وداعا أمجد ناصر أيها الشاعر العظيم
أمجد ناصر: برهة بألف مما يعدّون/ صبحي حديدي
الطريق بين عمّان والمفرق ليست طويلة، وهي معبدة جيداً، وكانت يارا يحيى النعيمي (أي: يارا أمجد ناصر) تقود السيارة بهدوء ودراية، وتتلقى من المقعد الخلفي إرشادات عابرة من شقيقها أنس، وتصغي باسمة إلى تعليقات من أمّها هند الساروط على ممازحات الـ«عمّو» الذي هو أنا، حيث مُنحت المقعد الأمامي. كنت أنوي السفر إلى المفرق بمفردي، للقاء صديقي هناك بعد لقائنا الأخير في لندن، لكنّ أسرة أمجد تكرمت فاصطحبتني ضمن ما يشبه «الوفد العائلي»؛ الأمر الذي منحني ترخيصاً بأن أذكّر يارا وأنس بوقائع من الماضي حين كان وعيهما يتفتح شيئاً فشيئاً في مناخات لندن.
كنت أدرك جيداً أنّ زيارتي إلى أمجد قد تكون الأخيرة بالفعل، بالنظر إلى طبائع الغدر الخاطفة التي اتصفت بها على الدوام أورام لعينة اجتاحت رأسه؛ ولكني لم أشأ وضع الزيارة تحت تلك الصفة، وراهنت أنّ الزمن الذي سوف أقضيه مع صديقي سيذهب بنا مذاهب أخرى أكثر جدارة بإبعادنا، معاً، عن أشباح الوداع. وكان مقرراً ألا يطول مكوثنا في المفرق، إذْ توجّب أن تعود يارا مبكراً لتسافر في اليوم التالي إلى دبي، لكن أمجد كان له رأي آخر: ساعات من الانفراد، خضنا خلالها في أحاديث شتى، تخصّ الشعر والسياسة وفلسطين وسوريا؛ وأتينا على ذكر أصدقاء كثر مشتركين، وذكريات معهم معظمها كان بهياً ثرياً، وبعضها الآخر كان مأساوياً، وثالثها لم يخلُ من الكوميديا؛ وعدنا إلى وقائع في الماضي البعيد، والآخر القريب، فضلاً عن الحاضر؛ وبالطبع كانت تجربة الصفحات الثقافية في «القدس العربي» محطّ ذاكرة خاصة يعتزّ بها أمجد، وأشاطره الاعتزاز ضمن مساهمتي المتواضعة في مشروع بدأ متميزاً ومختلفاً منذ بداياته…
بعد ساعات الانفراد تلك تعيّن أن يحضر المنسف الأردني، وألا أغادر (وتكرمت يارا، هنا أيضاً، بمراعاة رغبة البابا والعمّو معاً) من دون استعادة تجربة سابقة لي مع هذه المائدة، في هذا البيت الكريم العامر تحديداً، منذ سنوات طويلة؛ حين كانت والدة أمجد وأحمد سيدة الدار والمطبخ، رحمها الله. وإذْ أوشكت الزيارة على الانتهاء، كان صديقي قد حمّلني قسطاً مفاجئاً من الأمل، والإحساس الملموس، بأنه يتحسن عملياً بعد مقاربة علاجية مختلفة اقترحها عليه أطباء الأردن، أصحاب السمعة الطيبة في معالجة الأورام. وأخال أنني حملت له نبأ ساراً، أسعده كثيراً كما عبّر وكما قالت أساريره، وهو أنّ صديقنا المشترك فاروق مردم بك، الناشر المسؤول عن سلسلة «سندباد/ أكت سود» المعنية بنقل الآداب العربية إلى الفرنسية، قد تحمس كثيراً لمجموعة أمجد الأخيرة «مملكة آدم» واستقر على تكليف مترجم بارع بنقلها كاملة، مع مختارات تغطي كامل تجربته الشعرية، إلى لغة موليير.
ولعلّي آمل أنّ زمناً طويلاً سوف ينقضي قبل أن أقع، مجدداً، في تلك البرهة الرهيبة العجيبة، قاصمة البصيرة واللسان معاً، حين يتوجب عليّ أن أجيب شاعراً، يحدث أيضاً أنه صديق حميم، عن تجربته الشعرية في خلاصة وجيزة أقرب إلى وقفة وداع. آخر مرّة كانت مع محمود درويش في باريس، ليلة سفره إلى الولايات المتحدة للعلاج؛ والثانية شهدتها تلك الجلسة المنفردة مع أمجد ناصر في المفرق. ولقد بدا أن الأمر سهل، فموقفي من شعر الاثنين ليس معلناً ومكتوباً، وبالتالي يتجاوز أحاديث المجالس المغلقة، فحسب؛ بل إنني مكثر، على نحو أو آخر، في تثمين التجربتين، حتى أنعم عليّ البعض بتهمتين، متعارضتين متناقضتين: أنني لا أرى سوى قصيدة التفعيلة، متمثلة في درويش؛ وأنني منظّر قصيدة النثر، في قراءتي لشعر أمجد ناصر (وآخرين، للإنصاف: عباس بيضون، بسام حجار، سركون بولص، نوري الجراح…). لكن «التمرين»، في المفرق كما في باريس، لم يكن البتة سهلاً، بل أشبه بشحذ اللسان على مبرد خشن!
ولست أسترجع، هنا، أطراف ما قلته في المفرق هناك، ولكني أعيد التشديد على عناصر جعلتني أنحاز دائماً إلى شعر أمجد؛ أوّلها أنه بدأ شاعر تفعيلة، وكتب نماذج متقدّمة في هذا الشكل خلال السنوات الأخيرة من عقد السبعينيات. وفي مجموعته الأولى، «مديح لمقهى آخر»، 1979، نقرأ قصائد فاجأت بمستوى نضجها الفنيّ، وهدوء نبرتها الإيقاعية، وذكاء استكشافها للطاقات الموسيقية الكامنة في التفعيلة، وبراعة تملُّصها من تبعات الشكل الأخرى (أنظمة التقفية، على سبيل المثال). عنصر ثان، متلازم مع الأوّل، هو أنّ تلك البدايات التفعيلية سلّحت الشاعر بدرجة عالية من التدرّب المبكّر على استكشاف بواطن الإيقاع، والتيقّظ على منعرجات الشكل. وتلك، في مجموعها، مكّنت أمجد من الانتقال بخطى ثابتة، وبأمان ملموس، نحو شكل قصيدة النثر الذي طبع كتابته الشعرية منذ العام 1979 وحتى رحيله. ثالثاً، وابتداءً بمجموعته السادسة «مرتقى الأنفاس»، 1997، ذهب أمجد أبعد وأعمق في استكشاف باطن الفصحى، واستثمار الطاقات الإيحائية لمفردات غير دارجة، ولكنّ مخزونها الدلالي يتدفق بيسر، ويستثير في الآن ذاته شهوة القارئ إلى بسط الدلالة وتحريك المغزى وإطلاق التفاوض الواسع حول المعنى.
وتلك برهة كانت، عندي، بألف ممّا يعدّون؛ فكيف إذا اتخذ منطقها، وبالتواطؤ بين صديق وصديقه، سمة تعاقد ضمني بأنها ليست وداعاً، ولا… مَنْ يحزنون!
القدس العربي»
——————————–
لو كنت ميتا/ ميسون شقير
أكتب لك كما لو كنت ميتا، لأننا حين نفقد شخصا مؤثرا حقيقيا في وعينا، شخصا عرفناه وتعاملنا معه قلبا لقلب، سنكتب إليه كما لم يخطر لنا أن نكتب من قبل، كما لو أننا نقول له ما كنا نريد دائما أن نقول، وما كنا نريد دائما أن يسمع.
منذ سنتين تماما كتبت مادة بعنوان الى أمجد ناصر ونهاياته الجارحة.. حينها لم تكن يا أمجد قد بدأت تعاني من أي مرض ولم تكن قد كتبت قصيدتك الأخيرة، قصيدتك التي حكمت علينا بالكي، وبقيت فينا كوشم.
اليوم أكتب إليك كما لو أنك ميت، محاكاة كمن يعيد بعضا من دين لا ينتهي، لدائن لم يطالب يوما بدينه.
لم يتردد لحظة في حمل دم المغدورين
إليك اليوم أمجد ناصر، إليك اليوم حيا وكتابك يتمشى في الحديقة، إليك ولم نعد نعرف نحن السوريين من سيحمل اليوم دم الآخر إلى آخر الأرض، وآخر الظلم والموت.
إليك وقد حملت دمنا أيها النبيل، حملته منذ حملت دم الفلسطيني حين كنت أصغر من حمل دم وقضية، يا من حملت أول شهيد في أول يوم للثورة السورية النبيلة، ووقفت في وجه سيل من المثقفين الذين أعمتهم أيديولوجياتهم الخشبية عن رؤية الظلم، وقفت ودافعت لأن حسك الإنساني العميق لم يتردد لحظة في حمل دم المغدورين.
إليك وقد ساهمت في صناعة وعي جيل كامل، فمذ كنا نحاول التعرف على أنفسنا، في بدايات الصعود العاطفي والفكري وبدايات السقوط الحر في الشعر وغواية الكتابة والقراءة، كاملين إلا من نقصنا فينا، كنا نتجه بكل شغف العاطفة وعمق الشعر معتقدين أننا سنغيّر جهة السماء، أو أننا نبعد هذي الأرض قليلاً عن مداراتها، حينها اجتاحتنا قصائدك لأننا كنا مدهوشين من أن يتجرأ شعر ما على زلزلة جدراننا التي تعبنا كثيراً كي نعمرها، وكي نعلق عليها صورنا مبتسمين وواثقين.
كان زلزالك قد بدأ فينا حين سقطت مجموعتك الأولى “الطريق إلى مقهى آخر” في قلوبنا، وأطل منها شاعر يرتدي قلماً حاداً، وروحاً برية وعرة، وكنتُ، ولفترة طويلة، كلما اشتقت للدهشة أفتش عن الجديد لدرويش، ولا أدري لماذا يعبر اسم أمجد ناصر باتجاه جبال بدوية وعرة، تربيت فيها، وتربت هي في شعرك حيث طاف نعناعها البري وطاف الشيح والقيصوم.
باغتني مرة ثانية يا أمجد حين صعدت معك في “الصعود إلى جلعاد” ولم أكن قد أكملت الخامسة والعشرين حينها، لكن وقتها لم يكتفِ ذاك البدوي الذي هو أنت بالزلازل التي يثيرها، بل رمى على الطريق التي تفضي إلى الوعي، أنا الريفية البرية في العمق، عباءة من شعر رعوي واخز كرائحة القهوة البدوية، ونهايات شعرية مباغتة، كنهاية طعم قهوة الأردن الجارح، ومن “سر من رآك” إلى “حياة كسرد متقطع”، كانت حدة قهوتك المرة البدوية تتحول إلى مزيج لاذع من الشعر والنثر، ومن كليهما في كليهما، وكان طعم النار التي حمصتها، يسكن في قعر الروح، ويعيد تشكيل صلصال جدراننا الهشة فينا. وحين قرأت “مرتقى الأنفاس” شيء ما في داخلي ارتعب وعرف أنني سأكون يوما كقصيدتك، كأني خفت حينها أن أرصد هوامش انكسار أبي عبد الله الصغير، وانكسارنا القادم، وكأني كنت أسكن في زفرة حسرته الأخيرة، أو كأني سكنت – من يومها- فيما كتبته يا أمجد، لأعرف أني الغريبة التي ستصل بلا ماضٍ وبلا مستقبل وعلى آخر نفس؛ “آه خفَّتي/ لقد وصل الغريب/ بلا بارحة أو غد/ وصل الغريب/ على آخر نفس”.
تعرية ملامح جيل عربي كامل
بعد ذلك صدرت روايتك “هنا الوردة”، قرأتها بشغف كمن يكتشف ملامحه في بحيرة، وكعادتك في الشعر، عريت في الرواية ملامح جيل عربي كامل عاش ما بين سطوة العادات والدين والخرافة وبين المد الماركسي والحلم الخيالي الذي عشناه مع ديكتاتوريات قتلت فينا كل ما بقي.
كنت في البداية أعتقد أنك فلسطيني المولد، مثلما أنت فلسطيني الجرح والحلم، واليوم أعرف أن صوت الجرح الفلسطيني قد رحل لكن صداه يتمشى في دم كل من قرأك.
اليوم ونحن السوريين الذين وعينا على درويش وغسان كنفاني وأنت كبرنا كثيراً، ومتنا كثيراً، ورحلنا كالفلسطيني عن موتنا فينا، لم نستطع التعود على الرحيل، فالرحيل في القصائد موجع كناجٍ وحيد من المجزرة، وأصبحنا مثل شعرك ومثل كل الشعر الفلسطيني، نعتلي دمنا كي نصل إلى حريتنا، ومثله نصهل حين نموت، لكن صوت الأمهات وهنّ يزغردن للشهيد كان أكثر واقعية من الشعر، وكان أكثر وجعاً من الزغرودة الكاذبة. وكانت المسافة بين صوت الطائرات، وبين وصول القذيقة للأرض، أطول من كل مقاييس الانتظار، وأقصر من أن تؤجّل طفلة موتها خمس دقائق فقط، كي تكمل تمشيط شعر لعبتها الجميلة، أو كي يكمل الشاعر قصيدته.
اليوم أقرأ خبراً بأن أمجد ناصر قد أنهى قصيدته، ينثقب قلبي، وبالرغم من أنك كنت قد أعلنت أن الطبيب أخبرك بانتشار الإصابة، وبالرغم من أني صيدلانية، إلا أني أثق أن كل ذلك هو مجرد لعبة تلعبها مع الموت، ثم تنهيها كعادة نهاياتك الجارحة.
في نصك الأخير الذي لن يغادر الروح، مثلما روحك أيضا لم تغادر الجسد الخائن، قرأت نصا قادما من مجازات طاعنة الرمز والوضوح، معا تصرخ وتصمت في نفس اللحظة، نصا يخترق كل التسميات والمدارس الشعرية ليعيد للبدوي ناره وللنار دلالها وللدلة فناجين ترتشفنا عند كل صبح.
نعم يا أمجدنا
مالح هذا النشيد مالح، والصور في جيوب الغرقى مالحة
نحن السوريين والفلسطينيين الوحيدين في قاع البحر
لا نعرف كيف سنحمي قصائدك فينا
من أن تموت من العطش
لكننا نعرف أنك هنا، ونعرف أننا سنبقى نلوذ بشعرك كي نصل الى أرواحنا سالمين. فالوردة هنا، ومرتقى الأنفاس، وأنا سأبقى أخاطبك كما لو كنت ميتا.
ضفة ثالثة
—————————
رحيل الشاعر الأردني أمجد ناصر
لندن ـ «القدس العربي»: غيّب الموت أمس الأربعاء الشاعر الأردني أمجد ناصر، عن عمر ناهز الـ64 عاما، بعد صراع مع المرض. وقد نعت وزارة الثقافة الأردنية الشاعر، الذي بدأ رحلته مع الكتابة قبل نحو أربعين عاماً من عمان، وتنقل ما بين بيروت، وقبرص، وصولاً إلى لندن، التي استقر فيها في سنواته الأخيرة، بعد محطات من الهجرة، التي حملت معها محطات في الكتابة في الشعر والسرد، تشعبت بين الكتابة عن أمكنة، وأدب الرحلة، والرواية.
وقال وزير الثقافة الأردني محمد أبو رمان، «إن أمجد ناصر سيبقى في ذاكرة الأردنيين، وفي ذاكرة عمان التي انطلقت منها كلماته الأولى، وكتب فيها ديوانه الأول «مديح لمقهى آخر»، والذي تحدث فيه عن شوارع ومقاهي عمان.
يعد أمجد ناصر من أبرز رموز الحداثة الشعرية، وقصيدة النثر، ونتاجه الإبداعي ساهم في إثراء المشهد الشعري العربي، من خلال مؤلفاته الشعرية، ومن خلال مشاركاته المتعددة في المهرجانات العربية والدولية.
حصل الشاعر الراحل على جائزة الدولة التقديرية في الأردن في حقل الآداب، ووسام الإبداع والثقافة والفنون، الذي منحه إياه الرئيس الفلسطيني محمود عباس تقديراً لدوره بإغناء الثقافة العربية، وتحديداً الأردنية والفلسطينية.
كما أصدر عبر مسيرته الإبداعية عددا من الدواوين، من بينها «مملكة آدم»، «مديح لمقهى آخر»، «بيروت» «منذ جلعاد كان يصعد الجبل»، «سُرَّ من رآك»، و«حياة كسرد متقطع» .
ولد ناصر في الرمثا عام 1955، ودرس العلوم السياسية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وعمل في الصحافة العربية في بيروت، حيث عمل في إعلام منظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقا في قبرص، وساهم في تأسيس «القدس العربي» سنة 1989 في لندن، التي أقام فيها، وتولّى إدارة التحرير والإشراف على القسم الثقافي.وفي عام 2006 نال جائزة محمّد الماغوط للشعر من وزارة الثقافة السورية، وتُرجم عدد من أعماله الأدبية إلى اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والإنكليزية.
وقد نعى عدد من المثقفين العرب عبر وسائل التواصل الاجتماعي الراحل أمجد ناصر، فقد كتب الشاعر عباس بيضون» أمجد قال لنا ما هو الشعر قبل أن يرحل.. بقي يبحث حتى غاب».
كما كتب الروائي المصري أحمد عبد اللطيف:
«لا نشعر باليتم فقط حين نفقد أبًا في طريق بلا عودة، نشعر باليتم حين نفقد صديقًا كان بمثابة أب، كان يدًا ممتدة بالحب والخير، كان صوتًا لا يبث إلا الطمأنينة، كان أمجد ناصر كل ذلك، نافذة لا تطل منها إلا على الجمال، ولا تعرف من خلالها إلا أرضًا مزروعة بالرضا».
اما الناقد الأردني فخري صالح فقد كتب على فيسبوك « أمجد ناصر، الصديق الحبيب والشاعر والمثقف العربي الكبير.. أمجد ناصر مؤلم غيابك. ترجلت من هذه الدنيا بشجاعة. الأشجار تموت واقفة»، فيما كتبت الشاعرة السورية هالا محمد «رحل الشاعر الأردني الجميل … الصوت الشعري العميق المتفرّد».
————-
وداعا أمجد ناصر
لم يفاجئنا أمجد ناصر برحيله، فقد كان الموت يطل برأسه كل يوم من نصوصه. حتى قبل أسابيع قليلة، كنا نترقب ونتابع حالته الصحية من خلال تدويناته على الفيسبوك. كانت لغته مشبعة بالأسى، عبّر فيها عن بكائه الداخلي، وعن رطوبة روح الشاعر وقدرتها على مواجهة الموت بالقصيدة. لقد أعدّنا لهذه اللحظة التي تنبأ بها في كتابه «حياة كسرد متقطع» كاتبا موته قبل أن يموت:
«لست متاكدا أيضا ان الشعراء قادرون على التنبؤ بموتهم رغم أن «سيزار فاليخو» مات في باريس وفي يوم ماطر، تماما كما تنبأ بقصيدته «حجرٌ أبيض على حجرٍ أسود» وأنا أتوقع في هذه القصيدة التي أكتبها الآن أن أموت بلندن في يومٍ ماطرٍ ( يومٍ ماطرٍ في لندن؟ يالها من نبوءة) موصيا، منذ اللحظة أن أدفن بالمفرق قرب أمي التي ماتت وهي مقتنعةٌ أنه لن يضمَّنا حيزٌ ذات يوم. فالجميع يعلم أنها ستذهب إلى الجنة».
حين سئل كيف تحب أن تموت، أجاب:« بالقلب، وانا نائم على سريري، وفي الصباح يجدونني ميتا». لكنه كان على يقين أن» الإنسان يموت كما يموت أهله».
خبر الشاعر سطوة المرض مبكرا مع عائلته، والدته، وشقيقه، واكتملت الفاجعة مع تردي الوضع الصحي لشريكة دربه هند ، التي تطوع لها قبل سنوات بإحدى كليتيه.
أدرك أمجد ناصر مبكرا أن المواجهة الوحيدة مع المرض تكون بالإصرار على الكتابة. وابتكار شعرية خاصة عكسها في نصه الأخير «راية بيضاء» :
«عندما، لا تجد أي خيار، وربما بمحض اختيار حر، «تتبرع» ببضعة من لحمك (كلية) لتمشي خطوات أكثر مع رفيقة/ رفيق حياتك، قد يكون هذا أقصى ما بوسعك عمله، ثم تظن أنك قدمت، أخيراً، «هديتك»/ أو ربما «أضحيتك». تُقبل «الأضحية» وتقوم بعملها على أفضل وجه… إلى حين، لكنه حينٌ طويل بعض الشيء (ست سنين)، إلى أن «تتسرطن»، وتفشل.. ثم يصار إلى استئصالها ورميها في مختبر ما لمزيد من «الدراسة» والتحليل».
اليوم استعيد صور أمجد الكثيرة في الذاكرة، يحضرني دائما صوت اليساري ، الذي يجادل بحماس وبغضب وحرقة على مآلات الحلم العربي. أستعيد صورة البدوي الذي يحفظ أشعار البدو، وأمثالهم، وحكايات الجدات اللواتي كن يرصدن نجوم سهيل في السماء. أمجد الذي يدندن بلحن عراقي حزين قصائد مظفر النواب. «ياريل طلعوا دغش» و «هذا طينك يا ألله».
يغمض أمجد عينيه للمرة الأخيرة، وهو في قمة نضجه الأدبي، بعد ان انجز مسيرته الشعرية بما يليق بشاعر وكاتب، ملتزم بقضايا أمته التي آمن بها بوضوح ويقين المثقف الحر.
————–
“القدس العربي” تنعى الشاعر أمجد ناصر
عمان ـ “القدس العربي”: تنعى “القدس العربي” وفاة الشاعر الأردني أمجد ناصر، اليوم الأربعاء، بعد صراع مع المرض .
أسس الراحل صفحات “القدس العربي” الثقافية وحررها لأكثر من عقدين.ارتبطت حياة ناصر كما شعره بالقضية الفلسطينية والنضال من أجل الحرية.
وُلديحيى النميري النعيمات المعروف باسم أمجد ناصر، سنةَ 1955 في قرية الطرّة/ الرمثا، ودرس المرحلة الإعدادية في مدرسة الثورة العربية الكبرى بالزرقاء، وأنهى الثانوية في مدرسة الفلاح الثانوية بالزرقاء، ثم درَسَ العلوم السياسية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وكان أمجد اتخذ قراراً بالعودة إلى مسقط رأسه محافظة المفرق، في أيامه الأخيرة، بعد سنين عديدة قضاها في المهجر.
صدر للشاعر نحو عشرين كتاباً في الشعر والرواية وأدب الرحلات، وتم منحه في الأردن جائزة الدولة التقديرية في الآداب. كذلك نال جائزة محمّد الماغوط للشعر من وزارة الثقافة السورية سنة 2006، وتُرجم عدد من أعماله الأدبية إلى اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والإنجليزية.
——————
رحيل أمجد ناصر… مواقع التواصل ترثيه بكلماته
رحل الكاتب والشاعر الأردني، الزميل أمجد ناصر (يحيى النميري النعيمات) (1955 – 2019)، أمس الأربعاء، بعد صراعٍ مع المرض.
على مواقع التواصل الاجتماعي، رثى المغردون من العالم العربي، ناصر، بكلماته وشعره. وكتبت الإعلامية ليليان داود: “الشاعر أمجد ناصر غادرنا إلى مكان أفضل، رفيق الاغتراب وحلم العودة إلى وطن أجمل أنت اليوم رحلت إلى سكينة صارت هي المرتجى”.
ودوّن أحمد سعيد طنطاوي، قائلاً: “لا أحد يعود كما خرج. وليس للماء ذاكرة لتحفظ أوجه الغائبين. ولا أحد يموت وقت يشاء. وداعاً #أمجد_ناصر”.
أما محمد فكتب: “وها هو عصفور من بيننا يسقط
وطاقة نور تنطفئ
ومشتل جمال يجف رواؤه
وبوابة حرية توصد
شاعر يموت فجيعة مكتملة
على الوطن أن يتحسس صدره
أن يدرك قيمة ما فقد
ويعتني بمن تبقى #وداعاً_أمجد_ناصر”.
وقال جابر: “(ومنذ زمان الطفولة
وحتى زمان التشرد
والنوم بعين واحدة،
وأنا أحلم بهذا
الذي أحلم به الآن،
فأعطني
راحتك
لأنام)
أمجد ناصر”.
وغرّد محمد خضر: “إنني صالح للعزاء.. في أي وقت..* أمجد ناصر”.
وأسهم أمجد ناصر في إطلاق موقع وصحيفة “العربي الجديد” عام 2014، وتولى لغاية رحيله رئاسة تحرير موقع “ضفة ثالثة” الصادر عن الصحيفة، وظلّ أحد كتّاب الصحيفة حتى في أصعب لحظات مرضه. وكان قبلها قد أدار القسم الثقافي في صحيفة “القدس العربي” اللندنية لعقدين، وشغل موقع مدير تحريرها.
—————————
الشاعر يترجل: رحيل أمجد ناصر
بين أهله وأحبّته في مدينة المفرق الأردنية، رحل اليوم زميلنا الشاعر والروائي أمجد ناصر (1955 – 2019) بعد حياة شعرية وأدبية حافلة، وصراع مع المرض في السنة الأخيرة، واجهه بشجاعة فائقة متمسكاً بالكتابة إلى آخر لحظة ممكنة.
إلى جانب إنتاجه اللافت، في الشعر والرواية وأدب الرحلة، ساهم أمجد ناصر في إطلاق موقع وصحيفة “العربي الجديد” عام 2014، وتولى لغاية رحيله رئاسة تحرير موقع “ضفة ثالثة” الصادر عن الصحيفة، وظلّ أحد كتّاب الصحيفة حتى في أصعب لحظات مرضه. وكان قبلها قد أدار القسم الثقافي في صحيفة “القدس العربي” اللندنية لعقدين كما شغل موقع مدير تحريرها.
حاز أمجد ناصر تكريمات عديدة في العام الجاري، منها “جائزة محمود درويش للإبداع” في آذار/ مارس الماضي، و”وسام الثقافة والعلوم والفنون” الفلسطيني في حزيران/ يونيو الماضي، ثمّ منحته عمّان “جائزة الدولة التقديرية” للآداب في أيلول/ سبتمبر، قبل أن تختاره شخصية العام في معرضها الدولي للكتاب. إلى جانب ملفات احتفائية حول تجربته الشعرية والأدبية شارك فيها عشرات الكتّاب العرب، سواء في “العربي الجديد” أو منابر إعلامية أخرى.
لكن حضور الشاعر في العام الأخير لم يتوقّف عند التكريمات؛ بل كان حاضراً من خلال الشعر إذ كتب وأصدر قصيدة طويلة في كتاب بعنوان “مملكة آدم” (منشورات المتوسّط) اعتبرها النقاد والمتابعون ذروة عطائه الشعري.
برحيل أمجد ناصر، يفقد الشعر العربي أحد وجوهه البارزة وتفقد الثقافة العربية صوتاً طالما انحاز للإنسان والحرية والديمقراطية في العالم العربي، منذ انتمى في شبابه إلى النضال الفلسطيني انتماءً رافقه طوال حياته، وصولاً إلى وقوفه في صف الشعوب العربية في انتفاضاتها ضد الاستبداد.
—————–
أمجد ناصر وداعاً… حيرة سؤال الكتابة/ أنطوان شلحت
الليلة الماضية رحل زميلنا أمجد ناصر (1955-2019).
وقعُ رحيله كان مفجعاً، بالرغم من أنه متوقّع.
إلى جانب نتاج أمجد ناصر الباقي في الشعر والرواية، ستظل ذكراه مقرونة بصحيفة “العربي الجديد”، وبموقع “ضفة ثالثة” الصادر عن الصحيفة، والذي تولّى إدارة تحريره إلى ما قبل رحيله، وشاء القدر أن يتزامن هذا الرحيل مع دخول الموقع عامه الرابع منذ انطلاقته في بدايات تشرين الأول/أكتوبر 2016.
إبان انطلاقة “ضفة ثالثة” اختار أمجد ناصر أن يلفت إلى أن العنوان نفسه طموح، وقد يكون مبالغاً فيه أن يبتكر الذين لا يرغبون في أن يظلوا سجناء الاستقطابات الضيقة، المؤدلجة بشدة، ضفتهم الخاصة بهم. وأكد أن هذا الكلام يبدو شعرياً ولكنه قابل للواقع، وقابل للتطبيق. وبصرف النظر عن هذه الدعاوى الكبيرة، هناك رغبة ملموسة لدى عدد كبير من المثقفين العرب في أن يكون لهم منبر، أو أن يكون هناك منبر يتابعون من خلاله ما يجري داخل المشهد الثقافي العربي، والعالمي إلى حد ما.
“يضعنا أمجد أمام ماهية الكتابة، باعتبارها أولاً وقبل أي شيء منهجاً تركيبياً له خصوصية في إدراك الحياة والواقع”
ولدى سؤاله فيما إذا يُعتبر إطلاق موقع ثقافي بمثابة مراهنة خاسرة في وقت تقفل مواقع وصحف وملاحق ثقافية في العالم العربي؟ أجاب قائلاً: “نُطلق موقعاً ثقافياً، اليوم بالضبط، لأن هناك العديد من الملاحق الثقافية، بل والصحف المرموقة، أغلقت أو هي مهددة بالإغلاق، لأسباب عديدة بعضها يعود إلى السوق وبعضها إلى التمويل، وبعضها إلى الاضطراب الشديد في الحياة السياسية العربية الذي يجعل إصدار صحف، والاستمرار في إصدار صحف، كالمشي في حقل ألغام. فهذه السنوات الخمس الأخيرة (منذ 2011) لم يعرف مثلها العالم العربي من قبل، وجعلت التمسك بموقف، أو الانحياز إلى موقف، عملاً أخطر من الاتجار بالمخدرات. فما كان يبدو رائعاً ومبهجاً، مثل الربيع العربي، قد ينقلب إلى كابوس. وما كانت تسمى دولة وطنية قد تكون أول من يقتل شعبها. وإذا كانت السياسة العربية تفرق وتعزل عرباً عن عرب آخرين، فإن الثقافة قد تكون أرضاً جامعة، رغم أن الثقافة ليست معزولة عما يجري في محيطها الاجتماعي، وهي في موضع خطر دائم، خصوصاً عندما تكون نقدية”.
وقارب أمجد علاقة الموقع الثقافي الجديد بالسياسة، قائلاً: “للموقع سياسة ثقافية وليست له سياسة سياسية؛ بمعنى أنه يخضع للمعايير المهنية في تعامله مع المواد التي يشتغل عليها وينشرها. لكن عندما أقول إن لا سياسة سياسية له، فهذا لا يعني انقطاعه عن قضايا التحرر والحريات في العالم العربي، ولا عن العدالة والمواطنة التامة غير المرتبطة بشرط. هذه، في فهمي، في صلب عمل أي منبر ثقافي عربي ينتمي إلى محيطه ويتفاعل مع قضايا هذا المحيط. منذ زمن طويل كنا نحّمل الثقافة والمثقفين مسؤولية “قيادة” الشعوب والأمم. هذه مسؤولية أكبر بكثير من أن تنهض بها فئة محددة مهما أوتيت من أدوات السحر. أنا لا أقول بهذا القول اليوم، ولكني أرى للمثقف دوراً أساسياً في محيطه، ولا أنظر إليه باعتباره شخصاً متخصصاً في حقول ضيقة ومنعزلة عن الحياة العامة”.
“ستظل ذكراه مقرونة أيضاً بصحيفة “العربي الجديد”، وبموقع “ضفة ثالثة” الصادر عن الصحيفة، والذي تولّى إدارة تحريره إلى ما قبل رحيله”
*****
فيما يخص نتاج أمجد ناصر الأدبيّ، سأكرّر الإشارة، ضمن هذه الإطلالة السريعة، إلى اعترافه، في 2010، وهو العام الذي شهد إصداره ثلاثة كتب هي: روايته الأولى “حيث لا تسقط الأمطار”، و”فرصة ثانية” (شعري سردي)، و”الخروج من ليوا” (أدب رحلات)، بأنه يجد نفسه في حالة انعدام وزن كتابي، وأرجع سبب ذلك إلى يقينه بأن المبدع يقيم في الكتابة، وأنه ما دمنا نتحرك في الأمكنة فإن الثابت في هذا الترحال هو الكلمة، مُستعيداً قول الشاعر الألماني هولدرين إن القصيدة هي بيت الشاعر، لكنه زاد أنّ الكتابة، عموماً، هي بيت الكاتب، هي أرضه ومكانه، وليس صدفة، على ما يبدو، أن يسمّى الشطر في الشعر العربي بيتاً، وهذا إدراك عربي سابق على قول الشاعر الألماني السالف حيال العلاقة الأنطولوجية بين الشاعر أو الكاتب والكتابة نفسها.
وفي حوار أدلى به في ذلك العام للصديق محمود منير صرّح بما يلي: لا أعرف بالضبط على أي أرض أقف. بصدق أقول لك، مستعيراً النفريّ، إنني في موقف الحيرة. من قبل كانت الأمور أسهل. لم يكن يطول تساؤلي عن ماهية الشعر والنثر. كان لكل واحد خزانته، كما يقولون. هناك خانات جاهزة صنعها غيرنا وكان سهلاً علينا أن نضع ما نكتب في تلك الخانات. لا أعرف فعلاً إن كان أبناء جيلي يتقلبون في الحيرة حيال سؤال الكتابة اليوم مثلما أنا عليه.
وعندما أصدر أمجد روايته الأولى، اجتهد كثيراً لإثارة سجال بشأن العلاقة بين الشعر والرواية مؤكداً أن الشاعر حين يكتب الرواية لا يهرب من الشعر الذي في وسعه أن يتخلل أنواعاً كتابية عدة من بينها الكتابة السردية الروائية أو القصصية، وأنه هو نفسه حين كتب الرواية كان يرغب في توسيع حدود إطار التعبير إذ يمكن، برأيه، تخيّل العالم من دون رواية ولكن من الصعب تخيّله من دون شعر، فالشعر أصل التلفظ الأدبي وفي البدء كان الشعر والرواية حصلت لاحقاً، وإن كان شكل الشعر تغيّر وتغيّرت صورته وإجراءاته اللغوية والكتابية منذ وجدت قصيدة النثر. ومقولة “الشعر أصل” ليست عربيّة الهوى فقط. فويليام فوكنر، الذي اعترف في الحوارات الفكرية والفلسفية التي أجرتها معه مجلة “باريس ريفيو” عام 1956، بأنه شاعر فاشل، أضاف أنه ربما كل الكتّاب يبدأون بالشعر وحين يلحظون فشلهم في الشعر يتحوّلون إلى القصة القصيرة التي تأتي في المرتبة الثانية بعد الشعر، وإذا ما فشلوا أيضاً في القصة يتحولون عندها ناحية مشروع كتابة الرواية.
ولدى العودة إلى ما كتبه أمجد في فترة صدور روايته تلك، نقرأ على لسانه كذلك أن الرواية كنوع أدبيّ وسعت حدودها وأصبحت أكبر من كونها وعاءً حكائياً فقط ومالت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها السابق إلى الحكاية، وأنه في فعل الكتابة يمكن توقع الشعر والمعرفة والتواريخ الصغيرة والتأمل في مصائر الإنسان في زمن استفحال القوة والمال والتكنولوجيا والحروب. ولعلّ الأهم من ذلك أنه لم يعتبر كتابته للرواية هرباً من الشعر أو إعلان هزيمة للشعر خصوصاً وأنه من الذين كتبوا باكراً أدب الأمكنة أو ما يسمى “أدب الرحلة” الذي يضم خصائص نثرية وسردية وشخوصاً ليست بعيدة تماماً عما هي عليه في الرواية. ورجّح أمجد أن الشاعر يسحب معه لغته إلى الرواية أو أي شكل كتابيّ يتصدّى له؛ فليست هناك لغتان للكاتب واحدة للشعر وأخرى للنثر، وهذا يعني أن لغة الشاعر في الرواية مشدودة ومكثفة أكثر، إذ إن الاقتضاب سمة الشعر عموماً فهو يعمل على ضغط العالم في حيّز لغوي وتعبيري محدود. وهذا يفيد الرواية التي تعاني عند كثير من الروائيين العرب من الترهل والثرثرة اللغوية إن لم يكن من الركاكة. ويشدّد أيضاً على أن الشاعر يُقدّم للرواية تصوّراً مختلفاً للعالم، وهو تصوّر قادم من البُعد الحُلمي للشعر. ولكن هذا لا يعني مماهاة الشعر بالرواية وإن ظل عالم الرواية أوسع وأكثر مرونة من عالم القصيدة.
بهذه المقولات وغيرها كثير وضعنا أمجد أمام ماهية الكتابة، باعتبارها أولاً وقبل أي شيء منهجاً تركيبياً له خصوصية في إدراك الحياة والواقع. وعندما أؤكد على الكتابة فعن وعي كامل بأنها جميع ما يكتبه الأديب.
وقد لا تكون حالة أمجد ناصر استثنائية، ولا سيما بين أبناء جيله ومن سبق هذا الجيل من الأدباء الفلسطينيين والعرب الذي انخرطوا في معمعان الثورة الفلسطينية وحاولوا أن يترجموا هذا الانخراط إلى ثورة في الكتابة وأساليبها. أما إذا كانت كذلك، في قراءات مغايرة، فهي الاستثناء الذي يكشف لنا عُمق قاعدة الكتابة في شروط مشابهة، وأيضاً عمق ضرورتها في الآن نفسه.
ضفة ثالثة
——————–
أمجد ناصر.. موت “كسرد متقطع”/ هشام أصلان
أمجد ناصر.. موت “كسرد متقطع” أي همّ للشاعر، يدفعه، في مواجهة مثل هذه مع الطبيب، أن يفكر في ما تبقى له من كتابة؟
حوار قصير ومرعب، دار بين الشاعر الأردني أمجد ناصر وبين طبيبه قبل شهور، كان مدخلًا لنصٍ سردي فاتن ومؤلم أوقف المهتمين في الأوساط الثقافية العربية على أطراف أصابعهم. افتتح أمجد نصه بكيف أخبره الطبيب أن الأمل في علاجه من السرطان بات معدومًا:
“وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟
قال: أن ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك!
قلت له: لدي أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت.
حدد وقتاً قصيراً، لكنه أضاف: هذا ليس حساباً رياضياً أو رياضيات. فلا تتوقّف عنده”.
ثم استعاد أمجد، في سرد تتخلله مقاطع شعرية، حكاية مرضه منذ اكتشافه بقدرة إبداعية لافتة، في ظرف مثل هذا، على أن يحيّد نفسه ككاتب، كأنه لا يحكي عن واقعه الذي على حافة الانتهاء. بعدها أصدر أمجد بالفعل ديوانه “مملكة آدم” عن منشورات المتوسط، ونشر عدداً قليلاً من النصوص والمقالات إلكترونيًا، وكان يهتم بين حين وآخر أن يشارك عبر صفحته بعضاً من كتابات الأصدقاء عنه.
وأنا، بعدما قرأت رثاء أمجد لنفسه قبل شهور، ذهبت أسأل كل من أقابله عن أي همّ للإنسان، ولو كان شاعرًا، يدفعه، في مواجهة مثل هذه مع الطبيب، أن يفكر في ما تبقى له من كتابة؟ بصيغة أخرى: ماذا تعني الكتابة لصاحبها الذي عرف أنه موشك على الرحيل؟ اتهمني صديق في لحظة ثمالة بأنني لست مهمومًا بالكتابة ما يكفي لأن أصدق فيها إلى هذه الدرجة. في لحظة الثمالة نفسها منعتُ نفسي من ضربه واكتفيت بطرده من الجلسة.
ويعني أمجد ناصر كتلةً فعالة في الواقع الثقافي العربي. هنا عدد من الأعمال الشعرية والسردية التي تُرجم بعضها إلى لغات عديدة: “مديح لمقهى آخر”، “بيروت”، “سُرَّ من رآك”، “حياة كسرد متقطع”، “رعاة العزلة”، “وصول الغرباء”، “أثر العابر”، “خبط الأجنحة”، “هنا الوردة”، وغيرها من الأعمال، فضلًا عن تجربة خاصة وكبيرة في الصحافة الثقافية، تجربة نجحت في أن تكون نقطة التقاء الكُتّاب العرب من داخل وخارج الوطن العربي، عبر إشرافه سنوات على الصفحة الثقافية لجريدة “القدس العربي” التي شارك في تأسيسها، ثم موقع “ضفة ثالثة” الذي أسسه قبل ثلاث سنوات ضمن جريدة “العربي الجديد”.
بالأمس، وكعادة ما يحدث مع رحيل عزيز، تدفقت الذكريات دفعة واحدة. تذكرتُ ليلة وقف أبي عند باب شقتنا في إمبابة، قبل نحو 25 سنة، يراقب إن كان أحدًا من الجيران سيتيقظ على ضجيج أصدقائه الذين نزلوا السلم يغنون ويضحكون بصوت عالٍ بعد سهرة طويلة أثناء زيارة إلى القاهرة: أمجد ناصر والسيدة أم أنس زوجته، ومعهما الشاعران نوري الجراح ولينا الطيبي. كانوا منتشين بالشراب، بينما شعر أبي بالقلق من أن تسري أصواتهم في صمت الليل إلى آذان جيراننا المحافظين. في الليلة التالية، حضرنا أمسيتهم الشعرية في المؤتمر الذي جاءوا للمشاركة فيه، ثم كانت المرة الأولى التي أدخل فيها حانة “الجريون”. كنت في الصف الثالث الإعدادي. كان ذلك في سنوات ما قبل طفرة الإنترنت وسهولة التواصل بين البشر. أخذت الدنيا الجميع من بعضه بعضاً، لكننا كنا نعرف أن هناك أصدقاء قريبين يعيشون بعيدًا، قبل أن يظهر “فايسبوك” ليعيد التواصل.
لم يفقد أمجد شكله المُميز، إن لم يكن زاد حضورًا. زيادة الوزن لم تفسد شيئًا، على العكس، وخصلات شعره الكثيف الناعم صارت رمادية لامعة. ملامح وتكوين جسدي يساعد في أناقة الملبس. أشعر بسعادة شخصية عندما لا يأتي الزمن على من عرفتهم صغيرًا. هكذا فكرت وأنا أقلّب في صوره بعدما جاءتني منه رسالة يدعوني للتعاون في عمل.
كان مشغولًا بفخ الاستقطاب الذي وقع فيه بعض مثقفي العالم العربي، بسبب الأحداث السياسية المهولة، وتلك الفراغات التي حفرتها السياسة في الواقع الثقافي الذي كان بالأمس يشبه مدينة واحدة يعرف ساكنوها التعايش مع بعضهم البعض، وإن اختلفوا. كان يتكلم عن فَقدٍ شخصي لسنوات أجمل عاشها بين أصدقاء في كل مكان يذهب إليه.
هكذا لم يتوقف التواصل منذ ثلاث سنوات، حتى اختفى فجأة. بعد فترة عاود الظهور وحكى لي حكاية الورم الذي أصاب دماغه. كان متفائلًا لدرجة التوصية بألا أتكاسل عن العمل المتّفق عليه، بينما رحت أفكر كثيرًا في أن الرجل الذي يعاني منذ سنوات، في رفقة زوجته التي أصاب السرطان كليتها، صار هو الآخر مصابًا. المفارقة الكبيرة، أن تلك الكلية المصابة في جسد زوجته كانت كليته هو قبل أن يتبرع بها قبل ذلك بسنوات. وكأن الورم الخبيث ظهر خارج جسده، قبل أن يظهر بداخله.
بالأمس رحل أمجد شاعرًا حتى آخر نفس. كان مثقفا كبيراً يتسم بالطيبة والجمال، ومحبة أخوية في قلوب عشرات الأصدقاء من كل بلد عربي رغم قوانين الجغرافيا. ذهب إلى العالم الآخر على مراحل، في موت “كسرد متقطع”، ومنحنا في كل من مراحل موته، شعرًا وحكاية.
المدن
———————-
رحيل أمجد ناصر.. الشاعر الذي رثى نفسه
توفي الشاعر الأردني أمجد ناصر، عن عمر ناهز 64 عاماً، بعد صراع مع المرض. وكان بدأ رحلته مع الكتابة قبل نحو أربعين عاماً من عمان، وتنقل ما بين بيروت، وقبرص، وصولاً إلى لندن التي استقر فيها في سنواته الأخيرة، بعد محطات من الهجرة التي حملت معها محطات في الكتابة في الشعر والسرد، تشعبت بين كتابة عن أمكنة، وعن أدب الرحلة، والرواية.
ولد ناصر في الرمثا العام 1955، ودرَسَ العلوم السياسية في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، وعمل في الصحافة العربية في بيروت وقبرص، وساهم في تأسيس صحيفة “القدس العربي” العام 1987 في لندن التي أقام فيها، وتولّى إدارة التحرير والإشراف على القسم الثقافي في الصحيفة منذ 1989.
أصدر أولى مجموعاته العام 1977 في بيروت وحملت اسم “مديح لمقهى آخر”، ومطلع الثمانينيات كتب قصيدة النثر في دواوينه التي أصدرها تباعاً، ومنها: “منذ جلعاد”، و”رعاة العزلة”، و”سر من رآك”، و”مرتقى الأنفاس”. وفي السرد والرواية صدر له “خبط الأجنحة”، و”هنا الوردة”، و”في بلاد ماركيز”.
اضطر ناصر لمغادرة بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982، بعدما كان مسؤولاً عن البرامج الثقافية في إذاعة الثورة الفلسطينية، وساهم في تأسيس صحيفة “القدس العربي” منذ 1987.
وفي العام 2006، نال جائزة محمّد الماغوط للشعر من وزارة الثقافة السورية، وتُرجم عدد من أعماله الأدبية إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والإنكليزية.
وفي أيار/مايو الماضي، فاجأ ناصر، متابعيه وقرّاءه، في فايسبوك، بتدوينة مؤثرة حملت عنوان “راية بيضاء”، يوجز فيها فحوى آخر زياراته إلى طبيبه في مستشفى تشارينغ كروس في لندن حيث تم إبلاغه أن “العلاج فشل في وجه الألم”. وفي تلك الزيارة، أبلغه الطبيب أن “الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدماً للورم وليس حداً له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيميائي والإشعاعي”.
تضمنت التدوينة قصيدة شعرية بعنوان “الطريق إلى الكتلة” يتحدى فيها المرض اللعين ويرثي نفسه. وجاء في مطلعها:
عدو شخصي
ليس لي أعداء شخصيون
هناك نجم لا يزفُّ لي خبراً جيداً،
وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.
أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيوناً تلمع
وأيديا تتحسس معدناً بارداً،
لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،
فكيف لجبلٍ
أو درب مهجورٍ أن يناصباني العداء،
أو يتسللا إلى بيت العائلة؟
———————–
رحيل أمجد ناصر.. مرتقى أنفاس الشاعر
بعد صراع مع مرض السرطان، رحل الشاعر الأردني أمجد ناصر (1955 – 2019) عن عالمنا مساء أمس، وقد أثار رحيله حزنًا على صفحات التواصل الاجتماعي على الرغم من انشغال الجميع بثورتي العراق ولبنان، فحضرت صوره ومقاطع من شعره وكلمات رثاء.
اسمه الحقيقي هو يحيى النميري النعيمات، اتّخذ من أمجد ناصر اسمًا أدبيًا وقد وقّع به كل أعماله الأدبية؛ الشعرية والروائية ونصوص الرحلة.
أقام في أمكنة متعددة منذ مغادرته عمّان عام 1977. واستقر به المقام في لندن طويلًا، إلى أن غادرها عائدًا إلى مسقط رأسه، المفرق في الأردن، حيث توفي.
عمل في الصحافة العربية في بيروت وقبرص ولندن. في بداياته عمل في مجلة “الهدف” الفلسطينية، كما عمل خلال حصار بيروت عام 1982 مشرفًا على البرامج الثقافية في الإذاعة الفلسطينية. وأشرف على أمانة تحرير، وأيضًا على القسم الثقافي، في صحيفة “القدس العربي” لقرابة 25 سنة، ثم انتقل للعمل في “العربي الجديد” حيث تفرغ لإدارة تحرير موقع “ضفة ثالثة”.
كتب الصحافي سيد محمود على فيسبوك: “هناك قليل من الشعر يواسيك ويضىء روحك ويقف بجانبك وأظن أن شعر أمجد ناصر فعل ذلك طوال الوقت، فلا أزال أذكر ليلة أن قرات ديوانه أثر العابر في طبعة دار شرقيات منتصف التسعينيات، كانت قصائده مكتوبة بخفة وذات نبرة متميزة لا شبيه لها، تخلصت تمامًا من الوصفة التي سيدتها القصيدة اللبنانية، كان شعرًا له طموح مختلف لذلك بقيت حريصًا على متابعته”، أما الناقد والمترجم فخري صالح فكتب على فيسبوك أيضًا: “الصديق الحبيب والشاعر والمثقف العربي الكبير أمجد ناصر مؤلم غيابك. ترجلت من هذه الدنيا بشجاعة. الأشجار تموت واقفة”.
أمجد الذي عُرف بمواقفه المؤيدة للثورات وحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها ونفض غبار الدكتاتورية عن كاهلها، صدر له قرابة عشرين كتابًا في الشعر والرواية والرحلة واليوميات. كما صدرت مختارات عديدة من شعره، وترجمت بعض أعماله إلى عدد من اللغات الأجنبية. من أعماله، في الشعر: “منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، “رعاة العزلة”، “حياة كسرد متقطع”. وفي الرواية: “حيث لا تسقط الأمطار”، و”هنا الوردة”، وفي الرحلة: “خبط الاجنحة”، “في بلاد ماركيز”.
——————-
مختارات أمجد ناصر: لم أكن أعرف أن الأمل أزهق أرواحًا بهذه الكثرة
نشر أمجد ناصر (1955 – 2019) تسع مجموعات شعرية، آخرها كانت “مملكة آدم” التي صدرت هذه السنة بعد توقّف طويل عن نشر الشعر منذ ديوانه “حياة كسرد متقطع” عام 2004. هناك أعمال أخرى لم تنشر بعد منها قصيدة – ديوان بعنوان “بترا”، وقصائد أخرى جمعها في ديوان بعنوان “هل غادر الشعراء؟” ستصدر عن منشورات المتوسط قريبًا. من أعماله المنشورة اخترنا هذه القصائد.
أيّتها الهوادج
أيّتها الهوادج
أيّتها الهوادج
يا أجراس الصحراء
من هنا مرّ الأردنيون حفاةَ السيوف والأقدام
في أرواحهم يقدح حجر الصوان
وفي لحاهم المُغبرة تعوي الذئاب.
أيّتها الهوادج
أيّتها الهوادج
من هنا مرَّ شعبي
عاريًا وضامرًا يسحب خلفه
نهرًا يابسًا
وصقورًا كهلة.
منذ جلعاد مان يصعد الجبل
منفى
أرأيتِ؟ نحن لم نتغيّر كثيرًا
وربما لم نتغيّر أبدًا
الألفاظ المشبعةُ
النبرة البدويةُ
العناقُ الطويلُ
السؤالُ عن الأهل والمواشي
الضحكةُ المجلجلةُ
رائحة الحطب القديم
ما تزال تعبق في ثيابنا.
أرأيتِ؟
نحن لم نتغيّر كثيرًا
وربما لم نتغيّر أبدًا:
جلسات القرفصاء
حبل الغسيل المحتشد أمام البيوت
الأولاد المعفرون بالتراب
الشاي المنعنع في المساءات
النميمة المنعشة
الرضى بالقليل
الأخذ بالثأر
والدم الذي لا يصير ماءً.
كأننا لا نزال في المفرق
أو السلط..
في الكرك أو الرمثا
كأننا ما اجتزنا حدود الشمال
إلى المدن الكبرى والسواحل.
رعاة العزلة
أسماء مستعارة
الذين يعرفوننا قديمًا لن يعرفونا بعد
مضى وقت الخروج من الحفل ورفع الأقنعة
مضى وقت استعادة الأسماء
فالمياه التي جرفت أكفنا البيض
تجف في ظهور نساءٍ لغيرنا.
وصول الغرباء
الرائحة تذكّر
الرائحة تذكّر بأعطيات لم يرسلها أحد
بأسرة في غرف الضحى
بثياب مخذولة على المشاجب
بأشعة تنكسر على العضلات
بهباء يتساقط على المعاصم
بأنفاس تجرّب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيل
بالترائب
برواد فضاء تخطفهم سحنة القمر
بالصنوبري، بالليلكي، بالمشرئب
بأمطار على أسطح من طين
بحنطة مركوزة في الخطائر.
سرَّ من رآكِ
الرابية الأخيرة
على رابية الحسرة
تبرّأت من النجم الذي لمولدي
ومن مهارتي بين الأقران.
وسط العابرين بأكتاف كبيرة
كنتُ ذا القامة المائلة تحت البروق
جنحتُ إلى سفوحٍ تتلقى صامتة عظات الذرى وسمعتُ تحت وقر السماء تفلّق الشيء في عزّ هجرانه
صادفتُ تلالًا تولد من سهو الرواسي وأرواحًا تهيم مختومة بحدوة الهاجرة
مرّرتُ بعوسجٍ يتفشى في الشعاب على غير هدى
فقلت له يا أخي.
مرتقى الأنفاس
أطراف النهار
لأنني ما نجوتُ من أملٍ حتى وقعتُ في غيره، وما بشّ لي قناع إلا واتخذته نجيًّا، فقد متّ لا كما يموت الماشي مرحًا بين أقرانه اليقظين، ولكن كمت مات كثيرًا، فما جاء الموت ضاحكًا تحت قنزعته الخضراء وأسبل عينيّ على شعاع الوداع الطفيف لم أصدّقه فقد كنت أظنّ الموت جلجلة، “صرخةً عظيمةً تودع كل ما استسلمنا إليه فاغتنى وهجرنا”، لا مجرد غفوة في سرير قاحل،
سرير وحيد
في عراء البياض.
هناك من يموت يأسًا وأنا متُّ لأنّ الأمل ظل يحجل حولي
فالأمل، صياد النفوس الضعيفة،
يأخذكَ إلى أصل الماء ويعيدك ظمآن
يلعب بكَ لعبة البيضة والحجر.
لم أكن أعرف
أن الأمل
أزهق أرواحًا
بهذه الكثرة!
كلما رأى علامة
نجوم لندن
نَفَسًا وراء نفَسٍ تدفعني الأيامُ قُدُماً لكنَّ عينيَّ ظلتا ورائي تبحثان عن علامةٍ تراءتْ وأنا مستلقٍ ذاتَ ليلةٍ على سطح بيتِنا في “المفرق” أعدُّ النجوم وأخطئُ ثم أعدُها غيرَ مبالٍ بالثآليل التي تطلعُ في يدي وتنطفئ.
العلامةُ، التي تطاردُها عيناي مذاك تدلُ على ساقيةٍ تؤدي إلى نبعٍ ونبعٍ يقودُ إلى سفحٍ حيثُ غصنٌ وأفعى، تحتَ الغصنِ مفتاحٌ، المفتاحُ للغرفة التي نُهيتُ عن فتحها، الغُرفةُ مظلمةٌ، في الغرفة المظلمِة صندوقٌ به صدفةٌ في الصّدفة ورقةٌ مكتوبٌ عليها: لا تلتمسني في المِثْلِ أو الشبه فكلُّ من هو مثلي ليس أَنا وكلُّ من يُشْبِهُني هو غيري، لستُ بعيدةً ولا قريبةً، علامتي أقربُ إليكَ من حبل الوريد.
*
رأيتُ يومًا هذه الرؤيا ونسيتُ العلامةَ أو لعلني سمعتُ هذه الحكايةَ من عابرٍ يرمي إبرة من ثُقب أخرى باتَ ليلةً في بيت أهلي وراح في سبيله.
عبثًا أضعُ رأسي على المخدّة كلَّ ليلةٍ منظفًا عينيَّ من نوافلِ النَّهار وقلبي من أشناتِ الخفقانِ الكاذبِ مهيئًا كلَّ ما يلزمُ لاستدراج العلامة العنيدة.
*
في زمنٍ آخرَ، أو في حياة أخرى، كمغربيٍّ على الأغلبِ، سمعتُ في مقهى شعبيٍ بفاس القديمة رجلًا يقول لمجُالِسِه المهموم:
لا تبحثْ عن العلامةِ
لا تعترضْ طريقَها
دعكَ من الشقوقِ والخرائبِ
لا تتَّبع أنجماً ضللتْ قبلَك رعاةً وعاشقين
فالعلامةُ تأتيكَ من حيثُ لا تحتسب
أو يخطرُ لك على بال.
*
في لندن التي أقيمُ فيها الآن بقناعِ شخصٍ وهمي فارًّا من نبوءة أمي التي يرنُّ فيها اسمي الأولُ كذكرى مفزعةٍ “يا يحيى لن تعرفَ نَفْسُكَ الراحةَ” من الصعب، على كل حال، أن يستلقي المرءُ على سطحِ بيتهِ القرميديّ المائل ويعدُ نجومًا هجرتْ مواقعَها.
حياة كسردٍ متقطِّع
ألا يموت الموت؟
كم يدًا للموت؟
كم ذراعًا؟
كم قدمًا؟
كم قرن استشعار
حتى يستطيع التنقُّلَ
كالبرق،
بين وجوهٍ لا أسماءَ لها
وأسماء لا وجوه لها؟
على أيِّ توقيتٍ يشتغلُ؟
هل يملكُ ساعةَ منبِّه؟
ألا يصابُ بالغثيان
عندما يتنشقُ هواءَ الخردل أو السارين؟
مملكة آدام
————————
الشاعر أمجد ناصر… رحلة بدوي بدأت من الرمثا وانتهت في اغتراب لم يتصالح معه/ غادة كامل الشيخ
“هذه المرة كانت غير” رحلة الشاعر الأردني أمجد ناصر، ذلك البدوي الذي يعشق الترحال التي هي صفة أصيلة في البدو، لكن هذه المرة بالفعل كانت رحلته “غير”، عندما انتهت يوم أمس جولته في العالم ورحل عنه.
انهزم ناصر في معركته التي عول على انتصاره عليها، عندما أخبره الأطباء في لندن، قبل خمسة شهور، أن رحلته في الحياة شارفت على الانتهاء، وليس للطب حيلة في السيطرة على الورم السرطاني في الدماغ، تلك المعركة التي أعلن عن خوضها بشراسة دفاعاً عن خطته في تأليف ديوان كان ينوي إعداده، ونكاية بالأطباء الذين حددوا له رقماً لما تبقى من عمره، وهو شخص يكره الأرقام.
أعلنها حرباً مفتوحة مع الموت أو “الشيء القاتم” الذي أخذ أمه وحبيبته الأولى، كما وصف في قصيدة له نشرها عبر صفحته في فيسبوك، لكنه انهزم أمامها مخلفاً وراءه هزيمة أخرى تضاف إلى إرثه، شاعر ومناضل وعربي في عالم يكره هذا الثالوث.
“أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى
والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب
ما أنت؟
ما مشكلتك معي؟”
تساءل ناصر يوماً ما، مهدداً الموت بنبرته الأردنية الخشنة وبروح الثأر قائلاً:
أصوات من الأردن: كي يظل الوطن حبيبنا… علينا أن نبتعد عنه
هل عشق شعراء العرب حقاً أم ابتكروا قصصهم لكسب تعاطفنا؟
ومن الشعر ما قتل: عن القصائد الملعونة في تاريخ الخلافة الإسلامية
“إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك
تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد
وجهاً لوجهٍ
لسوف ألقنك مواثيق الرجال
كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة
أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً
فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة
إن كان لك دين عندي
أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك
ومرغت شرفك في الوحل
مع أني لا أذكر شيئاً كهذا
لا تسترد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا
كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي”.
مات ناصر ولم يأخذ ثأره من الموت، أو ذلك الشيء القاتم بحسب وصفه، مات بعد 64 عاماً من الكفاح في حياة جعلت منه رغماً عنها شاعراً وكاتباً، وقبل كل ذلك إنساناً.
صارع مرض السرطان بكل ما أوتي به من عناد البدوي، لتنتهي رحلته التي بدأت من محافظة المفرق في الأردن إلى برية في عالم الغيب.
لم يتصالح مع فكرة الاغتراب
كان ناصر أحد أبرز رواد الفضاء الشعري العربي، تلك القصائد التي شكّلت بروحه مساحة تنعتق فيها اللغة، وتتأرق بهواجس الذات والعالم، التحق بالثورة الفلسطينية في لبنان واستقر مقامه الأخير في لندن، لكنه لم يتصالح مع فكرة الاغتراب، ليعود على جناحين من ضوء ويكتب قصيدته الأخيرة في البلاد التي أنجبت قصائده.
وُلد أمجد ناصر في مدينة الرمثا شمال الأردن عام 1955، ودرس العلوم السياسية في “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، وانتقل مع منظمة التحرير الفلسطينية للعمل في صحافتها في بيروت وقبرص، وأسهم بتأسيس صحيفة “القدس العربي” عام 1987 في لندن التي استقر فيها، إذ تسلم إدارة التحرير وأشرف على القسم الثقافي فيها منذ 1989، لينقل الصحافة الثقافية إلى مستوى جديد في الصحافة العربية، ويمنحها من روح الشاعر، ما جعل صفحات “القدس الثقافي” واحدة من الصفحات التي يترقبها المثقفون والقراء العرب يومياً.
كما حاز جائزة الدولة التقديرية في حقل الآداب، ووسام الإبداع والثقافة والفنون الذي منحه إياه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تقديراً لدوره بإغناء الثقافة العربية، وتحديداً الأردنية والفلسطينية.
خلال مسيرته؛ أصدر مجموعات شعرية عديدة، بينها: “مملكة آدم”، “مديح لمقهى آخر”، و”بيروت” و”منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، و”سُرَّ من رآك”، و”حياة كسرد متقطع”، “رعاة العزلة”، “وصول الغرباء”، “أثر العابر – مختارات شعرية”، وفي أدب الرحلات، أصدر “خبط الأجنحة”، “مرتقى الأنفاس”، “رواية في بلاد ماركيز”، وفي الرواية أصدر “حيث لا تسقط الأمطار” و”هنا الوردة”.
اتفقوا على حزن رحيل ناصر
يختلفون أكثر مما يتفقون في الوسط الثقافي والأدبي الأردني، لكن سرعان ما توحد بكاؤهم مساء أمس الأربعاء، الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر، فور إعلان خبر وفاة الشاعر ناصر الذي تختلف وجهات النظر عليه لكنها تتفق على حبه.
الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية والصحافية سابقاً، جمانة غنيمات، لم تكترث لردود الأفعال التي كان من الممكن أن تلحقها في حال نشرت تغريدة على حسابها في توتير بعد غياب، وبعفويتها وعاطفتها المعهودة نشرت تغريدة على حسابها ذكرت فيها: “ببالغ الحزن وعظيم الأسى أنعى الصديق الأديب أمجد ناصر، الذي ارتقت روحه إلى العلياء، بعدما أثرى حياتنا بالحب والحياة والحرية والجمال.. سنفتقدك كثيراً، لروحك المجد والخلود يا أمجد…”
ومن يقرأ نعي وزير الثقافة والشباب الأردني، محمد أبو رمان، يلمس ما بين سطوره أنه لم ينع لأنه مجبور كموقع مسؤوليته، بل لأن ماضياً كان يجمعه مع ناصر عندما كان صديقه وزميله أيضاً، باعتباره كاتباً وصحفياً سابقاً.
وقال أبو رمان في النعي الذي نشره مساء رحيل الشاعر: “إن أمجد ناصر سيبقى في ذاكرة الأردنيين، وفي ذاكرة عمان التي انطلقت منها كلماته الأولى، وكتب فيها ديوانه الأول (مديح لمقهى آخر)، والذي تحدث فيه عن شوارع ومقاهي عمان”.
واستذكر تجربة أمجد الشعرية كأحد أبرز رواد الحداثة الشعرية، وقصيدة النثر، ونتاجه الإبداعي، ومساهمته كشاعر، ودوره الكبير في إثراء المشهد الشعري العربي عبر مؤلفاته الشعرية، ومشاركاته المتعددة في المهرجانات العربية والدولية، إذ كان أول شاعر عربي يقرأ في الأمسية الافتتاحية لمهرجان لندن العالمي للشعر، ومشاركته في لجان تحكيم الجوائز العربية والدولية في الأدب والصحافة.
الكاتبة والشاعرة “الجدلية” زليخة أبو ريشة، والتي قلما تتفق مع أي طرف من الوسط الأدبي، إلّا أنها اتفقت مساء الأربعاء مع الجميع في ألمها على رحيل ناصر، حيث نشرت على صفحتها على فيسبوك: “برغم جميع المقدمات لا أصدّق… فالوجود غير مكتمل من دونك… وكذلك الحب والشعر… ناضلتَ بما يكفي ذاك المرض اللعين، حتى أنهك جسدك… وظلت روحك عصيةً على الخضوع. كل ما نقوله فيك محض تهويمٍ في الأسى والمرارة… الأسى والمرارة… ذاك إناء زجاج وقع من يد الحياة ونحن نلملم كسراته، ولا نعلم أننا من زجاج أيضاَ… وداعاً يا صديقي… وإلى اللقاء…”.
فيما كتب الكاتب وعضو رابطة الكتاب الأردنيين، محمد المشايخ، عضو رابطة الكتاب الأردنيين ومديرها الإداري الأسبق خلفاً للمرحومين حسين حسنين وميشيل النمري: “لولا مغادرة الشاعر أمجد ناصر، لولا مغادرته عمان إلى بيروت عام 1978ليلتحق بالمقاومة… لما كنت عملت في الرابطة… إذ إنني حاولت فقط أن أملأ الشاغر الذي حدث بسبب سفره منذ ذلك العام.. أحرّ التعازي وأصدق مشاعر المواساة لمحبي أمجد ولأصدقائه في العالم”.
لم يمر وقتاً طويلاً عما قاله ناصر: “ليس لدي أعداء شخصيون”… فعدوه الذي هزمه كان الموت الذي تعرّف عليه قبل أن يسرق روحه، وتحديداً عندما جاء عليه ذلك النجم الذي لا يزف الخبر الجيد بحسب وصفه، ومن وقته أعلنها حرباً خلفته مهزوماً. هو الذي قال أيضاً: “الرحلة التي بدأت برقصة تحت نجم… لم تبلغ تلال الوعد السبعة بعد!”.
غادر الشاعر أمجد ناصر البدوي عاشق الترحال رحلة الحياة مخلفاً وراءه إرثاً يضاف على رفوف ميراث الشعراء الأنقياء الذين كانوا أكرم من الحياة على هذه الحياة، غادر ناصر كريماً… وكما يقول المثل البدوي الأردني: “يا رب صار عندك ضيف.. أكرمه!”.
—————————
مملكة أمجد ناصر/ معن البياري
سأل أمجد ناصر، في مطلع قصيدةٍ كتبها في دمشق، في العام 1982، وضمّها في مجموعته الثالثة، “رعاة العزلة”: “كيف أكتب قصيدتي/ وأنا لا أملك إلا حُطام الوصف؟”. وكان قد افتتح قصيدةً سابقة، كتبها في بيروت، في العام 1979، ضمّها في مجموعته الأولى “مديح لمقهى آخر”، بأن “الكلام فضةٌ/ والشعر ذهبٌ/ والنساءُ رنين المعدنيْن/ والقصائد/ لغتنا من الآن فصاعدا”. .. منذ هناك، في نصوصه الأولى، وهي ليست بواكيرَه بالضرورة، وأمجد يقيم في منطقةٍ من كتابة الشعر الوصفُ فيها نافر، لا أناقة فيه، ذو حدّةٍ عالية، إعجابُك به يصدر عن عدم سهولته، عن مفارقتِه البساطة. وعندما كان يَسأل مبكّرا عن كيفية كتابتِه قصيدتَه، في إحالةٍ إلى لونٍ من الحيرة، بدا أنه يأنف من الوصف، وهو الذي لا يملك منه غير حُطامه. في أكثر من أربعين عاما من الشعر، من الكتابة، وهو ممن يستعصي اعتقالُهم في زجاجةٍ، اسمُها قصيدة النثر، على ما كتب، مرّة، الناقد المغربي صلاح بوسريف، أظن أن أمجد ناصر كان شديد الحذر من أن يكون وصّافا، بمعنى أن يكتب ما يرى، أو ما يتخيّل، أو ما يتصوّر، بلغة المجاز والاستعارة، وإنما بالذهاب إلى مساحةٍ أخرى، يقطفُ منها البعيدَ عن المثال والشبيه، ويتطرّف في مفاجأة قارئه في مغامرتِه هنا. عدا عن تطرّفه الذي تدرّج فيه، منذ بواكيره السبعينية، وصولا إلى قصيدته الأخيرة، المتعدّدة الطبقات، مملكة آدم، (منشورات المتوسط، 2019) في النثرية، المتحرّرة ليس فقط من أي موسيقى أو إيقاع، بل من أي وفاءٍ للفهم الذائع عن الشعر، لا لأن أمجد ناصر مضادٌّ، في ثقافته وكتابته ووجدانِه وحياته، لكل ما هو تقليدي، وإنما أيضا انصرافا إلى أقصى الأقاصي في بناء الشعر الذي يريد، من السرد الفالت مثلا، من النص المنسرح الذي يؤالف بين محكياتٍ ومشهدياتٍ، من الكتلة الأشبه بقصةٍ متتابعة التفاصيل، بجمل قصيرة.
ضمّت مجموعة أمجد ناصر، الحياة كسرد متقطّع، (2004) قصائد غالى فيها في تطرّفه ذاك، لكنه بدا في أمره هذا يواصل الإجابة على سؤاله القديم: كيف أكتب قصيدتي؟ فيما هو لا يملك غير حُطام الوصف. وواحدةٌ من مفارقاتٍ في واحدةٍ من قصائد هذه المجموعة أنه يسمّي السرطان “صائد الغفلات اللعين”، لا يصفه. القصيدة تحكي حكيا مسترسلا عن صديقٍ مشترك مع صديق آخر أصيب بهذا المرض، “.. وجدوا الورم الخبيث متمكّنا من الدماغ فاستأصلوه”. تحكي القصيدة عن العلاج الكيماوي الذي خضع له الصديق، لعلّه المُهدى إليه القصيدة، المصوّر الفوتوغرافي السعودي صالح العزّاز، والذي توفي بعد عناء مع السرطان. يختتم أمجد القصيدة، النصّ الطلقَ الليّن البالغ النثرية والذي يسميه “حديث عادي عن السرطان”، بأنه ليس متأكّدا أن الشعراء قادرون على التنبؤ بموتهم.. ولكنه يتنبأ بأن يموت في يوم ماطر في لندن، ويوصي، في القصيدة الخالية من أي شعورٍ بتفجّع أو أسىً أو نبرة رثاء، بأن يُدفن في المفرق (مدينته في الأردن) قرب أمه. وهنا لا فراسة ولا غيرها كانت لدى أمجد عندما كتب هذا، ليس فقط لأنه لم يمُت في لندن في يوم ماطر، ولا لأن الشعراء غير مطالبين بالتنبؤ كيف يموتون، وإنما أن القصيدة أرادَها صاحبُها هكذا، حرّةً طلْقةً، برّية.
أجدني وأنا أجول في قصائد للصديق الزميل الأحبّ، أمجد، وأرى هنا ما أرى، لا أقع تماما في “مملكة آدم”، آخر ما نشر من شعر، على ما أقول في “الحياة كسرد متقطع”، كأنه ربما رمى في تلك التجربة مغامرةً جدّ جريئة، ثم غادرها ومضى إلى ما يجوز أن نظنّها ضربةً شعريةً اجتمعت فيها كل خبرات قصيدته التي سأل، قبل نحو أربعين عاما، كيف يكتبُها، فيما لا يملك غير حطام الوصف. منسوبُ النثرية هنا أقل، ولكن من النوع الذي لعب في مساحته أمجد طويلا. يُشاغل في القصيدة الطويلة (سبعة مقاطع) في الكتاب (79 صفحة، بمقدمة صبحي حديدي وتخطيطات أنس نعيمي) الموتَ الذي يصنعه متوحش، يعتني بالفتك الذي يُحدثه هذا القاتل، بالدم الكثير، بالدم والبلازما، بالسّارين والبراميل. من غير اللائق، ولا الكياسة ربما، أن يتم “إيجازٌ” لهذا النص الصيحة، ولا شرحٌ له، لأن النشيج فيه يُحافظ على وقعٍ لا تقدر على مقاربته عبارات مقالةٍ سيّارة. الأجدى أن تُقرأ قصيدة “مملكة آدم” فقط، لنرى فيها الموت السوري الراهن، وغيرَه، مثلا. ولنقرأ أمجد يكتب فيها: “أنا نبيٌّ من دون ديانةٍ ولا أتباع. نبيّ نفسي، لا أُلزم أحدا بدعوتي، حتى أنا”. .. هذا ليس حطامَ وصفٍ، وإنما بيانٌ أخيرٌ من أمجد ناصر، قبل الوداع، ومغادرته مملكته في الشعر والكتابة والحياة.
العربي الجديد
————————
أمجد ناصر.. وصل الشاعر بسلام/ أمير داود
تبدو جملة الشاعر الأردني أمجد ناصر أو “يحيى النعيمات” (1955 – 2019)، الذي رحل أوّل أمس في مدينة المفرق الأردنية: “أنا شاعر أردني فلسطيني، أو العكس” شديدةَ الدلالة للتعريف بسيرة الرجل التي لم تتوقّف عن كونها سيرة أدبية إنسانية زاخرة بالتجريب والتحديث الشعري والسردي والمزج بينهما، بل تظهر حالة “الفلسطنة” الطوعية ذات الصبغة شديدة التلوين ماثلةً في أكثر أعماله الأدبية حضوراً.
إذ أنّ الطفل “يحيى” ابن بلدة الطرّة الأردنية، وبعد أكثر من عشرين عاماً، سيجد نفسه صحافياً وشاعراً باسم “أمجد” من طينة المقاتلين في اجتياح بيروت في إذاعة الثورة الفلسطينية وبرامجها الثقافية تحت الحصار الذي استمرّ زهاء تسعين يوماً، تذهب به التجربة من هنا ويذهب بها، إلى شتات الثورة من بيروت إلى قبرص ونيقوسيا ولندن، وهناك ليشارك في تأسيس تجارب صحافية فلسطينية أو ذات تأسيس فلسطيني، من صحيفة “القدس العربي” إلى صحيفة وموقع “العربي الجديد” التي كانت آخر مسؤولياته فيها رئاسة تحرير موقع “ضفة ثالثة” المنبثق عن الصحيفة.
يُخزّن الشاعر ذاكرة التسعين يوماً، ذاكرة الاجتياح وحافة الموت، في بيروت في قلبه طويلاً، طويلاً جدّاً، لأكثر من ثلاثين عاماً، ليُفرج عنها في العام 2013 على شكل ذاكرة حملت اسم “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد”، يقول فيها: “لا أتحدّث عن تاريخ، لا أتحدّث عن عبرة، ولا عن رواية كاملة، أتحدّث عن تدوينات شخصية، عن انفعالات وتفاصيل وشظايا حكايات يومية لا يُعوّل عليها كثيراً، ولا تطمح بالتأكيد أن تكون كذلك”. وإن لم تكن كذلك، فقد كانت بالتأكيد “الإيقاع الذاتي المباشر الذي لم يفكّر في الجانب الأدبي، أو الزخرف البلاغي عندما كان كلُّ شيء يتراقص على الخيط الدقيق بين الحياة والموت”.
لم تكن لغة صاحب “وصول الغرباء” (1990) إلّا خروجاً متواصلاً عمّا هو متعارَف عليه في الكتابة، ولعلّها رغبة الرجل في اللعب خارج صندوق الأشياء وتمرّده عليها، مرّةً يمنح القارئ جرعة هائلة من شعرية غرائبية أساسها النثر، ومرّة يمنحه نثراً راقصاً أساسه الشعر، قال فيه الناقد صبحي حديدي ذات مرّة: “إنّ صنيع أمجد هو لغة شعرية وسيطها التعبيري هو النثر”. هكذا جاء عمله الشعري “حياة كسرد متقطّع” (2004) موغلاً في مزاوجة لم يعتد القارئ عليها بين الأجناس الأدبية، من نثر وشعر وما بينهما. ولعلّ مفردة التجريب في الشعر، وإن انطبقت في سياق تجربة شعرية ناضجة، ستجد في مجمل أعماله نموذجاً مثالياً للبحث والتشريح والمقاربة.
كانت حياة صاحب “خبط الأجنحة” (1996) محض خبط أجنحة من مكان إلى مكان، طار عبرها وطارت عبره في فضاءات شديدة الكثافة أفضت إلى كتابة مجموعة من أعمال كُتب الرحلات مثل “فرصة ثانية” (2008)، و”رحلات في بلاد ماركيز” (2012) التي زخرت ببراعة وصف وإحاطة لافتة بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة في اليوميات والمعيش الطارئ والساكن، اشتغل فيها وانشغل عبرها في قراءة معمّقة لتاريخ البلدان ومقاربات المعيشة واستدخالات القضايا الكبرى فيها. إنها، بتعبيره، “أكثر من مجرّد وعاء جغرافي أو بيئي يتحرّك داخله الإنسان أو يسعى في سفره وترحاله إليه… إنها مثل كائنات حية يطرأ عليها التقادم والتآكل والحت والتغير والهرم مثلنا بالضبط”.
لا تتوقّف الرواية عند مؤلّف “أثر العابر” (1995) على تخوم وظيفتها الحكائية التي تحكي وتسرد ما يحدث وما حدث وما سيحدث، إنها، أي الرواية، مدّت حدودها واستحالت أكبر من كونها وعاءً حكائياً فقط وذهبت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها السابق الى الحكاية، لا يهرب فيها من الشعر، وهو الشاعر في القلب والعقل والوجدان، بل يذهب إلى الرواية بكلّ ما يحمله من شعر في القلب. إنه ينقل الشعر إلى الرواية، ويذهب بالرواية إلى مربّعات الشعر، نافياً امتلاك الكاتب للغتين، لغة للشعر ولغة للنثر، بل محض حالة من حالات المحاولة لضغط العالم في “حيز لغوي وتعبيري محدود”.
لم يتمكّن صائد الغفلات اللعين (السرطان)، كما أشار إليه صاحب “حيث لا تسقط الأمطار” (2010) ذات مرّة، أن يفتك به تماماً، ولعلّ الغفلة نقيضة الصحوة بعد التوقّف، والانطلاق بعد النكوص، بل هادن الرجل المرض بالمهلة، التي كتب فيها حديث الحواف والفجيعة. ولعل الفجيعة، وإن كان فيها ما فيها من فجيعة شخصية على مشوار لم يكتمل تمام اكتماله، وهذا حق مشروع بالفطرة والغريزة وحب الحياة، بل لأن صائد الغفلات إياه، باغته بالتحولات الإلزامية التي قضت مضجع العاديات اللذيذة، وهناءة اليومي التي يقتات عليها صاحبها.
ولعلّ أمجد، الشاعر الذي أحنى رقبة الكلمة أمام الشعور، والجملة أمام الموقف، والهزيمة اللائقة أمام الهزيمة الحتمية، لم يفته أمر تطويع لحظة الحافة الهائلة أمام اللحظة الشعرية، وكأنها غريزة أن تحكي، حين يكون الحكي والقول والشعر سلاحك الوحيد في رحلة الحافة، إلى أن تصل، وقد وصلت بسلام الآمنين.
————————–
أمجد ناصر وداعاً… حيرة سؤال الكتابة/ أنطوان شلحت
رحل زميلنا أمجد ناصر (1955 – 2019).
وقعُ رحيله كان مفجعاً، بالرغم من أنه متوقّع.
إلى جانب نتاج أمجد ناصر الباقي في الشعر والرواية، ستظلّ ذكراه مقرونة بصحيفة “العربي الجديد”، وبموقع “ضفة ثالثة” الصادر عن الصحيفة، والذي تولّى إدارة تحريره إلى ما قبل رحيله، وشاء القدر أن يتزامن هذا الرحيل مع دخول الموقع عامه الرابع منذ انطلاقته في بدايات تشرين الأول/ أكتوبر 2016.
إبان انطلاقة “ضفة ثالثة”، اختار أمجد ناصر أن يلفت إلى أن العنوان نفسه طموح، وقد يكون مبالَغاً فيه أن يبتكر الذين لا يرغبون في أن يظلّوا سجناء الاستقطابات الضيّقة، المؤدلجة بشدّة، ضفّتهم الخاصة بهم. وأكّد أن هذا الكلام يبدو شعرياً، ولكنه قابل للواقع، وقابل للتطبيق. وبصرف النظر عن هذه الدعاوى الكبيرة، هناك رغبة ملموسة لدى عدد كبير من المثقّفين العرب في أن يكون لهم منبر، أو أن يكون هناك منبر يتابعون من خلاله ما يجري داخل المشهد الثقافي العربي، والعالمي إلى حدّ ما.
ولدى سؤاله عمّا إذا كان إطلاق موقع ثقافي بمثابة مراهنة خاسرة في وقت تُقفل مواقع وصحف وملاحق ثقافية في العالم العربي، أجاب قائلاً: “نُطلق موقعاً ثقافياً، اليوم بالضبط، لأن هناك العديد من الملاحق الثقافية، بل والصحف المرموقة، أغلقت أو هي مهدّدة بالإغلاق، لأسباب عديدة بعضها يعود إلى السوق وبعضها إلى التمويل، وبعضها إلى الاضطراب الشديد في الحياة السياسية العربية الذي يجعل إصدار صحف، والاستمرار في إصدار صحف، كالمشي في حقل ألغام.
فهذه السنوات الخمس الأخيرة (منذ 2011) لم يعرف مثلها العالم العربي من قبل، وجعلت التمسّك بموقف، أو الانحياز إلى موقف، عملاً أخطر من الاتجار بالمخدرات. فما كان يبدو رائعاً ومبهجاً، مثل الربيع العربي، قد ينقلب إلى كابوس. وما كانت تُسمّى دولة وطنية قد تكون أول من يقتل شعبها. وإذا كانت السياسة العربية تفرّق وتعزل عرباً عن عرب آخرين، فإن الثقافة قد تكون أرضاً جامعة، رغم أن الثقافة ليست معزولة عما يجري في محيطها الاجتماعي، وهي في موضع خطر دائم، خصوصاً عندما تكون نقدية”.
وقارب أمجد علاقة الموقع الثقافي الجديد بالسياسة، قائلاً: “للموقع سياسة ثقافية وليست له سياسة سياسية؛ بمعنى أنه يخضع للمعايير المهنية في تعامله مع المواد التي يشتغل عليها وينشرها. لكن عندما أقول إن لا سياسة سياسية له، فهذا لا يعني انقطاعه عن قضايا التحرّر والحريات في العالم العربي، ولا عن العدالة والمواطنة التامّة غير المرتبطة بشرط. هذه، في فهمي، في صلب عمل أي منبر ثقافي عربي ينتمي إلى محيطه ويتفاعل مع قضاياه. منذ زمن طويل، كنا نحّمل الثقافة والمثقّفين مسؤولية “قيادة” الشعوب والأمم. هذه مسؤولية أكبر بكثير من أن تنهض بها فئة محدَّدة مهما أوتيت من أدوات السحر. أنا لا أقول بهذا القول اليوم، ولكني أرى للمثقّف دوراً أساسياً في محيطه، ولا أنظر إليه باعتباره شخصاً متخصّصاً في حقول ضيقة ومنعزلة عن الحياة العامة”.
في ما يخص نتاج أمجد ناصر الأدبيّ، سأكرّر الإشارة، ضمن هذه الإطلالة السريعة، إلى اعترافه، في 2010، وهو العام الذي شهد إصداره ثلاثة كتب هي: روايته الأولى “حيث لا تسقط الأمطار”، و”فرصة ثانية” (شعري سردي)، و”الخروج من ليوا” (أدب رحلات)، بأنه يجد نفسه في حالة انعدام وزن كتابي، وأرجع سبب ذلك إلى يقينه بأن المبدع يقيم في الكتابة، وأنه ما دمنا نتحرّك في الأمكنة، فإن الثابت في هذا الترحال هو الكلمة، مُستعيداً قول الشاعر الألماني هولدرين إن القصيدة هي بيت الشاعر، لكنه زاد أنّ الكتابة، عموماً، هي بيت الكاتب، هي أرضه ومكانه، وليس صدفة، على ما يبدو، أن يُسمَّى الشطر في الشعر العربي بيتاً، وهذا إدراك عربي سابق على قول الشاعر الألماني السالف حيال العلاقة الأنطولوجية بين الشاعر أو الكاتب والكتابة نفسها.
وفي حوار أدلى به في ذلك العام للصديق محمود منير صرّح بما يلي: “لا أعرف بالضبط على أيّ أرض أقف. بصدق أقول لك، مستعيراً النفريّ، إنني في موقف الحيرة. من قبل كانت الأمور أسهل. لم يكن يطول تساؤلي عن ماهية الشعر والنثر. كان لكل واحد خزانته، كما يقولون. هناك خانات جاهزة صنعها غيرنا وكان سهلاً علينا أن نضع ما نكتب في تلك الخانات. لا أعرف فعلاً إن كان أبناء جيلي يتقلّبون في الحيرة حيال سؤال الكتابة اليوم مثلما أنا عليه”.
وعندما أصدر أمجد روايته الأولى، اجتهد كثيراً لإثارة سجال بشأن العلاقة بين الشعر والرواية، مؤكّداً أن الشاعر حين يكتب الرواية لا يهرب من الشعر الذي في وسعه أن يتخلّل أنواعاً كتابية عدّة من بينها الكتابة السردية الروائية أو القصصية، وأنه هو نفسه، حين كتب الرواية، كان يرغب في توسيع حدود إطار التعبير إذ يمكن، برأيه، تخيّل العالم من دون رواية ولكن من الصعب تخيّله من دون شعر، فالشعر أصل التلفّظ الأدبي، وفي البدء كان الشعر، أمّا الرواية فحصلت لاحقاً، وإن كان شكل الشعر تغيّر وتغيّرت صورته وإجراءاته اللغوية والكتابية منذ وُجدت قصيدة النثر.
ومقولة “الشعر أصل” ليست عربية الهوى فقط؛ فوليام فوكنر، الذي اعترف في الحوارات الفكرية والفلسفية التي أجرتها معه مجلة “باريس ريفيو” عام 1956، بأنه شاعر فاشل، أضاف أنه ربما كل الكتّاب يبدأون بالشعر، وحين يلحظون فشلهم فيه يتحوّلون إلى القصة القصيرة التي تأتي في المرتبة الثانية بعد الشعر، وإذا ما فشلوا أيضاً في القصة يتحولون عندها ناحية مشروع كتابة الرواية.
ولدى العودة إلى ما كتبه أمجد في فترة صدور روايته تلك، نقرأ على لسانه كذلك أن الرواية كنوع أدبي وسّعت حدودها وأصبحت أكبر من كونها وعاءً حكائياً فقط، ومالت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها السابق إلى الحكاية، وأنه في فعل الكتابة يمكن توقُّع الشعر والمعرفة والتواريخ الصغيرة والتأمُّل في مصائر الإنسان في زمن استفحال القوّة والمال والتكنولوجيا والحروب.
ولعلّ الأهم من ذلك أنه لم يعتبر كتابته للرواية هرباً من الشعر أو إعلان هزيمة للشعر خصوصاً وأنه من الذين كتبوا باكراً أدب الأمكنة أو ما يُسمّى “أدب الرحلة” الذي يضم خصائص نثرية وسردية وشخوصاً ليست بعيدة تماماً عما هي عليه في الرواية.
ورجّح أمجد أنّ الشاعر يسحب معه لغته إلى الرواية أو أي شكل كتابي يتصدّى له؛ فليست هناك لغتان للكاتب واحدة للشعر وأخرى للنثر، وهذا يعني أن لغة الشاعر في الرواية مشدودة ومكثفة أكثر، إذ إن الاقتضاب سمة الشعر عموماً فهو يعمل على ضغط العالم في حيّز لغوي وتعبيري محدود. وهذا يفيد الرواية التي تعاني عند كثير من الروائيّين العرب من الترهل والثرثرة اللغوية، إن لم يكن من الركاكة. ويشدّد أيضاً على أن الشاعر يُقدّم للرواية تصوّراً مختلفاً للعالم، وهو تصوّر قادم من البُعد الحُلمي للشعر. ولكن هذا لا يعني مماهاة الشعر بالرواية، وإن ظلّ عالم الرواية أوسع وأكثر مرونة من عالم القصيدة.
بهذه المقولات وغيرها كثير، وضعنا أمجد أمام ماهية الكتابة، باعتبارها أولاً وقبل أي شيء منهجاً تركيبياً له خصوصية في إدراك الحياة والواقع. وعندما أؤكّد على الكتابة، فعن وعي كامل بأنها جميع ما يكتبه الأديب.
وقد لا تكون حالة أمجد ناصر استثنائية، ولا سيما بين أبناء جيله، ومن سبق هذا الجيل من الأدباء الفلسطينيين والعرب الذي انخرطوا في معمعان الثورة الفلسطينية وحاولوا أن يترجموا هذا الانخراط إلى ثورة في الكتابة وأساليبها. أمّا إذا كانت كذلك، في قراءات مغايرة، فهي الاستثناء الذي يكشف لنا عُمق قاعدة الكتابة في شروط مشابهة، وأيضاً عمق ضرورتها في الآن نفسه.
العربي الجديد
——————————-
أمجد ناصر في وهج الأعماق/ عاطف الشاعر
“لتتلّطفِ الأكفُّ وهي تدفعنا بين الأعمدة
قانطينَ من الوصول إلى الثمرة المضاءةِ
بوهج الأعماق”
لعلّ أمجد ناصر، الشاعر أولاً وأخيراً، كانَ يلخّصُ فلفسة المتصوّفة المسلمين وهو يبدع نص “معراج العاشق” باقتدار وبقدر، حيثُ هو الأن في “وهج الأعماق”، عاشقٌ وحرٌّ، كما يحلو لهولاء الفلاسفة.
سقطَ خبرُ وفاة الشاعر سقطة الحسرة على قلوبِ محبّيه. لم أعرفهُ عن قرب، ولم أقابله، رغمَّ أننا تواعدنا على ذلك عبر الرسائل أثناء ترجتمي لبعضِ قصائدة. بدا لي، من الرسائل القليلة بيننا، شخصاً دمثاً ومتعاوناً وسهل الوصول إلى القلب. قرأت قصائدة ورواياتهُ ومقالاته ووجدتُ فيها ومضات أصالةٍ ومعرفةٍ عن تجربةٍ، وإرادة مذهلة حقاً. نشرَ قصائد لي وحرّرها بصورة تُخَلِصُها من الإفراط بالاعتناء الجرس الموسيقى للشعر، وبهذا أنا فخورٌ بجهده معي، بالرغم من أن الحظ لم يسعفنا باللقاء. حزينٌ أنا الآن على أمجد الذي نصحني بمواصلة الكتابة والترجمة وبالتطوّر في كليهما نحو الصفاءِ الحسّي والدقّة اللغوية.
في حياة هذا الرجل الذي يتنقّل من جنسٍ أدبي لآخر بحرفيّة واجتهادٍ لافت ما يثيرُ الإعجاب على أكثر من صعيد. ثمَّ هناك حدسهُ الإنساني والسياسي العاليان. لا يقبل الظلم ولا الفساد، فانحازَ لفلسطين ثورةً ومعنى من وقتٍ مبكرٍ في حياته، وكتبَ ضدَّ طغاة عرب حرقوا أكباداً وآتوا على أرواحِ كثيرٍ من الناسِ الأبرياء بقمعٍ لامتناهٍ وبعنادٍ متخلّف.
بدايات أمجد في بيئة الصحراء الأردنية ثمَّ عمّان في براعمها المدنيَّة الحديثة نسبياً، فبيروت بثورتها وعبثيةِ حربها الأهلية، فقبرص ثمَّ لندن الخضرة والظلام، ثم العودة إلى الأردن، كلُّ هذه، وغيرها من الأسفار، أضفت على كتابات هذا المسافر، حقيقةً ومجازاً، عمقاً وجمالاً نادراً في البيئات العربية المتقوقعة، والقليلة التجربة خارج نطاق بيئتها بشكلٍ عام.
“متوّجٌ بخفتِّي
عرشي على الهواء
مسنودٌ بحرقة الأنفاس”.
الصعود، من صعود الجبل، إلى مجاورة النجوم، فكتابة كلام الحجارة والصخور وما ينتأُ منها من نباتٍ، هذه معاريجُ حلّ بها أمجد. هو الذي لم يكفّ عن تأويلِ الماضي ليجدّدَ الحاضر، وعن الوقوفِ عندَ حوافِ الأشياء ليراها برهافة الأنفاس الأخيرة، ودقة الكلمات التي تلتقي بدلالات كانت تنتظرُ من يصنعها بحرفيّة الشاعر المجتهد.
اللغةُ دائماً في حالة انتظار، وهنيئاً لأمجد أنّه ظفر بمحطّات عليا منها، ووصلها مرّاتٍ ومرّات بقصائدة مُحكمة النظم، ومقالات وضّاءة الفكر، وروايات وكتابات أسفارٍ حافلة بالغناء والاستكشافِ وحدّةِ النظر ونفاذ البصيرة.
وداعاً لكَ جسداً، ولكن لا وداعَ لإرثٍ محفوظٍ من الكلمات التي تُطمئنُ الروح والذاكرة وتضئُ دروب كثيرين في أسفارهم، كثيرون سيحبونكَ أيها الباقي فينا الآن.
* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن
العربي الجديد
——————————-
أمجد ناصر… المثقف يحمل سؤاله انّى حلّ/ عاطف محمد عبد المجيد
ثمة صعوبة في عبور المكان العربي، كما كان يفعل أسلافنا العابرون الكبار، في جغرافيا واقعية مترامية الأطراف وأخرى مُتخيَّلة لا يحدّها حد، فنحن نعيش اليوم في عالم عربي استوت فيه الحدود على نحو قاطع، وسُيّجت بالأختام والأعلام والأناشيد الوطنية، فالسفر بجواز عربي في المكان العربي، هو كالسفر بين عوالم منفصلة ومتباعدة، ترمق بعضها بعضا شزرًا، هذا إن لم يصل التنافر بينها إلى حد العداء السافر. ولعلّ هذا يفسر، جزئيًّا على الأقل، ضآلة إن لم أقل انعدام، كتابة الرحلة عن العالم العربي بأقلام أبنائه، قبل أن ننطلق بأوجه محاطة بالريبة والشبهات، إلى العالم الأوسع. هذا ما يكتبه أمجد ناصر في عتبة كتابه «تحت أكثر من سماء.. رحلات إلى اليمن، لبنان، عمان، سوريا، المغرب، كندا». في هذا الكتاب الصادر منذ سنوات عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يرى ناصر أن هاجس ما خطّه، هو الاحتفاء بالمكان وشخوصه، لا مجرد المرور بهما مرور الكرام. إنها محاولة للتوقف في المكان وأمامه، والإنصات إلى أصواته الكبيرة والصغيرة على السواء. ناصر يذكر كذلك أنه رغم أن هذه الرحلات إلى أمكنة عربية، مشرقية ومغربية، تمت لأسباب مختلفة، فهو يظن أن هناك ما يوحّدها ويجمع بينها، إذ إن أسئلة الأمكنة العربية، اليوم، السياسية والثقافية والاجتماعية متشابهة جدًّا، تَشابُه خيبات أبناء هذه الأمكنة في تحقيق الحدود الدنيا من طموح في جعل أمكنتهم صالحة لحياة حرة كريمة. غير أنّ ناصر يرى أنّ هذا لا يعني أنّ للسياسة ثقلًا كبيرًا في هذه الرحلات، فالثقل الأكبر، كما سنلمس ذلك كقراء، هو للثقافي والاجتماعي والتاريخي، باعتبار هذه الأبعاد أكثر قدرة من السياسة، على عكس ما هو استراتيجي. فليست السياسة دليلًا صالحًا لمعرفة ما يعتمل في الحياة العربية من أحداث وتمخضات، بينما الثقافة، بمختلف أوجهها، هي دليل أقل مراوغة.
في كتابه هذا يضم أمجد ناصر رحلته إلى كندا، التي لا يراها غريبة عن سياق الكتاب العام، إلى جانب رحلاته العديدة إلى الدول العربية، لأنه يرى أن الحضور العربي والأسئلة العربية لم تكن بعيدة عنها، فالعربي يحمل سؤاله، وهو سؤال قَلِق ومُحيّر، أنى حلّ. ناصر يقول في نهاية عتبته هذه إن هذه المقدمة ليست سوى انصياع لتقليد عام يتعامل مع المقدمة كعتبة للكتاب، ونحن نحار، على ما يبدو، في كيفية الدخول في كتاب لا مقدمة له!
من رامبو إلى إسماعيل
أمجد ناصر يكتب هنا عن رحلته إلى اليمن معنونًا إياها بـ«اليمن: من آرثر رامبو إلى عبد الفتاح إسماعيل.. إلى الفتنة الصنعانية»، كما يكتب عن رحلته إلى عُمان: الأساطير، الأئمة، الجبال، الأفلاج. ويكتب عن دمشق: الدار المسقية، والدم الذي سال في شق. مثلما يكتب عن رحلته إلى الدار البيضاء: مجيء الزمن المغربي، وكذلك يكتب عن زيارته إلى أرض القيقب: لهيب الأشجار، صدمة فرنسية، وبرج بابل شعري. حين يكتب ناصر عن رحلته إلى اليمن يقول: «قبل نحو ثماني عشرة سنة، زرت عدن للمرة الأولى، وقبل خمس عشرة سنة كانت الأخيرة، وبين هذين الحدين أقمت شهورًا عدة، طالبًا في معهد الاشتراكية العلمية، الذي فررت منه قبل أن أكمل سنتي الدراسية الأولى. في المرة الأولى جئت من بيروت في عِداد وفد فلسطيني وعربي يساري لحضور الإعلان عن حزب طليعي من طراز جديد، كانت عدن تعدنا به منذ وقت». وبعد مزيد من الحكي، يضيف ناصر فيقول إن زيارته الأولى إلى عدن كان الهدف منها هو الحزب الطليعي، وليس رامبو، الذي لم يكن يعرف شيئًا عن إقامته في عدن. وقتها كان ناصر قادمًا من بيروت التي كانت يومها تلتقط أنفاسها بين حربين كاسحتين، تحت مناخ سياسي وفكري يخلط بين القصيدة والبندقية. يومذاك كان ناصر ماركسيًّا متحمسًا، يأتي إلى قلعة الاشتراكية العربية، كما كان شاعرًا ناشئًا، أصدر ديوانه الأول، وترك الثاني في بطن المطبعة. في عدن، تَعيَّن على ناصر، لدى ملامسته كثافة الهواء، ووقوفه تحت الحواف البركانية المطلة على المدينة، أن يفكر بماركس وعبد الفتاح إسماعيل وجورج حبش، أكثر مما يتعيّن عليه أن يُفكر برامبو، بل، يقول ناصر، ما كان رامبو سيخطر له على بال، لولا المصادفة التي ستجعله، في ما بعد، على تماس مع حفيف وأمكنة هذا العابر الهائل بنعال من ريح. ناصر الذي فُتن بسيرة رامبو، أكثر مما فُتن بشعره يقول، إن شظايا من السيرة الأسطورية لرامبو، التي نُشرت هنا وهناك في العالم العربي، قد دفعت شعراء شُبانًا لهجر بيوتهم واجتياز الحدود إلى كومونة بيروت، أما شعره فلم يجد له متكأً مريحًا في لغتنا العربية. ناصر يرى أن رامبو الذي كان في السادسة والعشرين حينما زار عدن، تمت استضافته بشكل سيئ في اللغة العربية، خاصة أن الكتاب الذي ترجمه خليل الخوري ضم رُفات الشاعر أكثر مما ضم جسده الحي، ذا الانفلاتات الصاخبة.
ويضيف ناصر أن عدن لم تعد كما عَهِدَها، فعندما غادرها ربيع 1981 لم يكن فندق عدن موجودًا، كان هناك الجولد مور الذي يطل على أجمل بقعة من الساحل، بمُضيفاته الإثيوبيات الرشيقات ذوات البشرة الكاكاوية، اللواتي كُن يتحدثن مع الزائرين، خاصة لم يكن آنذاك مسموحًا لليمنيّات أن يختلطن بالأجانب.
لست راعي الذكرى
وعن صنعاء يقول ناصر، إن الكتابات العربية التي تؤرخ لقيامها تقول إن سام بن نوح طفق، بعد الطوفان، يبحث عن موضع يتعادل فيه الليل والنهار، ولا يغلب فيه البردُ الحرَّ، ولا يفسد فيه الطعام، فلم يجد أفضل من هذا الموضع، فأقامَ فيه صنعاءَ، وهي بذلك تكون أقدم مدن الأرض. ناصر الذي يعنون رحلته إلى بيروت بـ«لستُ راعي الذكرى ولا مدبر شؤون الحنين» يقول إن بيروت ليست هي مسقط رأسه، وليست كذلك مجرد مدينة مرّ بها بين مكانين. لقد منحته بيروت، في أول مرة يزورها، اسمه في شهادة ميلاده في الصحيفة، وعلى غلاف كتابه الأول، وشكلت، بيدين لم تفرقا كثيرًا بين عابر ومقيم، هيئته وقوامه. ناصر يقول إنه من غريب التدابير أن يبلغ غيابه عن بيروت الزمن نفسه الذي بلغه غيابه عن بلده الأردن: «أربعة عشر عامًا غبت فيها عن الأردن، وأربعة عشر عامًا أخرى عن بيروت، أدركتُ، في الأخيرة، مغرب الشمس وبحر الظلمات. فأي قسمة عجيبة للزمن؟ وأي عدالة لهذا الغياب الذي ساكنني حياتي؟ بل قل أي مواعيد مع الأقدار تنتظرني هناك؟».
وشم بيروت
ناصر يُقر بأن الزمن العربي سال بفداحة، وأن الحنين يطور أمكنة لا وجود لها، ربما، إلا في أعالي سكراته. وبذا يأمر نفسه بأن يعطي الخيبة بعض ما تستحق من وجاهة، وأن يوطد النفس على تَقبّل كفاح الأيام، ضد مطارح الألفة، وما أنجزته أيادي اللاعبين بالمصائر، ضد مواضع الحنين. ويعلن أنه ليس وحده مَن يحمل وشم بيروت، بل كثيرون غيره يحملون الوشم نفسه، وليس هو راعي الذكرى، ولا مدبر شؤون الحنين. ناصر الذي تتكون عائلته من تسعة أبناء، وُلِد كل منهم في منزل ومكان مختلف، يرى أنهم ليس لهم ذاكرة طفولية واحدة، بل هناك تسع ذاكرات وتسع طفولات، كل واحدة منها تشخص إلى بيتها الأول الذي لم يعد موجودًا، وبيروت، أكثر من غيرها، تمتلك أسبابًا كافية لمحو الخُطى والأثر. فالحروب، التي دارت عليها وفيها، تكفي لأن تقوّض أحياء برمتها، وتنهض، بالإسمنت المرتجل، أحياء جديدة منبتة الذكرى والأثر. وها هو يرى في بيروت المدينة التي تجتلب المواطن العائد، والسائح الأجنبي، ورجل الأعمال العربي العابر إلى جهة أخرى، والمقتفي خيط حنين مثله. ثم يختتم ناصر رحلته هذه إلى بيروت قائلًا: «لا تكف الحروب عن تغطية الجريمة بالمقدس. لا تستقيم بدون أن تستر سوأتها بالكلمات: سلامة الجليل، عناقيد الغضب، نبوءة أشعيا، جون شتاينبك، السلام. السلام. هذا السلام، يا له من مذبحة». وفي حديثه عن رحلته إلى عُمان يقول ناصر إنه لا يملك، الآن، سوى الأسف على خيلاء الفتوة، التي جعلته يمشي على الأرض مرحًا، منصرفًا عن تقري الأزمنة المتعاقبة على الصهاريج الحجرية التي قوّرتها الجن، والروح الباسلة التي تناضل في الأشجار القليلة، والصلة التي تتجاوز التطيّر بين النافذة والغراب الأسود والصمت البليغ الذي يفرض نفسه سيدًا أوحد على الظهيرات، والخلخال الفضيّ الذي يلمع في كاحل هضيم لامرأة تصعد الهوينى إلى الحافلة العمومية، والعيون السود الكحيلة التي طورت في احتجاب الجسد معجمًا خاصًّا لتراسل الأشواق وروائح البخور والعطور الشرقية الثقيلة المعششة ببعض الحوانيت الباقية من الحقبة الكولونيالية، والخط البحري لشركة الهند الشرقية. هنا يتحدث ناصر عن عدن كمدخل لعُمان، وهو مدخل، كما يقول، غريب للوهلة الأولى، إذ لم يكن هناك ما يجمع اليمن الجنوبي بعُمان إلا التنافر والخيارات المشدودة على طرفيْ نقيض، ففيما الأباضية هي المذهب السائد في عُمان، فإن الغلبة للسُّنّة الشوافع في جنوب اليمن، وفي الوقت الذي كانت فيه عدن تُولّي وجهها شطر الكتلة الشرقية، كانت عُمان تدير وجهها جهة الغرب. ناصر الذي لاحظ نظافة مدينة مسقط الاستثنائية، لا يستغرب وجود أكثر من لافتة في شوارعها مكتوب عليها ممنوع البصق في الشوارع، غير أن مسقط الحديثة لها آفتها أيضًا، وهي آفة عربية الطابع، فكأن التحديث، في التصور العربي، هو قطع حبل السُّرة مع البيئة وخبرات الماضي، واستجلاب مواد وأنماط بناء وعيش عصرية لا تستقيم مع المحيط الطبيعي. كذلك يرى ناصر أن عُمان ظلت، حتى عهد قريب، من أكثر الأقطار العربية غموضًا ونأيًا، ولعلها لا تزال كذلك في خيال البعض.عُمان التي يقول ناصر عنها قلما يصادف المرء اسمها أو صورتها في أخبار العرب التي لا تكف عن إدهاشنا بمدى سوئها، لا يأتي غموضها من قلة الأخبار فقط، بل من الموقع الجغرافي، والتكوين المذهبي، وانكفاء البلاد على شؤونها أيضًا.
رحلته إلى سوريا
أما عن رحلته إلى سوريا فيكتب ناصر قائلًا إن سوريا، على كل حال، تبدو لزائرها البلد العربي الأكثر تماسكًا، كان هذا طبعًا يوم أن زارها ناصر، في وجه العصف الكوكبي الذي تقوضت تحت زعانفه وشيفراته الفولاذ منظومات سياسية واقتصادية كبرى، وبهذا المعنى، لا يزال للأيديولوجيا حضور في دمشق، بل إنها العصبية الظاهرة التي تستند إليها القوة، ويقوم عليها السلطان.
ويكتب ناصر عن رحلته إلى الدار البيضاء في المغرب، كما يكتب عن رحلته إلى كندا، التي يُنهي كتابته عنها قائلًا: قد أرغب أن أكون بعيدًا عن العالم العربي، لكنني لا أتصور نفسي بعيدًا عنه كل هذا البعد… في كندا. وبعد هذا كتاب ممتع بحق، أخذنا أمجد ناصر، عبر صفحاته، إلى مدن وأماكن عديدة، ربما لم يذهب إليها كثيرون منا، وربما لن تسمح لهم ظروفهم بالذهاب إليها أبدًا، وعرّفنا إلى معالمها، وتاريخها القديم والحديث معًا، ناجحًا إلى أقصى حد، في نقل صورة متكاملة لها للقارئ، جاعلًا إياه يشعر وكأنه يتجول برفقته في شوارعها وبين أهلها وقاطنيها.
٭ شاعر ومترجم مصري
القدس العربي
——————————-
نشيد يتشبّث بما هو جدير بالبقاء/ محمد الأسعد
على الكتابة عن شاعر أن تكون قريبةً من الشعر، على الحافة، وإلّا اغتربت وغرّبت، وكذلك الأمر حين يرحل شاعر تميّز منذ البداية بصخب هادئ، أو بهدوء صاخب، مثلما رحل أمجد ناصر في الليل الهادئ من دون أن يغضب ربما.
كلنا نتمنّى، كما تمنّى ديلان توماس أن لا يرحل هادئاً في ذلك الليل الطيّب، أن يغضب ويغضب لموت الضياء. لماذا؟ لأنني حين أعود إليه في وقفته تلك ذات يوم من أيام عام 1982 على منصة في احتفال شعري في قطر حضره أكثر من غاضب مثل ناجي العلي وغالب هلسا، أتذكّر ارتباكه وقوله بحياء إنه لا يستطيع أن يضج ويصخب ويشير بيديه كغيره من الشعراء.
ومع ذلك لا أجد ما هو أكثر تعبيراً عنه في ما كتب ونشر وفي رحيله الهادئ من ترتيل تلك القصيدة، قصيدة “لا ترحل هادئاً”، لأن الحكماء والشعراء والفنانين، مع معرفتهم حين تحين نهايتهم أن الظلام حق لأن كلماتهم لا تشع بروقها، لا يرحلون هادئين مهما كان الأمر؛ إنهم يغضبون.
وهناك سبب إضافي لهذا الترتيل بالذات، الترتيل الذي هو ليس بالجنائزي ولا بالرثائي، بقدر ما هو نشيد يتشبّث بما هو جدير بالبقاء، بأن يظل للإنسان، أي إنسان، رغبته بالبقاء، حتى وأن أدرك أن النهار يقترب من نهايته. هل هو ترتيل من أجل أن يظل نهار الشاعر قائماً، وغضبه مسموعاً، ولكلماته بروقها؟
هو كذلك كما أتخيّل، بل وأتمنّى، لأنني ما زلت أتذكّره وهو يخرج بعد مجموعة شعرية أولى ويبدأ بقص حكايات مختلفة؛ حكايات من أطلق عليهم اسم رعاة العزلة، ويفتتح هذه البداية المختلفة مرتدياً زي ناسك متنبّئ “مطر جارح سيساقط عمّا قريب بين الأغاني وسفوح مؤاب”.
ما زلت أراه في هذا الزي، وأسمعه يقول كأنما ليؤكد ما أذهب إليه “يمكن أن يكون الشعراء متنبّئين مثيرين للشفقة”، وأضيف الآن، بعد رحلة طويلة للشاعر بين الكلمات وتحت سماء من كلمات وفي اتجاه بحر من كلمات، ويمكن أن يكونوا شريدين، حيرتهم مع كلماتهم أكثر مما هي مع كلمات الآخرين.
لم يكتب الشعر بقدر ما كتب نثراً كما قال ذات يوم، وهذا ليس اتجاهاً كما قال بعضهم نحو محو الحدود بين الأنواع الأدبية، بل هو جهد تميّز به، وإن ظلّ خفياً تحت أوصاف يقولها هذا أو ذاك تُموّه أكثر مما تكشف، جوهره جعل اللغة تستعيد حساسيتها المفقودة، سواء فقدتها في الشعر أو الرواية أو المقالة أو أدب الرحلات.
حساسية اللغة هي التي وجّهته نحو الاحتفاء ببلاغة الحكاية. تلك الحكاية التي كشف شعراء وكتّاب حسّاسون من أمثال بورخيس وماركيز أنها تقول كل شيء؛ تقول الملحمة والشعر والنثر والصور.. أو تلخيصاً، تجتمع فيها أصوات النوع الإنساني. كانت الحكاية الشعرية، وهذه تسميته، هي الخلاصة، لا القصيدة، نثراً أو نظماً. وهذا منجز يحفظ له مكانته مع المتميّزين.
لهذا السبب لا أجد مناسباً في هذه الوقفة أمام رحيل شاعر تميّز حقاً أكثر من ترتيلة ديلان توماس، بهديرها وصخبها، ونورها الذي تقترح أن نتشبّث به وأن نغضب من أجله أيضاً.
—————————
مرثية لوداع مؤقت/ علي أبو عجمية
يا أمجد ناصر لا تبتعد. أقتبسُ من كتابيَ الأول يا يحيى وأناديك. خذه بقوتكَ وضعفي. ما أعجبك فيه وما لم يعجبك، وما أشدت به ونَوَّهت لأجلهِ في مسابقة الكاتب الشاب قبل سبع سنوات.
“سَفَرٌ يُنصت للعائلة” كان اسمه. وها أنذا أنصت لعائلتك الصامتة في سفركَ الكليم. قل لي: كيف أقرأه الآن؟ أنت المُحكّم والشاعر الفذّ والامتحان.
قبل سفره إلى برلين التقيت بـ غسّان زقطان في مقهى الانشراح، وقد سألته عنك وعن صحّتك. أجابني ونظرته يجلّلها التخوّف والتأسّي كما لو أنه لا يستعد لوداعك. قال إنك متعَب جدّاً يا رفيقه القوي. إذ لا ترد على مكالماته. لقد ابتعدتَ وأغلقت وسائل الاتصال وأوغلت في غيابك ومرضك.
التوابيتُ حدقةُ الغيب السفلى، والماءُ فكرة الشهداء بعد اندلاع النهر. إذ تُحدق إلينا، اليوم، من وراء اندلاعهِ جامعاً الضفّتَين وحدةً واتصّالاً؛ بالولادة والحكاية والرسالة والقصيدة.
لا تنس حليب أمّكَ في الرضاعةِ والضراعةِ والحُبّ. لا تجلس على مقعد القشّ قد يحترق.
فلّاحوكَ… فلّاحون من جانب التلّ، والتَلُّ ينقصُ شِبراً وينأى.
وداعاً مؤقّتة لبقاءٍ دائم يا “راعيَ العُزلة” في “مُرتقى أنفاسكَ” العالية.
—————————–
شـعرية أمجـد ناصر/ علي جعفر العلاق
يستنهض أمجد ناصر في قصيدته لغة شعرية جديدة دون التعويل، دائماً، على طاقة المجاز التي شكلت سلاح القصيدة ومكرها الخالد منذ البدايات الأولى لسحر الكلام. وهو شاعر مهارة موغلة في الحنان. أي أنها مهارة ليست منتزعة من تلاطم مكونات منطقية، أوذهنية لها رنين المعدن الجاف. ولا تقوم على جهد البراعة وحده، أوالاقتدار المعزول عن روافد الوجدان العامرة بالمرارة أوالمسرات، فالرابطة وثيقة جداً بين الذكاء الباني لجماليات النص وبين اكتناز هذه الجماليات بهبات الروح المذعورة أو المتشهية.
شاعر أعاد ترتيب علاقة المخيلة بالمتخيل فصارت القصيدة لديه تبدأ، في الغالب، من واقعة ما، ثم تتلقفها بعد ذلك مطحنة الخيال لتستدرجها من نسبها الواقعي الى نص لا يعتمد على الاستعارة بل يقوم في كله الموحد المترابط مقام الأثر الاستعاري.
تنبثق شعرية امجد ناصر من عناصر جمالية ورؤيوية ليس الجمع بينها مطلباً ميسوراً دائماً. هذا أولاً، أما ثانياً فإن الشاعر كان يخضع هذه العناصر لإعادة نظر دائمة، يعيد وضعها في موقع الفاعلية باستمرار، ليجعلها عوناً حقيقياً في بحثه الشاق والواعي عن قصيدة نثر خاصة به.
من هذا المنطلق يمكن القول إن هذا الشاعر كان ومايزال نموذجاً للشاعر الذي يعي ما يفعل . إن له تصوراً يغتني بالتفاصيل والمراجعة مع كل عمل شعري جديد يصدره. وإذا كانت قصيدة النثر في مراحلها الأولى، قد وجدت في قصيدة الماغوط برهانها الشعري الذي يكرس حيويتها وتأثيرها على مستوى الذائقة والتلقي النقدي، فربما يحق لقصيدة أمجد ناصر أن تكون برهاناً شعرياً ناصعاً على قصيدة نثر معافاة، يقدمها شاعر متميز ممثلاً لمرحلة شعرية مختلفة.
أميرالقادمين من حقل الإيقاع :
لقد أقبل أمجد ناصر الى أرض النثر من حاضنة إيقاعية رصينة، استندت الى وعي بالإيقاع وإدراك لدوره في بنية النص الشعري، وتنمية قدرته على التعبير. وكان قد تعرف بعمق على مفاصل بالغة الحيوية في الشعر العربي الحديث، مشدداً، وكما يفعل الشاعرالواثق،على أكثر تجارب هذا الشعر تميزاً وفرادة، تجربة سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ تحديداً،
جاء الى هذه الأرض الوعرة بفأسه النضّاحة بأنين الريح وعرق الأشجار، وطوعها بدهاء ساحرٍ نبيلٍ لتبطل مكر الأفاعي المدربة. ويقطع، دفعة واحدة، ماكان يشدّه الى الغابة الاولى من أمراسٍ غليظةٍ محتفظاً منها بأهم ما فيها، أعني بما يسميه صبحي حديدي، محقاً، « تعاقد حيوي مع الذائقة مردّه تلك الآثار العراقية الغائرة عميقاً» في تكوينه.
شيءٌ بالغ الندرة، أوشديد التخفي في قصيدته ربما، لكنه كثير الحدوث، قطعاً، في شعر القادمين من حقول الإيقاع الى مرتفعات النثر الوعرة. أعني أن قصائدهم النثرية لا تبدو خالصة تماماً من شبهة الوزن ، فهو يطل علينا من هنا أوهناك، بوعيٍ من الشاعر أودون وعيٍ منه.
الوزن، في هذه الحالة، لا يدبّ في ثنايا النص النثري، كما يفعل الإيقاع، دبيباً خافتاً بضغط الدلالة وتموج الروح أوالمزاج، بل يعلق ببعض الجمل والصياغات، في منأى عن وطأة الداخل غالباً. وهكذا قد تبدو بعض نصوصهم خليطاً غير متجانس من نثرٍ لم يخلُ من انسلالاتٍ وزنيةٍ طارئة، أو وزنٍ ضائعٍ في خضمّ اختراقاتٍ نثريةٍ كثيفة. الوزن واللاوزن، كلاهما، يقتحمان النص ويخلخلان نقاءه، كما يشتهيان، ودون نداء جمالي أو دعوة دلالية.
تكاد أن تكون قصيدة أمجد ناصر مبرأة من هذه الظاهرة، فهو يكتب قصيدة النثر وكأن لغته المحسوبة بدقة ما تشممت يوماً نكهة الإيقاع في قصيدة التفعيلة أوعبرت مضائقه أوفضاءاته بيسر ودراية. بل كأنه قادم أصلاً ، ومنذ البدء، من وديان النثر وانسياحاته المرفهة المديدة، حيث المرونة والشدة والتثنّي والمخاتلة والموازنات والتضادات تعمل جميعا على إنعاش النص، وإثراء تموّجه.
حفاوة بدائية بالجسد:
وثمة نسغٌ حيٌّ في تجربة أمجد ناصر، ينبثق من حفاوة بدائية بالجسد، تتلبّس روحه بتلقائية مدهشة. وهذه البدائية لا تتعلق باللغة، مفرداتٍ أوصياغاتٍ، وإن كانت كذلك أحياناً، لكنها تتصل بروح النص قبل كل شيء. بمزاجه الذي يضيق بتجهّم المدينة في توقٍ محتدم الى حرية البراري ومغامرة الجسد. بصوره الشرسة واحتشاده بالحنين والجسارة وضراوة الحرمان.
وهذه الحفاوة البدائية بالجسد ليست خشونة في المعجم، بل هي رفيف في بطانته الروحية. وليست تصحراً في عروق النصّ بل في الذات التي يطحنها الظمأ واللهفة. وهي، أخيراً، ليست فضولاً مدينياً الى الأنثى، بل ضراوة اليباس، أويقظة التشهّي حين تقتحم ذلك الجسد وترجّ تمنّعه العالي.
٭ شاعر عراقي
القدس العربي
————————-
أمجد ناصر… المثقف يحمل سؤاله انّى حلّ/ عاطف محمد عبد المجيد
ثمة صعوبة في عبور المكان العربي، كما كان يفعل أسلافنا العابرون الكبار، في جغرافيا واقعية مترامية الأطراف وأخرى مُتخيَّلة لا يحدّها حد، فنحن نعيش اليوم في عالم عربي استوت فيه الحدود على نحو قاطع، وسُيّجت بالأختام والأعلام والأناشيد الوطنية، فالسفر بجواز عربي في المكان العربي، هو كالسفر بين عوالم منفصلة ومتباعدة، ترمق بعضها بعضا شزرًا، هذا إن لم يصل التنافر بينها إلى حد العداء السافر. ولعلّ هذا يفسر، جزئيًّا على الأقل، ضآلة إن لم أقل انعدام، كتابة الرحلة عن العالم العربي بأقلام أبنائه، قبل أن ننطلق بأوجه محاطة بالريبة والشبهات، إلى العالم الأوسع. هذا ما يكتبه أمجد ناصر في عتبة كتابه «تحت أكثر من سماء.. رحلات إلى اليمن، لبنان، عمان، سوريا، المغرب، كندا». في هذا الكتاب الصادر منذ سنوات عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يرى ناصر أن هاجس ما خطّه، هو الاحتفاء بالمكان وشخوصه، لا مجرد المرور بهما مرور الكرام. إنها محاولة للتوقف في المكان وأمامه، والإنصات إلى أصواته الكبيرة والصغيرة على السواء. ناصر يذكر كذلك أنه رغم أن هذه الرحلات إلى أمكنة عربية، مشرقية ومغربية، تمت لأسباب مختلفة، فهو يظن أن هناك ما يوحّدها ويجمع بينها، إذ إن أسئلة الأمكنة العربية، اليوم، السياسية والثقافية والاجتماعية متشابهة جدًّا، تَشابُه خيبات أبناء هذه الأمكنة في تحقيق الحدود الدنيا من طموح في جعل أمكنتهم صالحة لحياة حرة كريمة. غير أنّ ناصر يرى أنّ هذا لا يعني أنّ للسياسة ثقلًا كبيرًا في هذه الرحلات، فالثقل الأكبر، كما سنلمس ذلك كقراء، هو للثقافي والاجتماعي والتاريخي، باعتبار هذه الأبعاد أكثر قدرة من السياسة، على عكس ما هو استراتيجي. فليست السياسة دليلًا صالحًا لمعرفة ما يعتمل في الحياة العربية من أحداث وتمخضات، بينما الثقافة، بمختلف أوجهها، هي دليل أقل مراوغة.
في كتابه هذا يضم أمجد ناصر رحلته إلى كندا، التي لا يراها غريبة عن سياق الكتاب العام، إلى جانب رحلاته العديدة إلى الدول العربية، لأنه يرى أن الحضور العربي والأسئلة العربية لم تكن بعيدة عنها، فالعربي يحمل سؤاله، وهو سؤال قَلِق ومُحيّر، أنى حلّ. ناصر يقول في نهاية عتبته هذه إن هذه المقدمة ليست سوى انصياع لتقليد عام يتعامل مع المقدمة كعتبة للكتاب، ونحن نحار، على ما يبدو، في كيفية الدخول في كتاب لا مقدمة له!
من رامبو إلى إسماعيل
أمجد ناصر يكتب هنا عن رحلته إلى اليمن معنونًا إياها بـ«اليمن: من آرثر رامبو إلى عبد الفتاح إسماعيل.. إلى الفتنة الصنعانية»، كما يكتب عن رحلته إلى عُمان: الأساطير، الأئمة، الجبال، الأفلاج. ويكتب عن دمشق: الدار المسقية، والدم الذي سال في شق. مثلما يكتب عن رحلته إلى الدار البيضاء: مجيء الزمن المغربي، وكذلك يكتب عن زيارته إلى أرض القيقب: لهيب الأشجار، صدمة فرنسية، وبرج بابل شعري. حين يكتب ناصر عن رحلته إلى اليمن يقول: «قبل نحو ثماني عشرة سنة، زرت عدن للمرة الأولى، وقبل خمس عشرة سنة كانت الأخيرة، وبين هذين الحدين أقمت شهورًا عدة، طالبًا في معهد الاشتراكية العلمية، الذي فررت منه قبل أن أكمل سنتي الدراسية الأولى. في المرة الأولى جئت من بيروت في عِداد وفد فلسطيني وعربي يساري لحضور الإعلان عن حزب طليعي من طراز جديد، كانت عدن تعدنا به منذ وقت». وبعد مزيد من الحكي، يضيف ناصر فيقول إن زيارته الأولى إلى عدن كان الهدف منها هو الحزب الطليعي، وليس رامبو، الذي لم يكن يعرف شيئًا عن إقامته في عدن. وقتها كان ناصر قادمًا من بيروت التي كانت يومها تلتقط أنفاسها بين حربين كاسحتين، تحت مناخ سياسي وفكري يخلط بين القصيدة والبندقية. يومذاك كان ناصر ماركسيًّا متحمسًا، يأتي إلى قلعة الاشتراكية العربية، كما كان شاعرًا ناشئًا، أصدر ديوانه الأول، وترك الثاني في بطن المطبعة. في عدن، تَعيَّن على ناصر، لدى ملامسته كثافة الهواء، ووقوفه تحت الحواف البركانية المطلة على المدينة، أن يفكر بماركس وعبد الفتاح إسماعيل وجورج حبش، أكثر مما يتعيّن عليه أن يُفكر برامبو، بل، يقول ناصر، ما كان رامبو سيخطر له على بال، لولا المصادفة التي ستجعله، في ما بعد، على تماس مع حفيف وأمكنة هذا العابر الهائل بنعال من ريح. ناصر الذي فُتن بسيرة رامبو، أكثر مما فُتن بشعره يقول، إن شظايا من السيرة الأسطورية لرامبو، التي نُشرت هنا وهناك في العالم العربي، قد دفعت شعراء شُبانًا لهجر بيوتهم واجتياز الحدود إلى كومونة بيروت، أما شعره فلم يجد له متكأً مريحًا في لغتنا العربية. ناصر يرى أن رامبو الذي كان في السادسة والعشرين حينما زار عدن، تمت استضافته بشكل سيئ في اللغة العربية، خاصة أن الكتاب الذي ترجمه خليل الخوري ضم رُفات الشاعر أكثر مما ضم جسده الحي، ذا الانفلاتات الصاخبة.
ويضيف ناصر أن عدن لم تعد كما عَهِدَها، فعندما غادرها ربيع 1981 لم يكن فندق عدن موجودًا، كان هناك الجولد مور الذي يطل على أجمل بقعة من الساحل، بمُضيفاته الإثيوبيات الرشيقات ذوات البشرة الكاكاوية، اللواتي كُن يتحدثن مع الزائرين، خاصة لم يكن آنذاك مسموحًا لليمنيّات أن يختلطن بالأجانب.
لست راعي الذكرى
وعن صنعاء يقول ناصر، إن الكتابات العربية التي تؤرخ لقيامها تقول إن سام بن نوح طفق، بعد الطوفان، يبحث عن موضع يتعادل فيه الليل والنهار، ولا يغلب فيه البردُ الحرَّ، ولا يفسد فيه الطعام، فلم يجد أفضل من هذا الموضع، فأقامَ فيه صنعاءَ، وهي بذلك تكون أقدم مدن الأرض. ناصر الذي يعنون رحلته إلى بيروت بـ«لستُ راعي الذكرى ولا مدبر شؤون الحنين» يقول إن بيروت ليست هي مسقط رأسه، وليست كذلك مجرد مدينة مرّ بها بين مكانين. لقد منحته بيروت، في أول مرة يزورها، اسمه في شهادة ميلاده في الصحيفة، وعلى غلاف كتابه الأول، وشكلت، بيدين لم تفرقا كثيرًا بين عابر ومقيم، هيئته وقوامه. ناصر يقول إنه من غريب التدابير أن يبلغ غيابه عن بيروت الزمن نفسه الذي بلغه غيابه عن بلده الأردن: «أربعة عشر عامًا غبت فيها عن الأردن، وأربعة عشر عامًا أخرى عن بيروت، أدركتُ، في الأخيرة، مغرب الشمس وبحر الظلمات. فأي قسمة عجيبة للزمن؟ وأي عدالة لهذا الغياب الذي ساكنني حياتي؟ بل قل أي مواعيد مع الأقدار تنتظرني هناك؟».
وشم بيروت
ناصر يُقر بأن الزمن العربي سال بفداحة، وأن الحنين يطور أمكنة لا وجود لها، ربما، إلا في أعالي سكراته. وبذا يأمر نفسه بأن يعطي الخيبة بعض ما تستحق من وجاهة، وأن يوطد النفس على تَقبّل كفاح الأيام، ضد مطارح الألفة، وما أنجزته أيادي اللاعبين بالمصائر، ضد مواضع الحنين. ويعلن أنه ليس وحده مَن يحمل وشم بيروت، بل كثيرون غيره يحملون الوشم نفسه، وليس هو راعي الذكرى، ولا مدبر شؤون الحنين. ناصر الذي تتكون عائلته من تسعة أبناء، وُلِد كل منهم في منزل ومكان مختلف، يرى أنهم ليس لهم ذاكرة طفولية واحدة، بل هناك تسع ذاكرات وتسع طفولات، كل واحدة منها تشخص إلى بيتها الأول الذي لم يعد موجودًا، وبيروت، أكثر من غيرها، تمتلك أسبابًا كافية لمحو الخُطى والأثر. فالحروب، التي دارت عليها وفيها، تكفي لأن تقوّض أحياء برمتها، وتنهض، بالإسمنت المرتجل، أحياء جديدة منبتة الذكرى والأثر. وها هو يرى في بيروت المدينة التي تجتلب المواطن العائد، والسائح الأجنبي، ورجل الأعمال العربي العابر إلى جهة أخرى، والمقتفي خيط حنين مثله. ثم يختتم ناصر رحلته هذه إلى بيروت قائلًا: «لا تكف الحروب عن تغطية الجريمة بالمقدس. لا تستقيم بدون أن تستر سوأتها بالكلمات: سلامة الجليل، عناقيد الغضب، نبوءة أشعيا، جون شتاينبك، السلام. السلام. هذا السلام، يا له من مذبحة». وفي حديثه عن رحلته إلى عُمان يقول ناصر إنه لا يملك، الآن، سوى الأسف على خيلاء الفتوة، التي جعلته يمشي على الأرض مرحًا، منصرفًا عن تقري الأزمنة المتعاقبة على الصهاريج الحجرية التي قوّرتها الجن، والروح الباسلة التي تناضل في الأشجار القليلة، والصلة التي تتجاوز التطيّر بين النافذة والغراب الأسود والصمت البليغ الذي يفرض نفسه سيدًا أوحد على الظهيرات، والخلخال الفضيّ الذي يلمع في كاحل هضيم لامرأة تصعد الهوينى إلى الحافلة العمومية، والعيون السود الكحيلة التي طورت في احتجاب الجسد معجمًا خاصًّا لتراسل الأشواق وروائح البخور والعطور الشرقية الثقيلة المعششة ببعض الحوانيت الباقية من الحقبة الكولونيالية، والخط البحري لشركة الهند الشرقية. هنا يتحدث ناصر عن عدن كمدخل لعُمان، وهو مدخل، كما يقول، غريب للوهلة الأولى، إذ لم يكن هناك ما يجمع اليمن الجنوبي بعُمان إلا التنافر والخيارات المشدودة على طرفيْ نقيض، ففيما الأباضية هي المذهب السائد في عُمان، فإن الغلبة للسُّنّة الشوافع في جنوب اليمن، وفي الوقت الذي كانت فيه عدن تُولّي وجهها شطر الكتلة الشرقية، كانت عُمان تدير وجهها جهة الغرب. ناصر الذي لاحظ نظافة مدينة مسقط الاستثنائية، لا يستغرب وجود أكثر من لافتة في شوارعها مكتوب عليها ممنوع البصق في الشوارع، غير أن مسقط الحديثة لها آفتها أيضًا، وهي آفة عربية الطابع، فكأن التحديث، في التصور العربي، هو قطع حبل السُّرة مع البيئة وخبرات الماضي، واستجلاب مواد وأنماط بناء وعيش عصرية لا تستقيم مع المحيط الطبيعي. كذلك يرى ناصر أن عُمان ظلت، حتى عهد قريب، من أكثر الأقطار العربية غموضًا ونأيًا، ولعلها لا تزال كذلك في خيال البعض.عُمان التي يقول ناصر عنها قلما يصادف المرء اسمها أو صورتها في أخبار العرب التي لا تكف عن إدهاشنا بمدى سوئها، لا يأتي غموضها من قلة الأخبار فقط، بل من الموقع الجغرافي، والتكوين المذهبي، وانكفاء البلاد على شؤونها أيضًا.
رحلته إلى سوريا
أما عن رحلته إلى سوريا فيكتب ناصر قائلًا إن سوريا، على كل حال، تبدو لزائرها البلد العربي الأكثر تماسكًا، كان هذا طبعًا يوم أن زارها ناصر، في وجه العصف الكوكبي الذي تقوضت تحت زعانفه وشيفراته الفولاذ منظومات سياسية واقتصادية كبرى، وبهذا المعنى، لا يزال للأيديولوجيا حضور في دمشق، بل إنها العصبية الظاهرة التي تستند إليها القوة، ويقوم عليها السلطان.
ويكتب ناصر عن رحلته إلى الدار البيضاء في المغرب، كما يكتب عن رحلته إلى كندا، التي يُنهي كتابته عنها قائلًا: قد أرغب أن أكون بعيدًا عن العالم العربي، لكنني لا أتصور نفسي بعيدًا عنه كل هذا البعد… في كندا. وبعد هذا كتاب ممتع بحق، أخذنا أمجد ناصر، عبر صفحاته، إلى مدن وأماكن عديدة، ربما لم يذهب إليها كثيرون منا، وربما لن تسمح لهم ظروفهم بالذهاب إليها أبدًا، وعرّفنا إلى معالمها، وتاريخها القديم والحديث معًا، ناجحًا إلى أقصى حد، في نقل صورة متكاملة لها للقارئ، جاعلًا إياه يشعر وكأنه يتجول برفقته في شوارعها وبين أهلها وقاطنيها.
٭ شاعر ومترجم مصري
القدس العربي
—————————-
وداع خجول لأمجد ناصر.. الغريب يقع على نفسه/ محمد جميل خضر
ما بين بيت الشعر وبيت الأمان والعائلة، تمثلت حياة الشاعر أمجد ناصر الذي ودّعنا قبل يومين بوصفها محاولات لحوحة لترك أثر ما.
فالشاعر الذي ترك، شاباً، بيته الأول في مدينة المفرق عند أطراف صحراء ممتدة، انخرط في رحلة استغرقت عمره كله بحثاً عن بيوت سلوى ومرافئ تعويض.
هنا يبرز السؤال عالياً: هل وقع صاحب “كلّما رأى علامة” أخيراً على قصيدته المثالية (المكتملة) المتعالية؟
يبدو أن (الغريب) لم يقع في سياق الإجابة عن هكذا سؤال إلا على نفسه.
و(الغريب) هنا ليست مفردة موقف أو حكم قيمة بقدر ما هي وصف دقيق، لعله، لما كان عليه حال يحيى النميري نعيمات أو يحيى النميري النعيمي كما هو اسمه في السجلات الرسمية.
فمن يغادر مضارب العشيرة وهو في ريعان الشباب، ويطول ثم يطول غيابه عنها بعد ذلك، سوف يصبح إلى حد بعيد غريباً عنها وعن قيمها وعاداتها وأولوياتها وأعرافها و(سواديها).
ومن يلتحق بعد مغادرته مطارحه الأولى بركب ثورة بدأت عابرة للهويات لتنتهي مآلاتها بهوية محاصَرة بفتح الصاد ومحاصِرة بكسرها، لا بد ستداهمه ذات ريح شمالية بعض أنّات الغريب وهو المضمّخ بشفافية الشعر المتجوّل داخل ثقافات إنسانية متنوعة ومتباينة في آن.
هذا وغيره شفّت عنه حال جنازة (الغريب) ولحظات مواراته الثرى إلى مثواه الأخير بعد رحلة شيّقة أحياناً وشاقّة في أخرى، عَبَرَ خلالها عواصف بيروت نحو قبرص ولندن وغيرهما.
ويكفي لتبيان هذا الوضع المحزن إضافة إلى الحزن جراء رحيل أمجد، أنه استناداً إلى الخبر الذي ذكر أسماء الشعراء والكتّاب والنقاد الذين شاركوا في جنازته، لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين (لم يرد من بين من تمّ ذكرهم اسم الشاعر السوري المقيم في لندن نوري الجراح الصديق الأكثر قرباً من أمجد والمشارك العربي الوحيد في الجنازة).
لم تكن فضّة (والدة أمجد) هناك، ذهبت قبله لتؤنس التراب المعجون برمل الصحراء. فالتراب يستوحش حين يغيب عنه شبابه الذين يريدهم فوقه وليس تحته.
لم تظهر علامات على الطريق من عمّان إلى المفرق:
“الإشاراتُ الثلاثُ التي صادفتني
على الطريق أومأتْ إلى الجبل
لكنّني مضيتُ إلى الوادي
قِصَرُ نظرْ!”. (ديوانه “كلما رأى علامة” صفحة 53).
لم تظهر على الطرق جميعها الأرضية والسماوية والبحرية التي قطعها أمجد يحمل القلم والبندقية من مشارق الكون إلى مغاربه.
فهل قَصُرَ نظرُ أحلامِنا عن رؤية كل هذا الخواء حولنا؟
ثلاث إشارات تواجهها ثلاث قبّرات، ترفرفن في المدى هاربات من كل هذا العماء، بينما في الأسفل هناك ما تزال الهاوية “تُرْهِفُ السمع”.
حضور خجول يسير خلف نعش فلسطينيّ من أصل أردني، لم تحضر فيه فلسطين، لم تغب فيه فلسطين. لم تحضر فيه الأردن، لم تغب فيه الأردن.
دوامة عبثية لم ينتبه لها (الزرقاوي) الذي توقّف أخيراً عن مطاردة شبح بزوغ الشعر داخل قطع النثر، ولم تعد الحياة بالنسبة مثل سردٍ متقطع. ففي كل كتابة نهاية ما، كما قال لي ذات حوار أجريته معه ونشرته جريدة “الرأي” الأردنية بتاريخ 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، وربما بداية غامضة “قطع واستئناف في الوقت نفسه”. ومثلما لا يوجد حسم مطلق في العمل الإبداعي، كما يرى في الحوار نفسه، ومثلما لا يوجد، بحسبه، أجوبة نهائية لما نبحث عنه، فإن مسيرة حافلة من التعب وخياره الذهاب نحو مقاربة بيروت أيام حملها السلاح في وجه الإمبريالية العالمية والرجعية العربية والاحتلال الإسرائيلي، تبقى عاجزة عن توصيف نفسها، وإن كانت بلغت الرضى خيارات أمجد؟ وهل نشدان بلوغ مثالية القصيدة رافقه في دروبه كلها نشدان مثالية معنى ومواقف وانحيازات وانزياحات صعبة المراس؟
على ما يحويه معنيا الانحياز والانزياح من تناقض تأسيسيّ، واصلت نصوصٌ كثيرة لأمجد ناصر التحليق قرب أعالي الاشتهاء وإطباق الشفتين والاغتسال بالرضاب، رائياً هو ورائية نصوصه معه أن “الكتابة بحثٌ حسّيٌّ عن طريقٍ للأنثى”.
فهل كانت الحياة بالنسبة لك يا مهندس وجود هذه الضفة (ضفة ثالثة) التي لذنا بها جميعنا، مجرد “رحلة في بلاد ماركيز”؟
رحلة لم ينتصر المرض العضال عليها إلا على غفلة منك ومنها، حيث انتصرت برودة بحر الظلمات أخيراً على حرارتك الفذة تشق بها وجه السديم وتناوش ما استطعت إلى ذلك سبيلاً “رعاة العزلة”، تجرب المتن مرّة وتغوص مرّات مديدات داخل أوجاع الهامش.
هو “خبط أجنحة” يا أمجد تبحث من ورائه عن “أثر العابر” متعثراً، قليلاً ربما، أمام زفير “مرتقى الأنفاس”، ليتجلى وصولك باب القرار بعد كل تلك الحيرة بوصفه “وصول الغرباء”، حيث يدوّي في المدى عنوان عبده وازن حول محمود درويش: “الغريب يقع على نفسه”.
ضفة ثالثة
—————————-
هناك وردٌ أكثر/ نجيب مبارك
آراء هناك وردٌ أكثر
“لم تخسر شيئاً حين غادرتَ. وإنّما تعبتَ من السير”
(إلى روح الشاعر أمجد ناصر)
لأنّ الشعراء لا يموتون، وإنّما يستريحون فقط، ولأنّ الشعرَ بذاته نفيٌ مطلقٌ للموت، لكلّ أشكال الموت، وإقرارٌ تامّ وصريح بهزيمته المجلجلة أمام التاريخ، لم يخدعنا موتكَ هذه المرّة يا أمجد، ولم يتغفَّلنا كما هي عادته الحقيرة في مغافلة الآخرين. كان وصولُه متوقّعاً، ليس مثل “وصول الغرباء”، بل مُنتظراً في أيّ لحظة، وهذا أقسى ما في الأمر.
1
لم يسرقكَ الموت يا أمجد. لم يدخل متنكّراً في هيئة “جوكر”، أو أيّ بهلوان آخر فقير وبائس، ليحتال علينا ويخرجك من باب طوارئ سرِّي. لم يخطفك منّا في جنح الظلام، بعد تعطيل كلّ الأضواء والكاميرات، وإنّما اصطحبك جهاراً نهاراً على مرأى من الجميع، في تواطؤٍ جميل ونادر، كأنّه صديق تأبّط ذراعَ صديق وسارا معاً إلى مقهى آخر، في مملكة أخرى. صديقٌ ضغط زرّ الباب ووقف منتظراً على العتبة بوجل واحترام، إلى أن أذنتَ له بالدخول. لم يأتِ على حين غفلة منك ومنّا، أو من غير ترتيبِ موعد واتّفاقٍ مسبق، لأنّك هيّأتنا لهذا الّلقاء منذ شهور، حين أخبرتنا بفحواه ذات مساء حزين، بل وكشفتَ ذلك حتى للغرباء من خارج دائرة أقاربك وأصدقائك، في مرثية ذاتيّة استباقية فريدة، لا مثيل لجرأتها وفداحتها في تاريخنا الشعري المعاصر. أخبرتنا كلَّ شيء بالتفصيل، كلّ ما حدث لك ومتى حدث وأين وكيف ولماذا، لكنّك أخفيتَ عنّا موعد الحضور، ربّما رأفة بنا وبأحبّائك المخلصين، أو لأنّه شأن شخصي بينك وبين صديقك الحميم، لا يجب أن يهمّنا في شيء.
2
لم ترحل بعيداً يا أمجد. لم تذهب إلى مكان مجهول، وأنت الشاعر السندباد الذي طاف وتنقّل باستمرار، وسافر إلى أكثر من بلد، صال وجال وعاش أطول وأعمق ممّا تتيحه حياة قصيرة. شاعر طالما استدرج واستنطق وحاور أمكنة مجهولة بعيدة ونائية، بقلبِ مستكشفٍ جامح لا يهدأ له خيال، وعين رحّالة جسور متمرّس بالشّعاب والمخاطر، وأُذن مطيعة ومرهفة تنصت لنبضِ التراب، ولغة تترجم كلّ خرائط العالم بكلمات قليلة، لكنّها صادقة وشفّافة. لم ترحل إلى أرض لا تعرفها، “حيث لا تسقط الأمطار”، أو إلى بلادٍ ليس لك فيها أهل وأصدقاء، وأنت الأعلم بذلك أكثر من أيّ شاعر آخر. تنقّلتَ مبكّراً من بلدتك المفرق إلى عمّان، ثمّ من بيروت إلى عدن، وبعدها من قبرص إلى لندن، حيث استقرّ بك المقام طويلاً في عاصمة الضباب، إلى أن حان في النهاية موعد الرجوع إلى إيثاكا، تلك التي رسمَت ملامحك العربية قبل أن تولد، وليس تلك التي رسمَها خيالك في قصيدة، باعتبارها صورة طبق الأصل من “أثر العابر”. كانت رحلتك منذ البداية مجازفَة ومغامرَة لا تنازل فيها ولا مساومة، اخترقَت بالطول والعرض “حياةً مثل سرد متقطّع”، لأنّها لم تسلم من الصعاب والفخاخ والمفاجآت، لكنّها مع ذلك أوفت بوعودها و”ارتقت بأنفاسك” إلى مقام “رعاة العزلة”، المنذورين لتلبية نداء الأقاصي، ذلك لأنّ ما قاد “خبطَ أجنحتك”، في الأوّل والأخير، هو حدسُ البدويّ المحكوم بالسّير “وحيداً كذئب الفرزدق”، ليس لأنّ لديه فوبيا من الجموع والقبائل، ولكن لأنّه لا يؤمن بالقيود والسدود أمام ذاته، ولا يعترف بالحدود وخطوط التّماس بين داخل الوطن وخارجه، وبين هشاشةِ أوقات السلم وويلات الحروب والثورات، وبين انفلاتِ البطولة من رحمِ الحاضر وانتكاسِ الأحلام الأولى على طريق المستقبل.
3
لم تخذل الشّعرَ يا أمجد. ولم يخذلك الشّعر أيضاً. أنتَ تعرف أنّ الشعر لا يخذل شاعراً حقيقيّاً، مهما عظُم شأنه أو صغر. لكن، مع ذلك، أتصوّر أنّ شعرك حجز لنفسه مسبقاً صفحات كثيرة مضيئة في ديوان العرب الخالد. ولا يمكن في أيّ وقت من الأوقات، حاضراً أو مستقبلاً، لمتصفّحِ ديوان الشعر العربي أن يمرّ مرور الكرام على تجربة بكلّ هذا الثراء والتميّز والتفرّد، ليس لأنّها كانت من التجارب الشعرية الأولى التي وضعت على عاتقها، ضمن تجاربَ كبرى قليلة، مهمّةً عظيمة وثقيلة وطموحة جداً، تمثّلت في توطين وتأصيل قصيدة النثر نهائيّاً على خريطة الشعر العربي، ولكن لأنّها فتحت الطريق واسعاً أمام أجيال متعاقبة من الشعراء العرب لارتياد آفاق جديدة بحرّية أكبر، واقتراح كتابةٍ شعرية مختلفة ومغايرة، ما تزال ديناميتها مستمرّة إلى اليوم. ومن يتابع مساركَ الشعريّ، منذ ديوانك الأوّل “مديح لمقهى آخر” إلى ديوانك الختامي “مملكة آدم”، سوف ينتبه إلى هذا الهاجس الكبير تجاه الشكلِ ومحاولة تطويره دوماً، ومعه أيضاً ذلك القلق والحرص الشديد على اللّغة، من زاوية الاشتغال والصقل والتشذيب، بحيث يمكن وصفها بأنّها تنتمي إلى شكل من “الفصحى العالية”، بحسب تعبير الناقد صبحي حديدي. لغةٌ تذهب أبعد في استكشاف باطن الفصحى واستثمار الطاقات الإيحائية لمفردات جزلة وغير دارجة ولكن مخزونها الدلالي يتدفّق بيسر، ويسلم قياده بسهولة، وهذا كلّه يرجع إلى تشبّعك منذ الصغر بالغناء البدويّ والرعوي الثريّ، الذي يأتي هادئاً شفيفاً تارة، وبرّياً حارّاً تارةً أخرى، وهو ما طبع تجربتك بطابع خاصّ ومميّز ومختلف عن أقرانك من الشعراء لفترة طويلة.
4
كم يحبّك المغاربة يا أمجد. لا أقولها لأنّني مغربي، ولكن بلسانِ صديقاتٍ وأصدقاء كثر، سبق أن عبّروا لك عن هذا الحبّ مراراً في حياتك، خلال زياراتك الكثيرة لبلادنا، واعترفوا به أكثر بعد رحيلك مباشرة، منهم من قابلك وجالسك وتعرّف عليك عن قرب، ومنهم من اكتفى بتواصل مستمرّ معك، سواء عن طريق رسائل البريد قديماً، أو بواسطة الهاتف ووسائل الاتّصال الحديثة. ما أعرفه جيّداً، وما لاحظته لسنواتٍ منذ تسعينيّات القرن الماضي، أنّك دائماً كنتَ تحظى باحترام وتقدير كبيرين من المثقفين المغاربة، فيما يشبهُ إجماعاً يسري بين كلّ الأجيال، بل إنّ حضورك كان قويّاً ومؤثّراً حتّى داخل الساحة الأدبية المغربية، في زمنِ ما قبل انتشار الإنترنت وشحِّ المنابر الثقافية الوطنية، التي كان يسيطر عليها بالكامل مثقفّو الأحزاب، وهي حالة فريدة جدّاً بالنسبة لشاعر وصحافي “مشرقيّ”، نادراً ما قد تتكرّر في مستقبل الأيّام. وللتأكّد من ذلك، يكفي الرجوع إلى أرشيف جريدة “القدس العربي” منذ نهاية الثمانينيّات، وجرد ما نشره المغاربة تحديداً في صفحتها الثقافية، للوقوف على الإسهام المتنوّع والغنيّ للأدب المغربي، شعراً وقصّة ونقداً وترجمة وغيرها، في تنشيط هذا المنبر الثقافي العربي الجادّ والرصين، الذي أشرفتَ عليه يوميّاً لسنوات طويلة، كنتَ تنصتُ فيها بروح الأخوّة والمحبّة لكلّ جديد ومفيد، منفتحاً على جميع الأصوات بلا تمييز، سواء كانت مكرّسة أو تحبو في بداية الطريق، ويشهد التاريخ كم من تجربةٍ احتضنتها هذه الصفحة بعد أن يئست تماماً من النشر في المغرب، وكم من شاعرٍ وقاص، ومن ناقدٍ ومترجم، ما زال مديناً لك بالكثير إلى اليوم.
5
لم تخسِر قلباً يا أمجد. لم تخسِر اسمك الحقيقيّ. لم تخسر جسداً أو أهلاً أو وطناً. لم تخسر شيئاً حين غادرتَ. وإنّما تعبتَ من السير. وصلتَ إلى التخوم بمحض النّزهة، جلستَ وأشرتَ إلى الأرض مبتسماً: “هنا الوردة”. لكن ما نراه بعيوننا الآن ليس وردة فقط: هناك وردٌ أكثر. يقول الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان، الذي تحبُّ قراءة شعرِه كثيراً: “اكتشفتُ ما هو الموت، أن ترفع رأسكَ لترى النجوم تهطل وتنطفئ، ثمّ لا شيء”. وأنا أضيف: اكتشفتَ الموت “منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، في عزّ وريعان شبابك، لكنّكَ لم تهتمّ ولم تقلق ولم تحزن. واصلتَ السّير على طريق النجوم المنطفئة، حاملاً الخيمة الوحيدة التي ظلّت مسكنكَ الأوّل والأخير على الأرض: الكلمة. مثل وردة في الصحراء، ستبقى هنا إلى الأبد. كلماتكَ. أشعاركَ. رواياتك. رحلاتك. مواقفكَ. كلّها ستبقى ها هنا. تضيءُ ليلَ العالم.
ضفة ثالثة
———————-
رحيل أمجد ناصر الشاعر العابر… بقصائد المنفى ومرثيات الوجود/ عبده وازن
استعاد سقوط الأندلس في قصيدة درامية… وديوانه الأخير عن مآسي العصر
ظل يقاوم المرض طوال سنة مكابداً آلامه جسداً وروحاً، حتى غلبه فأغمض عينيه للمرة الأخيرة. رحل الشاعر أمجد ناصر عن 64 سنة وكان لا يزال في أوج إبداعه، مشغولاً بهموم الإنسان العربي والمآسي التي يشهدها في أكثر من بلد. وكان آخر ديوان له صدر قبيل رحيله وعنوانه “مملكة آدم” أشبه بملحمة شعرية ترصد مآسي العصر العربي الراهن. لكن أمجد رحل وفي قلبه مقدار من عزاء بعدما أحاطه الشعراء والنقاد خلال أشهر احتضاره القاسي، بمحبة فائضة وكتبوا عنه وعن تجربته الفريدة مقالات مهمة وعميقة، وخصته صحف ومواقع بملفات شاملة.
ولئن كان أمجد ناصر أردني المولد (1955) والنشأة، فهو لم يلبث أن غادر الأردن شاباً ليجوب دولا عربية عدة ويصبح مواطناً عربياً. بدّل اسمه الأصلي “يحيى النعيمات” باسمه الشائع الذي عرف به، درَسَ العلوم السياسية في “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، تبنى القضية الفلسطينية حتى بات يظنه الكثيرون فلسطينياً، ثم انتقل مع منظمة التحرير الفلسطينية إلى بيروت، وعمل في صحافتها بين بيروت وقبرص. ثم انتقل إلى لندن ليسهم في تأسيس صحيفة “القدس العربي” عام 1987 ويستقر فيها سنوات طويلة، مديراً للتحرير ومشرفاً على قسمها الثقافي. وعلى الرغم من انشغاله السياسي والتزامه وعمله الصحافي، أولى أمجد الشعر والكتابة الإبداعية اهتمامه الأول، وسعى إلى الفصل بين همومه السياسية وهمومه الشعرية، فأبدع أجمل القصائد والنصوص التي أعاد فيها تشكيل العالم والذات عبر رؤية وجودية عميقة وانتماء ميتافيزيقي يكاشف أغوار الكائن. وكانت له دواوين فريدة في مقارباتها الشعرية ومناخها وأبعادها الرؤيوية ومداها اللغوي وتقنياتها. وكتب في حقل أدب الرحلة والسرد الروائي، “مديح لمقهى آخر”، و”بيروت” و”منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، و”سُرَّ من رآك”، و”حياة كسرد متقطع”، “رعاة العزلة”، “وصول الغرباء”، “أثر العابر – مختارات شعرية”، “خبط الأجنحة”/ رحلات، “مرتقى الأنفاس”، “وحيداً كذئب الفرزدق”، “حيث لا تسقط الأمطار”/ رواية، “هنا الوردة”/ رواية، في بلاد ماركيز”/ رحلات.
في العام 1989 أصدر الشاعر مختارات من دواوينه كافة انتقى هو بنفسه قصائدها وسماها “أثر العابر”. ضمّت المختارات هذه باقة من قصائده المكتوبة خلال ما يقارب عشرين عاماً وباتت تشكل مدخلاً إلى عالمه الشعري المتعدد المراحل والأجواء. وفي اختياره هذا العنوان بدا كأنه يحتفي بصورة الشاعر العابر الذي لن يتوانى عن ترك “أثر” قد يكون الشعر نفسه أو “الكينونة” نفسها أو اللغة التي يسكنها الشاعر داخل العالم.وقد تحيل هذه العبارة على الصفة التي أطلقها الشاعر الفرنسي مالارميه على مواطنه رامبو حين سماه بـ “العابر الهائل” ولكن بـ “نعلين من ريح” كما فترض اكتمال هذه الصفة. إلا أن العبور لدى أمجد ناصر يمتلك مواصفاته الخاصة في كونه حالاً من العبور الدائم الذي لا ينتهي إلى ضفة أو مكان. لعله عبور الشاعر المتردد بين حركتين متقابلتين: الوصول والانطلاق. وهما حركتان أبديتان في ما تعني الأبدية من مراوحة في الحيرة: عين على الماضي وعين على الحاضر، عين على الصحراء وعين على البحر، عين على البراءة الأولى وعين على الإثم أو الخراب. على أن الشاعر”العابر” لا يكتمل عبوره إلا في الأثر الذي يتركه، ولو بدا الأثر كأنه نقيض العبور. فالأثر ثبات في الزمن والعبور تخلص من ربقة الزمن. ولا بد من أن تستدعي فكرة “العبور” مقولة أخرى تتردد في شعر ناصر وهي “المنفى”. وقد حمل ديوانه “رعاة العزلة” قصيدة جميلة بعنوان “منفى”. فالمنفى كمقام أو حال ينسحب على قصائد كثيرة ومن ضمنها قصائد الحب التي ضمّها ديوان “سر من رآك” وكذلك قصائد ديوان “مرتقى الأنفاس” الذي يستعيد مأساة غرناطة التاريخية.
إلا أن مقولة “المنفى” تظل خارج التأويل السياسي وخارج الإطار الواقعي الصرف والسياق العرضي. فالمنفى لدى ناصر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرته كشاعر وجد في الشعر أرضاً للاقامة ومسكناً أخيراً. المنفى تجذر في اللامكان وليس وقفاً فقط على فعل الاقتلاع أو الخروج. المنفى هو العالم المجهول الذي يمضي الشاعر في اكتشافه مكتشفاً ذاته في الحين ذاته. والشاعر لا يخفي انحيازه إلى حال النفي هذه ما دامت الأرض الأولى منفى وكذلك الثانية، ما دامت الصحراء منفى والبحر كذلك. هكذا يجاهر الشاعر قائلاً: “بين أترابي فزت بالمنفى”. وها هو يجعل من تاريخ ولادته (1955) عنواناً لقصيدة جميلة بمقدار ما هي أليمة يرسم فيها ما يشبه “المسرى” الشعري الذي ينتهي بالخيبة: “ولم ترَ في الأمر ما يستحق الذكر”.
التزام شعري
منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم أي منذ البدايات ارتبط صوت أمجد ناصر بحركة الشعر الفلسطيني الهامشي الذي نشأ في ظل المدرسة النضالية الرسمية. والتبست هوية هذا الشاعر نظراً إلى التزامه السياسي وانضوائه في صفوف اليسار الفلسطيني شأنه شأن الكثيرين من الشعراء العرب الجدد. إلا أن ناصر الذي استهل حياته الشعرية منفياً وغريباً، كان صوته يختلف منذ البداية عن أصوات الشعراء الآخرين. فهو اختار المنفى اختياراً مقصوداً على خلاف الشعراء الفلسطينيين وشعراء المخيمات الذين وجدوا أنفسهم في المنفى الفلسطيني القدري. ولعل هذا الاختيار هو الذي منح منفى أمجد ناصر مواصفات المكان اللامحدود، المكان المفتوح على أقصى معاني الغربة.
كان لا بد من أن يحضر المنفى بشدة في شعر أمجد ناصر، ليس المنفى فحسب، بل ما يستتبع أيضاً من موضوعات: كالغربة والانقطاع والاستلاب والاقتلاع وسواها. وكل هذه الموضوعات تؤلف العصب الرئيس في قصائده المتوالية طوال أكثر من عشرين عاماً، منذ العام 1979 حين أصدر ديوانه الأول “لمقهى آخر” حتى العام 1997 حين أصدر ديوانه “مرتقى الأنفاس”. غير أن طغيان هذا “العصب” لا يعني تكرار تلك الموضوعات. فالقصائد تكتشف المنفى وتظل تعيد اكتشافه شعرياً ولغوياً، محتفية به مقدار احتفائها بالعالم نفسه الذي تظل على حال من التصادم معه. في قصيدة “منفى” (ديوان رعاة العزلة) يكتب الشاعر من جحيم منفاه عن حال “عدم التغير” التي يحيا فيها أولئك “الرعاة” الذين خرجوا وكأنهم لم يخرجوا، بل كأنهم لا يزالون في تلك القرى التي غادروها حاملين إياها معهم. أو كأنهم لم يجتازوا “حدود الشمال إلى المدن الكبرى والسواحل”. هذا النفس الرثائي يلازم الكثير من القصائد التي كتبها أمجد ناصر. لكن الرثاء لا يقتصر على العالم الأول بل ينسحب على العالم الآخر، على “الضفة الأخرى” أو ما يسميه الشاعر “حواف المياه “. غير أن المأساة لا تبلغ أوجها هنا في هذا الاقتلاع أو هذا التردد بين عالمين أي بين “مصاطب الريحان” و”رائحة القرفة” وبين “الجزيرة “و”مدن المنتحرين”. تبلغ المأساة ذروتها في الخيبة التي يمنّى بها الشعراء دوماً، الخيبة الوجودية التي يكتشفها الغرباء لدى وصولهم إلى “الكمائن” وإلى “الأسماء المستعارة”. يدرك هؤلاء الغرباء أن الناس الذين عرفوهم قديماً لن يعرفوهم بعد الآن. فالأسماء مضى وقت استعادتها و “صور العائلة” لم تبق في الأدراج. الماضي انهار كله والحاضر أصبح في صيغة الماضي الذي يواصل انهياره. حتى الحرب باتت أشبه بـ “حدوة حصان” أو “سترة مثقوبة بالرصاص”. أما الانتحار فمستحيل إذ لا مسدس هنا ولا مدية ولا أنشوطة كما يعبر الشاعر، بل “كلس الجدران” وحده.
سكون الإسم
إلا أن الشاعر الذي يجعل من المنفى موضوعة شعرية بامتياز يمتهن السفر في عالم الكلمات والصور والمجاز “ساكناً اسمه الجديد”، بحسب تعبير سان جون بيرس، بعدما أضحى اسمه الأول وقفاً على ماض منهوب أو مدمر. يصبح الشاعر قرين عوليس الذي لن يبحث عن إيثاكا إلا في غمام الشعر. حال المنفى هذه تظهر أيضاً في ديوان “سر من رآك” الذي اقتصره ناصر على لغة الجسد الأروسي المتفتح تحت نار الشهوة وجمر الموت. في هذا الديوان الذي تحتله المرأة بحضورها “الرغائبي” يقول الشاعر: “وغنيت، أنا المولود تحت منجل الحصاد /غناء الغريب بين رطانة المبشرين بالسؤدد”. وموضوعة الغربة هذه تتجلى أيضاً في ديوان “مرتقى الأنفاس” عبر التماهي في شخص أبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة الذي غادر أرضه مغادرة الغريب غداة سقوطها النهائي. يكتب الشاعر مستعيراً صوت ذلك الشخص المأسوي: “وصل الغريب /بلا بارحة أو غد /وصل الغريب /على آخر /نفس”.
وعودة إلى قصيدة جميلة ومثيرة بعنوانها وهي “انطباعات خاطئة” يجد القارئ مدخلاً متاحاً إلى عالم أمجد ناصر الشعري. فالانطباعات الخاطئة هذه تمثل روح الشعر الحقيقي الذي لا يقوم إلا على الانطباع المختلف والمفاجئ وغير الجاهز أو المسبق. إنه الانطباع الذي يحيل الوصف إلى “حطام” ويجعل المشهد، بصفته واجهة العالم، أقرب إلى “الطبيعة الجامدة”. وكان الشاعر أعلن أصلاً في قصيدة “برار” (رعاة العزلة) ما يشبه “البيان” الشعري الذي يجاهر من خلاله بصورة الشاعر المخلوق تحت برج الغربة والمنفى والخيبة. إنه الشاعر الذي لم يجد في النهر إلا الحصى و “وصايا الجفاف”، ولم يجد في الحب إلا “خريف القرنفل” وفي الحكمة إلا “فتات الموعظة”. إنه الشاعر المتمرد على الشعر نفسه وهو لم يجد فيه إلا “فتات الوصف”. يصبح الشعر هنا فعل تمرد لا على اللغة، أساس الشعر، فقط وإنما على الزمن الماضي الذي يرمز النهر إليه وعلى التاريخ المتمثل في الحكمة، وعلى الحياة نفسها الكامنة في الحب. ليست هذه اللحظة الشعرية السلبية مجرد رد فعل سلبي حيال العالم بل هي لحظة حضور فيه، ولكن من خلال رفضه وتحطيمه أو تحويله إلى فتات، بحثاً عن جوهره المفقود. وفي قصيدة “أغصان مائلة” يتضح موقف الشاعر مذ يعلن أنه يريد أن ينظف رأسه من “بقايا الموعظة والكلمة الطيبة “وأن ينظف قلبه من “حطام الحب الأول” وصوته من “أوكسيد الأغنية”. لكن الشاعر المتمرد والرافض يعلن انتماءه إلى القصيدة الغنائية في ديوانه “سر من رآك” محتفياً بالجسد الأنثوي احتفاء إروسياً يجعل اللغة مادة للرغبة المشتعلة. ويعلن الشاعر أيضاً انتماءه إلى القصيدة الدرامية في ديوانه “مرتقى الأنفاس” مستعيداً أسطورة الهزيمة التاريخية في غرناطة. ولعل هذه القصيدة هي من القصائد العربية النادرة التي استطاعت أن ترتقي بهذه القضية إلى مصاف الإبداع الشعري الحقيقي بعيداً من النواح والبكاء وفي منأى من الموعظة الأخلاقية والأمثولة السياسية.
يصعب فعلاً حصر عالم أمجد ناصر أو وصفه أو مقاربته في مقالة تهدف إلى رسم صورة موجزة عن مسار شعري أو تجربة هي في صميم الحركة الشعرية العربية الجديدة. ولا تكمن فرادة هذه التجربة في انتقالها من الشعر التفعيلي في البدايات، إلى قصيدة النثر فقط، ولا في انفتاحها على حرية القصيدة وهوائها الطلق، بل في كونها أيضاً اختباراً للشعر والقصيدة على ضوء المكابدة أولاً والوعي الشعري ثانياً. ولعل هذه الفرادة تزداد رسوخاً كذلك من خلال ثورية هذا الشعر وحداثته النضرة وأصالته التي تبوح بها اللغة المتحولة دوماً. وما أرحب عالم أمجد ناصر القائم أولاً وأخيراً على تعدد الطبقات وتعدد الأساليب التي تصب في الختام في نهر التجربة الواحدة.
ترجمت أعمال أمجد ناصر إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والإنجليزية، ولغات أخرى، ونال خلال مسيرته العديد من الجوائز والتكريم، بينها جائزة محمّد الماغوط للشعر من وزارة الثقافة السورية في العام 2006. وحاز جائزة الدولة التقديرية في حقل الآداب، ووسام الإبداع والثقافة والفنون الذي منحه إياه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تقديراً لدوره في إغناء الثقافة العربية، وتحديداً الأردنية والفلسطينية.
————————–
أمجد ناصر في رحيله.. راعي العزلة الأبدية/ رائد وحش
أوّلَ مرة قرأتُ فيها اسم الشاعر أمجد ناصر كانت في عددٍ قديم من مجلة “الحرية” الفلسطينية. ظهر الاسم مع قصيدةٍ سوف تستمرّ في الحضور معي في الوقت اللاحق. إنها قصيدة “عجلون” التي قرأتها فيما بعد في ديوانه “رعاة العزلة” بوصفها قصيدة حبّ. لكن في زمن الفتوّة المدموغ بختم النقصان في الوعي والتجربة، بما يكفي ليجعل من الشِّعر طلسمًا يحتاج إلى شرحٍ وشرّاح، فهمتُ أن القصيدة عن مكانٍ بسبب العنوان الذي أسمعه دومًا في بثّ التلفزيون الأردني الذي يصل بيتنا.
لعل هذا اللافهم، أو الفهم الناقص، أعني الغموض المترامي الأطراف الذي تلقي بنا فيه القصائد زمن النشأة، هو ما يجعل الشعر لغزًّا جديرًا بإنفاق النهارات والليالي في محاولة كشفه.
بعد وقتٍ ليس سهلًا في ملاحقة قصائده، أواخرَ حقبة التسعينيات التي طمست آفاقها حرب الخليج وبداياتِ الألفية الثالثة التي قصّت شريطها حربُ الإرهاب، في الصحف والمجلات القديمة، سواء تلك التي نشر فيها أو كتبت عنه، حصلت على بعضٍ من شعره لمامًا، كثير منه مقاطع وردت كشواهد في المقالات.
على هذا النحو، وقعت في فخاخ أمجد ناصر.
لا أعرف لماذا يأخذنا الشعر في هذه الدروب الوعرة، ولا أعرف لماذا تغرينا العبارات والمقاطع الغامضة مطلع شبابنا، لنقضي الوقت المتبقي نقتفي آثارها ونلملم أشلاءها!
توقّف هذا التيه حين منحني الشاعر السوري لقمان ديركي كتابين عملاقين لأمجد، الأول هو “الأعمال الشعرية” بطبعة “المؤسسة العربية للدراسات”، والثاني “تحت أكثر من سماء” نصوص رحلاته في سفر ضخم أصدره “المجمع الثقافي في أبو ظبي”. آنذاك فقط عرفتُ أمجد عن كثب، وعرفت أيضًا خط يده الرديء في الإهداء الذي أحفظه عن ظهر قلب: “إلى لقمان ديركي.. ابن الحياة غير الضّال”.
بعد سنواتٍ، كتبت إليه إيميلًا بغرض نشر بعض القصائد في “القدس العربي”، التي كانت ممنوعة في سوريا ولا تزال، وفاجأني بترحابه في الوقت الذي أهمل محرّرون في صحف أخرى رسائلي، لكنه خاطبني باسم “رياض” بدلًا من اسمي. كتبت له: “أتريد توريطي بلعنة الاسمين مثلك؟”.
منذ ذلك بقينا نتواصل إلى أن جمعتنا الحظوظ في مهرجان عام 2017 في برلين. جاء أمجد من بيروت التي كثر تردّده إليها منذ انتقال ابنه أنس للعمل فيها. تذكّرنا تلك الرسالة وغيرها، وأذهلني بمعرفته الواسعة والتفصيلية للحياة الثقافية السورية، قبل الثورة وبعدها على السواء، وتلاشت المفاجأة حين أدلى بمعلومات مماثلة تشي بالاطلاع ذاته تجاه الأوساط الثقافية في السعودية أمام زميلنا في المهرجان الشاعر أحمد الملا. الأمر الذي يعني أنه رادار صحافي نشطٌ يلتقط أحوال الكتّاب والفنانين في مختلف الأوساط الثقافية.
ديسمبرُ برلين أعيادٌ وبرد. نسينا ذلك كله ورحنا ندخن ونتحدّث عن الكتب. توقّف طويلًا عند “ألف ليلة وليلة” مسهبًا في اكتشافه نزوعًا علمانيًّا في الكتاب الشهير الذي لم ينطبعْ بطابع إسلامي، بل ظل البعد الديني فيه غائبًا أو متواريًا، أما الوعظ فيه فأخلاقي يتناول الوفاء والخيانة وغيرها، لا الكفر والإيمان. قلتُ له إن الباحث والناقد العراقي محسن مهدي حقّق نسخة غير مسبوقة من الكتاب الشهير، قضى في العمل عليها قرابة خمس عشرة سنة، أسماها “ألف ليلة وليلة من أصولها العربية”، ورأى أن شهرزاد امرأة وثنية، تعيش في بلد وثني، في زمن وثني، خارج إطار الأديان السماوية، ولهذا حين تزعم أنها تتحدّث عن أحداث ماضية فإنها في الحقيقة تتحدّث عن أحداث مستقبلية.
عندما عاد أثار نقاشًا على فيسبوكه حول الليالي، ثم لخّص أفكاره في مقال عنوانه: “لماذا ألف ليلة وليلة ليست رواية؟”.
في جلسةٍ مرحةٍ، في مطعم سوري في الحي العربي من برلين، لا أدري أية حماقة تلك التي دفعتني لآتي على ذكر قصيدته “حديث عادي عن السرطان”، المنشورة في ديوانه الاستثنائي في الشعر العربي “حياة كسرد متقطّع”. بالحماقة ذاتها التي فتحت بها الحديث علّقت: “يبدو أنك نجوت من احتمال الإصابة بالسرطان الذي تورده القصيدة”. نظرَ نظرة من يطرد تهمةً وقال: “لا. أعد القراءة وستعرف أنك مخطئ”.
تروي القصيدة حديثًا شاحبًا بين صديقين، أمجد والمصور صالح العزاز الذي حمل الإهداء اسمه. يقول الصديق للشاعر إن أخاه مات بالسرطان في الأربعين من العمر، ويقول أمجد إن السرطان هاجم أمه مرتين، في الأولى كانت بحدود الخمسين من العمر فأمهلها عشر سنوات، وفي الثانية لم تأخذ سوى بضعة شهور.
فهمتُ الخطأ. فهمت أنه بطريقة غامضة، كحاله في ملاحقة العلامات، يعرف شكل مصيره. ألا تقول القصيدة بوضوح وصراحة: “قرأتُ لا أدري أين أن الإنسان يموت كما يموت أهله”؟
القصيدة موقعة في خريف 2001، أي في وقت بلوغه الـ 46 من العمر، أي أن الموت على طريقة الأم سيكون سيناريو مفتوح الاحتمال ابتداءً من أربع سنوات لاحقة على ذلك التاريخ. لكن القصيدة التي تنتهي بالإشارة إلى تنبؤ الشعراء بموتهم، خصوصًا نبوءة الشاعر البيروفي سيزار فاليخو الذي مات كما توقّع في باريس في يوم ماطر، تقول: “وأنا أتوقّع في هذه القصيدة التي أكتبها، الآن، أن أموت بلندن في يوم ماطر (يوم ماطر في لندن؟ يا لها من نبوءة!) موصيًّا منذ اللحظة أن أُدفن في المفرق قرب أمي التي ماتت وهي مقتنعة أنه لن يضمنا حيّز واحد ذات يوم. فالجميع يعلم أنها ستذهب إلى الجنة”.
غاب طويلًا لنعرف أنه أصيب بسرطان الدماغ، وأنه أوان النبوءة التي أطلقها.
أيام طويلة من الرعب والخوف لا يجيب فيها على هاتفه أو رسائله. أسأل عنه الأصدقاء في لندن وأحصل على قصة مروّعة. قبل ست سنوات من مرضه تبرع لزوجته هند بكليته بعدما أصيبت بالفشل الكلوي، ثم تبيّن أن كليتها الوحيدة المأخوذة منه مسرطنة. طلبوا منه فحصًا فوجدوا كتلة سرطانية في رأسه. قال في رسالة صوتية: “السرطان يأكل رأسي يا ابن العم”، ثم تبعها برسالة أخرى متهكمة: “قضيتُ حياتي أتحدث عن قصيدة الكتلة وحصلت على كتلة في الرأس”.
حاولتُ الحصول على تأشيرة إلى بريطانيا. ملأتُ قرابة الخمسين صفحةً من صفحات المعلومات المطلوبة، تلك التي تستحق بريطانيا عليها الطرد خارج الكوكب، لأجل أن يُرفض طلبي.
يغيب أمجد كثيرًا بعد الجرعة الكيماوية، ورغم أنه يعود منهكًا إلا أنه يظل مصمّمًا على العمل. يريد إصدار القصائد التي كتبها خلال سنوات توقفه عن النشر، ويريد إعادة طباعة أعماله القديمة. عملت معه على تجهيز بعضها. جمعنا مقالاته وحواراته التي استطعنا الوصول إليها، وستصدرها وزارة الثقافة الأردنية. أصدر قصيدته – الديوان “مملكة آدم” عن “منشورات المتوسط”، وعمل على تنقيح رحلاته.
بهذه الطريقة، دخل سباقه مع الموت، وأظنه لم يستسلم إلا حين شعر أنه أنهى ما يجب إنهاؤه، تاركًا ما تبقى للباحثين والنقّاد والقرّاء.
في خريف 2018، كنت مع نيكول -زوجتي- في باص يعبر الأراضي الأندلسية، بمحاذاة المحيط الأطلسي، بين مدينتي قادس والجزيرة الخضراء، رنّت مكالمة فيديو في الواتساب وظهر أمجد على الشاشة. سألنا عن مكاننا. قلت الأندلس. طلب وضع الكاميرا على شبّاك الباص ورافقنا الرحلة.
أمجد موسوعة تاريخية وأدبية في الأندلس. أليس من خصّص ديوانًا كاملًا لبس فيه قناع أبي عبد الله الصغير وروى وداع غرناطة، في “مرتقى الأنفاس”؟ أباح لنا الكلام، ولا أزال أذكر جملة ذهبية مما قاله: “المكان الوحيد الذي تشعر إنك كنت فيه من قبل، أو أن شخصك الآخر كان فيه من قبل، هو الأندلس”.
يئس منه أطباء لندن. كتب نص “قناع المحارب.. يوميات مريض بالسرطان” أدنى به صفحات السوشيال ميديا. قرّر الذهاب إلى الأردن ليجرّب حظه مع برنامج علاجي جديد. أعرف، كما يعرف، أن البرنامج ذريعة للعودة إلى المرابع الأولى، وإلى ربعه الأولين، لأجل شيء واحد لا غير: أن يموت هناك.
أعفى نفسه من النبوءة الساخرة عن الموت في لندن، في قصيدته السالفة الذكر “حديث عادي عن السرطان”، ومنح نفسه الفرصة الأخيرة، والأكيدة، لكي يُدفن إلى جوار أمه.
أوقنُ أنه فكّر بكل ذلك رغم أنه لم يصرّح بحرف منه، فرجل مثله يرغمه كبرياؤه البدوي على خياراته لن يفعل إلا ما يمليه عليه قلبه.
أعطاه الموت فرصة لا بأس بها، صحيح أن حاله ساء، لكنه اطمئن إلى أنّه في المكان الصواب أخيرًا، فالحالم الذي هرب من اسمه الأول، ومن بيت أهله، ملتحقًا بيوتوبيا الشعر والثورة الفلسطينية، رماه مصيره من منفى إلى آخر، لم يكن له من حصن سوى العزلة التي اتخذها مذهبًا. العزلة التي نعثر عليها في شعره ليست سوى تعبير عن غربته بين ماضٍ بدويّ لا يُعاد، وحاضر متروبوليّ لا يُعاش.
هل بيوتنا الأولى أفضل الأمكنة للموت؟ هل يمكن التعديل على بيت أبي تمام الشهير: “كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدًا لأول منزل” كي يلقى حتفه فيه؟ هل نهرب إلى الحياة من بيوت الأهل، وحين تلوح تباشير الموت نهرع إليها لمواجهة المصير؟
يقول لنا شعر أمجد إنه لم يغادر مكانه الأول، ولم يبرح مطارحه إلا لمامًا، على الرغم من كل ما توحي به سيرته من انشقاق. أزعم أنَّ شعوره بالذنب تجاه المكان الأردني جعله راسخًا في أعماله الأولى، ومستعادًا على الدوام في أعماله المتأخرة. عودة أمجد أنهت الخصومة بين الذات والمكان، ووضعت النقاط فوق حروف المعنى الضائع.
الترا صوت
——————–
أمجد ناصر.. أكثر من شاعر وأبعد من تجربة شعرية/ مصطفى ديب
عندما غادر يحيى النميري النعيمات (1955-2019) بلدته، الطرّة، شمال الأردن؛ كان يعرف، على ما يبدو، أنّ البضاعة الوحيدة التي تُشبه الذهب هي الطريق، شأنه في ذلك شأن الشّاعر العراقيّ الراحل سركون بولص. الشّاعر الأردنيّ الذي سيصير اسمه فيما بعد أمجد ناصر، استجاب لرغبة أقدامه وشغفها بالمسير، فمشى طريقه كاملًا، إلى أن غادرنا يوم أمس، مُنهيًا رحلةً قصيرة وطويلة في آن معًا. طويلة لجهة المسافات التي قطعها. وقصيرة لأنّ الشّاعر الذي رحل في الـ 64 من عمره كان لا يزال قادرًا على العطاء، ولديه ما يودّ تقديمه إلى قرّاءٍ اقتفوا أثره لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
رحل أمجد ناصر إذًا، بعد أن سرقه السرطان من الحياة والشِّعر معًا، تاركًا خلفه حياة عاشها كسردٍ مُتقطّع، بدأت منذ كان يصعد جبل جلعاد ورعى العزلة فيه، وخبر الحيرة بين شقائق النعمان، وخبّط بأجنحته أثناء سيره في دروب الترحال والمنافي. يتوقّف كلّما رأى علامة، ويواصل المشي إن تأخّر الغرباء في الوصول، قاصدًا مقهىً يكتب فيه مديحًا لمقهىً آخر، وحيدًا كذئب الفرزدق.
كتب أمجد ناصر شعرًا بدا كالبوصلة، يستدلّ به على مكانه الأول، ذلك الذي انشغل به في منفاه، يُعيد خلقه وتكوينه أكثر مما يستعيده، وكأنّ الاستعادة عندهُ نوع من المخاطرة التي قد تجرّه إلى مكانٍ يقف فيه وحيدًا، في مواجهة تلال مكدّسة من ذكرياتٍ سيسرًّ إن استعادها، غير أنّ فكرة أنّها مضت وانتهت ستعكّر صفوه. “خفت أن ألتفت ورائي فأجدني”، يقول أمجد ناصر، وفي قوله ما يكفي للإشارة إلى مسير مستمرّ لم ينتزع منه مكانه الأول، بقدر ما شدّه إليه، دون أن يكون الالتفات إلى الوراء أمرًا ممكنًا. والنتيجة أن جاءت مجموعاته الثلاث الأولى، أي: “مديح لمقهى آخر” (1979)، و”منذ جلعاد كان يصعد الجبل” (1981)، و”رعاة العزلة” (1986) لتروي سيرة اغتراب صاحبها، وتجول بالقارئ في ماضيه البدوي الذي بدأ يسحبه نحوه ما إن وصل إلى أمكنةٍ كبيرة: “تأخذنا الأقدام إلى حالاتٍ مُقتضبة في العتم لا نجرؤ على الابتعاد كثيرًا وغالبًا ما يحدث في العمارات الكبيرة، والمنافي” يقول.
يُمكن القول إنّ المجموعات المذكورة أعلاه تحديدًا، تملك خصوصية موازية لخصوصية أنّها سرد لاغتراب صاحبها ومنفاه. ذلك أنّ الشّاعر الأردنيّ ومن خلال تنقّلاته بين شكلٍ وآخر، أو ممارسة شعرية وأخرى؛ مثّل “على مدار الثلاثين عامًا الماضية مخبرًا نموذجيًا لتحوّلات القصيدة العربية في الفترة نفسها”، على حدّ قول الناقد الأردنيّ فخري صالح الذي أشار كذلك إلى احتفاظ قصيدة أمجد ناصر، وحتّى مرحلة ما معيّنة، بنفسٍ غنائيٍّ ضارب في أعماقها، على الرغم من أنّ مشروعه الشّعري كان مضادًا للغنائية.
قصيدة الشّاعر الراحل المُشيّدة على جمل صلبة، تتداخل فيها المفردة اليومية بالقاموسية، خضعت لانقلاباتٍ عديدة غيّرت الشكل دون الوصول إلى الممارسة والمتن، لا سيما في مجموعاته المذكورة قبلًا. هكذا، بدا مؤلّف “هنا الوردة” وكأنّه يكتب كل مجموعةٍ بشاعرٍ يختلف عن ذلك الذي سبقه. فبداياته، أي “مديح لمقهى آخر”، ليست كـ”منذ جلعاد كان يصعد الجبل” التي رأت النور بعد عامين فقط من تاريخ صدور الأولى. ناهيك عن أن الأخيرة ليست كـ”رعاة العزلة”. وأنّ كل ما سبق، ليس كـ”حياة كسرد متقطّع” التي كانت نثرًا خالصًا، ومُكتملًا. وبالتالي، لن تكون ملاحظة ذلك النوع من الترحال إلى ممارسات جديدة وأشكال مختلفة في قصيدة أمجد ناصر، أمرًا صعبًا. وعند هذا الحد، يبدو أن الترحال تمكّن من التسلّل من عالمه الشخصي إلى عالمه الشّعري.
بإصداره “حياة كسرد متقطّع” (2004)، كان أمجد ناصر قد تخلّص من البداية، أي من الإيقاع الذي لم يحمّله الغناء والوزن الصارم. المجموعة بأكملها كانت تأكيدًا على صحّة مقولة أنّ في مسيرته الشعرية أكثر من شاعر، وأكثر من تجربة شعرية. ولربّما كان الثابت الوحيد هو الموضوع الذي اختاره لنفسه بعد أن اختار شعره. إن كان اختياره أن يبدأ الشِّعر من سيرته وترحاله ومنافيه وما تركه خلفه في أرضه الأولى. أو أن يجعل من الصحراء، بشكلها الأسطوري، والنسب المكسور، وكذا المهد الضائع تجاوره الهوية المفقودة، والنفس التي عافت ما وصلت إليه من أمكنةٍ ضخمة وكبيرة؛ موضوعًا لشعره. نقول اختار، ونستعيد ما كتبه الشّاعر اللبنانيّ عبّاس بيضون: “أمجد ناصر شاعر يختار من البداية وأقول يختار مع التشديد عليها، إذ لم يكن سهلًا أن نختار مع كل ذلك الإغداق الشعري القائم آنذاك، ومع كل ذلك الطموح البعيد المدى للشعر والأوهام حول الذات والمشاريع الكبرى الشعرية. لم يكن سهلاً الاختيار حين يرفع الشعر مراهناته ومضارباته إلى حدٍ يستحيل معه تمييز حدوده”.
غادرنا أمجد ناصر إذًا. قبل ذلك، لم يكن الشّاعر الأردنيّ الذي جاب عواصم عدّة بحثًا عن المعنى لشعره المسكون بالقلق؛ قد تغيّر كثيرًا. لا تزال “الألفاظ المشبعة/ النبرة البدوية/ العناق الطويل/ السؤال عن الأهل والمواشي/ الضحكة المجلجلة/ رائحة الحطب القديم/ ما تزال تعبق في ثيابنا”. غادرنا، تاركًا خلفه أعمالًا روائية وشعرية تصلح لتكون سيرًا ذاتية له، وليس سيرة واحدة فقط.
الترا صوت
———————–
أمجد ناصر .. الذي لن يرضى مِنَ الغنيمة بالإياب !/ محمود قرني
[وقد جاورت أمجد أكثر من ثلاثة عشر عاماً في جريدة “القدس العربي” لم ينشر فيها مرة واحدة مقالاً عن أعماله رغم كثرة ماكان يرده من مقالات، ولم أر ولم أسمع يوماً أنه استغل موقعه بأي صورة من صور الاستغلال، على كثرة ما رأيت من هذا الغثاء طيلة حياتي المهنية، كما لم يشُب سلوكه أي تواطئ من أي نوع مع أية مؤسسة أو مثقف أو ناقد في العالم العربي]
1
عندما قرأت سيرة شاعر الحداثة الأمريكية “والاس ستيفنز” تذكرت على الفور “أمجد ناصر” ، ذلك المراهق المحتد الذي لم تظهر عليه أية عوارض للحكمة رغم شيبته، كما يقول هو نفسه في إحدى قصائد ديوانه الفريد “حياة كسرد متقطع”. موقع التشابه ليس في أن أمجد مثله -مثل ستيفنز – شاعراً فذاً فحسب، بل هو أيضاً يملك اعتداداً نادراً بذاته جعل منه شاعراً مُقدراً في الشعرية العربية الحديثة؛ كما جعل من ستيفنز شاعراً مخيفاً في الأوساط الأمريكية. فقد انتهت المقابلة الوحيدة لـ ستيفنز مع إرنست هيمنجواي إلى التشابك بالأيدي عام 1936 وقد سبقها بمقابلة أقل حدة مع معاصره “روبرت فروست”. “هيمنجواي” كان يصدر في أعماله الروائية عن إيمان بقشرية الواقع ولاجدواه لذلك كان يدافع طيلة الوقت عن تهتكه وعن تقشف لغته، بينما كان ستيفنز برناسيا ليس فقط لأنه صاحب فلسفة لادينية بل لأنه يرى الشعر غاية في ذاته. في المقابل كان أمجد ولازال من أبعد شعراء الحداثة عن الذاتية، مؤمن بالتركيب الشعري، مؤمن أيضاً بتعقيدات العالم ولاجدواه في الوقت نفسه، من هنا تبدو لغته فريدة وسط شعراء جيله، كذلك تبدو جحيمية التخييل لديه دافعاً مؤثراً في تطوحاته بين التاريخ والفلسفة وأسطورية اللغة. ربما لذلك كانت تساؤلاته ممضة عن الشعراء الذين يسرفون في استخدامات اللغة التداولية النابعة بالأساس من الخصومة بين وظيفة الشعر كجوهر يحل بديلاً للحياة نفسها وبين تحوله إلى عبادة اللاشيء عبر عبادته لذوات تفتقد الوجود بالأساس.
أمجد ناصر قناص برتبة شاعر، فرادة صورته الشعرية وانفلاتها تذكرني بمقولة المصور الفرنسي “إدجار ديجا” إن “المصور يرسم اللوحة بنفس الشعور الذي يرتكب به المجرم جريمته”. ولعل تلك الحرب التي خاضها طيف واسع من فناني الحداثة ومابعدها ضد النزعة الامتثالية جعلت لتلك اللغة القاسية مقبولية في أوساط العامة بدرجات متفاوتة. وأمجد الذي لايقل إجراماً عن ديجا سيظل واحداً من هؤلاء القلقين من دون أن يعني ذلك تورطه في خصومات شعارية جوفاء مع الماضي.
2
الضجر الشعري لأمجد ناصر لم يكن في أية لحظة إلا تعبيرا عن هزيمة الشعر أمام أعطيات العصر الصناعي. الساردون الجدد احتلوا موقع الشعراء. فهم قادرون على التسرية عن ساكني المخيمات والملاجيء وقتلى الحرب وملايين العمال أمام الماكينات. الساردون الجدد قادرون على صناعة المشاهد الساحرة وتخفيض حالة التشيوء التي تبدو لدى الساسة مقدمة لاضطرابات عظمى لابد من السيطرة على اعتمالها مبكراً وقبل الأوان. ربما لذلك بدا الساردون الجدد هم الأقدر على تبادل المواقع مع السلطة والقيام ببعض مهامها. الشاعر ساخط عظيم على كل هذا والمجتمع نفسه ينظر بسخط شديد إلى كل خلق جديد ومختلف، لكن السارد -كما أنه أكثر واقعية- هو أيضا الأكثر رومانسية لأنه كما يقول ياكبسون “ذلك الرجل المحفلط الذي يقسم أن الوجود ليس به نساء دميمات”. لقد سب المتنبي الزمن لأنه جعل منه شاعراً، وكان شديد الضجر بتلك المهمة، ربما لذلك كان واحداً من بين أقل الشعراء العرب إنتاجاً، وليس غريباً أن يعيد تساؤله أبو الفوارس التميمي عندما يقول : “إلامَ يراك المجد في زي شاعر / وقد نحلَتْ شوقا فروع المنابر”.
إن وعي أمجد ناصر بوظيفته كشاعر كانت ثقيلة إلى أبعد حد، لأنه كان ينتظر من الشعر ماهو أكبر من طاقاته على الاحتمال. أمجد ليس رومانسياً بطبيعة الحال لكنه مثل كل الشعراء الكبار يرى الشعر يناضل لإرغام العدم على إنجاب الوجود، كما يقول أرشيبالد ماكليش، ولعمري هي مهمة تبدو أشبه بنكات زمننا الشحيح. أمجد نفسه أول من أدرك تلك الحقيقة لذلك كان أكثر المتهكمين في شعره، بل هو أكثر المتهكمين من حياته. لم يعبأ بشيء ولم يكن عبداً لشيء. كان حراً ولايزال.
3
اليوم وأنا أحاول تحري الصدق عندما أكتب عن أمجد ناصر في محنته، أتساءل عن ذلك الغبار الذي يفصل بين بقائي على قيد الحياة، بثلة من الأمراض، وبين أمجد الذي يقيم على مبعدة تقدر بمئات الأميال بينما يعاني صواعق دماغية بفعل المرض. الغبار هنا ليس هو الدليل الباقي على أن ثمة شاعراً يسكن في البعيد بينما يتأسف على أنه ذات يوم سيكون مضطراً إلى أن يقبل بالطبقة السادسة التي قرر أفلاطون أن تكون منزلاً للشعراء في جمهوريته. هنا فقط سيصبح ضجر أمجد ناصر في محله وكأنه يستعيد قول امرؤ القيس “لقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب”. هو نفسه يرى مولده عاماً من أعوام الفاقة عندما يقول “وصل عام 1955 فعالجوه بالفاقة / وبين أترابه قاده ضوء بارد إلى ما رأته عيناه”. ضجر أمجد من الشعر دفعه إلى أن يبدأ حياة سردية مغايرة بداية من كتابه “فرصة ثانية”. وهو نص يخرج من وعي البداوة الصارخ، باحثًا في أشد مفرداتها خصوصية وكأنه يتنكب أسرار بقاء السلالة وإعادة استنباتها عبر لغة تشف أحيانًا وتغور في كثير من الأحايين. يعيد أمجد طرح سؤال الشعر في مواجهة اللغة. ففيما تبدو اللغة -للوهلة الأولى- كعلم لدني، إلا أنها تحطم قوى النظام ولا تأبه به، فتتحول من كونها هيكلاً مقدساً وكهنوتياً إلى ملكية يتشارك فيها كل صناعها، وهو مايحول اللغة من أسطورة شخصية إلى أسطورة صنعتها التداولية العامة. لقد كان ولازال أمجد ناصر يتأسى بجعل ابتكاراته قابلة للشم واللمس والسمع كما كان يقول رامبو لصديقه پول دوميني، إنه باختصار باحث عن لغة لم تلوثها العادة.
4
قبل أكثر من عشر سنوات كتب الشاعر “أمجد ناصر” مقالاً تحت عنوان “الشعر والمرض” بدأه من قصيدة المتنبي التي ينعي فيها مرضه بالحمى، وهي القصيدة التي يقول في مطلعها : “مَلُومُكُمَا يجل عن الملام ووقع فعاله فوق الكلام”. بدا أمجد شديد الاعتزاز بموقف المتنبي في تعاليه على المرض، وإن رأى في موقفه الكثير من التَنَفُّج، وهي المفردة التي يحب أمجد استخدامها تعبيراً عن الإسراف في تعظيم الذات، حيث يرى أن المتنبي “لا يوكل للزمان مهمة سوى رواية قصائده”. سيزداد الأمر جلاء عندما يتناول أمجد حالة سعد الله ونوس. فأكثر الأشياء التي تركت أثراً في نفسه كانت تلك “النظرات المودعة ، والمشفقة”، التي تشايعه مع كل التفاتة. وعندما وقع هذا المقال ثانية في يدي، أدركت لماذا لايرد أمجد على مهاتفات أصدقائه، ولماذا لايستجيب لأى نوع من التواصل معهم. فأمجد، البدوي المعشر والمحتد، بين أكثر من عاشرت اعتداداً بذاته، وإذا كان البعض يعير ذلك إلى طبيعته القبلية، إلا أنني دائماً كنت أراه حصيلة لتعففه وشرفه واعتصامه بمنظومة من القيم الرفيعة التي كانت تتكاثر مع كل محنة، وكل انعطافة. وقد جاورت أمجد أكثر من ثلاثة عشر عاماً في جريدة “القدس العربي” لم ينشر فيها مرة واحدة مقالاً عن أعماله رغم كثرة ماكان يرده من مقالات، ولم أر ولم أسمع يوماً أنه استغل موقعه بأي صورة من صور الاستغلال، على كثرة ما رأيت من هذا الغثاء طيلة حياتي المهنية، كما لم يشُب سلوكه أي تواطئ من أي نوع مع أية مؤسسة أو مثقف أو ناقد في العالم العربي. وقد وصلته عشرات الشكاوى من المتابعات التي كنت أبعث بها إلى الجريدة من القاهرة حيث كان يتم تفسيرها باعتبارها طعناً في بعض رؤساء الهيئات أو كبار المثقفين، فكان ينشرها دون أن يحذف حرفاً واحداً. المرات النادرة التي فعل فيها ذلك كانت لأسباب مهنية محضة. وأستطيع القول، دون إسراف، أن مافعله أمجد من أجلي خلال تلك السنوات أكثر من اللغة. أذكر أنني تعرضت للفصل من الجريدة حوالي ثلاث مرات، كانت كلها تقريباً وشايات لاتخلو من تورطات أمنية ما دفع أمجد في المرة الأخيرة إلى أن يرهن رحيلي عن الجريدة برحيله، بينما كنت مجرد محرر في مكتب القاهرة، وهو مديراً للتحرير في لندن. هذا ربما كان السبب المباشر الذي جعلني أقول له عندما أبلغني برحيله عن الجريدة أنني لن أمكث يوماً واحداً بها، وقد حدث بالفعل أن قدمت استقالتي في نهاية العام 2013 رغم نصيحة أمجد لي بالبقاء.
5
وأخيراً فأنا لست في حاجة لأن أعود أمجد أو أراه على حالته تلك رغم علمي بأنه يمكنه العيش لعشرين سنة قادمة، فقد تعلمت تلك القسوة من مشهد تكرر أمامي مرات ومرات. فقد كان أصدق أصدقاء أبي يرفض تماماً رؤيته في مرضه. كان يأتي يومياً إلى البيت يسأل عما آلت إليه حالته، لكنه كان يرفض، بقطعية أدهشتني، دخول غرفة أبي. رأيت في ذلك بعض القسوة غير المفهومة. ولم أفهم كيف يمكن لتلك الوحشة أن تتبدد بين صديقين جمعتها صداقة نادرة لأربعين عاماً. بعد ذلك بسنوات طويلة فهمت أن مابين الرجلين كان أكبر من الموت. أما أنا فرغم اتصالي بأمجد أكثر من مرة في لندن، واضطراري لترك أكثر من رسالة مرتبكة في بريده الصوتي، إلا أنني كنت أحمد تلك الأسباب التي صرفته عن الرد أيا كانت. أمجد لايحب نظرات الشفقة ولانحنحات الوداع وأنا لا أحب لنفسي، مهما كانت الأسباب، أن أكون مودعه. كان أمجد قوياً ولازال، وأظنه سيعيش عمراً مديداً. وكما كانت دعوته الرامبوية، لي ولغيري من الشعراء، إلى الانغماس في الانحلال [ المقصود هنا المعنى الشعري]، أعاود أنا أيضاً دعوته لتلك الانغماسية. فكما يقول رامبو في إحدى رسائله إلى جورج إيزامبار : «العذابات هائلة، لكن ينبغي على المرء أن يكون قوياً، أن يكون قد ولد شاعراً يموت على معتقده».
«أخبار الأدب» المصرية
تحت أكثر من سماء… المغرب كما رآه أمجد ناصر/ عبد المنعم الشنتوف
لم تنفك تجربة الكتابة عند الشاعر الأردني أمجد ناصر عن تجربة السفر والترحال بين الجغرافيات. ويمكن لقارئ هذه النصوص الرحلية، التي تتسم في آن بوفرتها واختلاف وتعدد أساليبها اللغوية والسردية، أن يحيط علما بأن السفر عند الشاعر الأردني ليس محض انتقال فيزيقي، وإنما ارتحال بين التواريخ والذهنيات والتقاليد، وأنماط الحضور في العالم، علاوة على توقها إلى القبض على اللافت والمدهش، واكتشاف العابر.
وبصرف النظر عن الأعمال التي احتفى بها الشاعر بجنس الرحلة، وأقصد تحديدا «خبط الأجنحة» الصادر عام 1996 و«تحت أكثر من سماء» 2002 و«رحلة في بلاد ماركيز» 2012، فإن الاحتفاء الشعري بالأمكنة والجغرافيات يبقى سمة دالة وجوهرية في الكون الإبداعي، وتستوى في ذلك أعماله الشعرية «مديح لمقهى آخر»، «وصول الغرباء»، «حياة كسرد متقطع» و«أثر العابر»، وأعماله السردية وأشدد تخصيصا على «حيث لا تسقط الأمطار» و«خذ هذا الخاتم» و«هنا الوردة».
يهمني أن أقترب من كتاب «تحت اكثر من سماء»، الذي نشر لأول مرة في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية قبل أن يضمه أمجد إلى كتابه «تحت أكثر من سماء» الذي صدر عام 2002 عن منشورات المجمع الثقافي في أبو ظبي، والذي خصصه الكاتب لرحلاته إلى اليمن وعمان والمغرب وسوريا وكندا. وسوف يكون تركيزي على الفصل الخاص برحلته إلى الدار البيضاء، الذي اختار له عنوانا مشحونا بالدلالات: رحلة إلى الدار البيضاء مجيء الزمن المغربي. تتمثل أهمية هذه الرحلة في اقترابها المكثف من جهة من إشكالية العلاقة بين المشرق والمغرب في الثقافة العربية، ولأنها تسلط الضوء من جهة اخرى على مكون لافت للنظر في السيرة الحياتية والثقافية للشاعر الأردني، التي تهم تحديدا الصلات التي احتفظ بها مع المغرب الثقافي العربي.
غير خاف في هذا السياق أن أمجد ناصر مثل استثناء دالا في ما يهم التعاطي المشرقي، مع معضلة العلاقة بين المشرق والمغرب، علاوة على إشكالية العلاقة بين أجيال، أو حساسيات الكتابة. وغير خاف في هذا السياق أن اختيار أمجد ناصر الإنصات إلى ثلاث تجارب، أو محطات في الكتابة الأدبية المغربية، وأقصد محمد بنيس وحسن نجمي وهشام فهمي، تؤشر إلى رغبة في تخصيب ودمقرطة الحديث في ما يخص إشكالية العلاقة بين مشرق الثقافة العربية ومغربها، والابتعاد به قدر المستطاع عن التنميط والجاهزية، والتبسيط، وسطوة الأحكام المسبقة الجاهزة.
سوف يسلك الشاعر نهج الشفافية والمباشرة والموضوعية، والابتعاد قدر الإمكان عن المهادنة والمجاملة ولغة الخشب، في سياق اقترابه من المشكلات التي تشكل السماد الخصب للمسبقات السلبية، التي أتيح لها أن تسود وتهيمن على العلاقة بين مشرق الثقافة العربية ومغربها. نشير على سبيل التمثيل، إلى ما يدعوه أمجد بشكوى المغاربة من التعالي المشرقي، التي تستلزم بداهة هذا النزوع اللافت عند بعض الكتاب المغاربة إلى استجداء الاعتراف والحضور من الآخر المشرقي. يرفض أمجد ناصر فكرة التقاطب الحاد بين المشرق والمغرب، وثنائية المركز والهامش؛ بحكم اعتقاده الراسخ في القيمة الإبداعية والمعرفية لما يتم إنتاجه في المغرب الثقافي العربي، الذي يقف على درجة سواء مع مثيله في المشرق.
وينحى المؤلف في هذا السياق باللائمة على الشاعر المغربي محمد بنيس، الذي يقدمه بوصفه نموذجا لهذا النزوع نحو الشكوى من التعالي المشرقي، في الوقت الذي كان فيه أكثر الأسماء الثقافية المغربية حضورا واستفادة من «المركز» المشرقي.
سوف يؤكد الشاعر حسن نجمي من جهته الحضور الثقيل لإشكالية المركز والهامش، أو المحيط، مؤثرا وصفها بالجرح. ووفق هذا المنحى يكون التعالي المشرقي افتراضا له مصداقيته ووجاهته، ويلقي ظلاله الثقيلة على الدينامية الخلاقة، التي ينبغي أن توجه علاقة مشرق الثقافة العربية ومغربها.
يستشهد حسن نجمي بكتاب عبد الله كنون «النبوغ المغربي في الأدب العربي» الذي مثّل أول محاولة للدفاع عن الهوية الثقافية المغربية، وإبراز تميزها واختلافها عن المشرق. ويقدم نجمي في هذا الخصوص قرينة دالة على هذا الجهل أو التجاهل المقصود من لدن بعض جهات الثقافة في المشرق، وتتمثل في أن بعض المجلات التي تسعى إلى إفراد بعض أعدادها للثقافة والأدب المغربيين، لم تفعل سوى أن كلفت كتابا مغاربة لتحرير هذه الأعداد، ولَم يكن ثمة دراسات أو أبحاث بأقلام مشرقية فيها.
يرفض الشاعر والمترجم المغربي هشام فهمي، فكرة المركز والهامش في الثقافة العربية، ويرى فيها تعويما وطمسا للأسئلة الحقيقية التي ينبغي أن يهتم بها المثقف والمبدع، وفِي مقدمتها التعبير الحميم عن الذات ونقض وتفكيك بنى الاستبداد التي ما تفتأ مهيمنة على الثقافة العربية مشرقا ومغربا. وللإشارة فهشام فهمي كان عضوا إبان عقد التسعينيات من القرن الفارط، في جماعة «الغارة الشعرية» التي نشرت منشوراتها الشعرية الغاضبة. وقد أشرف لفترة على موقع «الذبابة» والملحق الثقافي لجريدة «الأخبار» المغربية، قبل أن يقرر الركون إلى الصمت والعزلة في صقيع كندا.
لا يمكن للمرء إلا أن يعترف بالمحبة العميقة التي احتفظ بها أمجد ناصر للذات المغربية، بمختلف تمثيلاتها الاجتماعية والتاريخية والثقافية. وغير خاف في هذا السياق أن رؤيته هذه كانت بمنأى عن سطوة الإطلاق والأحكام الجاهزة ومحصلة اطلاع عميق وصداقات عتيقة. ولَم يكن مبدع «مديح لمقهى آخر» الذي خبر الانتقال من مسقط راْسه في المفرق الأردني، حيث قسوة الصحراء إلى عمان وعدن وبيروت ونيقوسيا ولندن، إلا أن يتسم بالنسبية والاعتدال والتسامح والشجاعة، في سياق صوغ رؤاه عن الآخر.
لم يمنع انبهاره بحداثة مدينة الدار البيضاء، وروعة شوارعها وأحيائها الراقية من أن يرى أحزمة الفقر وهوامش البؤس المتناسلة فيها. كما لم يحل أعجابه بمسجد الحسن الثاني، الذي تجاوز كونه فضاء للعبادة، ليشكل صرحا معماريا وحضاريا، من أن يتكتم على الظلم الذي حاق بقطاعات عريضة من المغاربة، أرغموا على الإسهام قسرا في مجهود بنائه. وفِي هذا السياق إذن يأتي اختتامه لهذا الفصل الجميل بتعبير دال لرفيقه في هذه الرحلة الكاتب المصري سعيد الكفراوي عن جمال المسجد: «قال كأنما يكلم نفسه: أمكنة قليلة تضاهي جمال هذا المكان. ولكن يا لهذا الجمال الشقي المحير».
القدس العربي
هل يرحل الشعراء: عن الكتابة الحيّة لأمجد ناصر في لحظة الاحتضار/ سامر مختار
عندما نسمع عن أديب ما يحتضر، غالباً ما يتوارد إلى أذهاننا سؤال من هذا القبيل؛ ماذا يفكر هذا الأديب حيال فكرة الكتابة في أيامه الأخيرة؟ هل اقترابه من الموت عطّل انشغاله عن النصوص أو القصائد التي لم يعمل عليها ولم تنتهِ بعد، أم إنّه يكتفي بما هو منجز، وينهي علاقته تماماً مع الكتابة؟
لطالما مرّتَ في حياتنا نوعية فريدة من كتّاب وأدباء ممن يكون دافع الكتابة بالنسبة إليهم يشبه تماماً دافع الإنسان للاستمرار بالحياة، وهذا الدافع الأخير لا تتعلق أسبابه بانتظار شيء ما، إنما الدافع للحياة هو، ببساطة، حبّ الحياة، وتقدير عظمة أن يحيا الإنسان، وأن يحبّ، وأن يعشق، وأن يعمل، وأن يتزوج، وأن ينجب أطفالاً، أن يحارب من أجل حياة كريمة وجميلة، وتلك النوعية من الكتّاب، تمتهنُ الكتابةَ حباً بالكتابة، لا تراهن على انتظار شيء من الكتابة.
ولذلك؛ أكبر فخّ تنصبه الكتابة للكاتب هو وقوعه في متاهة انتظار تقدير ما، سواء جاء هذا التقدير عن طريق منحه جائزةً أدبية، أو تحقيقه لشهرة ما. أما عند المراهنة على فعل الكتابة، بوصفها صلة الكاتب الوحيدة في العالم، تتحوّل الكتابة بين يديه إلى عملية مستمرة في إعادة تكوين هذا العالم، وإعادة تكون الكاتب لنفسه أيضاً، هكذا جرت الأمور عندما تحوّل الشاب الأردني، يحيى النميري النعيمات، إلى الشاعر أمجد ناصر، وهذا الشاعر لم يغّير اسمه فحسب، إنما سيعيد تكوين التفاصيل التي حوله من خلال كتاباته في الشعر والأدب وكتابة المقالات في الصحف العربية.
قناع المحارب
في شهر أيار (مايو) من العام الجاري؛ نَشَرَ الشاعر أمجد ناصر، الذي رحل عن عالمنا يوم الأربعاء 30 تشرين الأول (أكتوبر)، عن عمر يناهز 64 عاماً، في صفحته على الفيسبوك، قصيدة رثى بها نفسه، ونعى نهاية حياته التي باتت في أيامها أيامها الأخيرة، وأسماها “قناع المحارب”، وفي هذه القصيدة رفع أمجد الراية البيضاء، يقول: “في آخر زيارة إلى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن، كانت صور الرنين المغناطيسي عنده، ومن علامات وجهه شعرت بنذير سوء، قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت، للأسف، تقدماً للورم، وليس حدّاً له أو احتواء، كما كنّا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.
كان مساعده، الدكتور سليم، ينظر إلى وجهي وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف ردّ فعلي.
قلت: ماذا يعني ذلك؟
قال: يعني أنّ العلاج فشل في وجه الورم.
قلت: والآن ماذا سنفعل؟
ردّ: بالنسبة إلى العلاج، لا شيء؛ لقد جرّبنا ما هو متوافر لدينا.
وفيما يخصّني ماذا عليّ أن أفعل؟
قال: أن ترتّب أوضاعك وتكتب وصيتك!
قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة إلي”.
كان أكثر شيء يشغلُ بال أمجد كتاباته التي ما تزال قيد الانجاز، وسأل طبيبه إن كان بإمكانه تحديد الوقت المتبقي له في الحياة بشكل دقيق، يقول: “لديّ أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت”، وكأنّ أمجد لا توجد لديه مشكلة في أن يتوقف كلّ شيء في حياته إلا الكتابة.
فدائياً حيناً وشاعراً حيناً
يقول الشاعر المصري، إسلام نوّار لـ “حفريات”: “ولِدَ أمجد ناصر قبل أن يُولد أبواي أصلاً، كتبَ أول أعماله، خطا على الأرض، فدائياً حيناً وشاعراً حيناً، لم أكن قد خطوت خطوتي الأولى بعد، كيف تسابقنا هكذا لصبغ المعاني على هذا الوجود العابث المؤلم؟ لا يمكنني أن أفعل هذا، لا أحبّ، ولا يمكن لأيّ تقاطع أن يحدث بيننا.
ما الذي يحفره “الحكي عن داخلي”؟ قد لا يحفر شيئاً”.
ويتابع نوّار كلامه: “كتاب “مملكة آدم” لأمجد ناصر، هو بمثابة نَفَس وحيد وصلني منه، هل يدمج جحيماً داخلي بجحيمه؟ لا أريد ادّعاء أنني لا أريد هذا العالم بجحيمه، “أخاطبك أيّها العالم بجحيمك أن تخرج من مكمنك إليّ، إن كنت رجلاً”؛ هكذا خاطب أمجد ناصر في مرثيته “قناع المحارب” نفسه، قائلاً: “إن كنت رجلاً أخرج إليّ من مكمنك… تعال لنلتقي في أيّ جبانة تريد… وجهاً لوجه… لسوف ألقنك مواثيق الرجال… كما لقّنتي إياها الصحراء والغدران الجافة”، عذراً، لم يكن بيني وبينك إلا هذا النصّ، ولا أريد ادّعاء أكثر من هذا.
يروي إسلام نوّار تفاصيل علاقته المرتبكة مع أمجد ناصر، فيقول: “كنتُ في المستشفى، أنا طبيب بالمناسبة، أمامي طفل مصاب بسرطان في الكبد، تمّ استئصال الورم منه، ثمّ أتى إليَّ في الرعاية المركزة، أتى لأحافظ على استقرار حالته بعد الاستئصال، وكان أمجد خارجاً من عملية استئصال ورم في دماغه، وأبلغه الطبيب بفشل العلاج الكيماوي والإشعاعي في السيطرة على الورم، فقال له: اكتب وصيتك، وأنا بدوري كنتُ أقول لأب الطفل إنّ الورم تمدّدت خلايا منه للرئة، وفي طريقنا لعملية بسيطة في الرئة”.
الطفل لا يكتب وصية يا أمجد
يُخاطب إسلام نوّار أمجد بعد رحيله: “الطفل لا يكتب وصية يا أمجد، كنتَ كتبتَ شعرك الأخير، كنتُ أقرأه قبل دخولي العملية مع الطفل، كنتُ أعرف أنّك ستموت، وأنّ الطفل سيموت، كنت صراحة أبكي، كأنّ هذا الطفل الذي سيموت بعد قليل هو الذي كتب النصّ، كيف عرف هذا الطفل هنري مور؟ كيف عرف إيثاكا ورحلات التائهين؟ كان هذا الطفل في صمته جميلاً وشاعراً مثلك تماماً في كلامك، ما إن فتحنا صدر الطفل بالمشارط حتى توقف قلبه، لمست هذا القلب بيدي وضغطت عليه ضغطات متتابعة في محاولة لإرجاعه للحياة بلا نفع، دقائق وانتهى كلّ شيء، خرجنا وقلنا لأهله إنّه مات، كأنّنا أمجد ناصر، عدت لغرفتي، قرأت مرة أخرى مرثيتك على فيسبوك، ضغطت على الكلمات من فوق شاشة الموبايل كأنّها قلبك، لم تعد يا أمجد للحياة”.
أما الروائي والكاتب الفلسطيني، سليم البيك، فيقول لـ “حفريات”: “قد يقتصر معظم الحديث عن أمجد ناصر كشاعر، وذلك طبيعي لمكانته الشعرية، لكنّه كذلك كاتب مقالة مهمّ، ومحرّر ثقافي مهمّ كذلك، وحين كان محرّر الصفحات الثقافية لجريدة “القدس العربي”، كانت تلك من أقوى الصفحات الثقافية العربية، أكثرها جرأة وتجريباً ومنحاً للأقلام الشابة (آنذاك) مساحة يصعب “اقتحامها” في صحف أخرى، أنا من هؤلاء الذين بدؤوا مشوارهم الصحفي مع تلك الصفحات، من هؤلاء الذين كانوا ينتظرون مقال أمجد ناصر كلّ أسبوع، يتعلمون منه (ومن غيره) كتابة المقال الصحفي (أو المقال الأدبي)، ويمارسونه كذلك في الصفحات الثقافية نفسها، ومن هؤلاء الذين أحبّوا قصائد النثر، وانحازوا لها بقراءة شعراء من بينهم أمجد ناصر”.
مقالات ذاتية بحرية تامة
ويتابع البيك كلامه: “بالصفحات الثقافية تلك أسّس أمجد ناصر حالة خاصة، من خلال المساحة المفتوحة لكتّاب يتلمّسون طريقهم بين صفحات الجرائد، كنت أحدهم، وقد انتقلت، عام ٢٠٠٦، من صفحة “بريد القرّاء” إلى الثقافية، بحرّية تامّة في اختيار الموضوعات، والأسلوب وهذا الأهم؛ إذ تطور الأسلوب لديّ بشكل طبيعي دون قمع من الخارج (كما قال لي محرّر صفحة ثقافية لجريدة أخرى مرة: انسَ نفسك وقلّل من الذاتية في المقالة، فلم أعد أكتب لجريدته)، مع أمجد ناصر كانت المقالات مبنية أساساً على الذاتية، والصوت الخاص، وهذا ما حاولتُه مع تأسيس مجلة “رمان الثقافية”؛ إذ اهتممت أكثر بذاتية الكاتب وصوته الخاص”.
ويختم البيك كلامه بقوله: “أخيراً، أذكر أنّني سألت أمجد مرة، قبل عشر سنين ربما، إن كانوا سيحذفون عبارة “حل عن ربي”، التي كانت في إحدى مقالاتي آنذاك، فكان جوابه بأنّها عبارة نستخدمها في الحياة اليومية، وأنّه بالتالي لن يحذفها.
إضافة إلى قصائدك ومقالاتك، شكراً أمجد على تلك المساحة التي شكّلتُ مواضيعي وأسلوبي الكتابي فيها، وما يزال تشكيلها مستمراً”.
أما الشاعر السوري وفائي ليلى، فقد قال لـ “حفريات”: “منذ بداية معرفتي بالشاعر أمجد ناصر، كوّنت فكرة عنه، وهي؛ أنه كائن أشبه بـ “ذئب متفرد” (لأمجد ناصر كتاب مختارات شعرية بعنوان “وحيداً كذئب الفرزدق”)، ولديه تجربة مختلفة عن باقي الشعراء العرب، كان أمجد شاعراً غير مدجّن، إذا صحّ الوصف، على اعتبار أنّه خرج عن قبيلته (النعيمات) بالأردن من بداياته، وانخرط بالعمل الفدائي مع الفلسطينيين، على الضدّ من شعراء آخرين كثيرين ينتمون لقبائل بدوية موجودة في الأردن”.
كان لديه صوت مختلف
ويضيف ليلى: “إذاً أمجد ناصر من البداية كان لديه صوت مختلف، كشاعر ينتمي إلى جيل السبعينيات، الذي كانت لديه حساسية ورغبة بالتجديد، والتعامل بشكل مختلف مع قصيدة النثر، والتي كانت جديدة في العالم العربي آنذاك، واستطاع أمجد أن يُحدث اختراقات على هذا المستوى.
أصدر بعض المجموعات الشعرية التي لفتت نظر كثيرين، منهم الشاعر اللبناني عباس بيضون، الذي رأى أنّ عمله على قصيدة النثر، التي كانت تقترب من السّرد، عملاً مختلفاً ومتميزاً”.
يقول ليلى أيضاً: “ما لفت انتباهي أيضاً، مواقف أمجد ناصر السياسية، ومواقفه من الواقع العربي عموماً، وخصوصاً بعد الثورات العربية؛ كان أمجد ناصر مؤمن بأنّ الشاعر لا يجب أن يصطفّ إلى جانب الطغاة، حتى عندما يدّعي البعض منهم أنّهم يحاربون الفكر الديني المتطرف، وكان يرى أنّه يجب على الشاعر أن يكون مستقلاً ومختلفاً، وأن تكون له رؤية مختلفة عن أيّ نظام سياسي شمولي، يدّعي أنّه يحارب الفكر الرجعي”.
ويرى ليلى؛ أنّ أمجد ناصر كان مؤمناً في دور الكلمة وتأثيرها، كما كان مؤمناً أيضاً بأنّ العالم العربي لا يمكن أن يتغير إلا عبر الثورة، والثورة هنا تكون مرتبطة في فهم الأفكار، التي تأتي من داخل الفكر الديني نفسه، ولا يمكن أن تتخلص من منظومة القيم البالية إلا من خلال فهمها والثورة عليها من داخلها، وهذه الرؤية مختلفة عما يراه كثيرون من مثقفين عرب”، بحسب تعبيره.
يقول ليلى أيضاً: “موقف أمجد ناصر لا يختلف عن نشأته المبكرة، كما وصفته، كذئب متفرد، وكان يرى دائماً أنّ عملية التغيير تحتاج إلى وقت طويل، ولا بدَّ من هذا التغيير أن يكون اجتماعياً وثقافياً في آن واحد، وهذه المهمة صعبة جداً، لكنّها ضرورة لمجتمعاتنا، حتى تستطيع عمل نهضة وتتخلص من مشاكلها، ويرى أمجد ناصر أنّ الشاعر عنده قوة ما أو سلطة أخلاقية تفرض عليه أن يكون مستقلاً عن السلطة حتى يواجه الإرهاب والتطرف، ويجب أن تكون دوافعه مختلفة عن أولئك الذين يتولون السلطة، كما يقول.
أمجد لم يكن مثقفاً حيادياً
وأضاف: “أمجد لم يكن أبداً مثقفاً حيادياً، كان يقول دائماً نحن لا نردّ على التطرف والإرهاب إلا في الحجة والمنطق والعلم والأدب والتنوير، وليس ذلك فقط، بل نردّ عليه أيضاً بالدين نفسه، ويرى أمجد أنّ اللغة هي وعاء لنقل المعنى، لكنّها أيضاً تعبير عميق عن الوجود ذاته، ومن هذا المنطلق يرى أنّ اللّغة العربية أحد أكبر المشكلات التي تواجه الكتّاب العرب والمبدعين لتغيير الواقع، وبالتالي يجب عليهم أن يمتلكوا لغة جديدة تساعد على إحداث تغيير، وربما نصّه الشعري، في مجموعاته المختلفة، يحتمل هذا؛ إذ إنّ أمجد اعتنى بالتفاصيل، وكتب في طريقة مغايرة عن المتوقع لأبناء جيله وبعيداً عن الأيديولوجيا. كان أمجد يكتب كتابة حيّة وحقيقة أكثر، وبالتالي هذا ما كان يميّزه”.
ويتابع ليلى كلامه: “لاحقاً، عند إصابته بمرض السرطان، دفعته لكتابة مجموعته الأخيرة، إضافة لبعض النصوص المتفرقة التي يرثي وينعي فيها نفسه، هذه الحالة التي تذكرنا بالشاعر المصري، أمل دنقل، بكتابه “أوراق الغرفة رقم 8″؛ الذي كتبه وهو على فراش الموت.
كان الشاعر أمجد ناصر في هذه اللحظة أيضاً أكثر نقاء، وأكثر حقيقيةً من جميع نصوصه، ومن خلالها امتلك القدرة على صياغة وفلسفة فكرة الموت بطريقة مغايرة، وبالتالي وصلتنا، كما توقّعنا منه، حساسية جديدة في فهم الذات والموضوع، ولذلك اعتُبر أمجد ناصر من الكتّاب القلائل في العالم العربي الذين يمتلكون حسّ الحرية. وباعتقادي؛ أنّنا لن نستطيع أن نتجاوز أثر اسم أمجد ناصر بسهولة، لأنّه شاعر وكاتب حقيقي، حاول أن يرى نفسه بالمرآة تماماً كما كان يرى مجتمعه”.
يا أمجد ناصر: الإنسان لا يفنى وإن فني الوجود بأسره/ عيسى جابلي
هو أمجد ناصر، أو يحيى النّميري، أو الشّاعر، أو الرّوائي، أو الصحفي، أو …إلخ، لأنّه كلّ الأسماء. تتعدد التسميات والصفات غير أنّ المرجع واحد؛ ابتسامة أبديّة مشهّرة في وجه الخيبات وانكسارات الزّمن!
ويعبث من يبحثُ عن اسم لشاعر بما أنّ وجوهه لا تنكشف، وملابسه أزياء لا تنتهي، وهيئته هيئات؛ هو المتحدي والمنكسر والفائز والخاسر والمهزوم والمنتصر والمتفائل والمتشائم والفرح والحزين، وهو الواحد المتعدّد والبسيط والمركّب والقاتل والقتيل والسابق واللاحق، ومن يعرف الجميع ولا يعرفه أحد؛ إنّه الوضوح والتناقض، وهو المبتدأ والمنتهى.
كثير من هذا يلامس شيئاً من أمجد أو أشياء من يحيى، “الواقف في حذائه”، وفق عبارة أولاد أحمد، وفي أحذية الآخرين أيضاً، يخطّ “مديحاً لمقهى آخر”، أو يصغي إلى “رعاة العزلة”، أو ينتظر “وصول الغرباء” حتى “مرتقى الأنفاس”.
لا بد لمن يكتب عن أمجد ناصر أن يتقصى “أثر العابر”، الذي لن يعبر إلّا ليبقى، في أقلام ثلاثة مبدعين رسموا أمجد ناصر، كلٌّ بطريقته: الشاعر والروائي التونسي يوسف رزوقة، اختار أن يقوله شعراً بقصيدة مكتوبة خصّ بها “حفريات”، فيما صورته الكاتبة اللبنانية المميزة هدى بركات نثراً يلامس تخوم الشعر، وأما الكاتب والشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة؛ فتحدث عن “الفتى” كما يراه.
مع أمجد ناصر، لم يمت.. إليه، في حياته (يوسف رزوقة)
كثيراً ما التقيت به
كثيراً ما التقينا في أماكن أو
رؤى شتى
كثيراً حول كتلته – القصيدة كان
منساباً كأجمل ما يكون الانسياب
سألته: و”الشيشخان القيرواني”، أتذكره؟
ولست هنا لأرثيه فأمجد ناصر الكلمات، صاحبة
الجلالة والحياة بكل تلويناتها
لم يأتِ كي يفنى
وأمجد ناصر، البدوي أو يحيى
النميري، ابن طرة، واحد متعدد
بجبال عمّان
وفي أنحاء من جغرافيا أخرى
التقينا في رشا رحلت ولم ترحل
وأي قصيدة مهما بكت ستقوله؟
لم يأت كي يفنى
هو ابن يديه، حبرتا البياض
وباض ما يكفي
ليكتظ الوجود به
الذي هو كأنّه سيكونه أيضاً
كما سنكونه نحن إذا متنا
الوجود بأسره يحيا به وإن
استمرت دولة الدستوبيا
الكلمات لا تفنى
وأمجد ناصر لم يأتِ كي يفنى
فنحن هو، الذين أتوا، كذلك
والذين غداً سيأتون..
جميعهم الجماعة تقتفي أثر
الفراشة وهي في زلزالها
يا أمجد، الإنسان لا يفنى
وإن فني الوجود بأسره
فاضحك إذاً، واستقبل الآتين منك،
إليك أنت وأنت أمجد ناصر، يحيى النميري
وأنت الآخرون
وأنت، لو تدري، أنا ورشا
وأنت قصيدة قيلت ولن تفنى
الحياة قصيدة: هل قلتها بشهية الظمآن
أم قالتك كي تفنى فلا تفنى؟
وتلك حكاية أخرى
سنرويها معاً في جنة المعنى
أتفهمني؟ نعم؟ لا؟
كم أحبك يا صديقي في غموض زاخر بوضوحك
كم أنا باق هنا والآن في مقهى،
معي ضدّي
وبي أشياء من حتى..
ومنك ومن رشا
ابتسم ابتسامتك العريضة، أيها
الباقي على قيد الحياة
أراك فيما لا يرى، ذاك الذي
عشناه في كينونة كانت
وفي كينونة أخرى ستأتي لا
محالة ذات بعثرة…
سأمضي الآن، سامحني..
يد ما في انتظار يدي
سنحكي عنك بالتأكيد
هذا أضعف الإيمان أو أقواه..
سيان
سأشرب بيرة أو قهوة سيان
قد نبكي ولا نبكي
لغاية أن ترانا مثلما تبغي
وما تبغيه أنت نحسه طبعاً
كذاك الشيشخان القيرواني أتذكره؟
سلاماً أيها النائي القريب
سنلتقي في جنة المعنى.
“تونس في 11 حزيران (يونيو) 2019”
أيتها الهوادج… رفقاً بأمجد (هدى بركات)
جعلني الشعر وشقيقه النثر، ويشاكل الأول: القول، والآخر: السرد، أتعلم طريق الكتابة الأدبية، من حيث هي أدبية فعلاً.
واستطاعت كل عناصر وأدوات الشعر والنثر، من بلاغات ومجازات، من إدغامها وتشبيكها، في الكتابة بحقل السرد.
ولهذا السبب ما جعلني، على موازاة مع جيلي من الشعراء وسابقيهم ولاحقيهم، أتتبع الحساسية الأدبية، في أصلها الشعرية والنثرية، وهنا ألتقي مع الشاعر أمجد ناصر، بوصفنا جيلاً.
ويمكن للجميع، وربما لا يمكن، من معرفة أنّ هذا الجيل، أدخل من بين كثير من أمور تخصّ كلّ تجربة بانفرادها وتشاركها، ذاكرته البيئية، فتنسج اللغة الأدبية بتلك المرجعية، في بعدها الجغرافي والتاريخي.
ولعلّ السمة الظاهرة لدى أمجد، هي البيئة البدوية؛ حيث تشكل معلماً من تكوين المجتمع الأردني، وتتوزع على مجتمعات عربية أخرى، من بداوة الصحراء إلى بداوة الجبل.
وتعدّ هذه الحقنة سمة كبرى في نصوصه الشعرية، وكتاباته الأخرى مثل: “الرحلات”، وروايته الأخيرة.
وتتوازى مع هذه السمة، من شعراء آخرين، سمة العجائبية عند سليم بركات، والمدنية عند بول شاوول، والفجائعية عند سيف الرحبي، وسواهم.
ولا يستطاع تفهم تلك السمات عند الجيل الرابع، من قصيدة النثر العربية، في القرن العشرين، دون تذكر عابر سمات الأجيال الكبرى، منذ شعرية الريف مطلع القرن، التي هيمن عليها جبران خليل جبران، ويرسمها كلّ من: أمين الريحاني، ومي زيادة، وحسين عفيف، ومحمد حسن عواد، وكتابات شعرية عابرة.
ثم تبدّت شعرية المثاقفة، أربعينيات القرن، عند جيل ثان، تمثله ثريا ملحس، ومحمد الصباغ، وإلياس زخريا، ونقولا قربان، وبدر الديب، وسواهم. ثم انفجرت شعرية الحداثة، عند جيل توفيق صايغ ومحمد الماغوط، وأدونيس، وأنسي الحاج، وحسين مردان.
وجاءت شعرية المرجعيات، عند جيلنا، ومنه ناصر، ولا شكّ في أنّني أتحسّس شعريات الأجيال الأخرى، لكنّها استنفدت الشعرية نفسها وأدواتها، وقلصت معجمها، غير أنّ التفاؤل سيد الموقف في بزغة كلّ جيل مرتقب.
تبدو لي شعرية ناصر، شعرية أيوب الكائن البدوي، الضائع في صبره ومكابداته، الشقي بآماله وسقامها.
يحمل هوادجه في صحراء المرض، ويجابه وحوش المضادات، وضواري المسكنات، ويخاطب إلهاً شغلته مهام أخرى.
“أيَّتها الهوادجُ
أيَّتها الهوادجُ
من هنا مرَّ شعبي
عارياً وضامراً يسحبُ خلفهُ
نهراً يابساً
وصقوراً كهلة..”
هل أكذّب نصّ شاعر الحياة؟! (عبد الرزاق بوكبة)
أرى أنّ قيمة الشاعر تستمد من مكاباداته اليومية من أجل اجتراح معنى جديد بناء على معايشاته اللصيقة بالحياة، وأمجد ناصر، بهذا، شاعر ذو قيمة؛ فهو لصيق بالحياة، أقول هذا من خلال نصوصه، إلى درجة أنه يضاعف رغبة متلقّيه فيها؛ ما قيمة شاعر لا يفعل ذلك؟ ولشدة جعله لنا نؤمن بالحياة ومفرداتها لم نصدّق الأطباء حين قالوا إنّه مريض؛ هل أكذّب نصّ شاعر الحياة وأصدق طبيباً؟
ثمّ إنّ قيمة الشاعر تستمدّ أيضاً من خدمته للشعر الجيد والشعراء الجيدين، وأمجد بهذا ذو قيمة أيضاً، فرصيده في هذا الباب يساوي عمر جيلين على الأقل.
يحدث أن ينساه أحدنا وقتاً، لكنّه يذكره بمجرد أن يعود إلى أرشيفه الخاص؛ حيث كان أمجد وراء قصائد منشورة له، أو حوار أجري معه، أو دعوة وصلته من مهرجان أو ملتقى، لا يخدم الشعراء الجيدين إلا الشاعر الجيد.
لم ألتقِ الفتى كثيراً، نعم أقول الفتى، فلا أستطيع أن أربطه بغير الفتوّة، لكنّ وجوده في زمني عزّاني؛ فأنا كائن يعزيه وجود الأشجار والموسيقى والينابيع والعشّاق والترجمة والشعراء الحقيقيين.
إِلَى أَمْجَد نَاصِر/ صالح لبريني
(1)
بِوَسْعِكَ الآنَ
أَنْ تَكْتُبَ تَلْوِيحَةَ الرَّحِيلِ غَيْمَةً تَصْدَحُ بِالْحَيَاةِ
وَتَتْرُكُ مَقْهَاكَ اللُّنْدُنِيَّ وَحِيداً يَبْكِي عُزْلَةَ الْكَرَاسِي
وشَوَارِعَ مَنَافِيكَ مَلِيئَةً بِظِلَالِ عُبُورِكَ
وَشُرْفَتَكَ الْفَرِيدَةَ تُغَنِّي مِصْبَاحَكَ الَّذِي
أَوْدَعْتَهُ قِسْطاً مِنْ أَمَلِ الْخَيَالِ
وَأَنْ تَصْفَعَ الْعَالَمَ بِرَكْلَةٍ عَابِثَةٍ
(2)
بِوَسْعِكَ الآنَ
يَا صَاحِبِي فِي الْغِوَايَةِ
أَنْ تَتَّجِهَ صَوْبَ عُزْلَتِكَ مُتْخَماً بِرِيحِ الْحَيْرَةِ
رِفَاقُكَ أَلْفَاظٌ مِنْ وَجَعٍ
مَعَانِي تَلْتَحِفُ مَجَازَاتِ الدَّهْشَةِ
تَطْرُدُ مِنْ سَمَاءِ الشَّامِ لَيْلَ الرَّصَاصِ
وَتَزْرَعُ فِي أَرْضِ الْبِلادِ شَقَائِقَ النُّعْمَان
وَرْداً يَتَحَرَّشُ بِوَجْنَتَيِّ الْحَبِيبَة
(3)
بِوَسْعِكَ الآنَ
أَلا تَلْتَفِتَ وَرَاءً
تَمَّةَ عُصْفُورٌ يُصَلِّي لِهُبُوبِ طَيْفِكَ
وَأَرْضٌ تَقُودُ النَّشِيدَ إِلَى نَايِ الرُّعَاةِ
تُسِرُّ خَطْوَكَ الضَّالَّ فِي صَحْرَاءِ الْجَنُوبِ
وَتُبَايِعُ قَوَافِلَ التّيه
ثمّةَ جِبَالٌ تَتَغَضَّنُ فِي شَيْخُوخَةِ الثّلْجِ
(4)
بِوَسْعِكَ الآنَ
يَا صَاحِبِي
أَنْ تُرَتِّبَ لِلْمَوْتَى مَائِدَةَ لِلنَّشِيدِ
وَتَرْقُصُ جَذَلاً فِي صِحَّةِ الرِّفَاقِ الْجُدُدِ
وَتُغْلِقَ بَابَ الْحَيَاةِ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَفَاتِيحِ النِّسْيَانِ
وَتُعَانِقَ عَتَمَةَ الأَبَدِ
(5)
بِوَسْعِكَ الآنَ
يَا شَبِيهَ الْعُزْلاتِ
أَنْ تُكَسِّرَ ضَوْءَ النّبْعِ عَلَى مَجْرَى الظّلال
وَتَسْحَبَ الْقَبَائِلَ الّتِي أَحْبَبَتَ مِنْ مَكَائِدِ الْخَرَابِ
وَتُشْعِلَ الْكَمَنْجَاتِ بِنُورِ زِرْيَابِ
وَالنَّصَّ بِلَعْنَةِ عُطَيْلِ
وَالْكِتَابَ بِدَمِ الاسْتِعَارَاتِ
(6)
بِوَسْعِكَ الآنَ
أَنْ تَطْرُقَ بَابَ الْحَيَاةِ بِمَا مَلَكْتَ مِنْ حَنِينِ:
الرِّفَاقُ سَيَذْكُرُونكَ بِأَنَّكَ كُنْتَ
لا تُخْلِفُ الْمَوَاعِيدَ مَعَ اللَّيْلِ
لا تُلَطِّخُ سُمْعَةَ اللُّغَةِ بِحَشْوِ الْإِبْهَامِ
لا تُنَكِّلُ بِعُزْلَةِ الظَّهِيرَةِ
كُنْتَ صَدِيقَ النَّخِيلِ
تَمْشُطُ سَعَفَ الْمَغِيبِ بِطَلَّةِ مُبَاغِثَةِ
مِنْ شُرْفَةِ الْحَاضِرِ
تَعْتَنِي بِرِيحِ مُنْتَصَفِ السُّهْدِ
وَتَفْتَحُ زِرَّ الْمِذْيَاعِ عَلَى عَوِيلِ الشَّرْقِ
سَيَذْكُرُكَ الرِّفَاقُ الْقُدَامَى وَالْجُدُدِ بِأَنَّكَ كُنْتَ
تَرْعَى رُعَاةَ الْعُزْلَةِ بِرَحَابَةِ السَّمَاءِ
وَتَصْفَحُ بِضَحْكَةٍ سَاخِرَةٍ عَلَى سَأَمِ الْوَقْتِ
وَتَحْرِسُ بَجَعَ الْبُحَيْرَةِ بِحَفِيفِ الصَّمْتِ
كُنْتَ تَتَحَالَفُ مَعَ وُعُولِ الْغَابَةِ
تَتَقَاسَمُ قَهْوَتَكَ مَعَ سِيجَارَةِ الْعَدَمِ
وَ
تَرْتَمِي
فِي
أَحْضَانِ
طُفُولَةٍ
هَارِبَة
(7)
بِوَسْعِكَ الآنَ
أَنْ تَحْمِلَ كِنَايَاتِ الْعُبُورِ
وَتُخَلِّفَ وَرَاءَكَ قُبَّرَاتِ الطَّيْفِ
تُغَنِّي وَجَعَ الْبِدَايَاتِ
تَكْتُبُ تَارِيخَ النِّهَايَاتِ
وَتُسَلِّمُ رَفِيفَ الظِّلَالِ لِمَرَايَا الرِّيح
هُنَاكَ
كَانَ وَجْهُكِ يَعْتَنِي بِوَهَجِ السًّؤَال
وَحُرْقَةِ اللُّغَةِ
وَتِلْكَ الْجِبَالُ تَشْهَدُ عَلَى رَهْبَةِ الْفِجَاجِ
عَلَى مَدًى يَفِيضُ بِلَوْعَةِ الْمَجْهُول
وَكَانَتْ يَدَاكَ تُلَقِّنَانِ الْبَيَاضَ دَرْسَ الْعِصْيَانِ
وَقَدَمَاكَ تَلْعَنَانِ مَسَالِكَ الْعَتَمَاتِ
(8)
بِوَسْعِكَ الآنَ
نَدِيمِي فِي الأَرَقِ
أَنْ تُشَذِّبَ الْكَوْنَ مِنْ حُرُوبِ الْعَمَى
وَتُزَيِّنَ الْمَدَى بِصَحْوَةِ النَّدَى
وَتُنقِّحَ الْعَتَبَاتِ مِنْ بَصَمَاتِ الْغِيَاب
وَتُودِعَ النَّشِيدَ فِي أُذُنِ الصَّحْرَاءِ
وَتُشْعِلَ الأَرْضَ بِعُزْلَةِ الْمَجْرَى
وَتُوقِظَ الظَّهِيرَةِ مِنْ غَفْوَتِهَا
وَتُعَانِقَ غُرْبَةَ الأَصِيل.
(9)
بِوَسْعِكَ الآنَ
أَنْ تُرَتِّبَ الْوَقْتَ عَلَى سُلَّمِ الْحَنِينِ
كَيْ تَنَامَ قُرْبَ ظَهِيرَةٍ تَخَلَّتْ عَنْ ظِلِّ الْبُيُوتِ
وَخَلَعَتْ عَقَارِبَ الْغَفْوَةِ مِنْ سَاعَةِ الْهُدْنَةِ
أَنْ تُغْلِقَ بَابَ الْحُضُورِ بِمَفَاتِيحِ الْغِيَابْ
وَتُشْعِلَ فِي دَاخِلِكَ مُوسِيقَى الْمَايَا
وَغِبْطَةَ الزُّنُوجِ فِي نَايِ الصَّحْرَاءِ
وَوَجَعَ الْعَطَشِ فِي جِرَارِ دِمَشْقِيَّةٍ
وَلَيْلاً يُكَبِّرُ بَصَلِيلِ النَّزِيفِ
وَيَصْدَحُ بِأُفُولِ الضِّيَاء
وَأَنْ تُلَوِّحَ بِتَغْرِيدَةِ يَدَيْكَ الأَخِيرَةِ
لِشُمُوسٍ تُخَزِّنُ رَصِيداً مِنَ الْمَغِيبْ
(10)
بِوَسْعِكَ الآنَ
أَنْ تَرْبِتَ بِحَفَاوَةٍ عَلَى عُزْلَةِ الشُّعَرَاءِ
وَتَحْرُسَ أَحْلامَنَا الْمَهِيضَةَ الأَمَل
وَتُرَبِّي الشَّمْسَ فِي سَمَاءٍ غَيْرِ سَمَائنَا
عَلَى أَرْضِنَا الَّتِي نَصَبْنَا لَهَا فِخَاخَ الْخَرَابْ
وَبِتْنَا نُرَمِّمُ شُرُوخَ الْمَاءِ عَلَى نَهْرٍ يَلْتَحِفُ حُمْرَةَ الرَّمْل
وَأَنْ تَطْرُقَ نَوَافِذَ التِّيهِ بِخُطىً حَائِرَة
وَتُشَيِّدَ سَكِينَةَ الصَّمْتِ الأَبَدِيَّة
عَلَى
تِلالٍ
تَصْهَلُ
بِعَوِيلِ
الرِّيحِ
الأَخِيرة
٭ شاعر من المغرب
القدس العربي
أمجد ناصر.. الفتى المراوغ/ سما حسن
كم تبقّى لدي من وقت قصير، فلا يزال لدي أكثر من عمل أدبي أعكف عليه؟ هذا السؤال البارد لا يقدر أي شخصٍ على طرحه، لأن معناه أن لديه القليل جدا ليغادر الحياة، وأن أيامه القصيرة تقصر. والحقيقة أن هذا السؤال لا يقدر على توجيهه إلى طبيبٍ سوى المحارب الذي يعرف أن المعركة جولات، ويعرف جيدا أنها ليست رابحا وخاسرا.
في مواجهة جديدة، يتوقف الشاعر أمجد ناصر، لكي يختفي قليلا، ويرتاح كثيرا، ويبقى أثره حاضرا ومكانه محجوزا، لأنه سيعود إلى جولةٍ أخرى، موقنا بالعودة، فلا غياب يطول لأمثاله، وهو ليس غائبا. ستعلو ذرات الغبار كتبه، بل ستملأ فراغه ذراتٌ من ذهب، فعندما كان الأطبّاء يُصارحونه بكلّ فظاظة العلم وقسوته وجفافه بأنّه سيموتُ بعد أسابيعٍ قليلةٍ، لأنّ السرطان نهش الشق الأيمن من دماغه، كان يتحدّى ذلك الإقرار الصريح، ويعلن عن مولد أفكار جديدة، فقد سبق أن صرّح وأقر في “مملكة آدم” أنّ الإنسان مسلوب الإرادة أمام هذا الجنون الذي يحيط به، فمع كل محاولةٍ في التمرّد لصناعة الحرية يخضع، فالإنسان هنا ليس صاحب الإرادة الحرّة، فكان قراره العودة إلى وطنه الذي تركه في حقبةٍ ما ليطيل الله في عمره أشهرا قليلة، وكأنه يريد أن يروي عطشه لثرى ذلك الوطن الذي زاحم حبه في قلبه أوطانا أخرى، كفلسطين ولبنان، بل كان ذلك الفتى البدوي الأصيل يشعر دوما بأن قلبه يتسع لأمة لا لوطن، وبعد أن ترك مرثيةً سيخلدها التاريخ، حيث قال عن نفسه وعن كل البشر البائسين الغافلين في نص ملحمي حارق للقلوب “لا أستطيع أن أبقى واقفاً على قدمي ما تبقى لي من الأيام/ حتى الشجرة لا تفعل، ألم نر أشجاراً ممدّدة إلى جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف ….”.
عرف أمجد ناصر بأنه العاشق لفلسطين، والواقف بصمود مزلزل مدافعا بشجاعة عن الحرية والكرامة الإنسانية، وأصدقكم القول إنني، حتى وقت قريب، كنت أعتقد أنه فلسطيني الجنسية، لفرط حبه فلسطين. ولحديثه المليء بالشجن والحنين عنها، على الرغم من أنه عرف طريق أبواب الغربة، لكنه ظل محتفظا بسجايا الفدائي المنذور لثرى الأرض. ويجمع القريبون منه أن اغترابه في بلاد الضباب لم يغيّر ويبدّل من أسلوب حياته، ونمط تفكيره وسلوكه، كأحد أبناء البلد البارّين الذين عرفتهم، في مراحل حياتهم المبكرّة، الأزقة والمقاهي. ويبدو ذلك واضحا جليا في مجموعته الشعرية الأولى “مديح لمقهى آخر”.
يغادرنا أمجد ناصر الواقع في غواية الرواية، حيث أصدر روايتين. وكان يستعد ليوم الرحيل جيدا، حيث يقول: اليوم جئتَ بلحيةٍ حليقةٍ وتبغكَ معك، هبطتَ الدرج، طلبتَ قهوةً سوداء من نادلةٍ مُهاجرةٍ تترّنم بأغنيةٍ سلافيةٍ وجلستَ إلى طاولةٍ غادرها رجلٌ غاضبٌ قال لرفيقتِه الشابّة وهو ينهض بقفزةٍ واحدة: لا شيء يحدثُ بلا سبب!
ولأن لا شيء يحدث بلا سبب، فقد اصطففنا في طابور تلامذة أمجد ناصر. وقد كان لقائي الأول معه مع أول قصة قصيرة، نشرها لي في صحيفة القدس العربي، ثم جاء اللقاء الثاني من خلال ملحق فلسطين الذي كان يتولى تحريره في “العربي الجديد”، وحيث كلفني بأكثر من عمل ثقافي من غزة تحديدا. وفي كل مرة، يسألني عن غزة، بحيث تخيلت أنه قد ترعرع في أحد مخيمات اللاجئين فيها.
ولأن لا شيء يحدُث بلا سبب، ها هو يغادرنا الشاعر والأديب، وله الذكرى الخالدة في القلوب والذاكرة. كيف لا وهو الذي علّمنا الشجاعة، وأن نبقى جنودا محاربين حتى النهاية، والذي علمنا لكي نعلم أولادنا، خصوصا مع موسم الهجرة من غزّة في هذه السنوات العجاف الصعاب، أن البلاد مهما قست على أولادها فهم يطيرون بجناح واحد، ولا بد من عودةٍ إلى أحضانها فهي الخيار الأول والأخير للمثوى الأخير.
العربي الجديد
————————–
—————
——————