الحاجة إلى تأسيس مفهوم الحق الطبيعي عربياً/ حسين عبد العزيز
ما الذي يفسّر ضعف الثقافة الديمقراطية عربيا، سواء على مستوى الجمهور أو على مستوى النخب التي يرى أغلبها في الديمقراطية مجرد عملية إجرائية للوصول إلى السلطة؟ لماذا نجحت الأنظمة الاستبدادية بعيد الربيع العربي في تعبئة قاعدتها الشعبية ضد مبادئ الديمقراطية والحرية والانحياز إلى منظومة الاستبداد تحت عناوين مختلفة؟ هل يتعلق الأمر بضعف الثقافة السياسية والإنسانية عموما لدى العرب، أم بالغياب التاريخي للصراع الفكري والاجتماعي والسياسي والديني، الغياب الذي حال دون الوعي بمفهوم الحق ومن ثم الحقوق التي هي الأساس لكل المفاهيم السياسية الحديثة؟
لم يعرف التاريخ العربي مفهومي الحق الطبيعي والقانون الطبيعي، بخلاف أوروبا. يقول الفيلسوف ليفي شتراوس إن رفض الحق الطبيعي يعني بالضرورة أن كل حق سيكون إيجابيا، وهكذا سيكون من المحال تأسيس الأحكام تأسيسا عقلانيا وفق ما هو عادل وغير عادل، ما هو شرعي وما هو غير شرعي. من الضروري وجود مقياس يكون بواسطته في وسعنا الحكم على الحق. ومن دون ذلك، يغدو مستحيلا طرح سؤال بشأن قيمة القيم: الأزمة في الجوهر هي أزمة حُكم، أزمة تحدّد معالمها اللامبالاة إزاء التساؤلات الجوهرية.
بعبارة أخرى، طرح الإنسان الأسئلة عما يجب أن يكون عليه المجتمع والدولة يفترض وجود
معايير في الذهن تحدد الحاجات الحقيقية والحاجات الوهمية، أو تميز بينها. وتحتاج هذه المعايير أو النظم القانونية إلى تأسيس معياري قوي لا يمكن أن توفره التوافقات الوضعية، فلا بد من أن تستند إلى تصور مسبق للطبيعة العقلانية أو الاجتماعية للإنسان. وهذا التصور المسبق متضمن في مفهوم الحق الطبيعي، من حيث إنه يوجد في بنية هذا العالم قانون يمكن بموجبه فصل الظلم عن العدل، أو تمييز الخطأ من الصواب. ولذلك، يميز شتراوس بين الشرعية والمشروعية، فالقانون لا تكون له المشروعية إلا إذا كان في خدمة الخير المشترك، والأخير لا يمكن أن يكون تواضعيا، بل لا بد أن يصدر عن قوانين طبيعية. ومع غياب هذا المقياس الفكري أو القانون الطبيعي، يجد الناس أنفسهم عرضةً للغوص في النزعة الظلامية المتطرّفة: الإسلام المتطرّف على سبيل المثال يستعيد التشريعات المنتمية لعصور سابقة، ويغلو في الأحكام لصالح رؤية ميتاواقعية، في حين يذهب دعاة الاستبداد إلى التأكيد على مفاهيم أيديولوجية لا تقل تطرّفا، مثل المؤامرة والسيادة والوحدة الوطنية.. إلخ.
لقد ارتبط الحق بالواجب في الثقافة العربية الإسلامية، فالحق يعني الواجب. ومن هنا نشأت في هذه الثقافة علاقة متبادلة بين المفهومين، سرعان ما أرست بنية نظرية وعملية موجهة إلى التفكير والسلوك. ويتجّلى الترابط بين هذين المفهومين أكثر ما يتجلى في العلاقة بين الحاكم والمحكومين في الفضاء الإسلامي، فما يجب على الراعي هو حق للرعية عليه، وما يجب على الرعية هو حق للراعي عليها، إنها علاقة العدل والطاعة المتبادلة. ولكن هذه العلاقة توضح جوهر الواجب لكل منهما وتحدّده، ولا توضح جوهر الحق وحدوده وماهيته، بمعنى أن مفهوم الحق يتحدّد هنا وفق ما يمليه الواقع، لا كما ينبغي أن يكون عليه، حقا في ذاته. ولهذا، توافق كثيرون من رجالات الدين في الحضارة الإسلامية على أنه لا يجوز للرعية عصيان الراعي، طالما حقق الكفاية والشوكة، وإنْ كان ظالما مستبدا.
العلاقة الملتبسة بين الحق واجبا والحق في ذاته هي التي ساهمت في تراجع مسألة الحقوق على مستوى الفضاء المعرفي العربي، وهي التي جعلت شعوبا عربية كثيرة لا تنظر إلى العدالة والمساواة والحريات والقانون باعتبارها مطالب وحقوقا في ذاتها، وإنما تنظر إليها ضمن ما هو متاح بين المجتمع والدولة.
وقد كانت فكرة الحق الطبيعي تاريخيا سببا في كفاح الإنسان من أجل التوصل إلى المجتمع الفاضل، والتخلص من قيود الظلم والاستبداد والعبودية. والحق الطبيعي هو المعيار الذي يطابق ماهيات الأشياء. وبالتالي، يصدر عن الحالة الطبيعية الأصلية للإنسان التي تجسّد جوهره الخلقي العقلي. من هنا ارتبط الحق الطبيعي بالقانون الطبيعي: كان ذلك في اليونان، حين حاول الفلاسفة إرجاع ظواهر الطبيعة إلى مبدأ واحد أو عدة مبادئ. وتنسجم هذه المبادئ أو القوانين مع طبيعة الأشياء، أي تنسجم مع الطبيعة بشكل عام ومع الطبيعة الإنسانية بشكل خاص.
وقد عرفت أوروبا الوسيطة القانون الوضعي ضمن مرجعيته العليا التي هي القانون الطبيعي أو الأزلي. ووجد فلاسفة القرن السابع عشر في القانون الطبيعي ملاذا لهم في الصراع ضد الكنيسة والإقطاع معا، فهذا القانون يعطي الإنسان حقوقا تتجاوز وتعلو على الكنيسة والإقطاع، كمؤسستين حاكمتين. ولكن ما جرى في هذه المرحلة هو نقلة أبستيمولوجية على صعيد الفكر، ففي اليونان كانت الطبيعة الكونية مركز الوجود ومبتغى التفكير والبحث، فجاءت القوانين الإنسانية مطابقة لقوانين الطبيعة التي تتسم بالانسجام. أما في أوروبا، فقد غدت الطبيعة الإنسانية مع فلاسفة الحق الطبيعي أو العقد الاجتماعي مرجعا للقوانين والقيم. وقدّم الفيلسوف توماس هوبس الوصف الأكثر دقة لهذه الرؤية، حين جادل بأن الحقوق الطبيعية يمليها علينا المنطق الصحيح، وما يبرّر استخدامها هو واقع امتلاكنا لها، أي قواعد الحكمة العملية، لا مقتضيات أخلاقية.
وقد تخيل فلاسفة الحق الطبيعي الحالة الطبيعية، من أجل معرفة الطبيعة الإنسانية، وتأسيس المجتمع انطلاقا منها، حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلةً ومناسبةً لأصل الطبيعة الإنسانية، لا متعارضة معها. ووفق هذا التصور الطبيعي للحق، يمتلك الإنسان حقوقا لا يمكن المساس بها، لأنها حقوق مطلقة. وعلى الصعيد الإسلامي، لم يكن ممكنا، من الناحية المعرفية، القبول باعتبار الطبيعة مركز الوجود، فالإسلام نظر إلى الطبيعة وسيلة للوصول إلى الله. وعليه، لا يمكن القبول بإرجاع العلة النهائية للموجودات والمعايير إلى العالم الطبيعي المكتمل بذاته. وكان غياب مفهومي الحق الطبيعي والقانون الطبيعي في التراث الإسلامي عاملا مهما في عدم تأسيس كينونة معرفية ـ قيمية، تُعلي من قيمة الإنسان وحقوقه.
كتبت آلاف المقالات والأبحاث والكتب عن الديمقراطية والليبرالية والعلمانية والمجتمع المدني، ولكن مسألة الحق الطبيعي والقانون الطبيعي بقيت أسيرة الكتب والأبحاث المختصة، ولم تنل اهتماما في وسائل الإعلامية، خصوصا المكتوبة منها.