يوميات سيلفيا بلاث: مواجهة الحياة ومآسيها بالشعر والكتابة/ هاشم شفيق
نادرون هم الشعراء الذين يحققون شهرة تطبق الآفاق، شهرة لم تكن سريعة البتة، ولم تأت من دون جهد حافر في الجمال، ونضال مدوٍّ في عموم المخيلة، وجرْيٍ دائم ومتواصل، في حقول الإبداع وأصقاعه الشسيعة، حيث الغوص والسباحة في أكثر من منحىً فني، ولغوي، وتعبيري، ومن هنا لم تكن سيلفيا بلاث شاعرة فحسب، بل شاعرة وناقدة وقاصة وروائية وكاتبة مذكرات ومُحاضرة في الأدب، ودأبها كان مثل دأب جيلها، حافلاً بالأعاجيب، كل ذلك الجيل كان يتمتّع بثقافة عالية، ثقافة مثلثة، مستغورة وسابرة لأعماق النصوص العالمية، فواحدهم كان يقرأ الشعر، والرواية، والقصة، والمذكرات، وتاريخ الفنون جميعاً، كالنحت والرسم وله دراية بالجوانب الموسيقية وتفرّعاتها النغمية، سيلفيا بلاث كانت من هذه الجبلّة، معجونة بالفن عامةً، هذا دون أن تتخلى عن حياتها اليومية وتفاصيلها الكثيرة، ولا سيّما وأنها امرأة لها همومها الأنثوية، عليها أن تُحب وتتزوج وتُنجب، وتعتني بالبيت، والكتابة، وتقرأ وتعمل، وتُحضِّر كل يوم محاضراتها التي ستؤديها أمام الطلبة، حيث تُدرّس في الجامعة، هذا ناهيك عن مشاغل الحياة الأخرى، من سفر، وزيارات لأصدقاء وضيوف دائمين، ونشر هنا وهناك، في الصحف والإذاعات والمجلات، وطبع في دور النشر، حيث الحياة وفسحة العيش جدّ قليلة، ولاهثة في الغالب.
ما كان يرسل من كتابات أيام فتوّتها الأولى، وحتى بعد زواجها من الشاعر الكبير تد هيوز، كان أما يُقبل، أو يُواجه بالرفض، إن كان على صعيد النشر في الصحافة أو المجلات أو الإذاعات، أو على صعيد الطباعة والنشر على شكل كتب، من قبل دور النشر آنذاك، في كل من أمريكا وبريطانيا، فهي عاشت شطراً من حياتها في أمريكا، والشطر الآخر في لندن، وحيناً في كل من باريس وإسبانيا، أيام شهر العسل والحب الشعري المزدوج، من شاعرة متمّردة، عصبيّة، كئيبة تارة، ومرحة وساكنة ومقبلة على الحياة تارة أخرى.
كان هيوز شاعراً مشهوراً حين ارتبط ببلاث الشابة، العاشقة للشعر والشعراء، وكان فضلاً عن ذلك، وسيماً وزير نساء، وبالرغم من ذلك أحبّا بعضهما، وكتبا معاً وقرآ معاً، وسافرا معاً، ونشرا معاً، وأنجبا أيضاً طفلين، ولكنهما بعد مجيء الاطفال، تكاثرت الهموم أمام بلاث، وتراكمت العقبات، وحلت المآسي والمشاكل اليومية بين الشاعرين، هي تطبخ وتنظف البيت، وتربّي الطفلين، ثم تجهد لمواجهة الحياة، ومحاولة تأمينها دون عوز، وشِراك، وخطوب، ومُلمّات يومية ودائمة، هذه العوائق وقفت سدّاً بين الاثنين، إلى أن انهار كل شيء، بُعَيْد إصابتها بالكآبة، ودخولها مراحل للعلاج شبه مستديمة، لدى طبيبة كانت تراجعها بين الفينة والأخرى .
تأثّرت سيلفيا بلاث بالروائية فرجينيا وولف، وحملت المشعل المتحدي والملتهب بعدها، لتضيء مسالك حياتها المتعرّجة مثلها، فكلتاهما متمرّدة، ومتخطية للأعراف، والمناسك، والمواضعات اليومية، ومن هنا ظهرت لكلتيهما، ظاهرة عدم التناغم، والتماهي، والانسجام مع الذائقة العامة، عبور الخطوط الحمراء، عدم الإذعان لكل من هبّ ودب، التمسّك بالرأي، مواجهة الآخر بالبراهين والأدلة، ومن ثم التجاوز لتخوم الإبداع، وتحرير الكتابة من النمط المتوارث، والمتفق عليه، شكلاً ومضموناً، غاية في الوصول إلى هضبات الفن الرفيع، ومن ثم مواجهة المجتمع، وتقاليده النمطية الراسخة، والمتعارف عليها، هذا ما أدى بكلتيهما، إلى وضع حدّ لحياتهما بالانتحار، وجَرح الواقع المختل والمتردّي، المليء بالزيف والممالأة والازورار .
“قضّيتُ هذا الصباح في الجلسة الأخيرة مع الدكتور ديفي، بيّنت له: أنا خائفة من القوى التي تضغط عليَّ، تسحقني إذا لم أخطُ، أنظم طريقي، أتولى أمر نفسي، وأضع رابطاً بين الأمور الأكاديمية، الأشياء الإبداعية والكتابة، والعواطف والحياة والحب، الكتابة تجعل مني إلهاً صغيراً، في أنماط مرتّبة، أعيد أنا خلق العالم المتلاطم، المنهار باستمرار، أملك قوىً جسدية،، عقلية، وعاطفية جبارة، لابدّ أن يكون لها متنفّس إبداعي، وإلا تحوّلتُ إلى دمار وضياع”.
كل ما كانت تكتبه سيلفيا بلاث الشاعرة المتمرّدة، وأيقونة جيل الستينيات، والمناصرة لقضايا المرأة، كان يصبّ في خانة الإبداع، كانت تطارد رزقها بطريقة معذِّبة، تركض وراء هذا الناشر وذاك، وراء هذي الصحيفة وتلك المجلة، ولطالما واجهتها الرفوض، ولطالما تحملتْ وصبرتْ وكبرتْ على صغار الكتاب والنقاد، ولطالما تناستْ معاركها مع تد هيوز الشاعر البليغ والألعبان، ولطالما نظرتْ إلى البعيد في نيل مرادها، وصوّبتْ نظرها الدائم باتجاه نقطة بعيدة، هي الخلق، والتخليق المتواصل، والارتقاء بالفن الكتابي إلى ذرى النص العالي .
كتبت سيلفيا بلاث يومياتها، بين الأعوام 1950 ـ 1962 وهي فترة مليئة بالحياة والمغامرات والكتابة اليومية، نقداً ومتابعة للكتب، ومحاضرات أدبية، وكتابات شعرية وروايات، فترة حافلة بالمتنوع من النصوص الإبداعية، وهي تبدو في هذه الأوقات متدفقة الخيال، بارعة في استجلاب الفن اليها، والإبحار في موجه المتلاطم، وهي التي قالت في إحدى تدويناتها: “ما أخاف منه أكثر ما أعتقد هو موت الخيال”.
لعل قوة خيالها، في مشارب الأدب وحقوله ، هي التي جعلتها تخوض غمار تجارب فنية، وإبداعية متنوعة، لقد أحبّت الفن التشكيلي وحاضرت، وأعطت دروساً منتظمة فيه، وبرعت غاية البراعة في المحاضرات الأدبية، وكان من بين تلك المحاضرات عن أديبتها المفضّلة فرجينيا وولف، ذلك أن هذه التعددية في مجال الفن والأدب، وحتى التاريخ الفني، ربما قد أوصلتها تلك الحالة إلى تعدّد علاقاتها الرجالية، وتحرّرها الجنسي، هو ما أدى بها إلى الهوس بالشراب، والذهاب إلى أبعد من ذلك، بجسدها نحو أسرة من التقتْ بهم، وأعجبوا بها، أو من أعجبتْ هي بهم، ولفترات بدتْ شبه طويلة، وغير عابرة، كعلاقتها بهاميش، وريتشارد، وبيتر، ولوك، وبعض الأسماء الأخرى، ولكنها كانت تقطع في منتصف الطريق لسبب ما يظهر منها، أو من طرف العلاقة الثانية، إلى أن وضعتْ حدّا لتلك الجولات الحسية، والعاطفية، والإيروتيكية، خاتمة إياها بلقائها بتد هيوز ذات أمسية خمرية .
“ذلك الفتى الكبير، ذو الشعر الأسود،، الجذاب حسيّاً، الوحيد هناك الذي كان ضخماً كفاية بالنسبة لي، والذي يدور حول النساء، والذي سألت عن اسمه في اللحظة التي دخلت فيها الغرفة، لكن لا أحد قال لي، جاء إليّ ونظر عميقاً في عينيّ وكان ذاك تد هيوز، بدأت أصرخ ثانية متحدثة عن شِعره واستشهدت … الماس الأعز غير المخدوش … فأجاب قائلاً، بصوت لا بد أنه كان قادماً من قطب .. هل أعجبكِ ..؟ وسألني إن كنت أرغب بكأس من الكونياك”.
بعد رحيل سيلفيا بلاث انتحاراً بالغاز، صمت تد هيوز طويلاً، لم يتكلم أبدأ عن انتحارها وغيابها المفاجئ، ولقد تزوّج الثانية وانتحرت أيضاً، غير أنّ انتحار سيلفيا بلاث كان جرّاء حالتها النفسية هي، كانت تراجع أثناء حياتها طبيباً مختصاً وطبيبة مختصة بأمراض الاعصاب، ولقد عولجتْ مراراً بالصدمات الكهربائية، ولم تكن لتد هيوز يد في تردّي حالتها، بل هي ورثتْ هذه الحالة من العصاب عن طريق عائلتها، وهي تفاقم الأمر لديها، لحسّاسيتها الشديدة، ولغيرتها، وحسدها للآخرين، كما تصرّح هي بذلك في إحدى اليوميات، إنْ كانوا شعراء، أو كتّاباً وصحفيين وأناساً ناجحين في مشاريعهم الحياتية، ولكنّ سليفيا بلاث أيضاً لاقت الصدود في مطلع مشوارها الإبداعي، الإشاحة والتسويف والمُماطلة، غير أنّ العالم لا يخلو من بصيص ضياء، ومن نفق ما يؤدي بها إلى برّ النجاح، وعملية الخلق بحد ذاتها تحتاج إلى وقت، وفَهم، وصبر، وأناة طويلة، لكي يجد المبدع الحقيقي طريقه، ويُمَهَّد السبيل أمامه، بينما تد هيوز لم يلق ذلك العناء بشق طريقه، فموهبته كانت قوية، ومفاجئة، ومختلفة بالنسبة لشعراء جيله، ولهذا مضى غير مكترث بالنجاح والإخفاق وكان يعد الاثنين تحصيل حاصلٍ، وحين مرتْ أعوام كثيرة، على حادثة انتحار سيلفيا بلاث، هيوز المُحب والأب والزوج لم يُطل به الصمت اكثر من ذلك، فكتب ديوانين مُلهمين من نتائج تجربتهما الحبية، وجاء الديوانان وأحدهما ديوان “رسائل عيد الميلاد” كاعتراف متأخر لذلك الحب العاصف والمُدمّر، الحب الذي أودى بشريكته في الشعر، والحب، إلى ذاك الغياب التراجيدي، وكان كلا الكتابين الشعريين بمثابة ردّ قوي، على تلك الشائعات والأقاويل التي تتهم هيوز بشكل وبآخر، بدفعها نحو تلك الزاوية المظلمة من النهاية .
سيلفيا بلاث: “مذكرات”
ترجمة: عباس المفرجي
دار المدى، بغداد 2017
581 صفحة.
القدس العربي
لتحميل الكتاب اتبع أحد الروابط التالية