استفتاء سوري/ ميشيل كيلو
خلال معارك جنوب إدلب وشمال حماة التي وقعت قبل نيف وشهرين، وبينما كان الطيران الروسي يلقي مئات أطنان القنابل يوميا على الآمنين، ويسهم، مع مدفعية النظام وراجماته ودباباته، في سحق قراهم وبلداتهم، ويهجّرهم منها إلى حقول الزيتون، حيث لا خيام ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا طعام، فتحت مليشيات الأسد ممرّا “إنسانيا” للفارّين من الموت في بيوتهم إلى الموت في العراء، ووعدتهم بالحماية، وبخدماتٍ غذائيةٍ ودوائية و”مصالحة وطنية بضمانة روسية”، بينما كان القصف يشتدّ ويدمر بيوتهم واحدا بعد آخر، وكانت الطرق تكتظ بعشرات آلافٍ منهم، وهم يتدافعون سيرا على أقدامهم، أو في شاحناتٍ مكشوفة نحو الشمال، حيث الحقول التي ينتظرهم فيها الموت والجوع، من دون أن يذهب شخص واحد منهم نحو الممر الأسدي، في رسالةٍ بعثوا بها إلى العالم، تخبره أن ثلاثمائة ألف مهجّر يفضلون الموت قصفا وجوعا على العيش تحت حكم الأسد.
لا أعرف إن كان الرئيس الروسي، بوتين، المتهم بالحنكة والذكاء، قد علم بما حدث، أو إذا كان الرئيس الأميركي، ترامب، وبعض رؤساء أوروبا قد لفتهم المعنى استثنائي الأهمية لهذه الواقعة التي تؤكد أن الشعب السوري لم ولن يغفر للأسد إجرامه، وتدمير مجتمعه ودولته، ولن يعود إليه حتى في حال انتهت الحرب بإبقائه في موقعه: رئيسا جلب الاستعمار لبلاده بدل أن يحافظ على استقلالها، يعتقد أن الاستعمار يمكنه أن يشرعن سلطته أو شخصه، وأن السوريين سيرضخون لنتائج حربه عليهم، الدائرة منذ نيف وتسعة أعوام في كل شبرٍ من سورية، بما أنه سيحكمهم بقوة من استقدمهم لاحتلال وطنهم وإذلالهم، بعد توريطه سورية في خططهم وصراعاتهم التي لن تقوى على الانخراط فيها، بسبب ما أصابها من دمارٍ على يديه وأيديهم، وما تعانيه من إجرام وعنف بأسلحتهم، وأضيف من أسباب وطنية إلى الأسباب المجتمعية التي سبق لها أن دفعت الشعب إلى الثورة على عدوه الأسدي الذي وصل أبوه إلى الحكم بعد احتلال إسرائيل الجولان، ويختتمه بتسليم سورية إلى الروس والايرانيين، من أجل كرسيٍّ لن يدوم.
لم يذهب أحد من مئات آلاف السوريين إلى مناطق الاحتلال الروسي/ الإيراني/ الأسدي، في رسالةٍ سيؤدي إهمالها، والامتناع عن قراءة مدلولاتها، إلى مشكلاتٍ ستقوّض ما يزعم العالم أنه الحل الذي يريده للصراع في سورية، وستعزّز حرب بوتين وخامنئي على السوريين الذين يقول رفضهم الأسد: الصراع في سورية لن ينتهي بالنتيجة التي تعتقد روسيا أن سلاحها كفيلٌ بتحقيقها، وهي إعادتهم إلى بيت الطاعة الأسدي، كأن المجرم وحماته لم يقتلوا مليون شهيد من بناته وأبنائه، ولم يدمروا 60% من عمرانه، ويطردوا ويهجروا نصفه من ديارهم، أو كأن السوريين لا يرون ما تقع أعينهم عليه من احتقار لرجلٍ لم يبق له من كرامته حتى اسمها، ليس فقط لأنه فقد قبول الشعب الطوعي به، وإنما أيضا لأن لقبه صار في الإعلام الروسي “ذيل الكلب” و”التافه والكذاب”، بينما أعلنت إيران أنه لم يعد رئيس دولة، بل هو وكيلها على محافظتها الخامسة والثلاثين التي كانت دولة اسمها “سورية”، قبل أن ينقذ الحرس الثوري ومرتزقته محافظها بشار الأسد الذي يحكم بقوتها، ويعيش من عونها، ويتصرف كوكيل لها، وإنْ تقاسمته مع روسيا من حين إلى آخر، وفي هذه المسألة أو تلك.
فقد الأسد علاقته بشعب سورية، وهويته السورية. هذا ما أظهره الاستفتاء خارق الأهمية الذي تمثل في امتناع سوري واحد من مئات آلاف السوريين عن الذهاب إلى مناطقه، وفي تفضيل كل فرد منهم الموت على الخضوع له مجدّدا.
ليس هذا انتصارا وهميا، بل هو الذي سيقرّر مصير سورية وشعبها.
العربي الجديد