بشار الأسد رئيساً!/ عمر قدور
لا يُعرف حقاً ما إذا كان ظهور بشار الأسد “في حوار جديد” من بنات أفكاره، بخاصة أن الحوار تم مع القناة السورية والإخبارية السورية، وهما قناتان تتبعان لوزارة إعلامه، وتأتيان تحت الطلب مع الأسئلة المعدة سلفاً لمذيعيهما. وعدم وجود وسيلة إعلام دولية تحاوره أمر لا يلفت الانتباه، لأن وسائل الإعلام العالمية تسعى وراء الشخصيات المؤثرة في الأحداث الساخنة، في حين لا يبدو لها بشار مؤثراً حتى في التطورات الدراماتيكية التي شهدها شمال وشرق سوريا مؤخراً، ومنها مقتل نظيره في زعامة داعش. التوصيف الأخير ليس من باب التهكم، هو معطوف على مقولة آلته الإعلامية نفسها: الأسد أو داعش.
الأسف على مقتل البغدادي يظهر في مستهل اللقاء، عندما يشكك بشار في الرواية الأمريكية لمقتله ويعتبرها خدعة، ولا يمارس أدنى درجات اللباقة الدبلوماسية من نوع استدراك التشكيك بالقول أنه يتمنى أن يكون الخبر صحيحاً. تأكيد التنظيم مقتل زعيمه ومبايعة بديل له لن يحرجاه، فبشار لم يشعر بالحرج من اعتبار التنظيم وهابياً في ما يشي بجهل فادح بالأصول الفكرية لداعش وأشباهه، أي بجهل بالطرف الذي يسوّق لنفسه عدواً له، بل العدو الأكبر بينما تتولى واشنطن وتركيا دعم هذا الإرهاب.
استئنافاً للتحلل من الشعور بالإحراج، يصرح بشار بأنه نسي انعقاد قمة بين بوتين وأردوغان بينما كان يظهر بين مقاتليه بالقرب من إدلب، رداً على سؤال عما إذا كان وجوده آنذاك رسالة للقمة. لو لم نأخذ طبيعة شخصيته بالحسبان، لجاز اعتبار تصريحه نوعاً من الاستخفاف ببوتين وأردوغان المجتمعين تحديداً للتفاهم حول مستجدات الشأن السوري، وبما صدر عنهما. القراءة الأخرى الممكنة تضعه في حال أسوأ، حال من لا يدرك أهمية متابعة التطورات والتفاصيل التي يُفترض ولو نظرياً أن يكون ملماً بها، إلا أن نزعة التعالي الأصيلة “التعالي الذي يفنّده الواقع” تتغلب على صاحبها.
من قبيل التعالي والتكبر والمكابرة، يشير بشار إلى تقاسم في الأدوار بينه وبين حليفيه. يتولى بموجبه الشأن الداخلي ويمسك بزمام السلطة وقراراتها الكبرى، وتتولى طهران المستوى الإقليمي، في حين تتولى موسكو الجانب الدولي من الملف السوري. الفكرة الأساسية التي يريد تسويقها هي كونه ما يزال رئيساً بما لهذه الكلمة من معنى، وأن إعادة ترسيم مناطق النفوذ التي حدثت أخيراً هي مؤقتة، إذ يتوعد أنقرة بالحرب لاستعادة المناطق التي تسيطر عليها، ويتوعد واشنطن بحرب تحرير شعبية لاحقة إذا قررت البقاء بعد انتهائه من الوجود التركي. هو الرئيس “القادر” الذي يفضّل استرجاع سيطرته سلماً، ما يجعله يترك فرصة لحليفيه كي يساعدانه بالسياسة، وإذا لم تفلح جهودهما فهو مستعد للحرب.
موضوعان تطرق إليهما بشار يكشفان عن مفهومه لاستعادة السيطرة. أولهما الشأن الكردي، حيث كان واضحاً في أن قبوله بقاء مسلحي قسد في بعض مناطق سيطرته هو مؤقت تفرضه الظروف الحالية، وأنه عازم بعد انقضائها على التخلص من هذه الشراكة. في الموضوع الكردي يردّ بشار السياسات التمييزية إلى عام 1962، أي قبل حكم البعث، وكأن عقوداً من حكمه وحكم أبيه غير معنية بتصحيح أخطاء حدثت من قبل. الأهم هي تلك المقارنة بين الأرمن والأكراد، فالأرمن يحظون بمعاملة خاصة، لجهة السماح لهم بمدارس أرمنية وأندية ثقافية… إلخ، لأنهم ضيوف ويتعاملون مع وجودهم في سوريا على هذا الأساس بخلاف الأكراد الذين يرون بعض الأراضي السورية كجزء من كردستان. كأن المقارنة تذهب إلى مقايضة، يعتبر فيها الأكراد أنفسهم بمثابة أقلية طارئة على البلاد كي يحظوا بالميزات التي يحصل عليها الأرمن، ومن دون ذلك عليهم العودة إلى الوضع الذي كانوا عليه قبل عام 2011 تماماً.
الموضوع الآخر هو عمل اللجنة الدستورية، حيث لم يتأخر بشار كما هو مألوف عن وصم أعضائها الذين لا يمثلونه بالعمالة أو الإرهاب، والطريف أنه حاول التنصل من المشاركة فيها بالقول أن الثلث المحسوب عليه لا يمثّله رسمياً لأنه يأبى التفاوض من الباقين من موقع الندّية، وبصريح العبارة هو لا يقبل على الإطلاق بالمعارضة كطرف. رغم ذلك لا يتوقف عند اختلاف يعدّه شكلياً بين تعديل للدستور أو كتابة دستور جديد، لأن الاثنين يصبان في المنحى ذاته، والأهم بالنسبة له هو النص الجديد حيث كان واضحاً في أنه لن يوافق على أي بند يُضعف الدولة، والمقصود هنا ما يُضعف سيطرته، بمعنى أنه لن يوافق على أي بند يمس هيكلية النظام.
حتى الوجود في جنيف يعتبره بشار وجوداً جغرافياً فحسب، فهو لا يعترف بعملية سياسية ترعاها الأمم المتحدة، ولا يقبل بانتخابات لاحقة رئاسية وبرلمانية بإشرافها. باختصار، هو لن يوافق سوى على دستور بتعديلات شكلية لا تمس جوهر سلطته، ومن ثم على انتخابات يجريها هو على المنوال المعهود. كما هو حاله بالنسبة للشأن الكردي، لا يَعِد بشار مفاوضي المعارضة سوى بالعودة إلى ما قبل عام 2011، وكأنه ينذرهم بعدم المراهنة على حلفائه قبل المراهنة على القوى الدولية الأخرى.
ملخص ما يقوله بشار أنه يقبل بالسياسة لتحقيق أهداف حربه ليس إلا، وهي أهداف لم تتغير على الإطلاق منذ انطلاق الثورة. أسهل الافتراضات، بما قد تحمله من صحة، الركون إلى اعتبار كل تلك الأقوال نوعاً من الثرثرة لشخص لم يعد يملك زمام السلطة فعلياً. ذلك ينبغي ألا ينسينا ما لا يوفر هو نفسه فرصة لتذكيرنا به، أي عدم قابلية الأسدية للإصلاح أو لأدنى تغيير في بنيتها وبنية تفكيرها، وهو كلام لا يسوقه على سبيل المكابرة أو النكاية، بل هو أكثر كلام حقيقي يمكن أن يصدر عنه، وبهذا المعنى يصعب وصفه بالانفصال عن الواقع بقدر ما هو مخلص لواقع سلطته.
بالطبع لا يظهر بشار ليوجه كل ما سبق لجمهوره، ولا لمجمل السوريين الذين يعرفونه جيداً. “المكاشفة” موجهة أولاً وأخيراً للقوى الفاعلة بالشأن السوري، إن توهّم أي منها إعادة تدويره على نحو مختلف، وهذه المكاشفة تكتسب ثقلاً أكبر إذا كان هناك جهة حليفة أوعزت له بالظهور وقول ما قاله في هذا التوقيت، وهو افتراض له مبرراته ومغزاه مع انتفاضتي لبنان والعراق.
المدن