والظلم في المجتمع.
يونع: لم عزّزت سياسات إعادة الإعمار التي ينتهجها النظام عدم المساواة الاجتماعية وما هي التداعيات المحتملة؟
ضاهر: تركّز خطط إعادة الإعمار التي صاغتها الحكومة والقطاع الخاص على توفير المساكن للأغنياء في المجتمع السوري. ولا يسهّل ذلك أو يشجّع حتى عودة النازحين داخلياً واللاجئين إلى مناطق شهدت دماراً، أقلّه ليس في ظروف عيش لائقة وكريمة. ويُعتبر ذلك خطيراً بشكل خاص ولاسيما أن اللاجئين في دول مجاورة، على غرار لبنان وتركيا، يواجهون ضغوطاً سياسية وخطوات قمعية متنامية لدفعهم إلى العودة إلى سورية، من دون ضمانات أمنية. ولا تعترف هذه الدول بمعظم السوريين الذين يعيشون على أراضيها باعتبارهم لاجئين، وحتى الآن، لا تستقبل السلطات السورية سوى أعداد ضئيلة من العائدين. بالنسبة إليهم، لاتزال الدولة السورية تطرح تهديداً لسلامتهم، حتى وهي تقيم عوائق إدارية أمام عودتهم.
كما أن عودة المدنيين إلى بعض المناطق قوّضتها تدابير عدة اتخذتها المؤسسات الأمنية التابعة للنظام. وما أعاق العودة أيضاً واقع أن معظم المناطق التي تشردوا منها مدمّرة ولم تشهد أي عمليات إعادة إعمار أو إعادة تأهيل، ولو من حيث إعادة الخدمات الأساسية. أما التداعيات المحتملة لذلك، فهي المزيد من الفقر وعدم المساواة والظلم، ما قد يؤدي إلى اندلاع احتجاجات. وقد برزت أمثلة عن حركات تمرّد قد حصلت بسبب خطوات النظام القمعية وانتهاكات ما يسمى “الاتفاقات المحلية” مع فصائل المتمردين المسلحة. كما احتجّ الشعب على غياب أي تعافٍ اقتصادي وأي توفير للخدمات. وهذا كان جلياً في درعا على سبيل المثال.
يونغ: كتبت في مقالك أنه حتى في الدوائر الموالية للنظام، ينتشر السخط من الوضع الاقتصادي في سورية. إلى أين سيؤدي ذلك برأيك؟
ضاهر: سيحاول النظام على الأرجح أولاً كمّ هذه الأفواه من خلال محاولة تهدئة التوترات عبر تدابير محدودة أو رمزية ووعود وحملات مزعومة ضد الفساد، كما فعل في السابق، متهماً في الوقت نفسه قوات خارجية وأخرى محلية بإعاقة الإبلاء والتنمية الاقتصادية في البلاد. غير أن الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية العميقة في البلاد، إلى جانب انعدام الأمن المتنامي الذي تسببه عمومًا الميليشيات الموالية للنظام، عاملان سيؤكدان أن مثل هذه التدابير غير كافية. وبالتالي، ستلجأ قوات النظام بشكل متزايد إلى التدابير القمعية وتمنع أنواع الانتقادات كافة، حتى تلك الصادرة عن دوائر تُعتبر “وفيّة”، وسُمح لها خلال السنوات الأخيرة ببعض من حرية التعبير عن إحباطها من بعض سياسات الدولة. وعلى نحو مماثل، أدّى نفوذ روسيا وإيران المتنامي على قطاعات المجتمع كافة إلى تقويض سيادة سورية. وأثار هذا الأمر بدوره انتقاد مؤيدي النظام.
غير أن تبرير قمع قطاعات المجتمع هذه سيكون أصعب بكثير وسيتسبّب للنظام بموجة جديدة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن. ويُظهر هذا الوضع أيضاً أنه لا يجب النظر إلى السكان الذين يُعتبرون موالين للنظام على أنهم كتلة واحدة متجانسة، فثمة فوارق اجتماعية-اقتصادية في ما بينهم كما أن مصالحهم ليست نفسها كمصالح النخب الحاكمة. كذلك، فإن قدرة النظام على الصمود لا تعني وضع حدّ لتناقضاته أو لأشكال الانشقاق. وعلى الرغم من مشاركته في القمع، سيظل النظام يواجه تحديات، إذ إن الأسباب التي أدّت إلى الانتفاضة حاضرة أكثر من أي وقت مضى. وتشمل غياب الديمقراطية واللاعدالة واللامساواة الاجتماعية-الاقتصادية العميقة.
يونغ: هل يمكن أن يُترجم ذلك نفسه فرصاً لخصوم النظام؟
ضاهر: لا تُترجم هذه الظروف بالضرورة وبشكل مباشر فرصاً سياسية، ولاسيما بعد حرب مدمّرة وقاتلة دامت أكثر من ثماني سنوات وشعب أثقله التعب. فمعظم السوريين يرغبون ببساطة في عودة الاستقرار، حتى في ظل حكم الأسد الاستبدادي. هذا ولم تبرز أي معارضة منظّمة فعّالة، بعدما جعلت إخفاقات المعارضة في المنفى وجماعات المعارضة المسلحة الكثيرين ممن تعاطفوا مع الانتفاضة يشعرون بالإحباط والمرارة. فغياب معارضة سياسية سورية منظّمة ومستقلة وديمقراطية وشاملة، كانت لتستعطف الطبقات الأفقر والجهات الفاعلة الاجتماعية، صعّب وحدة مختلف الفئات الاجتماعية وأضعف قدرتها على مواجهة النظام على المستوى الوطني.
يونغ: في ظل تكاليف إعادة الإعمار الباهظة للغاية في سورية، كيف تتوقّع أن يتمكّن النظام من إعادة بناء البلاد؟
ضاهر: لا أرى في الوقت الراهن ولا حتى على المدى القصير أي إعادة إعمار أو تنمية اقتصادية على نطاق واسع. ويصحّ ذلك على نحو خاص بالنسبة إلى المناطق التي هي أكثر حاجة إلى إعادة إعمار وتنمية. وحتى الآن، يتمّ تنفيذ مشروع عقاري كبير واحد فقط – مشروع ماروتا سيتي في مدينة المزة في دمشق، وجاءت الاستثمارات كافة في المشروع من مستثمرين في القطاعيْن العام والخاص يرتبط معظمهم بالنظام. ويؤدي غياب التمويل الوطني، سواء الخاص أو العام، والضبابية التي تكتنف معدل التمويل الأجنبي، إضافةً إلى العقوبات الدولية على سورية، إلى عرقلة مشاركة الجهات الفاعلة الاقتصادية المهمة في إعادة الإعمار، ما يمثّل مشكلة خطيرة بالنسبة إلى البلاد. يُضاف ذلك إلى تداعي الخدمات الصحية والتعليمية والتشرّد الجماعي للسوريين والخسائر الهائلة في رؤوس الأموال البشرية وكذلك الغياب الفعلي للاحتياطي العملات الصعبة.
وهكذا، يتضح أن قدرة النظام على إعادة بناء البلاد مرتبطة بمسائل عدّة. وستعتمد دمشق عموماً على الإمكانات التي قد تتوافر في حال تمّ الاعتراف بشرعية النظام مجدداً على المستويين الإقليمي والدولي، ما سيسمح للجهات الفاعلة الأجنبية والمنظمات الدولية بالمشاركة في عملية إعادة الإعمار. فضلاً عن ذلك، وفي إطار إعادة الإعمار، لا بدّ من توجّه سياسي واقتصادي جديد للسماح بإعادة تطوير المجتمع السوري.
مركز كارنيغي للشرق الأوسط