مجتمع المراقبة أو الرّق الإرادي الجديد: كابوس عصر رأسمالية المراقبة/ أبو بكر العيادي
ساد الظن بأن العالم يشهد ما توقعه جورج أورويل في روايته الشهيرة “1984” من إخضاع الناس لمراقبة الأخ الأكبر، ثم جيل دولوز كوجه حديث للعرّاف الذي يستشعر لحظات التفرّع، ويحاول رصد الاحتمالات الخطرة أو الإيجابية لما يلوح بريقه في الأفق، وكان حذّر هو أيضا في كتاب “حاشية حول مجتمعات المراقبة” مما مخاطر الثورة الجديدة. ولكن ما نشهده اليوم فاق تلك المحاذير، لأن التكنولوجيا، التي كانت تكتفي بمراقبتنا ونحن نسعى داخل هذا العالم، صارت تهيئ لنا عالما حسب ميولنا ورغباتنا.
لقد اتخذت مراقبة المجتمع على مرّ الأزمان خصائص نماذج ثلاثة، كما بين الفيلسوف الفرنسي مارتن لوغرو، تمّ مزجها ببعضها بعضا، مع الحرص على تخليصها بدهاء من بعدها الاستبدادي، أولها المشتمَل الذي ابتكره الفيلسوف الإنكليزي جيريمي بنثام، والثاني الشاشة الشمولية للأخ الأكبر التي تصورها جورج أوريل، والثالث المراقبة في العصر الإلكتروني كما وصفها دولوز.
فأما الأول، أي المشتمَل، وهو بناء مصنوع بشكل يجعل المراقب يرى دون أن يُرى، وينسب إلى جيريمي بنثام (1748-1832) الذي تصور مراقبة عقلانية تسمح بالجمع بين الأمن الجماعي وموافقة الأفراد، وكان بنثام قد عرض عام 1791 على المجلس الوطني الفرنسي الذي تشكل عقب الثورة مذكرة حول المبدأ الجديد لبناء دور مراقبة، أي مشروع سجن مثالي تكون فيه الزنزانات الفردية مبنية في شكل حلقة يتوسّطها برج مركزي، يمكن للحارس أن يرى من داخله المساجين دون أن يبصروه. وهو تجهيز يخضع لمبدأ الشفافية أو المراقبة بشكل يصيب الخيال أكثر مما يصيب الحواس، ويضع مئات الرجال رهينة لشخص واحد، ليكتسب نوعا من الحضور الكوني.
يقول بنثام: “أنْ يكون الفرد باستمرار تحت أنظار مراقب، فذلك يفقده القدرة على فعل الشر، وحتى التفكير في إتيانه.” هذا النموذج، في حال نشره على نطاق المجتمع برمته، لا ينتج دولة شمولية بل مراقبة متبادلة للمراقِبين والمراقَبين، تسمح للمجتمع الليبرالي بتثبيت ما يسمّيه بنثام “محكة الرأي العام”. ذلك أنه كان ينظر إلى الصحف والاقتراع وحياة البرلمانات كوسائل مراقبة مشتركة، وينظّر للحد من الحرية عن طريق حث كل فرد، باعتباره منحرفا محتملا، على تقدير مزايا امتثاله للقوانين. وكان فوكو قد لاحظ في كتابه “المراقبة والمعاقبة” أن “بنثام وضع مبدأ يقوم على ضرورة أن تكون السلطة مرئية وغير قابلة للتحقق منها. مرئية: أن تكون عينا السجين مشدودتين بلا انقطاع إلى الطيف العالي للبرج المركزي الذي يُتجسَّس عليه منه. وغير قابلة للتحقق: ألا يعلم السجين ما إذا كان في تلك اللحظة منظورا إليه، ولكن ينبغي أن يكون واثقا من أنه دائما كذلك.” هذا النوع من السلطة، الذي يُخضع الأفراد من خلال تأكيد رؤية دائمة لسلوكهم، عاد إلى الظهور في هذه المرحلة عبر المراقبة الشاملة للاتصالات من طرف وكالات الأمن كوكالة الأمن القومي الأمريكية NSA، أو التوقعات السلوكية التي تقترحها الـ “غافام” (الأحرف الأولى لغوغل، آبل، فيسبوك، أمازون، ميكروسوفت).
أما النموذج الثاني، فهو الذي تخيله جورج أورويل في روايته “1984”، ويطرح نوعا من المراقبة تتصل بسطلة مركزية شمولية، أداتها “شاشة” مثبتة في كل بيت هي عين الحزب وزعيمه الأخ الأكبر. في هذا المثال، لا تلغي المراقبة الحياة الخاصة فقط، بل تسعى إلى إخضاع الفرد إخضاعا راديكاليا، بالنفاذ حتى إلى أفكاره. فالشاشة التي تتلقى الأخبار وتبثها تهدف إلى التقاط كل السلوكيات والتعابير الناشزة، لمنع “جريمة التفكير”. هنا أيضا لا يعرف الفرد ما إذا كان مراقبا في هذه اللحظة أو تلك، ولا متى تدخل شرطة الفكر على الخط، ومن ثَمّ كان الناس يتصورون أنهم، كلهم بلا استثناء، مراقبون على الدوام، ذلك أن كل صوت يمكن أن يُلتقَط، وكل حركة يمكن أن تُلاحَظ، إلا إذا كان صاحبها يلتحف الظلام.
هذا النوع من المراقبة نجده اليوم مع تطور سوق الوسائط الصوتية التي احتلت الصالونات والمطابخ وغرف النوم، وكذلك الفنادق والمدارس والمستشفيات، مثل أليكسا، التابعة لأمازون، التي تعدّ مئة مليون مستعمل، وتقترح خدمات من شتى الأنواع، من طلبية عشاء أو مقطوعة موسيقية إلى محادثة ودية مع ذكاء اصطناعي حول موضوع فلسفي. تلك الأجهزة تسجل محادثات المستخدمين، حتى الأطفال، وهواياتهم المفضلة، لتنقلها إلى جيش كامل من الموظفين يتولون تحليل تلك التسجيلات وفكّ شفرتها؛ أي أن أمازون، على سبيل المثال، تستخدم حرفاءها كفئران تجارب، لتحسين الخدمات كما تزعم، ولكنها قد تستعملها لغايات مغايرة، مثل وسيلتها الأخرى رينغ، التي تدير كاميرات مراقبة مجهزة بوسائل التعرف على الوجه، ومتصلة مباشرة بمخافر الشرطة في بعض الأحياء الأميركية. تلك الوسائل، التي استعملتها في البداية وكالات مكافحة الإرهاب والأنظمة الاستبدادية، يمكن أن تشكل رافعة نفوذ هائلة، في قطيعة تامة مع الحريات الفردية التي تضمنها الأنظمة الديمقراطية.
وأما النموذج الثالث، فهو الذي تحدث عنه جيل دولوز في كتابه “هامش حول مجتمعات المراقبة” الصادر عام 1990، أي عقب سقوط الشيوعية وقبل أن تحدث الثورة الرقمية انقلابا على نظام المجتمعات، فقد جمع دولوز علامات متفرقة عن تحول لم ينتبه أحد لحدوثه، كنهاية المجتمعات التأديبية بالمعنى الذي ذهب إليه بنثام وفوكو، تلك التي تقوم على فضاءات حبس مغلقة، فقد كتب يقول: “إن مجتمعات المراقبة بصدد الحلول محل المجتمعات التأديبية. وعزا ذلك التحول إلى التكنولوجيا الجديدة، تكنولوجيا الحواسيب والسيبرنِطيقا، التي باتت تسمح للمجتمعات الحديثة بالعمل “وفق مراقبة مستمرة واتصال فوري”، فكانت النتيجة أنْ عوضت المؤسسة المصنع، مثلما عوّض التكوين المستمر التربية، والمراقبة المستمرة الامتحان، فبعد أن كانت المجتمعات التأديبية محكومة بكلمات نظام، تحدّد الفرد بمكان ورقم، صارت مجتمعات المراقبة تمنحه “كلمات سرّ”.
ودولوز استبق ما نعيشه اليوم حين لاحظ أن الذكاء الاصطناعي لا يتعامل مع الفئات الاجتماعية أو مصائر الأفراد، بل مع آثار سلوكية مخزَّنة في بنوك معلومات، وكتب يقول: “إن الفرد صار متعدّدا، والجماهير أصبحت عيّنات، والمعطيات أسواقا أو بنوكا.” كما لاحظ أن المقاومة نفسها اتخذت أوجها أخرى، فقد نابت القرصنة عن الإضراب، وصار بإمكان الفرد أن يغير شقته، وشارعه، وحيّه بفضل بطاقة إلكترونية تستطيع أيضا رفع كل الحواجز، لأن المهم ليس الحاجز، بل الحاسوب الذي يستدل إلى موقع كل فرد، شرعيا كان أو غير شرعي، ويُحدث تعديلا كونيّا.
لقد كانت المراقبة عبر العصور تقتصر على النظر من موقع أعلى إلى الأفراد لكي تفرض عليهم الطاعة والانخراط في معايير قانونية أو أيديولوجية، ولكنها أضحت الآن صورة عنا، تزعم وسائل المراقبة الجديدة ردّها إلينا، فهي لا تني تقترح بيئات (إشهارية ومناخية ومنزلية…) تناسب سماتٍ تُبنى حسب قاعدة الآثار الرقمية التي تتركها أفعالنا، وكأننا صرنا مراقَبين من ظلالنا نفسها.
وهو ما لخّصه إريك شميت، أحد مسؤولي غوغل في قوله: “نعرف تقريبا من أنتم، ومن هم أصدقاؤكم. ستكون التكنولوجيا جيدة بشكل يصعب على الناس معه أن يبصروا أو يستهلكوا شيئا لم يقع تعديله من أجلهم.” أي أنها في النهاية رؤية للعالم معدّلة حسب ما نحن عليه، كما يقول الإيطالي أليسّاندرو بارّيكو، حيث بات العالم يُقدَّم لمستخدمي الشبكة في شكل يناسب بقدر كبير ملامح كل واحد منهم، فإذا كان الفرد أديبا، يُقدَّم له ذلك العالم كميدان يتجادل فيه مثقفون حول مسائل أدبية وفكرية، وإذا كان رياضيا، يتبدى له العالم مجالا فسيحًا لنتائج المباريات الرياضية وأخبار نجومها. يقول مارتن لوغرو إنّ تلك الرؤية ليست مجرد مرآة، فآثار سلوك الفرد، بعد أن يتم مزجها بمعطيات الآخرين، تُردّ إليه في شكل وصفات عما ينبغي أن يرغب فيه.” وبذلك تخطينا مرحلة جديدة لم تعد تتناسب مع مفاهيم المراقبة القديمة، إذ صرنا منغلقين داخل بالونة سلوكياتنا نفسها، مع الوهم بأننا يمكن أن نتخلص منها.
لقد ثبت الآن أن تجاربنا في الحياة صارت تمر عبر منصات رقمية، لا تقدم خدمات فقط، بل تستولي على كل ما نتركه من صور وتعاليق ومدونات، لكي يتم استعمالها لاحقا في توجيه اختياراتنا، وحتى سلوكنا. وهو ما حاولت الحكومات الغربية تفاديه، دون جدوى حتى الآن، فقد أصدرت دول الاتحاد الأوربي العام الماضي قانونا لحماية المعطيات الشخصية يُخضع المواقع إلى موافقة مسبقة من المستخدمين، وصارت كل المواقع تدعو المستخدمين، عبر تقنية “الكوكيز” (أي ملفات تعريف الارتباط) إلى نقر كلمة “أوافق” بدعوى تحليل استخدام الموقع الإلكتروني وتحسين خدماته، ولكنها في الواقع طريقة للالتفاف على ذلك القانون، كي تسمح للموقع باقتراح محتوى وإعلانات تناسب ميول المستخدم ورغباته، إذ غالبا ما يُهمل زائر الموقع ما يعرض عليه بأحرف صغيرة تكاد لا تقرأ، لينفذ مباشرة إلى المادة التي يرغب فيها، ما يجعل قبوله ذاك نوعًا من الرّق الإرادي الذي تحدث عنه إتيان دو لابويسي منذ القرن السادس عشر عن الانبهار بالطاغية، فما إقبال الناس على وسائل تستغل معطياتهم لاستثمارها تجاريّا وتسويقها نحوهم إلا تعبيرٌ عن انبهار بقوة جديدة تستقطب الحركات وتشدّ الأنظار وتسحر الألباب لتردّها إلى الجميع في شكل وصفات، وتلغي فوق ذلك الحياة الخاصة. ألم يصرّح مارك زوكربرغ، صاحب فيسبوك، علنًا عام 2010 أن الحياة الخاصة لم تعد معيارا اجتماعيا؟
وقد وصفت الأميركية شوشانة زوبوف، الأستاذة المحاضرة بهارفارد، هذا النوع من الرقابة برأسمالية المراقبة التي تحول الحياة إلى مادة ليّنة، وبيّنت في كتابها “عصر رأسمالية المراقبة” أن الرأسمالية قامت على دينامية تدفعها إلى تحويل ما كان خارجَ السوق إلى بضاعة، وأنها عمدت إلى استقطاب التجربة الإنسانية لتستغلها كمادة أولية وتحولها، بفضل لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي، إلى توقعات سلوكية قابلة للبيع في سوق جديدة، على غرار فيسبوك الذي جاء في إحدى مذكراته أن “محور الذكاء الاصطناعي عنده قادر على إنتاج ستة ملايين توقّع سلوكيّ في الثانية. “
وتذكر زوبوف أن المراقبة في وجهها الحديث ظهرت مع الإشهار، وفي رأيها أن كل شخص يريد أن يؤثر على سلوك البشر يلجأ لاستعمالها كما حدث في فضيحة فيسبوك كمبريدج أناليتكيا التي كشفت عن قدرة التكنولوجيا على تغيير رأي المواطن، والمعروف أن تسريب معطيات 87 مليون مستخدم لفيسبوك، كانت كامبريدج أناليتيكا قد جمّعتها بداية من العام ،2014 استعملها فيسبوك في التأثير على أصوات الناخبين لفائدة سياسيين محددين في سباق الدورة الأولى لانتخاب مرشح الحزب الجمهوري.
ورغم ما شاع عن استغلال المواقع الاجتماعية لمعطيات الأفراد، لا تزال شرائح متعددة منساقة إلى التنازل طوعًا عن كثير من تفاصيل حياتها الخاصة، والسبب في رأي زوبوف أن الفرد لا يقدّر تماما ما ينجر عن ذلك، ولا يعرف أن تلك التكنولوجيات تنفذ إلى حياته بشكل لا يمكن التفطن إليه، وأن التعليمات التي يفترض أنها تلتمس منه موافقة تأتي في لغة لا يجد الوقت لقراءتها والاطلاع على فحواها.
ولكن ثمة ما هو أشد خطورة، وهو أن من يجرؤ على رفض مشاركة معطياته الخاصة على مستوى غوغل مثلا يمتنع نظام الإدارة الثرموستاتي عن تحديث البرمجيات، فتتوقف القنوات وتنطلق أجراس الإنذار بغير ضابط. أي أن اشتغال الخدمة مرهون بخضوعنا الإرادي لمراقبة أحادية، سرية، ولا حدود لها.
تقول زوبوف: “المواطنون يتجمعون في المدينة (بالمفهوم الأفلاطوني)، ويلجؤون إلى السياسة ليقرروا كيف يريدون أن يعيشوا معًا. ولكن في مدينة غوغل يمكن الاستغناء عن هذا الأسلوب في حسم النزاعات. بذلك يحل الاحتساب المعلوماتي محلّ المداولة الديمقراطية. وإذا كان وراء اللوغاريتمات رؤوس أموال خاصة، فإنها تميل إلى محاباة أصحاب تلك الرساميل.”
أبو بكر العيادي
كاتب من تونس مقيم في باريس
مجلة الجديد