كيف تقرأ كتابًا؟ وصفة ألبرتو مانغويل لكل قارئ شـغوف!/ أحمد مصطفى الغـر
قد يكون سؤالًا سهلًا أو مستفزًا أو ربما ساذجًا، لكن إذا حاولت الإجابة عنه، فلن تتمكن من إيجاد إجابة محددة من الوهلة الأولى، لنذهب إذن إلى الشخص الأجدر على إجابة سؤال كهذا، إنه الكاتب -أو بالأحرى القارئ الشهير- ألبرتو مانغويل، إنسان شغوف بالقراءة، مسحور بالكتب، ومولع بالمكتبات، أمضى نصف قرن من عمره في جمعها، إلى أن صار واحدًا من أصحاب أكبر المكتبات الشخصية في العالم، في مقدمة كتابه (مكتبة في الليل) يقول: “في فترة شبابي الطائش، بينما كان أصدقائي يحلمون بالهندسة والحقوق، كنت أحلم بأن أصبح موظفًا في مكتبة، لكن بسبب التراخي وشغفي بالسفر حدثت أمور أخرى، غير أنني الآن.. وقد بلغت سنتي السادسة والخمسين، عدتُ إلى ذلك الحلم القديم، أحيا بين رفوف كتب تزداد باطراد، وشرعت حدودها تتماهى مع البيت ذاته”.
في العام 1964، بمدينة بوينس آيرس الأرجنتينية، دنا كاتبٌ أعمى من موظف مكتبة عمره ستة عشر عامًا ليسأله عن إمكانه العمل بدوام جزئي كقارئ بصوتٍ مرتفع له، كان الكاتب الأعمى هو خورخي لويس بورخيس، أحد أبرز كتّاب القرن العشرين وأكثر العقول الأدبية رهافة في عصره، أما الفتى فقد كان ألبرتو مانغويل، الذي أصبح لاحقًا مؤلفًا مشهورًا ومترجمًا ومحبّا للكتب ومولعًا بالقراءة، لدرجة أن شهرته كقارئ تفوق شهرته كمؤلف أو مترجم! فقد ألّفَ ثلاثة كتب عن القراءة نفسها، وهى “تاريخ القراءة” و”يوميات القراءة” و”المكتبة في الليل”، وقد حظيت جميعها بالترجمة إلى عدة لغات من بينها العربية. يمارس “مانغويل” الكتابة في الصباح، بينما يستمتع بالقراءة ليلًا في الصمت الكثيف.
يقول: “في الليل أستطيع القراءة برخاوة تصل إلى حدّ اللامبالاة”، في سنّ السابعة كانت غرفته تحتوي على مكتبة صغيرة تحتوي مئة كتاب تختلف في أجناسها وموضوعاتها، قبل أن يتحول منزله بأكلمه الآن إلى مكتبة أو بالأحرى إلى متحف للكتب؛ حيث يحتوي على أكثر من 30 ألف كتاب جمعها على مدى عقود، ولا يعتمد نظامًا محددًا لفهرستها، وعلى الرغم من سفره الكثير وتجواله بين دول العالم جامعًا للكتب المختلفة من مكتباتها، فإنه لم يتقن الإسبانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها من اللغات إلا من الكتب.
ببحث متعمق في بعض مؤلفات مانغويل، يمكننا الخروج بوصفة سريعة لكل قارئ نَهِم، وشغوف، يعشق الكتب، وهذه بعض الاستنتاجات السريعة التي تعلمتها من مبدع فن القراءة ألبرتو مانغويل:
ــ القراءة متعة، فلا تفقد هذا الإحساس الفريد، فكما يقول مانغويل: “متعة إمساك كتاب بيدي تشعرني فجأة بذاك الإحساس الغريب من الدهشة، الإدراك، البرودة أو الدفء”، أو كما قال في أحد حواراته الصحفية: “المهمّة الأساسية للقارىء هي أن يجد المتعة، القراءة شأنها شأن أي شيء آخر، إن لم نجد فيها بهجةً فإنها جهدٌ لا يستحقّ التعب؛ إذ من دون المتعة وإطلاق العنان لنفسك للإبحار في صفحة الكتاب، لا معنى للقراءة”.
ــ لا تشعر بالذنب، إذا اقتنيت كتابًا ولم تقرأه، فـ مانغويل لا يدّعي أنه قرأ الثلاثين ألف كتاب التي يقتنيها، بل يقرّ بأنه لا يشعر بالذنب أو تأنيب الضمير من وراء ذلك، وينصح كل قارئ بألا يشعر -هو الآخر- بالذنب إذا اقتنى كتابًا، ولم يتمكن من مطالعته، “ليس لدي أي شعور بالذنب بشأن الكتب التي لم أقرأها، وربما لن أقرأها أبدًا، فأنا أعرف أن كتبي لديها صبر لا حدود له، سوف تنتظرني حتى نهاية العمر، وهي لا تطلب مني أن أتظاهر بأني أعرفها كلها”.
ــ لا تهجر كتبك المقروءة، بل عليك إعادة قراءتها لاحقًا، فكتاب “يوميات القراءة” لمانغويل كان كدفتر يُسجّل فيه تأملاته خلال عام من إعادة القراءة، حيث قرّر خلال ذاك العام إعادة قراءة كتبه القديمة، لتتحقق له يقظة ما، كان يعيد قراءة كتاب كلّ شهر، بعدما صُدِمَ أثناء قراءته رواية (تجاذبات انتقائية) لـ “غوته” بمدى قدرة هذا الكتاب على عكس الشواش الاجتماعي للعالم الذي كان يعيش فيه، وهذا يذكرنا بمقولة العقاد: “قراءة كتاب واحد ثلاث مرات أنفع من قراءة ثلاثة كتب لمرة واحدة”، وكما يقول مانغويل: “العودة إلى كتاب قديم تشبه الحديث إلى صديقٍ قديم، أنتَ لا تحتاج إلى مقدّمات لكي تتعرَّف إليه مرّة ثانية”.
ــ “اقرأ ما شئت”، هذه هي العبارة التي تحملها مكتبة مانغويل، فالقراءة فعل حرية، وعلينا أن نقرأ ما نريد، لا يجب وضع حدود لنوعية الكتب المقروءة، مانغويل استطاع أن يقرأ من أفلاطون إلى دوستويفسكي ثم أغاثا كريستي، من القرن السادس عشر إلى الحادي والعشرين، روايات وفنون بصرية وأساطير ودواوين شعر وكل شيء.
ــ كن قنوعًا في كل شيء إلا القراءة، حيث يعتبر مانغويل أن القناعة في القراءة تعني نقصًا معينًا في الفضول.
ــ لا تقرأ ملخصات الكتب.. كي لا تفسد متعة أحداثها.
ــ اهتم بشكل مكتبك، مانغويل يوصي بترتيب الكتب، حيث يكون أهمها في مكان يسهل الوصول إليه، فللكتب أقدارها، كما أن الاهتمام بالشكل العام للمكتبة ينشط عادة القراءة، لكن أكثر ما يغضب مانغويل هو “لاصقة السعر” التي توضع على الكتب، إذ يصفها بالدملة الشيطانية التي لا تستأصل بسهولة وتكون مُجمعًا للغبار.
ــ أنت من تعطي الأهمية للكتاب، مانغويل يرى أن القراءة طقس انبعاث، لأن كل قارئ يضمن للكتاب قدرًا من الخلود والبقاء.
ــ الكتاب الورقي لن يموت ومتعة القراءة تكمن في تقليب الصفحات، يرى مانغويل أن مولد تقنية جديدة لا يعني موت سابقتها؛ تماما كبقاء الرسم بعد اختراع التصوير، وعليه فإن الكتاب الإلكتروني لن يقضي على سابقه الورقي، فهو يؤمن بأن “تصفح الكتاب والتجول بين الرفوف جزء حميمي من فن القراءة”.
ــ الكتب المستعارة.. ضيف عابر لا يطيل الإقامة، فحاول أن تقتني الكتب قدر الإمكان، لذا فإن مانغويل لا يحفل كثيرًا بالكتب المستعارة، لأنه لا يستطيع التعليق عليها، ولا يتعامل معها بحرية تجعله شريكًا للمؤلف؛ تلك الشراكة التي جعلته يعتقد (تماما مثل الروائى البرازيلي چواكيم ماريا ماشادو): “أن الكتاب يجب أن يحمل اسم المؤلف واسم القارئ معا لأنهما يتقاسمان أبوته”.
ــ إذا كنت لا تقرأ.. فلا تبخل بمساعدة من يقرأ.
ــ يجب أن تكون القراءة فعل بقاء أو مقاومة، وسيلة لإضاءة المصباح كي ينير لك الطريق، ربما لهذا نجد الدكتاتوريين عبر التاريخ قد عمدوا إلى التخلّص من الكتب، حيث حرق النازيون كتبًا معينة إبان الحرب العالمية الثانية، وفي أميركا قديمًا كانت الكتب محرّمة على العبيد، هذا ببساطة لأن القراءة يُمكنها أن تُحقّق صحوة للمضطهدين وإستفاقة لهم.
ــ لا تبتعدوا كثيرًا عن كتبكم، صافحوا أوراقها باستمرار، فالابتعاد كما يرى مانغويل “عذاب فوق الطاقة”..
ــ احذر من الأميّة الحقيقية، يرى مانغويل أن “الأمّيّة ما زالت موجودة في العالم أجمع بنسب مختلفة، لكن حين تقول أمّيّة، عليك أن تحدِّد ماذا تعنيه، قد يكون الأمّيّ من لا يعرف كيف يكتب اسمه، ولكن في السويد -على سبيل المثال- الأمّيّ هو من لا يستطيع قراءة نصّ أدبي وفهمه”، وهذه هي الأمّيِّة الحقيقية.
ــ لماذا لا ننسج مما نقرأه كتابات جديدة؟! (دون كيشوت، والإلياذة، والأوديسا، وأليس في بلاد العجائب، وغيرها..) إبداعات لا يملّ مانغويل استعادتها، والاقتباس منها، بل إنه يجعل من فقراتها مقدمات وعتبات لكتاباته ومقالاته، إنه يبثّ فيها حياة، ويبعث فيها الروح، ويفاجئ القارئ برؤى مختلفة وجديدة حولها، يربطها بالعصر، وينسجها مجددًا مع هموم الحاضر، ففي مقولة لهوميروس يجد مانغويل إسقاطًا على كذبات بوش الابن وغزوه للعراق، أو يستحضر مشهدًا لثرفانتس ليُعرّي حقبة دكتاتورية آنية وهكذا، يؤمن مانغويل بأن الكتب سلاح الضعفاء، “الكتب تمنحنا آلاف الإمكانات: إمكانية التغيير، إمكانية التنور”.
ــ أخبروا غيركم بتلك النصائح، فربما تكون سببًا في انضمام عضو جديد إلى قافلة القراء الشغوفين، تمامًا مثلما نقل مانغويل قصّة الأمير الفارسي الذي كان يصطحب مكتبته المؤلّفة من 117000 كتاب على ظهر قافلة من الجمال مصنّفة بحسب الأحرف الأبجدية، ولا ينسى أيضًا حكاية أكبر سارق للكتب في العالم، الدوق ليبري، وانبرى في وضع تبريرات عديدة لهذا اللص الظريف، معتبرًا أن أسوأ الاحتمالات، وقد تمنّى مانغويل ألا تكون هي السبب، أن تكون السرقة بهدف بيعها وجني المال.
هذه وصفة سريعة لمحبّي القراءة، أولئك المهووسين بملاحقة الحروف السوداء المطبوعة على الصفحات البيضاء، الذين يفتنهم خرير تقليبها وتسحرهم رائحة الورق الزكية، قطفنا تلك الوصفة من واقع مؤلفات قارئ محترف، وربما لو تحدث هو لأضاف وأثرى، ومن المفارقات أن كتاب سامي شمعون الذي ترجم كتاب “تاريخ القراءة” -في نسخته العربية (الطبعة الثالثة) التي صدرت عن دار الساقي عام 2011- أهدى تلك الترجمة المتقنة لزوجته المتوفاة واصفًا إياها بـ “القارئة العظيمة”، ربما لأن قارئ الكتب لا يقل في عظمته وموهبته عن عظمة وموهبة مؤلفي الكتب أنفسهم.
جيرون