قصائد لجولان حاجي
هِلال
رقّقتَ ألمك.
صبياً، على الحدود، وضعْتَهُ كفلسٍ تحت عجلاتِ القطارات
وتقَلّدَتْهُ في الحقول فتاةٌ أحببتَها
علّمك المهرّبون كيف تضربهُ رويداً رويداً
في الليل بمطارقِ اللصوص
وتُخفي بصماتِك عنه أمام الآخرين
بالصمتِ رقَّقتَه، بالمشي الطويل
حتى شفَّ وقسا
كظفرٍ مقصوص توارى في بِساطِ الزمن
وحين عثرتَ عليه
كان قمراً أنْحَلَهُ الحبّ
علّقتَهُ إلى سماءِ روحك
وسهرْتَ وحدك منتظراً آذانَ العيد.
—————-
شجرةٌ لا أعرف اسمها
لا جرس يرنُّ ولا أحد يأتي.
حيث حبستُ نفسي، وضيّعتُ المفتاح،
كم مِن الأيام انقضى
وما راسلني أحدٌ ولا هاتفني.
ما راسلتُ ولا هاتفتُ أحداً.
أنا الذي عذّبتْهُ الكلمات وضمّدتْه وأذْبَلتْه،
أكلّمكِ يا شجرةً لا أعرفُ اسمها:
سيّانِ جوعي وعطشي
ما دمتُ أرضعُ حنانَ صمتك.
جئتُكِ وحدي لأجلس تحت واسعِ رحمتك؛
صغيرٌ أنا: تلدني زهرةٌ في بياض النسيان،
وتكفّنني زهرةٌ وتشيّعني النسمة؛
لا ألاطفُ الفتيات ولا يلاطفنني،
ومثلُك لا أعرفُ اسمي.
فقيرةٌ كلماتي،
تعلو وتهبط كفُواق رضيع
في ضبابِ لغة أخرى،
وجلدي يكلّمك:
بألف فمٍ صغير يشربُ معك ضوءَ الشمس-
شمسَ أجدادي الذين شابوا
في طفولاتهم لمّا عبَروا الرعب
وأفزعهم انتقامُ الثعابين الجريحة؛
ما درى أحدٌ كم سيطولُ الفزع
وإلى متى ستسبحُ الثعابينُ في مياهِ المنامات
حتى رقَّ القساة، وابيضّتِ الغُرَرُ والأفواد.
شاخَ جدّي في شبابه؛
شلّته طلقةٌ طائشة فداووه بالألم:
ساكناً، عارياً،
وسّدوه بساطاً من شعرِ الماعز،
أقفلوا البابَ والشبّاكين على ترابِ غرفته
وأفلتوا الدبابير؛
في بيته، أبيضَ تحت شمس نيسان،
انتظر رجوعَ الخطواتِ إلى قدميه.
مثله، مثلك، يطولُ انتظاري،
والوقتُ الميت أخصبُ ساعاتي:
تُراهم سعداء المسنُّون في هذه البلاد التي جئتُها ضيفاً؟
السعادةُ هنا بيضاء كالشيخوخة؛
أرى الخائفين يغضبون ويصرخون
ووراء حدقتيّ الداكنتين
إلهان يذبحان سجيناً نائماً
يا شجرةً لا أعرف اسمها:
كلُّ زهرةٍ ترتجفُ أمَلٌ أتى،
على تاجِ شَيبي اسّاقطتْ تويجاتك،
ولفرط ما انتظرتُ ابيضّتْ جذوري
كشعرِ أمي في سوادِ السنين؛
صامتاً أكلّمُك-
أنا مَن صار خوفهُ حزناً،
وأنتِ مَن روَّعكِ الجمال فأزهرتِ.
——————
نهاية الأيام
(بعد أنسيلم كيفر)
إلى Elena Lydia Scipioni
نجَتْ أفعى عسليةُ العينين ورَوَتْ ما جرى:
في حقولنا المحترقة رسمني الأمسُ بزبدِ فمه، على جدارٍ تفحّم كسبُّورة سوداء أمام تلامذةٍ خائفين، فرأيتُموني صورةً عن أبي، أُلقي إلى نافورة الموت قروشي الأخيرة، أخيط أزرارَ معطفه الزيتيّ إلى الأثلام التي رتَّبتُمِ البذورَ في وُحُولها، منضودةً على شكل كلمات، ثم نمتْ وأزهرت حين أمطرتْ ضوءاً دافئاً كالندم، وسال دمٌ آخر على راحةِ الأرض. سمقتِ العكاكيز كشجر الحور فسقَفْنا بها مأوانا، وقفزْنا فوق جداولَ كانت عروقَنا لنسبحَ في سمائنا الأولى. سمّدنا لُغتَنا ببقايانا. استحالتِ الجبالُ رؤوساً أينعتْ تحت قبضاتِ السماء، والمنعطفاتُ خدوداً سِلْنا عليها كجليدٍ ذائب، وحيث سقطَ كلُّ مَنِ اختفى سارعتْ إلى الظهور زهرةٌ لا يطالها أحد، أو لمعَ عودُ ثقاب مشتعل سرعانَ ما يطبق عليه تلميذٌ فمَه ليطفئ الشعلة- مستعجلاً التمرينَ على نسيان الخوف.
سنتذكّرُ طويلاً كم لبثنا قبل هذا الحصاد. سيزورُ كلٌّ منا قبرَه، على كتفهِ سوط، وخلف ظهره منجلٌ أو سكّين. لعبةً كان الزمنُ. ودَّعنا أسرَّتنا التي حطّمتها أحلامُنا. وهَبَنا المُقامِرون قمراً تفتّتَ بين أصابعنا. وهبتنا الجرذانُ عيونها نجوماً. أوقدَ الجوعُ شموسَه وراء جباهنا. رفرفتْ كتبٌ لم نقرأها وحطّتْ على قروحنا. نزَّ من الضمادات صمتٌ كثير. لم ينبسْ أحدٌ بحرف. النقاط التي اختتمنا بها السطور قفزتْ نحو الكلمات وتبعثرتْ فوقها وحوّرتْ كلَّ المعاني.
———————
فقّاعة)
القصة ألمٌ لا يُحكى في قصةٍ لا تُحْكى.
وكلما وصفتُ محوتُ ما أحسّ.
لم أنظرْ بعينيّ فلم أرَ سواي،
أرى ما أفهمه فلا أراني ولا أرى أحداً.
مَن لمسني انتهكني.
أرّقني ما هَدهدني.
وأينما جلستُ تجذّرتُ
أحدّقُ في الأسى
فتبدو المغادرةُ أشقَّ من الوصول
وندمُ عينيّ لا يكفي لينيرَ طريقَ الرجوع.
أسأنجو من النجاة؟
ماذا سيجري
إذا سافرتُ
وعضضتُ حبلَ الصبر
وتسوّلتُ وجُننتُ في بلادِ الآخرين؟
ترمّلتْ يدي اليسرى.
ورائي، ثمة مَن ينظرُ إلى يدي اليمنى:
يد محطَّمة أصابعُها لم تُمسّ
تحبو أمام شفاهِ المتكلّمين الممزَّقة.
كثُرَ المتنصّتون فكثُرَتْ كالترّهات زلاتُ لساني
ثم تغاضوا وأنقذوني لكي يحتقروني.
سُئلتُ رأيي فتبخّر كتأتأةِ المذنبين،
ثرثرتُ كَمَنْ يتعرّى
وتشبّثتُ بالهواء تشبُّثَ الغريق بشَعرة.
اتُّهِمتُ، صمتُّ أو نطقت،
ولغتي التي تباطأتْ واختلّتْ
كفقّاعةٍ فسُدَ هواؤها
فقأتُها بذروةِ أنفي.
لُوحقتُ في أوهامي،
وتلاشتْ نقودي، فجأةً كالمجرمين،
فتكرّر إفلاسي وما تلاشى خوفي:
أخافني مَن رأيتُ وما رآني
ما يفضحُ الرسائل
ومَن يشدُّ أذني
لأعيشَ واقفاً على رؤوسِ أصابعي
أخافني وأخفاني
الغاضبون والمذعورون والساخرون والوشاة على الدرّاجات
ودفعني إلى حتفي
ما نسيتُ ومَنِ التقيتُ
فصدّقتُ ما يُقال
ثم صدّقتُ ما لا يُقال
فانطَلَتْ عليّ كلُّ الحيل
وظلّ خطأي خطأ لم يُغْتَفَرْ
ولم يحدُثْ شيءٌ في حياتي التي تنقضي
لم تحدُثْ حياتي.
——————-
بيت آخر
البيتُ
وجهٌ خائف
في نافذةِ بيتٍ آخر.
كنتُ بيتي
أشربُ ماءَ نفسي
وأجلسُ فوق حُلمي.
أضرمَ غريبٌ
ناراً في حجرةِ النوم
وتدفّأ،
ثم حفَر في الجدران السوداء
أسماءً غابرة
لم أتمكّنْ، حتى الآن، من قراءتها.
——————
قَبْليْ
تحت البُطْمةِ البرتقاليّة،
عذرائِنا الساكتة،
تنتِشُ حبّةُ شعيرٍ محَتْ ثآليلَهما
ويهزُّ كبشي النائمُ قرنيهِ الحلزونين
فيرنُّ جرسي بين صوفهِ المحَنَّى
ويصمتُ جدجدٌ على السلّمِ الخشبيّ.
بين ذراعي أبي، السمراوين النحيلتين،
تحت نجومِ الصيفِ الغزيرة
تتلمّسُ أمي في الهواءِ الكُحليّ
عند الوحمةِ المكوَّرةِ بلونِ الزبيب
أسفلَ أذنِها اليمنى
تتلمّسُ دبوساً نسيتْهُ في خِمارِها الموصليّ
دبوساً فضياً
وأزرقَ كقطرةِ الوشمِ الفاتحة
بين حاجبيها الرقيقين
ثم تطبِقُ جفنَها الناعس
على نيزكٍ ينسكب
وتحلمُ بولادتي مرّةً أخرى.
——————-
ضوء آذار
انظُرْ:
الغيمةُ فوق رأسك
مثل بطنِ حيوانٍ تحبُّ أن تداعبه،
الثلجُ يغطّي في الظلّ
حجراً وكسرةَ خبز.
أتسمعُ الريحَ بين غصونِ الخوخ المزهرة؟
هل فهمتني؟
إنهُ الصباح،
الهواءُ أصفى من عيوننا
ولا أحدَ يتركُ أثراً في مرآة.
—————–
[العصفورُ الذي رفرفَ عن سلكِ]
العصفورُ الذي رفرفَ عن سلكِ الغسيل تعرّفَ إليّ دون أن يعرفَ اسمي. كانت ساقاه أنحلَ من السلك؛ ولكنهما تخدمان حياته جيداً. أفزعتهُ بظهوري فأطلقَ الفزعُ جناحيه عالياً. لا فرقَ لديه بين سائر الأشكال التي يُطْلَقُ عليها اسمُ البشر؛ سيانِ أنا أو سواي، فعيناه البراقتان لا تستأمنان أحداً. أما أنا فأكره إني أحرسُ اسمي الذي وُهِبْتهُ كي يأسرَني، أجرَّه ويجرَّني، فالتصقَ بوجهي وصار جزءاً من نبرة صوتي، أستغربه أحياناً إذا قرأتهُ أو سمعته، أو أضجر منه وأمقته. كالآخرين جميعاً، أمضيتُ وقتاً طويلاً كي أسجنَ نفسي في اسمي، إذ كلُّ امرئ يُدفَنُ حياً في اسمه: قبرٌ من الخوف والمتعة وسوء الفهم.
—————–
أعشاش فارغة
الضبابُ بخارُ كلمةٍ نُطقتْ ولم نسمعها.
الحائرات رأين هلالاً أرقَّ من خيطِ العنكبوت
مزّقه الصيادون.
آذانهنّ علاماتُ استفهام
سقطت أقراطُها في الوحل
برّاقةً كعينِ ببغاء
لم يُلقَّنْ إلا كلمةً وحيدة:
وداعاً.
——————-
الابن الثامن
أيُّها الغريب،
يا توأمي و سفّاحَ أوقاتي،
أرجوك:
هادئاً مثلي اصعدِ الدرج،
كأنك تدوسُ ترابَ أبيك.
خفّفْهُ ما استطعتَ:
خفقَ نعليك القاسيين على الحجارة الوسخة.
صامتاً اعبرْ كتلك الغيمة،
أو اختفِ كهذه النملةِ التي تتسلّقُ جدارَ العالم.
لا تنظرْ أحداً و لا تطرِقْ
لا تبصقْ على بابي إذا صفقتهُ سهواً
لا تقفْ ولا تضحكْ ولا تتكلّمْ
أمام الأبواب:
ثمة من تخيفهُ وأنت تدنو.
ثمة من يراكَ وحشاً من دون أن تدري.
——————-
(وأنتَ تغادرُ غرفةً مشمسة ناداك صوتٌ “ابقَ”)
بيتُ العنكبوت
في الزاويةِ اليمنى لنافذة الشمال
لم تزحزحْهُ الريح-
بيتٌ أسود يدمغ نافذتك كباقي الختْمِ على طابعِ رسالةٍ
رُدَّت إلى صاحبها ولم تُفْتَحْ-
انتبهتَ حين مسحتَ البصماتِ وغبارَ الأيام عن النظّارة
بقطعةٍ من خِمارِ جدّتك،
وأزحتَ ستارةً من الغصون والأوراق:
موحلاً لا يزالُ طريقُكَ الضيق.
لا يلذُّ لك البرد.
لولا هذه الأيام، قلتَ،
ما حياتي التي يربِكها الربيع
إلا سحابةٌ هطلتْ عليّ وحدي
وبدّلتْ لونَ تلك التلة-
من فستقيٍّ يرفرفُ على قبرِ جدّي
إلى السماويّ في عينيّ ابنتي.
——————–
مسيح العجوز
(بعد بونار)
– إلى جنان عبادي-
-1-
لا شفاءَ من هذا التردُّد.
قلَقٌ ألِفْتَهُ،
كموجِ النهر بين عدوّين،
هادئاً يعود.
مَنْ صوّرك؟
بلبلكَ الوميضُ فاختلّتْ خطاك
وتداركتَ الخوفَ بشمِّ وردةٍ
لا يراها في الغبار سواك،
أيُّها الناحل، الصائمُ أربعين يوماً.
كارهاً ملمسَ الماء والمعجزات،
خلقتَ من النبيذِ الأصفر سمكةَ عُرس
ومستحمّاتِكَ من غبارِ الدرَّاق.
مسحوراً بالنُّقصان، فاتتكَ اللمسةُ الأخيرة.
-2-
مَنْ نازَلك؟
أقبضتاكَ مشدودتان قليلاً
لأنَّ العدساتِ في كلّ الزوايا،
ولا مخبأ للتُّعساء والحيارى؟
يقدحُ الله، هذا المساء، بروقَ نيسان
مُصوّراً ما لا يُرى في الأرحام.
ينفخُ الموتى في جذوعِ البتولا لحنَ أورغن منسياً،
وأنت واقفٌ وحدك، مُغْضياً عاريَ الصدر،
وجهُكَ المحمرّ بابٌ موصَدٌ انهالتْ عليه الأيادي
وسلخَتْه الشمسُ والعار،
لسانك زاهدٌ عن تسديد أيّةِ ضربة-
واقفٌ وحدك، ملاكِماً انزلقتْ من يديهِ الريشةُ والقفازات
في حلبةٍ لا يبارحُها
لأنه عاجزٌ عن الانصراف
جاهلٌ إلى أين سيمضي.
——————–
بئر في مقبرة بعيدة
تحت شجرةِ جوز زرعها غراب
بئرٌ حفرَها مجنونٌ بإبرة
ففاضت حبراً.
كانت الكلمةُ.
تتأرجحُ باتجاه الورقة
مثل فانوسٍ يهبطُ بئراً مطليةً بالكلس
حبلهُ في يدِ طفل.
——————
(المتلصّص)
من ثقبين في قلبِ الشجرة
ينظرُ إلينا الضوء
مثل طفلٍ يلهو بالصور
اسمهُ الموت،
ويرى كيف اقتُلِعتِ الزهور
فاقتلَعتْ جذورُها عظامنا.
في مدنٍ شُيَّدت من أصواتِ الموتى
أمكنةٌ لن ندخلَها لأنها مثلنا
بعيدةٌ مكروهةٌ رخيصة،
أرقامٌ ترفعُ رؤوسَها وتفسدُ الأحاديث؛
كنا غُرَفاً على سطحِ العالم
بناها الضوءُ من الصمت
يستأجرها طلبةٌ وعمّالُ بناءٍ مفلسون،
وتظلّلها دائماً
كلماتٌ كثيرةٌ وسخة.
—————
يقظات الرابعة فجراً
رأيتُهم يُشرعون الباب؛
جلودهم بيضٌ لطولِ مكوثهم في الظلمات،
وفي جيوبهم هدايا أثمنُ من بداياتٍ مضيئة:
رمادُ رسائلَ كُتبتْ لأجلي:
” عُدْ سريعاً، ولا تتأخّرْ.”
كيف سأعودُ
بيدين ملطَّختين
إلى الماضي؟
لن تُجديَ الاعترافات.
ما ودّعتُهم أبداً.
سلكوا دهاليزَ لم أتوقّعها،
لم يتبرّموا بقلّةِ ما أملكُ،
زهورٌ برية في أيديهم استُبدِلت بالأصابع،
يشمُّون رائحةَ الوحدة،
يُسمُّون الكلماتِ زهورَ الألم،
يريدون في كلِّ جدارٍ باباً.
لكنّ النهايةَ هي النهاية:
شمسٌ تسطعُ،
عشبةٌ تيبسُ في جدارٍ يرتجف
كأنفاسٍ تخشى سؤالاً وشيكاً.