عصر النقد الثقافي/ يحيى بن الوليد
لم يحصل، في مجال النظرية النقدية بعامة وتيارات النقد الأدبي بخاصة، أن أثير نقاش بشكل لافت ومغاير على نحو ما أثير مع النقد الثقافي (Cultural Criticism)، ممّا يجعل الدارس، حتّى الآن، بصدد بيبليوغرافيا ضخمة وقائمة بذاتها من المصادر الأساسية والمراجع الموضوعة جنبا إلى جنبٍ مع عدد وافر من المصنّفات والمعاجم والموسوعات والمختارات والكتب ــ المفاتيح والترجمات والمؤتمرات والملفات والمقابلات والمحاضرات والسجالات… دونما تغافل عن مقالات لا تخلو من أهمية معرفية ــ بالغة ــ على مستوى التعريف والتحليل والنقد… لحقل النقد الثقافي.
كما لم يحصل، من ناحية موازية، أن بلغ حقل معرفيّ أو نقديّ، منذ الثمانينيات من القرن المنقضي حتى الآن، هذا الحدّ غير المسبوق ــ والمتواتر ــ من الالتباس أو التأثير والتأثّر بمشكلات الثقافة والاجتماع على نحو ما بلغه النقد الثقافي لدرجة أن ناقدا مكرّسا ومعتمدا وفي حجم الناقد الماركسي البريطاني تيري إيغلتون (T. Eagleton) ذهب إلى أننا نعيش أو بالأحرى دخلنا “عصر النقد الثقافي”. وحصل ذلك من خلال المركزية النقدية الأوروــ أميركية بعد أن هيمنت في الجهات الأربع من العالم، لكن على نحو أفسح لأصوات من جغرافيات مغايرة لكي تسهم ــ بشكل وازن ــ في مشهد النقد الثقافي، وبالرغم من أن هذه الأصوات هي نتاج “الأكاديميا الغربية”؛ ممّا جعل البعض يرى في ذلك نوعا من “الدوران حول المركزية الأوروبية”.
ولم يكن بإمكان النقد الثقافي، في نماذجه المكرَّسة، وفي مجاله الأكاديمي المخصوص ومحيطه الفكري الثقافي العام، أن يبلغ هذه المكانة المعرفية المميَّزة لولا تشابكه المثمر وإفادته المنتجة من الإحكام المعرفي والانفجار النظري المميِّزين للعصر… وعلى النحو الذي مكّنه من الكشف عن جملة من المقولات النظرية المدعمة بجملة من المستندات التصوّرية في سياق خطاطة “الثقافة والمجتمع” تبعا لعنوان الناقد الأدبي والمفكر الثقافي البريطاني رايموند ويلياميز (R. Williams)، أحد أبرز وجوه “الدراسات الثقافية” (Cultural Studies)، بل أحد الوجوه الأساسية التي عملت على إظهارها. ومن ثمّ لم يعد أيّ مجال للتجريد والتعميم في الثقافة: هذا “اللويثان” (الوحش الأسطوري الرهيب) الذي خلقته المجتمعات (الإنسانية) ذاتها لتصير ــ في الوقت ذاته ــ مجلى له عبر أنساق مضمرة ــ في أغلبها ــ ومندغمة في أشكال من النصوص والممارسات.
“التيار الفكري” الأنسب للعصر
صفوة القول؛ لقد ارتقى النقد الثقافي، عبر أشكال من “الممارسة النقدية”، إلى مصاف الحقل المعرفي الأكاديمي المستقل والعابر للثقافات والقوميات والحضارات واللغات. كما ارتقى، نتيجة خلفيته الأكاديمية المتنوّعة ومرجعيته الفكرية اليسارية الليبرالية ومنحاه الديمقراطي الظاهر، إلى مصاف “التيار الفكري” الأنسب للعصر من ناحية مفاهيم مركزية في مقدّمها مفهوم الثقافة ذاتها في التباسها وتشابكها وذوبانها… في أشكال من الحياة وأساليب “التهجين” (Hybridation) ووفق ما يستدعي ذلك كلّه من فن ولا فن وإنتاج رمزي وآخر مادي في دنيا التطبيق والتملّك والاستنساخ والاستهلاك… إلخ. ومن ثمّ اجتراح الأكاديمي الأميركي والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، في كتابه “الثقافة والإمبريالية”، لتسمية “الناقد الثقافي المعاصر” في “عصر النقد الثقافي” سالف الذكر.
غير أن ما سلف، من شبه “تقريظ” للنقد الثقافي، لا يحول دون الإشارة إلى أن هذا النقد يظل مجالا أوسع… مثلما يظل مجالا يصعب حصر بداياته الأولى حتى وإن كان قد ترسّخ في المشهد النقدي العالمي منذ تسعينيّات القرن المنصرم. إضافة إلى ما يستلزمه من وعي بجملة من الفروق الحاصلة سواء في حقل هذا النقد ذاته في وحدته المعرفية السياقية المتنّوعة أو في علاقاته بالمعارف والحقول الأخرى المجاورة له أو الكامنة في حقله ذاته. إضافة إلى ما يستلزمه أيضاً من وعي بنوع من “الاتّساع المعرفي” المؤسِّس والملازم له؛ ممّا جعل الاتساع قرين نوع من التعقيد والغموض في آن واحد. فعندما نتحدّث، مثلا، عن صنوف من النقد مثل النقد الاجتماعي أو النقد النفسي أو النقد اللساني… فمن الجلي ألاّ تطرح، ظاهريّا، بعض الصعاب بالنظر لما تحيل إليه هذه الصنوف من النقد من علوم قائمة بذاتها وفي مجالاتها المخصوصة وهي علم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللغة. وحتى في حال الحديث عن العلوم الاجتماعية… فمجال التحرّك يبدو منتظما بخاصة على صعيد التحليل بمنهجه ومداخله ومخرجاته، عكس النقد الثقافي الذي يطرح مشكل الاتّساع والتشعّب وإمكانية التحليل والدرس والنقد في أكثر من اتجاه بالنظر إلى “غول الثقافة” كما نصطلح عليه لا سيّما في ظل العصر الذي نعيش فيه؛ عصر “الانفجار الثقافي” الذي أعطى أولوية لمفاهيم الهوية والتعدّدية والعرق… إلخ.
الإسهام في الإنتاج الثقافي والتنظير للثقافة
النقد الثقافي أيضاً، وبخلفيته الأكاديمية الكرنفالية (بغير المعنى القدحي للكلمة)، ومن موقع حضوره المستقل، يسهم في الإنتاج الثقافي والتنظير للثقافة.
يقرِّب الباحث المصري صلاح قنصوة، في مقدمة (أو “بدلا من المقدمة” كما سمّاها) كتابه “تمارين في النقد الثقافي”، فكرة “الحضور المستقل” قائلا: “لا يمارس النقد الثقافي عمله وكأنه خطاب متخصّص مثل الخطاب الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي… إلخ، الذي يتناول الواقع القائم بمنظور ذلك الخطاب وأدواته، فلا يمكن التسليم بوجود واقع خارج الممارسات المولّدة للمعنى، وهي جميعا وسائط ثقافية”.
كما أن النقد الثقافي، وقبل أن يكون حقلا أكاديميا مستقلا وإشكاليا، هو امتداد لحقول سابقة وأخرى لاحقة على سنوات التأسيس والتكوين؛ بل هو يتمظهر من خلال هذه الحقول… اتصالا وانفصالا أو تتاخما وانقطاعا. ونجد في مقدّم الحقول الأكاديمية، من التي يلتقي النقد الثقافي معها في مرجعيات التشكّل والاستشكال، حقل “الدراسات الثقافية” (Cultural Studies) التي يعود تاريخ ظهورها إلى سنوات الستين (1964) بمعهد أو مركز الدراسات الثقافية المعاصرة (CCCS) بجامعة برمنغهام بإنكلترا. وغير بعيد عن “الدراسات الثقافية” نجد “المادية الثقافية”(Materialism Cultural) على نحو ما برزت في أوائل الثمانينيات في الفضاء الأكاديمي البريطاني ذاته. ونجد إلى جانب “المادية الثقافية”، مع فروق، تيار “التاريخانية الجديدة” (New Historicism) الذي أخذ في البروز في بداية الثمانينيات من القرن العشرين مع الناقد الأميركي ستيفن جرينبلات (S. Greenblatt).
ونجد حقولا أخرى مثل “النقد النسوي” الذي كشف، على صعيد الطرح والمقاربة، عن آفاق مغايرة من خلال تعاطيه مع أبحاث محدّدة ضمنها أبحاث الجندر (Gender) (المثيرة للجدل) أو “الهوية الثقافية للجنس” (كما يترجمها البعض)، في دلالة على الجسد من حيث هو “بناء ثقافي”، وفي دلالة على مركزية الثقافة في هذا التيار ــ من تيارات “ما بعد البنيوية” ــ في حرصه على نقض المركزيات وأنساق الهيمنة وفي مقدّمها “الذكورية المفترسة”؛ مما جعل التيار عرضة لصنوف من النقد بلغت حدّ إعلان الحرب عليه بكل الطرق الممكنة في الولايات المتحدّة الأميركية رغم أنها أفسحت له داخل فضائها الأكاديمي (لدرجة أن جامعة إنديانا صارت علامة على دراسات الجندر والكتابة النسائية) مقارنة مع الفضاء الفرنسي الذي بدا ــ في مجمله ــ غير مستعد معرفيا للتعاطي مع لغم الجندر.
كما نجد حقولا أخرى مثل “الشعرية الثقافية” (Cultural Poetics) تبعا للمصطلح الذي أشاعه ستيفن جرينبلات نفسه في أواخر الثمانينيات وذلك بدلا من “التاريخانية الجديدة”. ونجد “التحليل الثقافي” (Cultural Analysis) (النقد الحضاري في عرف نقاد ومفكرين عرب). وكذلك تسمية “النقد السياسي” التي تنصرف بنا، مع تيري إيغلتون، إلى أنه ليست ثمة حاجة إلى جرّ السياسة إلى النظرية (الأدبية)، طالما أنها موجودة فيها منذ البداية.
نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي
ربما توجبت الإشارة من قبل إلى ما يصطلح عليه بـ”نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” (Postcolonialism) التي أسهمت بشكل كبير في النقد الثقافي وبخاصة من ناحية تركيزها على مفهوم “التمثيل” من منظور سياسات الهوية والهجنة. واللافت للنظر، في النظرية الأخيرة، إسهام أبناء “العالم الثالث الجديد” ــ بنسبة كبيرة ــ في تشكيلها داخل الفضاء الأكاديمي بالغرب الرأسمالي بعد أن رحلوا إليه من بلدان مثل الهند وفلسطين وإيران… من مواقع المنفى الاضطراري أو التطلع إلى “مباهج المنفى”. ومهما كان من اختلاف على مستوى فهم الهجرة، فلقد قدِم هؤلاء بـ”تجارب” شخصية و”جروح” (Cicatrices) كولونيالية، إلى “العالم الأوّل” (الأميركي تعيينا) للتدريس في كبريات جامعاته.
نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي (Postcolonialism) أسهمت بشكل كبير في النقد الثقافي
ويعدّ كتاب الأكاديمي الأميركي والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد “الاستشراق” (Orientalism) (1978) مرجعيا في هذا التأسيس إلى جانب أعمال أخرى للناقد الهندي هومي بابا (H. Bhabha) في كتابه الشهير “موقع الثقافة” (1994) ومواطنته و”نصيرة نساء الاستعمار” جياتري شاكرافورتي سبيفاك (G. C. Spivak) صاحبة البحث الشهير “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟” (1988). وتجدر الإشارة إلى أسماء أخرى كثيرة حلقت حول هؤلاء، أو هذا “الثالوث المقدس” للنظرية ما بعد الكولونيالية (كما يدعوهم روبرت يونغ (R. Young)، بعد أن انجذبت إلى الأفق الذي تتيحه النظرية على مستوى معالجة قضايا كثيرة ذات صلة بالتاريخ والأنثروبولوجيا والجغرافيا والأدب والنقد، كساندرا هاردينغ (S. Harding) وبنيتا باري (B. Parry) وإلاّ شوحط (E. Shohat) وروبير يونغ (سالف الذكر)… إلخ. و”لكن الثقل التأصيلي، بعد إسهام إدوارد سعيد، يظل لأبناء العالم الثالث بوجه خاص، ربما بسبب معاناتهم أكثر من غيرهم آثار التجربة الاستعمارية التي لم تنقطع لوازمها”، كما يرجّح الناقد جابر عصفور. كذلك كان لما يعرف بـ”سبالترن” (Subaltern) أو “مجموعة دراسات التابع” دور في مزيد من التأكيد على أهمية نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، وهذه المرة في مجال التاريخ والدراسات التاريخية. وفي هذه الدراسات تمّت الإفادة من “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” بشكل لافت وملحوظ.
وفي حال العرب، ومن ناحية “المثاقفة” مع النقد الثقافي، فلا بد من التأكيد على مدى ارتكاز هذا النقد على أصول فلسفية ومستندات فكرية، ودونما تغافل عن أن هذا النقد هو وليد السياق الأوروبي الرأسمالي لفترة الستينيات ثم “الرأسمالية المتأخّرة ومتعدّدة الجنسيات”، وبما أفرزته من ظواهر ثقافية.
ضفة ثالثة