هل انقلب السيسي على مرسي حقاً؟/ عمر قدور
تنص الرواية الإسلامية المقتضبة على أن السيسي، وزير الدفاع آنذاك، قام بالانقلاب على الشرعية ممثلة بالرئيس المنتخب محمد مرسي. الرواية المختصرة التي يعتمدها أنصار الانقلاب تنص على أن الجيش، ممثلاً بقيادة السيسي، تحرك بعد تجاهل الرئيس مرسي مطالب متظاهري ثورة 30 يونيو، وبحسب هذا التأريخ تنقلب رمزية اليوم الذي كان يشير من قبل إلى أول مرة يقترع فيها المصريون ديموقراطياً لانتخاب رئيسهم.
في الروايتين نحن أمام تنازع في الشرعية قد يصعب الحكم فيه إذا عدنا بأنفسنا إلى تلك اللحظة، فلملايين المتظاهرين شرعية مساوية لشرعية الملايين الذين نزلوا إلى الميادين في ثورة 25 يناير. الاعتبار السابق لا يلغيه كون محمد مرسي رئيساً منتخباً ديموقراطياً بخلاف مبارك، إذ يحدث في الأنظمة الديموقراطية العتيدة أن يتراجع الشارع عن تفويضه قبل موعد الانتخابات ويُضطر الحاكم المنتخب إلى الاستقالة. من جهة أخرى، أتى إنذار الجيش حينذاك، بعد يوم واحد فقط من انطلاق المظاهرات، يتوعد باستلام زمام السلطة خلال ثمان وأربعين ساعة كأنه شروع في الانقلاب أكثر مما هو حثّ على تسوية.
تجنباً لحرج الاحتساب على العسكر أو الإخوان، كنا قد رأينا تياراً يؤيد الانقلاب كوصفة للخروج من انقسام أهلي بين معارضي مرسي ومواليه. أصحاب هذا الموقف يستندون إلى المظاهرات المؤيدة وإلى حوادث عنف متبادلة بين مؤيدين وموالين، وكنا قد رأينا في مجريات ثورة يناير ما هو مشابه بخروج مسيرات مؤيدة لمبارك مدعومةً بالبلطجية وبضباط وعناصر من قوات الداخلية قبل تدخل الجيش تحت شعار حماية المتظاهرين، وكانت الترجمة الفعلية للشعار طي صفحة مبارك.
بالتضحية بمبارك اكتسب الجيش شرعية الانقلاب على مرسي، هذا على الصعيد الشكلي، إذ ما دام قد انحاز إلى إرادة ثورة 25 يناير لماذا لا ينحاز إلى شقيقتها في 30 يونيو؟ المشكلة في هذه المقايسة إغفالها الفرق بين مبارك ومرسي، فالأول جاء من صلب المؤسسة العسكرية التي قامت بانقلاب 23 يوليو 1952، وكان الرئيس الرابع ضمن العسكر الذين حكموا البلد قرابة ستة عقود، ولعل الرقمين يحكيان الحكاية مع التنويه بأن عبدالناصر ومبارك حكما ثلاثة أرباع هذه المدة، والأخير حكم بمفرده نصفها. بينما أتى مرسي على قاعدة نظرية هي انتهاء حكم العسكر، وقد يملك التنفيذ مرونة عملية ليكونوا مشاركين في الحكم بدل احتكاره المطلق. واحد من الفوارق بين الحالتين أن العسكر في حالة تنحية مبارك بدوا كأنهم يتنازلون عن سلطتهم أو جزء منها، بينما في حالة مرسي ينقضون وعدهم السابق.
قبل الاستطراد في أحداث الأيام الأخيرة تجدر العودة إلى اتهام مرسي بما سُمي “أخونة الدولة”؛ الحدث الأبرز على هذا الصعيد كان تعيين 8 محافظين إسلاميين من أصل 17 محافظاً جديداً، ونذكر الاحتجاجات التي رافقت تعيينهم، ونذكر أيضاً أن واحداً منهم اضطرته الاحتجاجات إلى مغادرة قصر المحافظة بلا عودة من الباب الخلفي، بينما تسبب تعيين محافظ إسلامي لمحافظة الأقصر باستقالة وزير السياحة وإصراره عليها. ربما يتوجب التذكير بأن العادة قبل مرسي جرت على تعيين عسكريين متقاعدين كمحافظين، لكن ما يهمنا في هذا السياق هو ذاك التصدي الشعبي لمحاولة الأخونة، والذي تنامى خلال أيام ليُتوج في 30 يونيو.
مع تاريخ 30 يونيو والأحداث التي رافقته قدّم العديد من مسؤولي مرسي استقالاتهم، وفي هذا دلالة على عدم انتمائهم إلى التيار الإخواني، وتلك ليست منّة منه في ظروف الانتقال الديموقراطي التي أتت به، والتي يُفترض أن تميزه عن حقبة احتكار العسكر السلطة بما فيها استعداده لتقديم تنازلات. الأهم أن تصاعد الاحتجاجات كان ينذر حقاً بعزل الرئيس مرسي كأمر واقع لا كانقلاب، فالقوى التي تصنع فرقاً في بلد مثل مصر وقفت مع المحتجين وهي تحديداً وزارتا الداخلية والدفاع. كان من المتوقع تصاعد موجة الاستقالات، ولم يكن الحال بعيداً عن الوصول إلى عصيان مدني يجبر الرئيس على تقديم تنازلات كبرى قد تصل إلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة جداً.
التذرع بالانقسام الذي برز في الشارع وأعمال العنف بين الطرفين لا يكفي لتبرير التسرع بالانقلاب العسكري، فالجيش نفسه صبر على مبارك لمدة أسابيع مارس فيها بلطجية الداخلية مختلف أساليب التنكيل بالمتظاهرين، وأوقعوا عدداً كبيراً من القتلى في صفوفهم، ثم رأينا لاحقاً عدم الاكتراث بعدد الضحايا في اقتحام اعتصام رابعة. باختصار، رأينا الجيش يتلكأ قبل أن يحسم أمره إزاء ثورة 25 يناير التي لم تكن مضمونة النتائج قبل موقفه، بينما رأيناه يتسرع في ثورة 30 يونيو وهي مضمونة النتائج أكثر من سابقتها بسبب عدم سيطرة مرسي أو الإخوان على الإمكانيات التي كانت في متناول مبارك.
على من انقلب السيسي؟
خطأ الإجابة على هذا السؤال يستتبع أخطاء، إذا لم نقل أنه يستتبع الكوارث. السيسي انقلب على ثورة بزعم الانتصار لها، والكلام المتأخر عن تنكّره للثورة التي انقلب بزعم الانتصار لها لا معنى له. هو انقلاب على مسار يأخذ فيه المصريون زمام المبادرة بأنفسهم، ولا يُطلب فيه من الجيش أو الداخلية سوى القيام بواجب حفظ الأمن للجميع. للتذكير، كانت الروح المعنوية للمصريين في منتصف عام 2013 في أوجها، فهم قد تخلصوا من حكم مبارك، ثم واصلوا احتجاجاتهم ضد المجلس العسكري الذي استلم السلطة في المرحلة الانتقالية تحت شعار “يسقط حكم العسكر”، وخاضوا عملية انتخابية ديموقراطية لأول مرة في تاريخهم، وشرعوا بالوسائل الديموقراطية بإزاحة رئيس لم يلبِّ تطلعاتهم تحت شعار “يسقط حكم المرشد”.
إهمال ذلك المسار، والتشديد على أن السيسي انقلب على مرسي، يندرجان في عملية تسييس تفتقر إلى النزاهة، فالمعركة تصبح بين شرعيتين، شرعية الرئيس المنتخب شعبياً، وشرعية السيسي المستمدة أيضاً من ثورة 30 يونيو بصرف النظر عن إشاعة تنكّره لها لاحقاً. وإذا تقصينا معيار الشرعية بدقة أفضل، لدينا بالأحرى شرعيتان لا لبس فيهما، هما شرعية انتخاب الرئيس مرسي ثم شرعية الانتفاضة الشعبية ضده. الانقلاب العسكري على مسار الأخيرة هو الذي أعاد التاريخ إلى الوراء، أو إلى ما يفضّله العسكر على الدوام مُختزلاً بـ”إما نحن أو الإخوان”، ولئن كانت هذه اليافطة فزّاعة للغرب فهي تعمل داخلياً بشكل مزدوج إذ تُسلّم للإخوان بشرعية شعبية لا تُمتحن في مواسم انتخابية ديموقراطية وتُشرعِن قمع الجميع بوصفهم إخواناً.
ربما ينبغي أن نضيف أن السيسي هو الابن النجيب لسلطة العسكر، وبالطبع من دون حنين للعهد للملكي فإن مساوئ الملكية لم تبلغ الحد من قمع الحريات الذي سيلي الانقلاب عليها. ما تقوله التجربة المصرية، أسوة بتجربة حكم العسكر في المنطقة، أنهم لا يمكن أن يكونوا عوناً للشعب إلا في حال إجبارهم على فعل ما يكرهون، أي ممارسة دورهم المحدود في حماية البلد.
المدن