عن رئاسيات الجزائر.. وسوريا/ موفق نيربية
في خريف عام 2008، بدا أن هناك توازناً قلقاً يحكم علاقة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة والجيش، الذي استقر في قيادته أحمد قايد صالح، بعد أن مرت فترة اتفقت فيها مصالح الطرفين ضد الشخصية الأمنية القوية محمد مدين (الجنرال توفيق)، ثم جُمّد الصراع بين الجيش وبوتفليقة على ترقب متبادل وهدنة طويلة بانتظار القضاء والقدر. مؤخراً تمّ بعض العمل على تصفية تركة بوتفليقة، مثل محاكمة أخيه سعيد وتوفيق وآخرين. وبقي النظام ممثلاً بالجيش، مطلق السيطرة تقريباً.
في الوضع الراهن، وحفاظاً على الدولة والمؤسسات والدستور، لا يقبل الجيش أي حل بديلٍ لإجراء الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول المقبل، ويرفض مطالب الحراك الشعبي في تأجيل الانتخاب حتى التخلص من تركة النظام ورجاله الذين ما زالوا في موقع المسؤولية والسيطرة. ومع بدء الترشيحات، يقول الصحافي أبو طالب شبوب إن “كلّ المرشحين حالياً هم مرشحو الجيش، فهو غير محتاج للتزوير، لأنهم وافقوا على الخطة، ولن يكون لهم أي اعتراض مستقبلي عليها…. فلا حاجة لدعم أي مرشح أو تزوير كلاسيكي”. والوضع أكثر تعقيداً من ذلك. فقد أصبح هنالك إضافة إلى الأطراف المتعارضة المعروفة على الأرض والمسار، جدليّة مستقلة ما زالت خافتة الصوت مختلفة وجديدة، لكنها تشكل مصدر قلق لمراكز القوى التقليدية بالتأكيد.
تتمسك القوى الضاربة القديمة بالسلطة بقوة، ويبدو أنها لم تيأس بعد أو تتفكك بشكل عضوي، على الرغم من دخول الأمناء العامين للقوى السياسية الأربع المتشاركة في الحكم (حزب جبهة التحرير وحلفائه) إلي السجن بتهم الفساد. والجيش المتحكم الآن هو سيد القوى التقليدية للنظام، الذي كانت تحجبه تلك القوى الأمنية والانتهازية والفاسدة المحيطة ببوتفليقة. يتحكم الجيش، لكنه يقول ويردد دائماً على لسان قايد صالح، ألّا طموح لديه، ولا يرغب بدور سياسي.. المشكلة أن تجارب العالم الثالث وتاريخه لا يصادقان على ذلك.
في الواقع، يتفق الجيش والحراك الشعبي على مسألة مهمة هي رفض التدخل الخارجي، وانعكس ذلك مؤخراً في موقفهما من تصريحات مسؤولين في البرلمان الأوروبي حول الانتخابات الرئاسية. يستفيد الجيش حتماً من هذا التوافق، مع أن الصراع الخفي بينه وبين بوتفليقة كان موجوداً دائماً، وبخاصة في مسألة تطويرالعلاقة مع فرنسا.
تؤكد قيادة الجيش على الدستور وتتمسك بتطبيق حرفي لبنوده من حيث المواقيت، الأمر الذي يتعارض مع إرادة الحراك الشعبي في التأكد من انتهاء نفوذ النظام السابق ورموزه قبل الشروع في الانتخابات التي ستكون لو جرى سلقها، مرتجلة ويمكن أن تساعد على إعادة تأهيل النظام وإمساكه بزمام الأمور من جديد. وقد ظهرت طروحات واقتراحات لحلّ الموضوع لم تتقبلها قيادة الجيش حتى الآن، مثل مشروع الدخول في مرحلة انتقالية يديرها رئيس مؤقت أو هيئة رئاسية لفترة محدودة يتم فيها انتخابات مجلس تأسيسي وإعادة صياغة للدستور ثم تُجرى بعد ذلك انتخابات رئاسية وتُستكمل الإجراءات اللازمة، في حين يستمرّ الجيش على عناده بذريعة الخوف من الفراغ الدستوري، المترافق مع “توفر معلومات لدى أجهزة الأمن والاستخبارات بوجود خطة لزعزعة استقرار البلاد”.
نعم، مؤامرة، خارجية- داخلية لزعزعة استقرار البلاد والنيل من الاستقلال الوطني وضرب صمود النظام وخدمة الإمبريالية. هذا ما كان السوريون يسمعونه من نظامهم من مفردات طوال حياتهم، تشاركهم بالطبع في ذلك أنظمة عربية شتى. أقول هذا متردداً، لأنني أتفهّم تطيّر الجزائريين وتشاؤمهم من تجربتَي ليبيا وسوريا، بما ابتدأتا به مع التدخلات الإقليمية والدولية، وانتهتا إلى حيث هما حالياً. ولكنّ هذا التطيّر- المشروع- سوف يكون عقدة إن وصل إلى حدود العقدة.
آخر انتخابات رئاسية في سوريا كانت تعددية للمرة الأولى في تاريخ البلاد الأسدي، بعد تعديل للدستور في عام 2012 احتفظ للرئيس بسلطات خارقة، وأبطل المادة الثامنة التي تمنح الحزب الحاكم صفة القيادة في “الدولة والمجتمع”، بعد أن أنهى حالة الطوارئ التي استمرت لأكثر من أربعة عقود ليستبدلها بقوانين ومحاكم ضد الإرهاب، بتوسيع هذا المفهوم حتى يستطيع استيعاب غالبية الشعب بشكلٍ واقعي. فكانت تلك الانتخابات مهزلة حقيقية، حصل فيها الأسد على 88.7 في المئة، واحتفل فيها المرشح الخاسر بفوز خصمه التاريخي. في تلك الانتخابات المزعومة قام بالتصويت 11.6 مليوناً من أصل 15.8 أي أن قسماً كبيراً من المعارضين الذين لجؤوا إلى الخارج أو نزحوا في الداخل قد انتخبوا الأسد. وهذا مجرد عرض لمهزلة رئيس فقد شرعيته الحقيقية منذ زمن أمام شعبه الذي قتله وسجنه وشرده، وأمام العالم.
من الناحية الإجرائية يمكن أن تكون الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة في منتصف عام 2021. وما يقوم به الروس والإيرانيون وكثيرون من أصدقاء وأشقاء الشعب السوري حالياً يروّج ويحضّر لذلك التاريخ بشكل يفتح باباً للأسد يحاول من خلاله عرض نفسه على الناخبين لإعادة انتخابه. تتحقق- في رأيهم- بذلك أساسات الحلّ المطلوب للقضية السورية، ويتصالح الرئيس القاتل مع شعبه المقتول. ولعل مخططي السياسة الروسية يأخذون ذلك الاحتمال بعين الاعتبار حين يعالجون مسألة اللجنة الدستورية التي انتهى تشكيلها مؤخراً.
حين يتحرك مثل هذا القطار، سيكون بيان جنيف والقرار 2118، وحتى القرار 2254، قد أصبحت حبراً على ورق في الأرشيف. وحين تجري الانتخابات الرئاسية في الجزائر على الشكل المخطط أيضاً، بتنافس مرشحيّ النظام والجيش في ما بينهم، تتحطم طموحات الجزائريين ويتفكك حراكهم الرائع الذي ثابر على انتظامه وسلميته لأشهر طويلة. مع العلم أنه من أساسيات هذا الحراك سلميته المشهودة، وتلك القابليةٌ للتسوية، والتمسكٌ بالحفاظ على الدولة، والإصرار على وطنية الجيش وإمكانية الاستناد إلى بنيته وتاريخه.
لدى السوريين الذين ثاروا في عام 2012 ثم تدهورت أوضاعهم وتهلهلت معارضتهم بتأثير خارجي وقابلية داخلية، مقابضُ يتمسكون بها حتى لا يسقطوا في هاوية أعمق غوراً، ومنها قرار مجلس الأمن 2254، الذي يستند بدوره إلى بيان جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن 2118 اللذين يتمحوران حول الانتقال السياسي والتغيير الجذري للنظام الاستبدادي القائم . لديهم أيضاً قرارات دولية، وأسس وشرائع دولية تتطلب الديموقراطية وحقوق الإنسان في أي دستور حديث، وتشترط بيئة آمنة لأي عملية انتخابية، لا تتوفر في حالة سوريا إلا في شروط مختلفة جذرياً عما هو قائم، من حيث مشاركة اللاجئين والمقيمين فعلياً، والحرية التامة المضمونة النقيضة لأي تواجد لسلطات الأسد القاتلة، وتحت إشرافٍ وإدارة دوليين. هذا مع التأكيد كذلك على عدم مشاركة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكم العادلة. وعلى رأس هؤلاء كبيرهم، المرشح المفترض لاحقاً.
فلتتحقق البيئة الآمنة وحرية الرأي والتعبير ويعود اللاجئون- أو تُحترم حقوقهم على الأقل- وتتأسس العدالة الانتقالية ويتم الالتزام بالقرارات الدولية ممن أصدروها أولاً. وذلك كله يحتاج إلى وقت كافٍ ووقف شاملٍ للقتل والتشريد المستمرين، وسيكون الكثير ممكناً آنذاك. وعين السوريين على الجزائر، كما كانت على السودان ولا زالت!
المدن