ليلى ألكسندر گاريت: أندريه تاركوفسكي: المتبّصر، المَهيب والغامض
”لم تكن بيني وبين أندريه علاقة عابرة إنما هناك افتتان متبادل“
ترجمة وتقديم علي كامل
عملت ليلى ألكسندر گاريت مع المخرج السينمائي أندريه تاركوفسكي كمترجمة فورية في مرحلة تصوير فيلمه «التضحية» في السويد عام ١٩٨٦(المَّهمة التي كان تاركوفسكي يصر دائماً أن يمارسها رجل وليس امرأة!). وقامت بتأليف كتابين بهذا الشأن، أحدهما بعنوان (أندريه تاركوفسكي: جامع الأحلام) والثاني كتاب ألبوم صور فوتوغرافية يحتوي على أكثر من ٢٥٠ صورة فوتوغرافية تم التقاطها على مدار فترة تصوير الفيلم وهو بمثابة تسجيل لوقائع يوميات تصويره من اليوم الأول حتى النهاية. واتضح أنه سيكون فيلمه الأخير وشهادته الأخيرة التي يحث فيها كل فرد أن يتحلى بروح المسؤولية الشخصية عن كل ما يحدث في العالم. لقد تكهن تاركوفسكي قبل وفاته بأن ليلى ستكتب عنه فقد دار بينهما هذا الحديث آنذاك: ـ «إذا خطر لك يوماً أن تكتبي عني فاحرصي أن لا تجعلي مني مُخرجاً مستبداً لا يُحتمل. لقد سمعت ما يكفي من ذلك في حياتي. لا سيما في موسكو، هناك حيث كثرت الشائعات…».
ـ « وما الذي جعلك تعتقد أنني سأكتب عنك؟» سألتُه باستغراب.
ـ «انتظري وستري. حينها فكرّي بما قلته لك. حين أموت، سيتحتم على شخص ما أن يعرف كيف كان يبدو العمل مع تاركوفسكي. ستري».
يصور هذا الكتاب شخصية هذا المخرج الكبير كشخص حي، حقيقي، مُعَّذب، سعيد، معين لا ينضب، لكنه، في بعض الأحيان قاسٍ، صارم، لا يعرف الكلل، ضمير مفجوع، مبدع لم يحقق كل مراده فنياً.
إنه لأمر ممتع حقاً الكشف عن الشخصية التي تقف وراء المبدع ونتاجه الفني، ونادراً ما نحظى بفرصة الاقتراب من مخرج فيلم كأندريه تاركوفسكي كاللقاء الذي جرى بين ليلى ألكسندر غاريت وتاركوفسكي في فيلمه الأخير «التضحية» كما نستشفه في كتابها الموسوم: أندريه تاركوفسكي: جامع الأحلام. يُعرب هذا المؤلَّف النثري الحساس بخطاه اللاهثة عن أُلفة الكاتبة وصلتها الوثيقة برجل يبدو من نواح عديدة أشبه بمرشدها ودليلها الروحي. السيدة گاريت تشعر بالرضا والارتياح في التعبير عن انطباعاتها العاطفية عن تاركوفسكي والناس المحيطين حوله خلال فترة اتضح فيما بعد بشكل محزن أنها قاربت من نهاية حياته.
الحماسة والمهابة اللتان تتدفقان من هذه الكتابة قل ما نجده في كتابات اليوم فالتهكم والوعي الذاتي الفائض سمة من سمات أدبنا وهو لحسن الحظ غائب عن هذا الكتاب الروسي أصلاً. ولدت ليلى ألكسندر في أوزبكستان ودرست اللغة والأدب الروسيين واللغتين التبتية والبوذية وتخرجت من كلية الدراسات السينمائية في جامعة ستوكهولم. أنجزت فيلماً روائياً قصيراً بعنوان (الرجل المتثائب) كتابة وإخراجاً وإنتاجاً. وهي أيضاً مؤلفة مسرحيات: ليلة غاسبارد، الرجل المشنوق، لا تفقد إبناً وإفطاراً إنكليزياً. تعيش السيدة گاريت وتعمل حالياً في إنجلترا. إنها شخصية ثقافية ناشطة قامت وتقوم بتنظيم العديد من الحفلات الموسيقية والخيرية بما فيها مهرجانات سينمائية (مهرجان أندريه تاركوفسكي ومهرجان سيرجيه باراجانوف) في لندن، كما أنها قامت بتنظيم معارض للصور الفوتوغرافية تعرض اليوم في العديد من بلدان العالم.
***
الحلقة الأولى
أندريه تاركوفسكي: لُغز وأُحجية (*)
ـ إذا خطر لكِ يوماً أن تكتبي عني فاحرصي أن لا تجعلي مني مُخرجاً مسّتبداً لا يُحتمل. لقد سمعتُ ما يكفي من ذلك في حياتي، لاسيما في موسكو، هناك حيث كثرت الشائعات….
ـ وما الذي جعلك تعتقد أنني سأكتب عنك؟، سألْتُه باستغراب.
ـ انتظري وسَتَرَيْ. حينها فكرّي بما قلته لكِ. عندما أموت ستكثر الأسئلة عن كيفية العمل مع تاركوفسكي. سَتَرَيْن. وهذا ما حدث فقد أنجزتُ أخيراً كتاباً عن أندريه بعنوان (أندريه تاركوفسكي: جامع الأحلام). يتناول عملي معه كمترجمة شفاهية ومساعِدة شخصية في فيلمه الأخير «الضحية» في السنتين الأخيرتين من حياته. لقد اعتبرتُ كلماته النبوئية تلك حينها على أنها مجرد مزحة غير سارة.
«ما هذا الذي تقوله!. لماذا تتحدث هكذا؟ أندريه، لديك مشاريع رائعة تنتظرك: هاملت، الهولندي الطائر، الهوفمانية، رودلف شتينر، القديس أنتونين… وسواها، ومع ذلك تتحدث عن الموت!».
«لا بدّ أن أموت يوم ما» قالها بإصرار كما لو أنه أراد أن يرى ردة فعلي على ما قال.
«نعم، جميعنا سيموت في وقت ما» وافقته الرأي، ثم وجهت الحديث صوب وجهة أخرى. وببساطة، كانت مجرد مزحة…
في العام ١٩٨٥ وقبل أعياد الميلاد كان أندريه يمضي إسبوعه الأخير في ستوكهولم. عدنا إلى بيته بعد زيارة إلى مستشفى كارولينسكا دون الحصول على تشخيص دقيق لمرضه ولكن كان لدينا هاجس من أن الحالة هي أكثر خطورة من مجرد التهاب الشُعَبْ الهوائية أو التهاب رئوي. ومرة أخرى قال بابتسامة حزينة وجادّة:
«لا تكتبي عني كما لو أنك تكتبي عن نُصبٌ تذكاري (لقد رحل عنا منذ وقت قريب جداً…)… لا، لا تكتبي عني هكذا إنما بشكل مختلف تماماً، لأن آخرين سيكتبون مثل هذه الأمور.
ينبغي أن تكتبي عني بصفتي شخصاً عليك أن تعرفيه وعما أعنيه بالنسبة لكِ شخصياً. لا تكوني محايدة في أحكامك. مطلقاً!».
ثم ابتسم مضيفاً «سيكون هذا درساً للمستقبل إن كنت تريدين ولوج أي حقل من حقول الفن. إذا أردتِ عمل أفلام جيدة لا تكوني غير أنتِ مطلقاً ولا تخشي من الضمير الشخصي (أنا)…». بدأتْ معرفتي بأندريه تاركوفسكي في موسكو في نوفمبر عام ١٩٨١. التقينا لمرة واحدة فقط. كنت في العاصمة موسكو كسائحة، فيما كان هو يستعد لرحلته إلى إيطاليا. اتفقنا يومها أن نلتقي في ساحة ماياكوفسكي.
«كيف يمكننا أن نتعرف على بعض؟. ليس لدي حتى صورة لك!» سألتُه.
«لا تقلقي» قالها بشكل مطمئِن «سأعرفكِ».
ومع ذلك وعلى الرغم من حشود المتنزهين في ساحة ماياكوفسكي لكنني عرفته في الحال. لقد تأخر قليلاً عن الموعد، واعتذر عن ذلك، ثم دعاني إلى بيت السينما أو إتحاد السينمائيين السوفييت (دوم كينو).
أوقفنا البّواب عند مدخل المعهد.
«أما آن الأوان أن تتعرفوا على مخرجيكم».
قالها للبواب ببرود واستياء. واضح أنه اعتبر الحادث محرج وغير سار.
كان يجلس في تلك القاعة الضخمة عدد كبير من الناس. حّيا واحداً أو اثنين وكانت تحيته باردة ومتحفظة.
في وقت لاحق، حين كان في السويد لتصوير مشروع فيلمه «الضحية»، قال وهو على وشك أن ينفجر من الضحك:
«هل تتذكرين عندما لم يسمحوا لنا في الدخول إلى بيت السينما في موسكو». حدثني أندريه فيما بعد عن الصعوبات التي واجهها في إيطاليا من قبل السلطات السوفياتية حين كان يقوم بتصوير فيلمه «الحنين»، فقد كانت تُرفض إصدار تأشيرة لاصطحاب إبنه أندريوشا معه باستمرار.
«هناك لدينا العديد من المشاكل وهي أشبه بنبات الفطر الذي ينمو بعد سقوط المطر». قال ذلك مبتسماً، وكان ثمة غضب ومرارة وخيبية أمل خلف تلك الابتسامة. لقد بدا لي أندريه في ذلك اللقاء الأول رجلاً متعباً ومرهقاً للغاية. بدأتْ صداقتي الحقيقية بأندريه في إيطاليا، في روما أثناء تصويره فيلم «الحنين». التقينا هناك مرات عديدة وأتذكر لقاءنا الأول في روما في ٢١ مايو ١٩٨٢. كان الجو حاراً فجلسنا خارج إحدى المقاهي التي تقع في بيزا نافونا، الساحة التي كان يفضّلها.
تجدر الإشارة إلى أنه كان يعشق إيطاليا جداً، لا سيما روما وتوسكانيا. كان قد بدأ حينها للتو في العمل على فيلم «الحنين» وكان في مزاج رائق أشبه بالربيع، وكان معه دوناتيلا باگليفو (المخرج الذي عمل عنه فيلماً وثائقياً حول زيارته إلى إيطاليا وعن عمله وحياته هناك).
في وقت لاحق أخبرني أندريه أن هذه الأفلام تخلو من أية قيمة فنية مميزة. (هناك ثلاثة أفلام أخرى عُملت عن تاركوفسكي) لكن الآن وبعد وفاته أصبح الموّزعون (الطيور الجارحة ) يطلبون أسعاراً خيالية عن تلك الأفلام.
في ذلك اليوم من شهر مايو، تحدثنا عن أمر رائع حول الشعوذة والسحر. قدّمني أندريه إلى زميله الإيطالي بصفته المشعوذ أو الساحر. دُهش الرجل من الاحتجاجات التي صدرت مني إزاء ذلك التعريف (المشعوذ أو الساحر)، وسألني عما إذا كان لدي أي شيء ضد السحرة.
إن كلمة «ساحرة» باللغة الروسية هي «ﭬيدما» ويرجع أصلها إلى الفعل ﭬيديت أي «تعرف»، أو أن تكون لديك معرفة بشيء ما. «ومَن يمكن أن يكون ساحراً حقيقياً معاصراً حتى النخاع إن لم أكن أنا، فقد درستُ علم التنجيم، قراءة ورق اللعب، التصوف، وتحليل أبراج الكمبيوتر؟»، قلت.
«إنّكِ تمتلكين الأسرار!» ضحك تاركوفسكي قائلاً وضحك رفيقه أيضاً.
«لا لا تقلقي، أنتِ ساحرة بيضاء».
«وأنا أشكرك على هذا» أجبته.
«ليحميكِ الرب من الساحرات السود» أضاف.
«حاول أن تتجنبهن مهما كلف الأمر».
كنت ما زلت لا أدرك حينها ما إذا كان يمزح أم هو جاد. ربما الإثنين.
كان عنوان فيلم «التضحية» في الأصل «الساحرة». لكن كان ثمة فيلم آخر بذات العنوان، إلا إن هذا العنوان في اللغتين السويدية والإنكليزية لم يكن له دلالة مشابهة لدلالة الكلمة الروسية «ﭬيدما» أي «معرفة» والتي كان أندريه يعتبرها جوهرية.
ليس عبثاً أن بوسع الفنان الحقيقي دائماً رؤية مصيره الحقيقي أمامه، وفي بعض الأحيان مصير البشرية جمعاء!. فقد عرفتُ في وقت لاحق أن ألكساندر (الشخصية الرئيسية في الفيلم) في النسخة الأولى للسيناريو كان مصاباً بمرض السرطان الذي لا شفاء منه وهو ذات المرض الذي أصيب به
أندريه في وقت متأخر. ليس هذا حسب، إنما تم عرض فيلم «الضحية» في ذات اليوم الذي حدثت الكارثة الرهيبة في أوكرانيا تقريباً. حينها كتبت الصحف أن تاركوفسكي قد تنبأ بالكارثة النووية في تشيرنوبيل قبل وقوعها. وهذ ما كان من المفترض أن يتكهن به الفيلم.
عندما التقينا للمرة الأخيرة في إيطاليا، كان حينها قد أكمل مونتاج فيلمه «الحنين». أما عملي معه في فيلم «التضحية» فقد بدأ بشكل جدي في عام ١٩٨٤ تماماً. رن جرس الهاتف:«أنا أندريه تاركوفسكي. هل يمكن أن نلتقي؟».
… «بالطبع. بالتأكيد. متى؟».
… «الآن، الآن، في الحال، إن كان ذلك يناسبك».
كان أندريه يومها يقيم في جزيرة دجورگاردن في ستوكهولم في شقة تابعة لمديرة انتاج الفيلم السيدة كاتينكا فارغو.
ولقاء آخر مرة أخرى لا ينسى فقد قرأ أندريه قصائد كتبها والده أرسيني تاركوفسكي. وأتذكر المقطع الأول على وجه الخصوص من قصيدة (اللقاءات الأولى): «كل لحظة كنا فيها معاً كانت بمثابة رؤيا، مثل عيد الفصح..»… كل لقاء لي مع أندريه كان بمثابة رؤيا، ليس بالنسبة لي فحسب، إنما لكل شخص التقى به، كما أعتقد.
كنا نستمع طيلة المساء لأغاني لابيش جويك (**) وهي بالكاد يمكن اعتبارها أغانٍ إنما نحيب الرعاة وعويلهم، تلك التي تعيد إلى الأذهان ابتهالات الشامان (***).
لقد تم توظيف هذه الأغاني في الفيلم وكانت توحي كما لو أن شيئاً ما يُهّدد أو أمر لا يمكن تفسيره هو على وشك الحدوث. إن نداء المرأة وصوتها الآسر يمكن سماعهما معاً في المشهد الذي
يسقط فيه ساعي البريد أوتو والكسندر في غيبوبة روحية، وعلى نحو مماثل في مشهد آخر عندما يراود ألكسندر حلم مرّوع. أنا لا أعرف أحداً من المخرجين قبل تاركوفسكي قد استخدم الصوت بمثل هذا الاهتمام وبمثل هذه الأذن الحادة وهذه الرؤية المتعمقة للروح البشرية.
لقد أُوليً الكثير من الاهتمام بالضوء والإنارة ودُوّنت الكثير من الكتابات حول أفلامه، إلا إن طريقته الفريدة في استخدام الصوت قد تم إغفالها وحجبها في أغلب الأحيان.
لقد أشار أندريه في مناسبات عّدة إلى أنه حتى في أول جلسة استماع للصوت، قد يبدو ذلك الصوت للوهلة الأولى مبتذلاً وعديم الأهمية بالنسبة للعقل الواعي، ومع ذلك فهو يترك انطباعاً عميقاً عند المُشاهد مثل الأثر القوي الذي يتركه أي عنصر بصري تماماً… (ارتعاش البّلور،
دوران العملة المعدنية على الأرض، حفيف صفحات الورق وهي تتقلب، صوت الخشب المقّطع بالفأس، الأقدام وهي تغوص في الوحل، أوراق الشجر المتعفنة وهي تنفث الأبخرة، خرير الماء…) كل هذه الصور تلتصق وتبقى في ذاكرة المُشاهد طويلاً.
«إن الصوت هو الذي يحدد الرؤية البصرية لحكاية الفيلم أحياناً وليس العكس. الصوت هو أكثر من مجرد إيضاح لما يحدث على الشاشة». هكذا كان يقول.
لقد أحب أندريه إجراء تجارب على الصوت. فنحن غالباً ما كنا نشغل أنفسنا بإلقاء القطع النقدية على الأرض والاصغاء إلى الفارق في الرنين، أو عبر رش أنواع السوائل على الأرض كالحليب والماء والكوكاكولا، ولاحظنا أن متعتنا الكبرى هي أن لا شيء في هذا العالم يبدو متشابهاً!.
«ينبغي أن نعلّم أنفسنا الإصغاء إلى الأصوات وسماعها. عليك أن تدرك أن الحليب له صوته الخاص فيما الماء له صوت آخر. إنه لأمر طبيعي، أليس كذلك؟ لكننا لا نعير لهذه الحقيقة أي اهتمام. وهذا الأمر في حقل السينما هو في غاية الأهمية.
دعونا نصغي لصوت الماء مرة أخرى، صوت كهذا هو نطاق ترددات لا ينضب، موسيقى نقية وبسيطة. كذلك هو صوت النار المشتعلة بوسعه أن يكون في بعض الأحيان بمثابة سمفونية كاملة أو فلوت ياباني إنفرادي أحياناً. صوت خشب الزان وهو يحترق يختلف عن صوت خشب الصنوبر، كذلك رائحتهما. ثمة فارق كبير بين الأصوات تماماً كما هو الفارق بين الألوان».
عندما أكتب هذا يدهشني أن لا أحد علمّني شيء كهذا سوى أندريه. ليس في السينما فحسب، إنما علمني أن أرى وأسمع إلى العالم من حولي بطريقة مختلفة. مثل دون خوان كاستانيدا الذي كان
يتحدث عنه بمهابة كبيرة دائماً. (****)
لقد منحني أندريه شحنة وفتح عيني على أبسط وأبرز الظواهر الدنيوية التي تخفي وراءها الكثير من الألغاز. «لا يوجد شيء أكثر جمالاً وغموضاً من البساطة. ولكن كيف يتم تحقيق هذه البساطة هذا هو السؤال!». وكوني التلميذة المجّدة والمواظبة التي كنت، فقد انتهزت كل فرصة لجعله يحكي لي عن الكيفية التي يمكن فيها عمل فيلم جيد. لكنه كان في كل مرة يهز أكتافه قائلاً أن ذلك ببساطة هو أمر لا يستطيع تعليمه لي.
«إن التجارب الشخصية لا يمكن تعليمها ولا فرضها على الآخرين. لكن، مع ذلك، إذا كنت تلميذة جيدة يمكنك على الأقل أن تتعلمي كيفية ألا تعملي أفلاماً رديئة. إن عملية الخلق تشابه كيفية العيش، فمن المتعذر أن تعّلم شخص ما كيفية أن يحيا بشكل جيد، ولكن بوسعك أن تلهمه بأن لا يحيا بشكل سيء. وهذه كلها مذكورة في الانجيل… إقرأي الإنجيل! ونحن غالباً ما نقرأ الإنجيل».
حين آن الوقت بالنسبة لي للعودة إلى الوطن سألني أندري قبل المغادرة ما إذا كنت مرتبطة بعمل
ما أو لديَّ أي التزام في الأشهر القليلة القادمة. لم يكن لدي في الواقع أي التزام حينها حتى شهر
أكتوبر حيث كنت سأذهب لحضور معرض الكتاب في فرانكفورت. لم أدرك السبب وراء سؤاله
إلا في صباح اليوم التالي حين تم الاتصال بي في معهد الفلم السويدي وطُلب مني أن آتي بأسرع ما يمكن للعمل مع تاركوفسكي.
من الواضح أن العمل مع تاركوفسكي ليس حلمي أنا فحسب ولم أكن أعتقد أن ذلك ممكن في حالتي لا سيما بعد الحديث مع المنتجة التنفيذية للفيلم آنا لانا ويبوم التي أخبرتني بشكل قاطع بعدم وجود أدنى فرصة لي للعمل لأن تاركوفسكي يبحث عن مترجم من الذكور فقط بسب ظروف العمل الصعبة للغاية بالنسبة للمرأة.
كان من المقرر أن يتم التصوير أثناء فترة الليالي البيضاء، وهذا يعني أنه ينبغي على الجميع الاستيقاظ ما بين الساعة الثالثة والرابعة صباحاً، تلك الساعة التي كان يطلق عليها
تاركوفسكي «الساعة السحرية».
كان يجب تصوير جميع المشاهد الخارجية وفق هذا النظام الصارم! وسيكون من الصعب تحمل ذلك حتى بالنسبة للرجل.
وبعد وقوفي وجهاً لوجه أمام انعدام الإمكانية لتحقيق آمالي تلك قابلت مديرة الانتاج واستمعت لشكواها وهي تقول:
«نحن لا نعرف حقاً ماذا نفعل. لقد جلبنا له أفضل المترجمين المحترفين لكنه يرفضهم في كل مرة. إنه أمر محرج بشكل مرعب. يأتي المترجمون وندفع لهم المال ثم يفاجئنا بقوله أن كيمياءه الداخلية تتعارض وكيميائهم. لم يكن يشعر بأي صلة بهم. نحن نعرف بالطبع أن المترجم هو مساعده الأقرب وأنه يجب أن يكون لديه ثقة به مائة في المائة، ولكن ماذا نفعل، أين يمكننا العثور على مثل هذا الرجل؟ نحن في الواقع متضايقون جداً لأننا لم نستطع العثور على الشخص المطلوب حتى الآن. وبما أنه طلب منا الاتصال بك، فهل من الممكن التعويل عليك في المستقبل القريب؟».
أجبتها بعجالة «بالتأكيد… لكن ينبغي أن تكوني مدركة لحقيقتين. الأولى، إنني لست مترجمة محترفة. ثانياً، من غير الممكن أن أحوّل نفسي إلى رجل في غضون وقت قصير جداً كهذا».
ضحكَتْ ثم قالت: «طالما ثمة توافق كيميائي، كل شيء سيكون على ما يرام. فضلاً عن أنك تدرسين السينما أيضاً، وهو أمر في غاية الأهمية».
واضح جداً أنها كانت مضطربة للغاية فقد أنفقت قدراً كبيراً من ميزانية الفيلم دون أي نتائج ملموسة. إن حمل المحفظة المالية لمخرج يصعب ترويضه مثل تاركوفسكي لا يمكن أن تكون مَهّمة سهلة!.
كانوا يتصلون بي طوال أسبوع كامل يتنهدون ويتحسرون قائلين لي أن تاركوفسكي رفض مرة أخرى مترجمه الأخير وأنه ينبغي أن آتي على الفور لأخرجهم من”ورطتهم“.
في شهر أكتوبر طلبوا مني إلغاء رحلتي إلى فرانكفورت وبدلاً من ذلك سافرنا إلى لندن للبحث عن ممثلين جُدد.
لحسن الحظ، وبفضل ديفيد جوثارد رينيسانس، «المدير الفني لاستديوهات ومسارح River side اللندني» اكتشفنا الممثلة سوزان فليتوود، الذي اعتبرها تاركوفسكي فيما بعد بمثابة «مفاجئة سارة واستثنائية». بعد انتهاء الفترة التحضيرية للفيلم ورغم التوافق الكيميائي بيني وبين أندريه وفريق العمل بأكمله، كان لا يزال ثمة حديث عن مترجم من الذكور طوال مدة التصوير الفعلي!. لقد كان أندريه مقتنعاً بأن المرأة ببساطة لا تتحمل أعباء العمل، على الرغم من أن غالبية فريق العمل يتألف من النساء:
المنتجة التنفيذية للفيلم آنا لينا ويبوم، مديرة الانتاج كاتينكا فارغو، مساعدة المخرج كريستين إريكسدوتر، فتاة السكريبت آن فون سيدو، مسؤولة الملابس، إنجر بهرسون مساعدة المخرج الفني، كيكي إيلاندر وسواهن الكثير…
لقد أطلق أندريه عليهن اسم «سيدات مافيا بيرغمان» لأن معظمهن عملن من قبل مع إنغمار بيرغمان. وبوصفي المرأة الوحيدة التي لا تنتمي إلى تلك المافيا، قال لي أندريه، كوني مترجمة لي، يعني أن أتمتع، في المقام الأول، بأعصاب فولاذية وحضور دائم وحّد أقصى من التركيز.
«لن تصمدي. أنا رجل مهووس. إنني بحاجة إلى عشرة مترجمين ومساعدين» قال ذلك مازحاً، وقد وضع حقاً قط وسط الحمام في”قسم إدارة الشؤون المالية“.
كانت العبارة المفضلة لمديرة الإنتاج هي:«السويد هو بلد صغير جداً. نحن لا نمتلك ما يمتلكه الأميركان. هناك يمكن أن تستقل سيارة ليموزين ويكون لديك عشرة مساعدين لتصوير بقرة فقط. إنهم يمكن أن يبيحوا لأنفسهم ذلك لأن بوسعهم تحمل تكلفة ذلك. أما نحن فعلى العكس تماماً لأننا بلد صغير».
أجابها أندريه لتهدئتها قائلاً:
«نعم، لكنني لست بحاجة إلى عشرة مساعدين لفعل ذلك فبوسعي أن أصّور البقرة بنفسي طالما أنها لا تركلني بمؤخرتها».
كان لديه فضول كبير لاستكشاف روح الدعابة السويدية. وقال أنه سيعثر عليها عاجلاً، وقد أكدتُ له ذلك…
كان أندريه قد إبتدأ يثق بي بشكل كامل عندما كنا تقريباً على وشك الانتهاء من الفترة التحضيرية للفيلم. تلقينا أخباراً أن الفيلم، على الأرجح، لن يسير وفق الخطة المرسومة له فقد رفض المنتجون اليابانيون بشكل مفاجىء ولأسباب غير مفهومة تماماً المشاركة في تمويل الفيلم.
كنا جميعاً في حالة حزن وألم بسبب هذه المحنة، لأن ذلك يعني عملياً أن الفيلم سيتأخر لبعض الوقت وقد آن الأوان بالنسبة لنا لمغادرة المكان.
كان أندرية يجلس إلى الطاولة وهو يمزق قطعة من الورق إلى أشلاء. كان يفعل ذلك وهو في حالة من الشلل الداخلي. لقد رأيته مرتين في حالة مماثلة: هذه المرة بعد تلقينا أخباراً بأن اليابانيين بأنهم
قد خذلونا، والمرة الأخرى بعد الفشل الذريع الذي واجهناه في تصوير مشهد حرق منزل ألكساندر في فيلم «الضحية» فقد أدى عدم أهلية الفريق الانكليزي الخاص بالمؤثرات البصرية إلى جانب العطل المفاجىء للكاميرا أثناء التصوير إلى تدمير مشهد فريد من نوعه. ومع ذلك، فقد تم إعادة تصوير المشهد فيما بعد بالطبع بنجاح لحسن الحظ والذي سيأخذ مكانه بلا شك في تأريخ السينما بوصفه مثالاً بارعاً لمشهد طويل للغاية تم تصويره بلقطة واحدة طويلة. إن ردة فعله في كلا المرتين كانت هي ذاتها: «محال أن يكون ذلك حقيقياً!».
هذا الجو المفعم بالعجز التام وهذا الاحساس بالشلل يجعل المرء ببساطة يبكي ويحارب، لكنني بدلاً من ذلك، تناولت دليل التلفون الخاص بي واتصلت برقم ديفيد كوثارد رينيسانس بعد أن أخبرت أندريه بأنه ينبغي علينا القيام بشيء ما، وليسامح الله أولئك اليابانيين الذين سيندمون يوماً ما على ما فعلوه…
مرة أخرى، تحية كبيرة لديفيد لعونه وتفانيه وحماسته. كان مقترحه المباشر هو :«اتصلي بجيرمي إسحاق في القناة التلفزيونية الرابعة وأخبري تاركوفسكي نيابة عني بما حدث. لكن اتصلي الآن بشكل عاجل بجيرمي دون تردد في أن الأمر مهم للغاية».
كان جيرمي إسحاق في ذلك الوقت رئيساً للقناة الرابعة ولم يكن بحاجة إلى أية إيضاحات. كانت مكالمة عمل هي على الأرجح أقصر وأفضل مكالمة في حياتي:
«لديكم مشاكل، أليس كذلك؟ هذا يعني فقط أنكم بحاجة إلى المال. هل يعرف السيد تاركوفسكي مقدار المبلغ الذي يحتاجه؟ لا يعرف… حسناً، يمكننا أن نمده بمليون دولار. على أي حال، سوف نرى ما يمكننا القيام به. إنقلي أطيب تحياتي للسيد تاركوفسكي».
«أنظري إلى القناة الرابعة. أنظري إلى جيرمي إسحاق هذا الشاب الرائع. هذا هو ما أسميه (الكفاءة!)». هكذا كان يقول أندريه عقب تلك المكالمة معتبراً إياها أنموذجاً.
لقد تنفسنا جميعاً الصعداء بعد تلك المكالمة وشرع أندريه يتصل بـ «منتجه الشخصي» في الثناء على مبادرتي، وهذا ما ينبغي العمل به في أنشطة إنتاج الأفلام السينمائية.
لا يمكن تجزئة عمل الفيلم إلى عدد من الأجزاء الصغيرة المنفصلة. إن الكمال في مجال المرء الخاص به هو أمر أساسي لكن ينبغي أن لا ننسى العمل كمجموع للكل وبالتالي يجب أن يكون الشعار «الجميع يداً بيد».
احتفلنا في ذلك المساء وقال أندريه أن لديه ثقة كاملة بي الآن. تلك الثقة والإيمان أنبتت لي جناحين! وأصبحنا أنا وأندريه أكثر قرباً طوال الوقت ولم يقتصرعملي معه على تسع ساعات رسمية في اليوم إنما كنا نذهب في المساء إلى مكان لنتناول الطعام أو الذهاب إلى السينما. ومن مهماتي الأخرى إبلاغه بما كان يحدث في العالم الخارجي، أي ما تكتبه الصحف. وكان أندريه يعتذر عن أخذه معظم وقت فراغي دون أن يصّدق تأكيداتي له بأن ذلك كان بالنسبة لي متعة حقيقية.
هامش:
(*)
نشر هذا الموضوع في المجلة الروسية كينو «سينما» المجلد ٢٦، العدد ١٠.
(**)
أغاني الرعاة الرُّحل في شمال النرويج. المترجم.
(***) الشامان هو الشخص الذي يُنظر إليه على أنه يمتلك القدرة على الوصول إلى عالم الأرواح الخيّرة والشريرة والتأثير عليها والذي يدخلها عادة وهو في حالة وجد أو نشوة خلال الطقس. والشامان هو عراّف يمارس التكهن والعلاج. المترجم).
(****)
كارلوس كاستانيدا كاتب وأنثروبولوجي أمريكي ١٩٢٥- ١٩٩٨بدأ مع تعاليم دون جوان عام ١٩٦٨ وكتب سلسلة من الكتب وصف فيها تدريبه في الشامانية وتروى الكتب، بلسان الشخص الأول، تجاربه تحت وصاية رجل يدعى كاستيدا بأنه (رجل المعرفة أو العرّاف) يدعى (دون خوان ماتوس) إدعّى المؤيدون أن الكتب إما حقيقية أو على الأقل أعمال فلسفية قيمة. المترجم.
الحلقة الثانية
أندريه تاركوفسكي: أحلام وتكهنات (2)
كان تاركوفسكي راوي حكايات رائع. حكى لي عن طفولته، عن «أمي العزيزة» هكذا كان يناديها بمحبة، عن والده، عن طفليه، عن أخته مارينا، عن الحياة في موسكو، عن لقاءه بأصدقائه وهم يسيرون مع كلبه ويتطلعون نحوه وهو يدخن ويحتسي الفودكا… «حين كنت شاباً، كنت مختلفاً تماماً. لقد كنت شرساً وسريع الغضب لسبب أو لآخر، إلا إنني نضجت كثيراً مع تقدم العمر».
يمكن للمرء مشاهدة تفاصيل حياته بدقة أكثر في كل مشهد وفي كل لقطة من أفلامه. كان أندريه يسألني كل صباح عن «الأجرام السماوية»: «حدثينا عما يجري في السماء اليوم؟». «أين القمر؟ ما الذي يخبأه لي اليوم القادم؟».
كان يطرح مثل هذه الأسئلة بالرغم من حقيقة أنه كان متردداً بل خائفاً من معرفة كل شيء عن مستقبله. كلانا أندريه وأنا ننتمي إلى برج الحوت وهو ما يعني عادة وبصفة خاصة القدرة الشديدة على الإدراك وحياة فانتازية وأحلام نبوئية، إلا إن أندريه كان يفسر ذلك على أننا أشبه برمز لبرج الحوت، فهو ينشطر إلى نصفين: نعوم هنا، لكن غالباً ما ينتهي بنا الأمر إلى البقاء حيث نحن، لذا يصبح اتخاذ قرار نهائي هو أحد الأمور الأكثر صعوبة في العالم، وهذا يعني أيضاً أننا أشبه بالأسماك نشعر أكثر مما يمكننا التعبير عنه عبر الكلمات.
كان يقول لي في بعض الأحيان: «ألا تشعرين بالخوف؟ إن كشف الحجاب عن مثل هذه الأسرار هو بمثابة خطيئة. لماذا تريدين معرفة ما يخبئه لك المستقبل».
حاولت أن أوضح له أن اهتمامي بعلم التنجيم وسواه من الظواهر الغامضة لا يعني على الإطلاق أنني أريد رؤية المستقبل إنما كنت أوّد فهم ما يحدث لي وما الذي يحفز أفعالي وسلوكي.
لقد كنت أفكر مثلما كان يفكر كاتبنا الروسي إيفان بونين، وكلينا نعشق بونين، بإن الـ (أنا) هي جزء من الطبيعة وينبغي عليها أن تتفاعل معها وتستجيب لجميع ما يحدث فيها. والحياة، مهما يكن نوعها، لها وجود يتخطى تخوم هذا الكوكب. فضلاً عن ذلك، فقد ساعدني التنجيم أن أكون أكثر تسامحاً إزاء الآخرين عموماً.
كان أندريه يستمع لي باهتمام وأظن أنه كان يتفق معي في حججي واستنتاجاتي رغم أنه يعارض فكرتي بشأن رؤيتي إلى المستقبل.
«لكن ماذا عن الأحلام» قلت ذلك وأنا أواصل حججي ورؤيتي.
«لقد قلتِ بنفسك أن أحلامك غالباً ما تتحقق».
«نعم، هذه حقيقة»،
«ولكن الأحلام شيء مختلف تماماً. الأحلام هي لُغز حقيقي… وهو السر الذي يكمن وراء نصف الوجود البشري. تصوري، أنني أنام نصف عمري وعندما أستيقظ أندفع على الفور مسرعاً لعمل أفلام. إنه أمر غير معقول!».
أندريه شخص مفعم بالتناقضات، فهو من جانب مفتون كان أكثر من أي شخص آخر بمشاكل الحياة والموت ووجود الله وعلم الإنسان
وعلم النفس والغيبيات.
ومن جانب آخر كان يشعر أن ليس من الصواب أن يعرف المرء الكثير، وإن ثمة شيء ما خبيث وآثم بشأن القيام بذلك.
«ينبغي على الإنسان أن لا يدس أنفه في أسرار الخالق» كان يقول.
(وهذا ما حلمتُ به، وهذا ما أحلم به،
وهو الذي الحلم سأحلم به مجدداً،
وكل الأحلام هذه ستكرر نفسها وتتناسخ،
وسيأتي الوقت الذي تحلم بالحلم الذي حلمتُ به يوماً…) أندريه تاركوفسكي
في سيرة حياته (المصباح السحري) كتب إنغمار بيرغمان أن تاركوفسكي هو الأعظم من بين جميع صانعي الأفلام فهو يحلق في
فضاءات الأحلام بشكل طبيعي تماماً، ولديه القدرة على إضفاء مسحة درامية على أحلامه بالشكل الفني الأشد صعوبة ولكن الأكثر مرونة وسلاسة.
«كنت طوال حياتي أقرع باب الأحلام في حين كان هو يتجول في داخلها باعتداد وثقة بالنفس» يقول بيرغمان. مضيفاَ في مقطع آخر قائلاً:«تاركوفسكي، بالنسبة لي، هو الأعظم، فهو من ابتكر لغة جديدة تتوافق مع طبيعة الفيلم وتجسد الحياة كأنعكاس، كحلم».
أوّد أن أحكي لكم عن حلم واحد محدد يُرينا أندريه أنه فنان نبوئي عظيم ومخرج سينمائي رائع قادر على تحقيق أحلامه وتحويلها بنجاح إلى شاشة السينما.
في مساء يوم أحد قائظ اتصل بي ليخبرني بأن لدينا مواجهة مثيرة جداً للاهتمام في اليوم التالي مع المنتجة المنفذة للفيلم لأنه حلم حلماً ويريد تصويره!.
ينبغي لنا أن «نسلح أنفسنا بالصبر لإقناعها لترخي محفظتها قليلاً» قال.
في ذلك الحلم رأى أندريه نفسه ميتاً مُلقى على أريكة ودخل الغرفة عدد من الأشخاص وركعوا أمامه. ثم رأى أمه في المرآة وهي ترتدي ثياباً بيضاء مثل ملاك. رأى أيضاً مشهداً يظهر مباشرة من خلال شخصية فرويد: فتاة عارية تطارد ديك.
كان كل شيء أشبه بفيلم في حركة بطيئة.
ورأى في ذلك الحلم أيضاً إمرأة تجلس عند قدميه ظن أنها شخص يعرفه لكن حين استدار رأى أنه وجه غريب.
نجح أندريه في إقناع إدارة الإنتاج في تصوير مشهد الحلم هذا رغم تعدد المشاكل المتوقعة وغير المتوقعة وتم بالفعل تصوير المشهد! ومن أجل تغطية المال الذي أُنفق على تصويره قام الفريق بأكمله بعمل إضافي ليوم واحد.
ترك أندريه جزءاً صغيراً فقط من ذلك المشهد في النسخة النهائية لفيلم «التضحية» أثناء عمله في مرحلة المونتاج وقد حظي ذلك المشهد باهتمام الجميع لأنه تم تصويره بلقطة واحدة طويلة دون توقف وفي ظروف إضاءة غير مألوفة وفي شكل سوناتا ذي حركات ثلاث.
كان الكاتب المسرحي أوغست سترندبيرغ قد سمى مسرحيته الأخيرة من مجموعته مسرحيات الغرفة بـ «السوناته الأخيرة»، وحين كتب مسرحيته «سوناته الشبح» استخدم شكل سوناتة البيانو رقم ٢ لبيتهوفن المتألفة من ثلاث حركات.
عندما شاهدتُ مشهد الحلم لأول مرة أحسست به كما لو أنه «سوناته الضوء» لتاركوفسكي ومدير تصويره نيكفيست. إنه يبدأ في «إيقاع ضوء النهار» وينتقل إلى «إيقاع ضوء المساء» ثم يعود إلى «إيقاع ضوء الصباح».
تم استخدام هذا المشهد بأكمله في الفيلم الوثائقي (ذكريات تاركوفسكي) الذي أخرجه مساعد المونتير مايكل ليزيزياوفسكي.
إيبو ديمانت المنتج التلفزيوني الألماني مخرج الفيلم الوثائقي عن تاركوفسكي (البحث عن الزمن المفقود) عندما رأى «مشهد الأحلام»، قال:«إنه المشهد الفذ والأكثر قدرية للفيلم برمته حيث تنبأ تاركوفسكي فيه بمصيره القادم».
إن الخاصية التي تميز أفلام تاركوفسكي عن أفلام الآخرين هي قدرته على تحويل أحلامه إلى داخل أفلامه:
«وسيأتي الوقت الذي تحلم بالحلم الذي حلمتُ به يوماً…»
وهكذا فهو يتركنا دائماً نتساءل عن تلك الأحلام.
ما يميزه كمخرج سينمائي عن غيره من المخرجين هو انفتاحه غير العادي والرغبة في مشاطرة الرؤى والتصورات المتمثلين في عالمه الأشد خصوصية. إنه نزيه وصادق نحو فنه ومهمته الفنية.
تاركوفسكي يتناول معضلات الحكماء ببراءة ونقاء طفل، ولم تكن لديه خشية من طرح تلك الأسئلة التي لن تستطع البشرية العثور على أجابة لها مطلقاً، لكن يتعين عليه طرحها!. إنه خال من العداء والحقد في جرأته وانفتاحه. الكثير من المخرجين يستخدمون أفلامهم كوسيلة للاختباء من أنفسهم ولهذا السبب لم يفلحوا في العثور على الدليل الذي يرشدهم إلى قلوب مشاهديهم.
«ينبغي أن نكون أنفسنا، يجب أن يتحلى المرء بالشجاعة ويقول: هذا أنا، إنني هكذا». تلك كانت عقيدته الفنية. وهو كثيراً ما كان يقول: «ينبغي على الفنان أن يكون على شاكلة الخالق نفسه».
الحلقة الثالثة
أندريه تاركوفسكي: الممثلون أشبه بالعشّاق (3)
غالباً ما يتسائل الناس عن الكيفية التي كان يتعامل بها تاركوفسكي مع ممثليه، فعلى الرغم من أنه لم يكن يعمل معهم بالطريقة التقليدية إلا إن ثقته وتفهمه وحساسيته وحبه لهم هو في مستوىً أعلى من تلك المناقشات التقليدية التي تجري عادة حول المائدة المستديرة.
كان أندريه يكرر باستمرار أن الفيلم هو لُغز، وإن النتيجة النهائية، أي الفيلم المُنجَز، ينبغي أن يبقى دائماً لغزاً حتى للمخرج نفسه. «وإلا فإنه سيصبح ببساطة عديم الفائدة »… «الفيلم مثل الحياة، مثل الحب، اللذان هما أعجوبة من العجائب، لغز مفعم بالأسرار. نحن لا يمكننا تفسير سبب وجودنا، أو لماذا نحب. يمكننا أن نفسر في بعض الأحيان لماذا نكره، أما فيما يتعلق بكيفية الحب، فهو أمر نجهله، وببساطة، بدون هذا الحب ستكون الحياة مستحيلة. الحب مبرمج فينا من قوة عليا».
كان أندريه إنساناً وفناناً مختلفاً فهو لم يشعر بالحرج لبحث ومناقشة مفاهيم مثل الحب، البغض، الغيرة، المعجزات والموت. في حين أن مناقشة مفاهيم كهذه في الغرب أمر يُحبَّذ تجنبه إذا كان ذلك ممكناً، فالناس هناك يسعدهم أن يتحدثوا عن الطقس أو ما أنفقوه للتو من أموالهم أو ما يسمعوه من الراديو وهم جالسون في سياراتهم وهم متوجهون إلى العمل أثناء الزحام المروري.
لقد نشأ بين تاركوفسكي والممثلين نوعاً من الصلة والمراوغِة المحّيرة، فقد كان يتحكم بزمام الأمور وطريقة أدائهم بأسلوب خفي. لم تكن اللغات عائقاً بل يمكن القول أن لها في بعض الأحيان فوائد إيجابية. ولحسن الحظ، لم يكن تصوير فيلم «التضحية» برج بابل على الرغم من أنك يمكن أن تسمع في موقع التصوير إلى جانب اللغة السويدية والروسية لغات أخرى كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية وحتى الإيسلندية.
غالباً ما يثق الممثلون بتقنياتهم الفنية التي هي في ظنهم راسخة ولا تشوبها شائبة، لكن هذا الأمر مع تاركوفسكي غير ممكن!. حيث يتعين على الممثلين الاعتماد على حاستهم السادسة، كما وينبغي أن تكون لديهم قدرات استثنائية خارج الحواس. فإما العمل بحماسة كاملة أو على الممثل أن يجد نفسه مع مخرج آخر.
لم يكن يرغب أندريه في مناقشة الكثير من الأمور مع الممثل وذلك بهدف جعله يستمع إلى عقله الباطن، إلى غريزته الداخلية، كي يحس بما ينبغي عليه أن يفعل. ليس مهم بالنسبة له ما إذا كان الممثل يعرف «ما الذي تناوله البطل في وجبة إفطاره». «الممثل ينبغي أن يكون كالاسفنجة تمتص كل شيء» كان يقول.
كانت لدينا في الفيلم مشاهد مسّلية مع الممثلة الانكليزية سوزان فليتوود التي لعبت دور «أديلايد» زوجة ألكساندر. كان دورها صعب للغاية ولم يكن مفاجئاً أنها بدأت تتصيد أجوبة من أندريه. كان يسميها «مفكرّتنا». كانت لديها طريقة تدريب مسرحي إنكليزية «مثالية».
كان يقول لي: «أستطيع رؤية سوزان أنها ستأتي ومعها أسئلتها الفكرية. إنها تريد دائماً أن تعرف!. أخبريها أن تتوقف عن تفسير دورها عبر العقل وعليها ببساطة أن تبدأ بالإحساس».
لقد كان يوضح لها مرات عديدة قائلاً: «أنا من خلق شخصية أديلايد. أنا مؤلفها. أنا رجل خلق شخصية إمرأة، وأنت إمرأة فضلاً عن كونك ممثلة تعرفين أكثر بما تشعر هي به. أنا أؤمن بقدراتك. أنا لست مجنوناً. هل يمكن أن أعهد إليك هذا الدور لو كانت لدي أية شكوك؟ أعلم أنك لن تقومي بهرس الدور».
إن هذا هو أفضل إطراء يمكن أن يحصل عليه ممثل من مخرج كما أظن وهي ثقته به. «أخبري الجميع بأنني أثق بهم مائة وواحد بالمائة لكنني لا زلت أتوقع
منهم المفاجئات». هكذا كان يقول لي.
لا شك أن هذا هو أحد الأسباب التي جعلت من عملية اختيار الممثلين أمراً معقداً ومؤلماً لكل من أندريه ومن حوله. لقد شاهدنا
آلاف الصور الفوتوغرافية لممثلين وممثلات من مختلف البلدان وقابلنا العشرات بشكل شخصي بينما كنا في الواقع بحاجة إلى ثمانية أشخاص من بينهم طفل.
لم تكن ثمة مشكلة بشأن الممثل إيرلاند جوزيفسون الذي أنيط له الدور الرئيسي «ألكساندر» في الفيلم، فقد كتب أندريه الجزء الخاص به، وذات الشيء مع دور ساعي البريد أوتو الذي لعبه الممثل والمخرج ألان إدوال. أما بالنسبة للخادمة جوليا فقد أراد أندريه أن يعطي الدور إلى الممثلة السويدية الشابة الرائعة بيرنيلا أوسترجين، لكن ذلك لم يتحقق للأسف الشديد لأنها كانت تنتظر
مولوداً حينها، لذا فقد تم اختيار الممثلة الإيسلاندية غورون جيسلادوتير لدور ماريا على الفور بعد مشاهدة صورها وهي ممثلة تظهر لأول مرة على الشاشة.
أما الإبنة مارثا (إبنة الكساندر من زوجته السابقة) فقد اكتشفناها في قاعة السينما في العرض الأول لفيلم «آكي وعالمه» للمخرج ألان إدوال.
الأدوار الأكثر صعوبة في الاختيار هي دور الدكتور فيكتور ودور أديلايد. لقد أراد أندريه أن يلعب الممثل السويدي ستيلان سكاسجارد من مسرح ستوكهولم الملكي دور الدكتور فيكتور لكن ذلك لم يتحقق للأسف الشديد لأنه كان مرتبط بعمل آخر.
أخيراً قرر أندريه اختيار الممثل سفين فولتر لهذا الدور والممثلة سوزان فليتوود لدور أديلايد والممثلة الفرنسية فاليري ميريسي
للعب دور الممرضة (المربية) جوليا. أما الممثل تومي كيلجفيست الذي لعب دور الطفل غوسين أو (الرجل الصغير)، فيمكن تأليف كتاب كامل بشأن البحث عنه.
«ينبغي أن يكون ثمة سر بيني وبينكم» كان يقول تاركوفسكي لممثليه. «إن الفكرة القائلة بأنكم يجب أن تعرفوا كل شيء هي فكرة غير صائبة. عليكم أن تكونوا في دائماً حالة من عدم اليقين والترقب. كل شيء يجب أن يكون مفاجئاً وغير متوقع. عليكم أن تكونوا أشبه بالعّشاق».
لقد اعتاد القول أنه على الضد من الممثلين الذين يقرأون سيناريو الفيلم الذي يمثلون فيه. «كيف يمكنك أن تمثل بإخلاص إذا كنت تعرف مسبقاً أنك ستموت في
المشهد الأخير؟ هذا يعني أن كل شيء يجري بينك وبين الآخر سيصبح مجرد كَذِبْ».
كان تاركوفسكي لا يحب المؤتمرات الصحفية والمقابلات وغالباً ما يقول أنها ممّلة، وقد كان ذلك، كما أظن، يُغيض الصحفيين والنقاد نوعاً ما. لم يكن في الواقع يثق بهم. كان يقول أن من الأفضل له أن يتخيل مُشاهدي أفلامه ومن ثم الترحال بحثاً عن موقع
تصوير لفيلمه القادم. وحين تبدأ مرحلة التصوير الفعلية كان يتمنى لو إنه كان بستانياً يزرع الزهور في مكان ما مع غيره من الفلاحين التوسكانيين.
اعتاد تاركوفسكي على مقارنة نفسه بالخيّاط. المخرج السينمائي أشبه بالخياط. إنه أمر في غاية الأهمية أن تبتكر رداءاً جديداً، التفكير بتصميم جديد، رسمه، اختيار اللون والقماش، قصّه، أن تستحضر قبعة، قفازات، أحذية، دبابيس مزخرفة، زهور… وتأتي من ثم خياطة الأزرار والحاشية ووضع النشا والكي هذا هو الكدح المحض.
وكان أندريه يحب أن يشبّه التصوير الفعلي بخياطة الأزرار، على الرغم من حقيقة أنه لم يمر يوم دون أن يأتينا بشيء جديد.
في طفولته كان يتوق بشدة أن يصبح «باخ» آخر جديد، وحين أدرك في وقت لاحق خيبة أمل كبيرة في أن يصبح قائد أوركسترا قرر حينها أن يكون مخرجاً سينمائياً. لكن عندما تحل فترة التصوير كان يفضل أن يكون بستانّياً. وهذا ما كان يدفعني إلى الضحك، مؤكدة له أنه حتى لو كان بستانيٌّ فإنه سيعود ثانية لعمل فيلم بعد ستة شهور. «بل فوراً» قالها والابتسامة مرتسمة على شفتيه.
ببساطة، كان أندريه إنساناً مغرماً بالسينما. كانت السينما هي شغفه، مرضه غير القابل للشفاء. لم يكن الإخراج السينمائي وعمل
أفلام هو مجرد مهنة أو عمل ما، إنما هو بالنسبة له بمثابة حياته ذاتها.
اللقاء الأخير… الوداع الأخير
لقائي الأخير بأندريه كان في باريس حيث ذهبنا لزيارته أنا ومدير التصوير نيكفيست والمنتجة التنفيذية آنا لينا ويبوم في يناير عام ١٩٨٦، حين كان بالكاد يستطيع النهوض من سريره.
جلبنا معنا نسخة منقحة من فيلم «التضحية» لنريه إياه. لقد نهض على الفور مبتهجاً بمجرد بدء تشغيل شريط الفيديو وظهور الصور على الشاشة وأصبح المريض طريح الفراش «تاركوفسكي» الذي ألفناه «غير القابل للتغيير»، الذي لم يُضِعْ الوقت في إعطائنا الكثير من الارشادات الجديدة والمهمات والتوجيهات. نعم، كان هو نفسه، أندريه القديم، الذي عرفناه مرة أخرى وكان سعيداً مثل طفل.
قام المخرج الوثائقي كريس ماركر حينها بتصوير ذلك اللقاء وكان لديّ فضول لمعرفة ما إذا كان قد التقط التحولات الفريدة التي حدثت حين يحوّل حب وتفاني المرء لإبداعه من شخص مريض إلى خالق ملهم مفعم بالتفاؤل الروحي والإلهام والإيمان.
كان أندريه يشد منديلاً ملونه حول رأسه قائلاً: «إنني أبدو مثل قرصان في هذا». وقد بدا حقاً أشبه بقرصان يبحث عن جزيرة كنزه. كان الفيلم بالنسبة له هو جزيرة الكنز تلك.
لقد نادى على ولده أندريوشا وأجلسه إلى جانبه على السرير وأمسك بيده طيلة المدة التي كان يشاهد فيها الفيلم. كان أندريوشا
يشاهد الفلم لأول مرة، وقد بدا الأمر غريباً ومؤلماً جداً ونحن نشاهدهما هناك وهما جالسان غرباء في أرض أجنبية. لقد جلس
أندريوشا الذي لم يفهم كلمة واحدة من الفيلم مذهولاً مثل طير وهو يتابع كل حركة على الشاشة بتركيز صامت.
من الواضح أنهما كانا متوترين، وكذلك نحن. كان المشهد مؤثراً جداً، الأب مبدع الفيلم وهو يسّلم شهادته الفنية إلى إبنه الذي أهدى له الفيلم.
أستطيع تخّيل المشهد بالطريقة التي جلس فيها سقراط محاطاً بتلامذته يملؤهم الحزن والألم بينما واصل هو نفسه دون انقطاع فلسفته عن الفضيلة ونداء الواجب، عن المفاهيم الأخلاقية الأكثر نبلاً، عن المعرفة المطلقة والإيمان، وهو يلمّح بشكل عابر معلقاً على تأثير السم على جسده… لا شك أن أندريه سوف يضحك على هذه المقارنة التي أجريتها بينه وبين سقراط.
المرة الأخيرة التي رأيت فيها أندريه كانت في السابع عشر من مارس ١٩٨٦ وبدا بصحة جيدة تمكنه للقيام بنزهة قصيرة. لقد جاء للعرض الذي نظمه المنتج الفرنسي أناتول دومان.
بدا راضياً، وصرنا نتهكم ونضحك جميعاً وتذّكر أندريه ما حدث في جوتلاند قائلاً
أنها كانت أكثر الأوقات سعادة وأقلها قلقاً رغم كل المشاكل والصعوبات التي كان علينا تحملها.
كان يتوق للغاية أن يُري ولده الوحيد أندريوشا «جزيرة السحر»، وقال بفخر «أنظروا أي إبن لدّي. لقد جاء لرؤية السويد، وخاصة جوتلاند، وكذلك لزيارة إيسلنغر، قلعة هاملت».
إن كل أمة لها هراؤها وأوهامها التي يمكن تصديقها أو تجاهلها. يُقال في روسيا إن الوداع عند عتبة الباب يجلب الحظ السيء.
حين قلنا وداعاً أحدنا للآخر عند عتبة الباب خرجنا سوية ونحن نقول ذات المقولة في وقت واحد منفجرين بالضحك:
«نحن أشبه بالعجائز الشمطاوات… سنلتقي مجدداً… فإلى ذلك الحين… نحن لا نؤمن بالخرافات» قال.
«بالطبع سنلتقي ثانية» أجبت، على الرغم من شعوري بالحزن الشديد. ولم يكن مقدّراً لنا أن نلتقي ثانية أو إلى ذلك الحين على حد قوله…
المرة الأخيرة الذي تحدثت فيها معه كانت قبل أسبوع من وفاته. اتصل بي أحد أصدقاؤه وترك لي رسالة صوتية على الهاتف يذكر لي فيها رقم العيادة التي كان يقيم فيها أندريه.
كان ذلك في الصباح الباكر، ولحسن الحظ كانت الممرضة تستعد للذهاب إلى غرفته لتعد ترتيبها لإدخاله فيها. كانت المحادثة تلك
واحدة من أكثر المحادثات التي مررت بها في حياتي عبثية ومأساوية وحزناً، لكنها واحدة من أكثر المحادثات حميمية. كان
صوته بالكاد يمكن تمييزه، لكن طريقته في الكلام هي ذاتها. قال أنه يجد صعوبة بالغة في التركيز. كان قد فقد صلته وإحساسه بأفكاره، لقد بدا كل شيء كما في الحلم. وددت أن أقول له شيئاً مهّماً لكن الكلمات بدت بلا دلالة وغير ضرورية.
«هل تتذكر كيف وجدنا تلك البقعة المليئة بثمار التوت البري في جوتلاند..؟ ربما هي ذات البقعة التي عثر عليها بيرغمان…
سألته… أما زلت لديك الشجاعة…؟».
يمكنني أن أحس به وهو يبتسم لتلك الأيام الهانئة في الصيف الماضي «تعالي لزيارتي…» «أراكِ قريباً» «فإلى ذلك الحين» كانت هذه هي عباراته الأخيرة.
عندما أفكر بالمعنى الحرفي لكلمة «حماسة» والتي تعني في اللغة اليونانية القديمة (الصفة التي يتمتع بها الله، أو المستوحاة من الله) أرى أندريه أمامي. حين كان يبدع فيلماً تراه مُلهَماً من قبل الرب ومفعماً بشغف للرّب. هذه الهبة المقدسة قد ضحى بها لجمهوره. لقد كنت محظوظة حقاً أن أقف إلى جانب هذا الفنان المتبّصر، المَهيب، الغامض والعظيم أندريه تاركوفسكي.