قصائد مختارة لإيمان مرسال
ليس هذا برتقالاً يا حبيبتي
“طيران”
أجلس أمام المرآة، في تدريبٍ شاقٍ
لإزالة الرائحة التي تركتها شفتان على عنقي
وبرغم أنه لا حاجة لتوثيق الحُزن
لا يفوتُني أن أحسبَ دموعي
بحجم المناديل الورقية
التي أسقطتُها في سلّة المهملات
فأرى عينيّ أجملَ من تصوّراتي عنهما
وأفكِّرُ أن الفهمَ أجملُ من التسامح
وأنني كنتُ معك
في رحلةٍ إلى مكانٍ مقدّس
كنتُ في زيّ أميرةٍ فرنسيةٍ من القرن السادس عَشَر
عندما أخذتَني بعيداً عن الدير
كنتَ تدفعني لصعود سُلَّمٍ رأسيٍّ معلّقٍ على الهواء
ولمّا كان هذا مستحيلاً مع كل هذه الكرانيش
كنتُ أخلع جيبوناتٍ دائريةٍ
وأصْعَدُ
شدّادات للصدر
أحزمةً على شكل فُيونكات
تتحوّل إلى فراشاتٍ ميّتةٍ عندما أفكّها
وأصْعَدُ
في أعلى سُلّمةٍ
كنتُ عاريةً تحت رذاذٍ خفيفٍ
لم أجدْكَ
واستيقظتُ في سريرٍ آخر.
لأصدّق أن هناك دائماً
ما هو أكثرَ من الصواب
وأتأمل جِلدي
حيث لا شيءَ يلتصق به
فقط أزداد نحولاً
كأنني أُجهّز نفسي لطيرانٍ ذاتي.
“بلياردو”
لا أظنَّه الطريقَ الزراعيّ الذي يمرُّ ببيت أهلي
ولا الشارع الممتلئ بمقاهي النخبةِ
في وَسْط العاصمة.
الحرائقُ انتهت قبل أن أستيقظ.
ليس هناك جثثٌ
أظنها ساحت مع الأكواب والصور التذكارية
والنوافذِ المغلقةِ والمواربةِ والمفتوحة.
أنت أمامي بملابسك النظيفة إلى درجة القسوة
أشمّكَ
وأعرف أن الأقدام التي داست على الدنيا
لم تمنعك من الاحتفاظ برائحتك.
تُقدم لي سلّة برتقالٍ
بابتسامة بحارٍ وصل إلى الميناء لتوّه
فأُذكّركَ بكراهيتي له
-” ليس هذا برتقالاً يا حبيبتي”
أفكّر أن العالم انتهى
أن أسناننا لا تَقْوى على مضْغ هذه المواد الصلبة
فنبدأ باستعمالها كبديلٍ لكُريَّات البلياردو
حيث الأنقاض الكونيةُ
تصلُح لصُنع ترابيزة ملساء
وعصا،
وستُّ حُفرٍ عميقةٍ
بينها مسافاتٌ متساوية.
“الرغبة”
ممددةٌ في تابوتٍ أوسعَ منّي
والورود التي يُلقونها فوقي
لا تدفعني لحكّ جسدي بالأظافر.
مسامُّ أصدقائي مفتوحةٌ لكتابة قصائد جديدة
عن حُرية الموت بلا مُقدّمات مفهومة
عن الراحة التي تشملنا عندما يموتُ شخصٌ
لم يكن لدينا الوقت لنحبَّه.
أنت واقف عند قدميّ
لا أتذكّر علاقةً ما بينكما،
لم تزل أطول مني
ولم يزل ذلك قادراً على تجديد أحقادي.
يبدو أنهم أغلقوا ما بين فخذيّ بقُطنةٍ بيضاءََ
وهذا يكشفُ الخطأَ الكلاسيكيّ
الذي قَصَرَ مخاوفنا على البَتْر.
مرّةً انتبهتُ لحظةَ اكتمالِ بهجتكَ
بينما أتابعُ سُرعة نبضي
وأنا أجري إلى رصيفٍ مُقابل.
الرغبةُ التي فشلتُ في استحضارِها
تنفجرُ الآن في نقطةٍ عمياءَ
ولأجلِكَ،
أكنسُ حيَادَ وجهي
وأضعُ الشَّبَقَ بلمساتٍ محسوبة.
التابوت يسعنا معاً
أشكُّ في حُزنكَ
أنت واقفٌ ما زلتَ على قدميكَ
أنيقٌ
وأنا لم أُفكّر- للأسف-
أن أموت قبلك.
ذكري نوم
الجدة شبه النائمة تغني في الغرفة العمياء
يصطدم خفاشٌ بالشباك ولا يتلوث أحدٌ بدماء الواقع
ربما لأن الشبابيك مجرد فكرة
تغني الجدة،
فيخرج سندباد من مدينة أخري
وتعود سندريلا علي أطراف أصابعها إلي البيت
وينادي ديك كسول علي قوس قزح
أشباحٌ تتكوم في الركن
فتتنزل أجنحة النوم علي مراتب القطن
وننام.
سلم إلي القمر
أفهم أن تبتلع الخلفية الخضراء الأرض والجدران
أن يُثبت السلم علي فراغٍ أخضر
حيث تبدو أي شجاعة في الصعود
قبول بأن لا شيء يحمي من التهشم
لكن ماذا يعمل قمر جورجيا أوكييف في لوحتها؟
قمرٌ بلا معني
إنه حتى لا يصلح نافذة علي حديقة المصحة.
أشباح
صديقتي التي تركتني آخذ ترام مصر الجديدة القديم، بقميص مبقع بالدم، لم تكن قاسية.
لقد أرادت أن تجعلني قوية، فحاولت ألا أخيب ظنها، وواجهت عيون الذاهبين إلي وظائفهم
بالجلوس علي كتف السائق، أغني، بقميصِ مبقع بالدم، ولا حرج؛
حيث لا يجرؤ علي الغناء في القاهرة إلا المجانين. نزلت في محطة لا أعرفها
واشتريت فستاناً مكشوف الظهر، وكتبت في بار سبعة رسائل غرامية
لشخص أكرهه ثم خلعت حذائي مقلدة بطلات أفلام الأبيض والأسود الهاربات من الماضي
وأتذكرني الآن بكارت للتليفون الدولي بين أسناني؛ أطلب الرقم الخطأ بآخر قروش معي وأبكي
ولكني لا أذكر من هو الآخر الذي لم أطلب رقمه صحيحاً
وهذا هو ما يحزنني بعد كل هذه السنوات.
قطة
لابد أن العينين اللتين تحدقان بي في العتمة هما لقطة ، قرينتي وتوأمي في العالم الآخر.
تنشق الأرض وتلفظها لتتنفس قربي كلما جاء موعد تغيير أحد ملائكة الرحمة بأحد ملائكة الرحمة.
لأكثر من مرة اخترعت قطة أدبية؛ مرة كانت “قطة في المطار تخربش رائحة الراحلين،
لينفصلوا عن خطاهم ويتصلوا بالحقائب والأحزمة”، ومرة كانت ” قطة لها أصابع امرأة محبطة، تحاول بهستيريا قلب سلة المهملات المليئة ببقايا نهارنا معاً، سلة المهملات التي أتركها في أعلي السلم؛ لأثبت للجيران أن لدي عائلة آمنة”. قطة هذه المصحة حقيقة لأنها لا تعرف بالضبط ما الذي يحدث؛ لا تفهم لماذا تحاول دولة حديثة أن تنقذ كائناً كان في الأصل قد فشل في أن يكون مواطناً في دولة غير حديثة من المنايا التي تمشي خلفه ، قطة هي توأمي الباطن، تتفرج.
د. ليفي
يقول لي إنه لا ينسي المرضي الذين يتعذبون بلغات مختلفة.
أقول له إن علاجه لا يحترم وجوداً منشطراً في اثنين،
وأنه لم يجرب جحيم أن يتفرج علي نفسه من كوة في جدار ذاته.
لو كان د. ليفي مصرياً لأصبح نجماً في السينما
لو كنت ما زلت مصرية لوقعت في غرامه.
لكنه هاجر من روسيا لأسبابٍ اقتصادية ومن اسرائيل
لأسبابٍ أخلاقيةٍ ومن جنوب أفريقيا لأسبابٍ عاطفيةٍ
ويبدو أنه يتعذب بلغاتٍ مختلفة.
جغرافيا بديلة
لماذا جاءت إلي البلادُ الجديدة؟ هذه المومياء: موضوع الفرجة
ترقد بزينتها في كتٌاني رماديٌ: حياة متخيلة في فترينة متحف.
أظن أن التحنيط مسألة ضد الخلود
لأن الجسد لن يكون أبدأ جزءا من وردة
المومياء لم تختر هجرتها بينما هؤلاء الذين انتظروا طويلا في طوابير السفارات
وبنوا بيوتا في بلادي أخري يحلمون بالعودة عندما يصبحون جثثا
يجب أن تحملونا إلي هناك هكذا يتركون الوصايا في أعناق أولادهم
كأن الموت هوية ناقصة
لا تكتمل إلا في مقبرة الأسرة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هنا أيضا أشجار خضراء تقف تحت ضغط الثلج وأنهار لا يتعانق بجانبها عشاق خلسة،
بل يجري بموازاتها رياضيون مع كلابهم في صباح الأحد، دون أن ينتبهوا للمياه التي
تجمدت من الوحدة. ومهاجرون لم يتدربوا علي محبة الطبيعة ولكنهم يصدقون أن نسبة
التلوث أقل وأن بإمكانهم إطالة أعمارهم بمضغ الأوكسجين قبل النوم عبر كبسولاتي هوائية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لماذا لم ينسوا أنهم من هناك؟
الغرباء الفشلة
يدربون عضلات أفواههم علي التخلص من اللكنة، اللكنة هي المرض الوراثي الشفاف
الذي يفضحهم، يقفز عندما يغضبون فينسون كيف يضعون أحزانهم في لغة أجنبية
اللكنة لا تموت ولكن الغرباء حفارو قبور بجدارة
يعلقون علي باب الثلاجة أسماء من ماتوا من الأهل حتى لا يخطئوا ويطلبونهم في التليفون
ويدفعون ربع أجورهم لشركات الاتصال
ليتأكدوا أنهم موجودون في مكان يمكن تحديده ببعده عن الطفولة
لماذا لم ينسوا؟.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يجب شراء organic food ولكني منذ ساعة أتأمل صورة أمي جالسة علي
عتبة دار أبيها التي لم تعد هناك: أقصد العتبة رغم أن أمي نفسها لم تعد هناك.
لا أحد يمر في الشارع لأن العربات تدخل وتخرج بالريموت كنترول، كنت قد اشتريت
هذا البيت الذي لا يمكنني الجلوس علي عتبته من أرملة نحات أسباني كان قد بناه علي
أرضِي تؤول إلي مهاجري أوكرانيٌ أعطتها له الحكومة الكندية بعد نزعها من الهنود الحمر
لكي تقيم مدينة فيها عدة جامعات وعشرات من الشوبنج مول وآلاف مثلي يعرفون الفوائد
الصحية للأورجانيك فوود ويمتلكون عربات تدخل وتخرج بالريموت كنترول.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما تعلمته هنا لا يختلف عن ما تعلمته هناك:
– القراءة كتذكرة مرور إلي تغييب الواقع.
– تخبئة الخجل تحت ألفاظ بذيئة.
– إخفاء الضعف عبر إطالة الأظافر.
– تسريب الأرق في التدخين دائما وفي ترتيب الأدراج أحيانا.
– توفير ثلاثة أنواع من قطرة العيون من أجل توضيح الرؤية ثم الاستمتاع بالعمى والأهم، تلك اللحظة الرائعة من إغماض الجفون علي حريق.
هنا وهناك
تبدو الحياة وكأنها موجودة فقط لتجراقب من بعيد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
دقائق وتدخلك السكينة التي لا يبحث عنها أحد
فقط اترك رأسك تحت الماء
كيف؟ الفكرة التي تبرق مثل لؤلؤة في سلة مهملات؟ كيف تهدرها هكذا؟
انها فكرتك أنت: مختلفة عنك وأصيلة
هذه الثواني ليست معدودات: إنها النصل الفاصل بين زمنين
تذكٌر الأطباق القذرة في المطبخ… البريد الذي يحمل إعلانات، المصابيح التي تسلط
نفسها في حدقتيك، البروزاك… الرحمة التي لم تعرف أنك تبحث عنها، معك، ستدخل إلي
رئتيك إذا تركت جسدك يهبط، يهبط للقاع… تحت الماء ثواني أخري، لا حاجة للخوف
الزمن لن يفعل شيئا علي الإطلاق
لن يجعل لشجاعتك ثقل يأخذك لأسفل
الزمن ليس مهما، انه مجرد زمن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في قارة أخري، تركت أعداء مساكين، يجب أن تخجل من نفسك عندما تتذكرهم
لا شيء يغضبك الآن، من الصعب أن تقابل شيوعيا كلاسيكيا هنا،
انهم حتى يضعون ساعة في المكاتب العمومية بدلا من صورة الرئيس،
ربما يكون كابوسأ أن تقضي يوما كهذا تحت تأثير المهدئات،
لا شيء جدير بأن تتمرد عليه. أنت مرضيٌ وميت
والحياة من حولك تبدو مثل يدي رحيمة
أضاءت الغرفة لعجوزي أعمي
ليتمكن من قراءة الماضي.