الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحوّل الديمقراطي/ حسام أبو حامد – ستة أجزاء –
(1)
في منتصف سبعينيات القرن العشرين، انطلقت من جنوب أوروبا الموجة الثالثة من موجات الانتقال الديمقراطي في العالم، لتتمدد خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، في بلدان أميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا، وشرق أوروبا ووسطها، بينما بقيت آفاق التحولات الديمقراطية غير مؤكّدة إلى حد كبير في العالم العربي، الذي نُظر إليه بأنه يمثل استثناءً على هذا الصعيد. لكن انطلاق الموجة الأولى من الربيع العربي، في أواخر العام 2010، أطاح هذه الاستثنائية المزعومة، وبدا أن العالم العربي على موعد مع التغيير الذي طال انتظاره، وأن عقودا من استبداد عربي معاصر قد ولت وإلى الأبد، لتتحرر الشعوب العربية من تلك “الصفقة الفاوستية” التي كُرّست، في غياب العقد الاجتماعي أساساً للدولة الحديثة، صيغةً أساسيةً للعلاقة بين الشعوب العربية وحكامها، يحصل بموجبها المواطن على الأمن والخدمات لقاء ولائه للنظام السياسي. لم تعد الشعوب تقبل أن تحتكر تلك الأنظمة إدارة شؤونها، والفشل فيها في الوقت نفسه.
موجة أولى
منذ تسعينيات القرن العشرين، انتقلت دول عربية كانت محسوبة على المعسكر الاشتراكي، من اقتصادٍ موجّه نحو القطاع العام، إلى اقتصاد السوق. ومع ترسيخ عمليات الخصخصة، لم يستطع القطاع الخاص توفير ما يكفي من فرص عملٍ وفّرها سابقا القطاع العام، على الرغم من عثراته اقتصاديا تنمويا، لترتفع البطالة بين صفوف الشباب إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، نمت معها عدم المساواة الاقتصادية.
وتطلعت الفئات الاجتماعية، المهمّشة والمقموعة المستبعدة من فوائد التنمية الاقتصادية، إلى الحصول على مزيد من الحرية والمشاركة السياسية، في ظل انفتاح على العالم الخارجي بفضل التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وقد تراكمت عوامل اقتصادية وسياسية، وغيرها من عوامل أساسية تفاعلت سنوات لتدفع في اتجاه حيّز ديمقراطي في المنطقة، وأدت الدوافع المباشرة في بعض الدول العربية إلى خروج المعارضة من قيودها الحزبية، الضيقة والمعطّلة غالبا، ممتدةً إلى فئاتٍ كانت قد أقصيت من المجال العام، على شكل انتفاضات جماهيرية.
اكتسحت موجة أولى من الانتفاضات المنطقة العربية، وتساقط المستبدون كأحجار الدومينو، وانتعشت آمال الملايين ظنّا بأن حريات سياسية وحياة كريمة باتت قاب قوسين أو أدنى، وأن العالم العربي يسير في ذات الطريق التي سارت فيه دول أوروبا الشرقية، بعد سقوط جدار برلين، وأنه ستكون له حظوظ مشابهة لحظوظ دول أميركا اللاتينية التي تخلصت، بعد عقودٍ، من حكم الديكتاتوريات العسكرية.
كانت الظروف مختلفة؛ حصلت تلك الدول على مستوى مناسب من دعم الأسرة الدولية، لتصبح دول في أوروبا الشرقية أعضاء في النادي الديمقراطي الغربي ومؤسساته، العسكرية والمدنية (الناتو، الاتحاد الأوروبي)، وتوفرت لدول أميركا اللاتينية حُزم مساعدات سخية من واشنطن، ومن جهات دولية مانحة، واستوعبها نموذج إقليمي إيجابي، هو منظمة الدول الأميركية. هذا الاحتواء وفر دفعا إلى الأمام لتحولاتها الديمقراطية، وهو ما لم يتوفر لدول العالم العربي.
باستثناء تونس، التي استكملت مسيرتها الديمقراطية، كانت نتائج تلك الانتفاضات في عمومها كارثية؛ قمعت الأجهزة الأمنية والعسكرية المظاهرات السلمية، وأطلقت نيرانها على المتظاهرين، تسلحت انتفاضات، واخترقتها السلفيات الجهادية، ودخلت البلاد في حروب أهلية تدار بالوكالة الإقليمية والدولية (سورية، ليبيا، اليمن). وتلاشى النجاح الجزئي (مصر)، بعد الانقلابات العسكرية، والثورات المضادة الممولة من بعض دول خليجية. وطوّرت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة آليات معزّزة للقمع، وأحلّت الإكراه الوحشي محل الحوار، وبدا أنها نجحت في ترويع شعوبها.
أصبح قمع الناشطين أكثر قسوة، وفضلت دول كالأردن والمغرب إجراء إصلاحات سياسية لتحقيق الاستقرار وامتصاص المد الجماهيري الغاضب، وحالت القبضة الأمنية والريعية النفطية والنسب العالية من السكان غير المواطنين دون انتفاضات مشابهة في دول خليجية. واستجرّت الانتفاضات تدخلا إقليميا ودوليا في الشؤون الداخلية، استُثمر لتحقيق أجنداتٍ خارجية، أو لتثبيت الأنظمة التي زعزعتها الانتفاضات. والدول التي خضعت للاستقطاب الناجم عن الصراع كانت أكثر تعثّرا، وتم استبدال الصراع على السلطة بمطلب التغيير الديمقراطي.
بعد عقود من غياب سيادة القانون، والافتقار إلى المعارضة السياسية الديمقراطية المنظمة، لم تتوفر المؤسسات الديمقراطية العاملة الفاعلة. أسقطت الانتفاضات العربية أربعة أنظمة ديكتاتورية في سنة واحدة، ولم يكن كافيا التخلص من رأس النظام فقط، بدون إرساء تلك المؤسسات. تبين أنه لا يمكن التركيز على مهمة التخلص من المستبد بإصرار كبير، مع تفكير محدود، وتخطيطٍ ضعيف، بشأن سؤال: ماذا بعد؟ وحول امتلاك قوى التغيير، المسيطرة حديثا على السلطة السياسية، استراتيجية اجتماعية اقتصادية شاملة وقدرتها على وضع حدّ لاستحواذ النخبة على القطاع العام، وتفكيك تحكّم الدولة العميقة في مفاصل الاقتصاد الوطني. ومع الفشل هنا وهناك. انسحبت الجموع الغفيرة من الشوارع والساحات ولكن أوجاعها بسبب غياب الفرص الاجتماعية والسياسية ظلت تقض مضاجعها.
النهر ضد المستنقع
في محاولة استشرافية تعتبر مبكرة، يذهب الأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب (“في مديح الثورة: النهر ضد المستنقع”، بيروت: دار الساقي 2012) إلى أن “الحرية هي الآلية الوحيدة التي تمنع تحول المجتمعات المستقرة إلى مستنقعات”، فالمجتمعات العربية، بسبب وطأة الاستبداد، تحولت إلى مستنقعات، حين شلّ هذا الاستبداد تلك المجتمعات وامتص ثرواتها، واستنزف كل طاقتها، فمنعت “سيطرة حكم الفرد الواحد، والحزب الواحد، والعائلة الواحدة، بروز أية منافذ حقيقية للإصلاح التدريجي أو البطيء إلا في حالات قليلة… كان يتم تنفيس الاحتقانات… في المقابل، دافع الاستبداد عن وضع المستنقع كما هو، مبقيا على آليات تراكم التعفن وتأكل ما تبقى من الجسم الحي في المجتمع، وتؤبد الاحباط وتبذر بذور الغضب القادم والثورة الشاملة، وتستدعي تدفق النهر وفيضانه الكبير حلا أخيرا ولا بديل عنه”.
هكذا نقف مع الحروب على مفترق طرق عسير: إما التمسك بالمستنقع، وإما الانحياز للنهر المتدفق الذي سيجرف المستنقع ويقضي على العفن. إنه خيار صعب تنبع صعوبته من أن النهر/ الثورة ستنطلق بعد عقود بكل طاقتها المكبوتة وقد لا نعرف بأي اتجاه سوف نسير معها بعد جرفه المستنقع. برأي الحروب: هنا تكمن “المقامرة الكبرى”.
لكن بقدر ما تكون الثورة “مقامرة” فإنها أيضا قدر محتوم، فاندفاع النهر ما هو إلا مسألة وقت “تحوم حول سؤال متى سيندفع النهر؟ وليس في ما إن كان سيندفع أم لا؟”. لا مناص من المقامرة. وإلا “سنظل نغوص في مستنقعاتنا للأبد”. والانحياز للنهر/ الثورة إذاً هو أيضا “وبوعي كامل، انحياز مُقامر”، فلن تظهر الواحات الخضراء مكان المستنقع مباشرة، فقد دام تفوق شريحة معينة واستبدادها بغيرها من الشرائح عقودا، وتحتاج شعوبنا إلى زمن يمضي “كي تتقن ممارسة الحرية من دون اعتداء على الآخرين ومن دون الانزلاق إلى مهاوي استبداد جديد”.
يتعامل الحروب مع لحظة سقوط الأنظمة بعد ضغط الحشود في الشوارع بأنها لحظة غير مستدامة، لكونها مغرقة في المثالية، استطاعت توحيد الشعب على هدف اسقاط النظام الفاسد، لكن هذا الإسقاط هدف مرحلي سيتلاشى بعده التلاحم و”تعود التنافسات الطبيعية بين المجموعات المختلفة للظهور وطبع المشهد بصراعاتها. بل أكثر من ذلك، تأخذ هذه التنافسات والصراع بين المجموعات والأحزاب المختلفة أشكالا أكثر حدة لأنها تتم الآن في مناخ الحرية وليس القمع، وهذا كله شيء طبيعي. لكنه بالنسبة للغالبية الكاسحة من الرأي العام تحول مُحبط، مُربك، ومثير للخوف على الحاضر والمستقبل، ويدفع جزءاً من ذلك الرأي العام إلى الترحم على أيام المُستبد حيث كانت الحياة “مستقرة”! “مستقرة” نعم، لكنه كان استقرار الاستبداد وليس استقرار الحرية. إنه “استقرار القبور” باستعارة توصيف صادق جلال العظم لحال الأمن والاستقرار التي تفاخرت بها أنظمة الاستبداد العربي طويلا”.
موجة ثانية
لم تحقق الموجة الأولى من الربيع العربي الإصلاحات العاجلة المطلوبة، وربما أصبحت حياة الكثيرين بعدها أكثر صعوبة، مع استمرار البطالة، وتدني الأجور، وأنظمة التعليم التقليدي، وعدم تكافؤ الفرص، وفقدان الحريات.. لكن تلك الموجة، حسب ظني، أحيت على المدى الطويل الطاقات السياسية في العالم العربي، وأبقت على الحراك الاجتماعي، لتبرهن الموجة الثانية أن الطلب على الحرية والعدالة ما زال مرتفعا بين شعوب المنطقة.
إن إخفاقات الموجة الأولى منحت المستبدين وهما بأن الشعوب ستفضّل الاستقرار على الحرّية، ولم تستوعب أنظمة الاستبداد الدرس جيدا، واستمرت بالاحتماء بسلطويتها، ولم تُحسن استغلال فُرص التهدئة التي منحها إياها الشارع لإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة، فكان عليها مجدّدا مواجهة شارع منتفض، لم تعد تُجدي معه نفعا محاولات تشويهه سياسيا وأخلاقيا، ولا تخويفه بنظريات المؤامرة، أو ترهيبه بالفوضى والفراغ، ويقاوم الشارع العربي اليوم محاولات إعادة تدوير السلطة لإعادة إنتاج النظام القديم.
على العكس، استوعبت الشعوب دروس الموجة الأولى، وتجاوزت بعض أخطائها، فبدا الشارع العربي اليوم أكثر خبرة، وأكثر تمسّكا بسلمية الحراك الجماهيري، برغم القمع العنيف، وبدا المتظاهرون أكثر ثقة بالنفس، وتأكّد انعدام ثقتهم ليس بالنظام السياسي ورموزه وحسب، بل أيضا بالأحزاب السياسية حتى المُعارِضة منها. وإلى جانب الحكومات، يضع المحتجون قوى المعارضة في سلة العجز عن الوفاء بوعود الإصلاح، ويفضّلون المغامرة انطلاقا من “صفر سياسي”.
ورغم تنوع انتماءات المشاركين في انتفاضات الموجة الثانية ساد شعور عام بالوحدة، وغابت الأيديولوجيا التي سبب حضورها توترا حاسما أسهم في إفشال الموجة الأولى. لم تسقط الأنظمة بالسرعة المطلوبة، لعدم توافر دعم خارجي مباشر، لكن ذلك انعكس إيجابا، موفرا على المتظاهرين مكابدة عناء الولاءات المتضاربة، والارتهان إلى الخارج، مانحا إياهم فرصة الاعتماد على الذات، واكتساب الخبرة عبر المراحل الانتقالية.
استطاع التونسيون سد الفراغ المؤسساتي، بعد إطاحة زين العابدين بن علي، بأن سارعوا إلى المأسسة وتدعيم روافعها الديمقراطية، فأثبتت مؤسساتهم الفتية جدارتها في العملية الانتقالية، وكذلك في تأمين تداول سلمي للسلطة بعد رحيل الرئيس الباجي السبسي. لكن في غيرها، أدّت حالة الفراغ، وعجز المعارضة عن تطوير مؤسسات تشريعية وحزبية ديمقراطية، إلى جانب عوامل أخرى، إلى انهيار الدولة وتغوّل السلطة، والدخول في دوامة الحروب الأهلية، أو إلى نجاح الدولة العميقة في ثورتها المضادة.
تواجه الموجة الثانية لا سيما في الجزائر والسودان مخاطر جدّية على طريق ضمان بناء دولة بمؤسساتٍ فاعلة، ذات كفاءة في إدارة الشؤون الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، في ظل تصدّع الأحزاب السياسية، وحالة عدم الاستقرار السياسي. ولا تبدو مخاطر انعدام الفراغ المؤسساتي أقل حدة في حالتي لبنان والعراق، المتمتعين بنظامين ديمقراطيين، لكنهما قائمان على المحاصصة الطائفية التي كانت سببا رئيسيا لفساد المؤسسات وفشلها، وعجز الحكومات، وعرقلة تشكيلها. مع ذلك، حطمت الاحتجاجات، ورد الفعل العنيف من السلطة لا سيما في العراق، أسطورة الطائفية التي ترعاها الدولة، بوصفها مبدأ تنظيميا للسلطة السياسية. لكن مهمة المتظاهرين هنا أصعب مع طائفيةٍ تشكل جزءاً من الهياكل السياسية الأساسية. ومع عفوية المظاهرات وزخمها، حجب تركيز المتظاهرين على المطالب الاجتماعية والاقتصادية بلورة بديل سياسي واضح المعالم، ما يهدّد مستقبل هذه التظاهرات وإنجازاتها، سيما وأن وكلاء الطوائف في كلا البلدين ما زالوا يدافعون بقوة عن سياسات الهوية الطائفية التي تؤمّن مصالحهم، مراهنين على بقاء التنافر المجتمعي لعرقلة مظاهرات الوحدة الوطنية، ما يثير القلق حيال قدرة المشاعر العلمانية التي تسود الشارعين، العراقي واللبناني، على الصمود طويلا في وجه الهياكل السلطوية الطائفية الراسخة. في حال نجاح هؤلاء الزعماء، ومع الإنهاك في معركة الشارع طويلة الأمد، قد يكتفي المتظاهرون بوعودٍ للإصلاح، أو بإصلاحات جزئية تتم تحت عملية الفساد ذاتها التي تقودها النخب الحاكمة.
القضاء على الطائفية السياسية، ومستلزماتها من المحاصصة على الدولة، قد يحتاج إلى أكثر من تمرّد شعبي، عفوي، بل على المتظاهرين إعادة تنظيم صفوفهم لإنتاج حراك ثوري منظم، مدعوم بحركة سياسية ذات قاعدة جماهيرية عريضة، وقيادة سياسية مسؤولة، تحوز شرعية تمثيل قاعدتها الشعبية التي تمكنها من النجاح في أي عملية انتخابية قادمة، والمشاركة في صياغة دستورٍ جديد، وضمان بناء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ فاعلةٍ، تسمح بتوسيع قاعدة صنع القرار، في ظل دولةٍ مدنية.
أصبح الربيع العربي يوتوبيا تعارض الواقع بالمثال، وتلهم ملايين من الجماهير العربية هنا وهناك، وسيبقى هذا الإلهام مستمرا في ظل استمرار الواقع الذي يعارضه مثال اليوتوبيا، والذي يبدو أسوأ مما كان عليه قبل عام 2010.
بشارة: ثورة ثقافية ورقي مهم لمستقبل الشعوب العربية
مؤخراً أكدّ الباحث والمفكر الدكتور عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عبر لقاء مطوّل مع التلفزيون العربي حول الموجة الثانية من الربيع العربي في كل من العراق والسودان والجزائر ولبنان، أن الحراك الشعبيّ في العراق يعد اكتشافاً للهوية الوطنية وعابراً للطائفية، وأشار إلى أن الحدس والوعي الجماعيين كان لهما الفضل في الربط بين الطائفية وفساد الطبقة السياسية. ورأى أن النخبة السياسية من زعماء الطوائف نهبت البلاد باسم طوائفها وتشكلت حولهم شبكات زبائنية تتقاسم موارد الدولة بل ووظائفها ما أصبح يعلي من قيمة الولاء الطائفي على حساب الكفاءة وهو ما يضر بالتنمية. وقال إن الحراك الحالي في لبنان والعراق هو ثورة ثقافية ضد الطائفية قد تخرج عنها حركات مواطنيّة ديمقراطية تجمع كل الطوائف ولكن بشرط تغيير نظام الانتخابات لأن الشكل الحالي لا يسمح لقوى ديمقراطية بالنفاذ إلى البرلمان. وحول مشهد الاحتجاج العراقي، قال إن الشعب العراقي رفض إفقاره باسم الطائفية لا سيما في بلد هو خامس منتج للنفط على مستوى العالم. وتابع أن الاحتجاج على النفوذ الإيراني أثبت أن الشباب العراقي يرفض الولاء لدولة أخرى باسم الطائفية مشيراً إلى أن هذا تجلى أيضاً في أحد شعارات الحراك وهو “نريد وطن” والذي رأى البعض أنه يعني “نريد دولة”.
وتطرّق بشارة إلى الانتفاضة الثورية في لبنان فقال إنها جاءت في وقت زادت فيه الطائفية السياسية بشكل كبير إلى حد تحديد كل طائفة أسماء الوزراء المنتمين لها، وأشار إلى أن لبنان الدولة العريقة التي شهدت في السابق تطوراً اقتصادياً وصل إلى مجالي الزراعة والصناعة عانى من الطائفية السياسية والفساد إلى حد عجزه الآن عن توفير الكهرباء لمواطنيه. وقال إنه لا يعتقد أنّ الانتفاضة الثورية في لبنان قامت ضد حزب الله بل إن لها طابعاً أشمل ولكن الاحتقان الذي تحدث به الحزب صورها وكأنها ثورة ضده، ولفت إلى أن حزب الله استثمر للأسف إنجازات المقاومة ضد إسرائيل لتوسعة نفوذه في لبنان، وإلى أن الحزب قلق من التحركات لأنه تحوّل من حزب مذهبي متشدد مقاوم إلى حزب طائفي بات مهتماً بالوظائف والوزارات إلى حد التحالف طائفياً مع فريق يحرض ضد الفلسطينيين ويغازل إسرائيل.
كما رأى بشارة أن حراك الشباب منذ عام 2011 أظهر أن هناك جيلاً غير منقسم أيديولوجياً وتحركه القيم والأخلاق واصفاً ذلك بأنه ثورة ثقافية ورقيّ مهم لمستقبل الشعوب العربية رغم ما يحيط بذلك من عفوية زائدة قد تقود إلى الشعبوية، وقال إن الحراك الشعبي الذي ليس له قيادة في كل من لبنان والعراق والجزائر لا يجب أن ينزلق إلى الشعبوية بحيث يكون رافضاً لكل القيادات وكل النخب لأن الحراك إن لم يتبلور في حركات سياسية سيذهب إلى البيت وتتولى الأحزاب القائمة القيادة وإدارة البلاد.
وبرأي بشارة فإن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” نفسه هو شعار إصلاحي لأن الثورات تسقط النظام ولا تطلب منه إسقاط نفسه. وأشار إلى أن أبحاثه خلال الفترة الماضية، والتي اهتم خلالها بموضوع الانتقال الديمقراطي، وسينشر آخرها قريباً، كشفت أن الحراك الشعبي في عدد من الدول العربية يمثل ما أطلق عليه “ثورات إصلاحية”. وفي هذا السياق أشار إلى أن الانتفاضات الثورية في كل من العراق ولبنان والجزائر لا قيادة لها لذا تحتاج إلى حوار مع القوى القائمة الراغبة في الإصلاح في حال كان الهدف الانتقال إلى الديمقراطية لأن الثورات التي تسقط الأنظمة بالكامل لم تسفر عن ديمقراطيات بما في ذلك الثورة الفرنسية التي لم تتحول إلى ديمقراطية إلا بعد مرورها بمراحل من اللبرلة.
وعند تناول الشأن الجزائري قال بشارة إن الجزائر يعيد كتابة التاريخ لأن الحراك أفرز معارضة ديمقراطية ليس لها طابع إسلامي أو شمولي كما كان في السابق. وقال بشارة إنه لا يستطيع الجزم بنوايا الجيش لكن ما يراه هو أن الجيش تحرك وتخلص من بوتفليقة والمجموعة المحيطة به ولم يطلق الرصاص على المتظاهرين. وأضاف أنه في حال لم يكن للجيش طموح سياسي فالجزائر متجه نحو ديمقراطية. وقال إن حواراً كان من الواجب أن ينشأ بين الحراك الشعبي والجيش كقوة مسيطرة لأن هذا أفضل السبل للانتقال الديمقراطي.
وفي حالة السودان رأى بشارة أن الاتفاق الحالي كان الخيار الوحيد المتاح لتجنب تصعيد قد يصل إلى حرب أهلية، ولكن رأى في الوقت نفسه أن أمر طموح الجيش في الحكم لم يحسم بعد لأن هناك من بين العسكريين من يريد أن يحكم، وأشار إلى أن هناك مشكلات تواجه التسوية السياسية الحالية من بينها وجود قوى خارج هذا الاتفاق مثل الشيوعيين والإسلاميين إلى جانب مشكلة الفصائل المسلحة.
في ختام الحوار قال بشارة إن حدثين كبيرين أدخلا الحركات الإسلامية السياسية في أزمة وهما فشل أو إفشال حكم الإخوان المسلمين في مصر ما أوصل البلاد إلى حكم عسكري دموي، إضافة إلى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وما تبعه من أحداث. وأكد أن عدم تصدر الحركات الإسلامية للحراك الشعبي في الجزائر والعراق ولبنان والسودان حمى هذا الحراك وأن هذا سيستمر لفترة إلى حين خروج تلك الحركات من أزمتها والتصالح مع نفسها ومع الديمقراطية.
*****
نفتح هنا ملفاً خاصاً نتناول فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية. ألسنا مجددا أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ هل بلورت تلك الموجة التي لا تزال بدون رأس سياسي ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟
توجهنا بهذه التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب؛ باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في طرح آرائهم تعميقاً لفهم الموضوع، وتعزيزاً للنقاش المستمر حوله.
(2)
أنور جمعاوي (أكاديمي وباحث جامعي تونسي): الفعل الاحتجاجي العربي يستعيد عنفوانه
استعاد الفعل الاحتجاجي العربي عنفوانه عام 2019. واندفع الغاضبون من سياسات الأنظمة الحاكمة بكثافة نحو ميادين الاحتجاج، ونحو منابر الإعلام الحر وشبكات التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن ضيقهم بالمشهد الحزبي السائد، وعن سخطهم على المنوال الحُكمي والتنموي القائم في بلدانهم. وبدا واضحاً وجود شوق شعبي عارم إلى التغيير، والتطوير، وتحقيق العدالة والدمقرطة. ومع أنّ هذه المطالب كانت حاضرة في الحراك الاحتجاجي العربي عام 2011، فإنّها بدت في الموجة الثورية العربية الثانية أكثر إلحاحاً، وأبعد مدى. وثار الناس لأسباب واقعية، ومارسوا الاحتجاج بذكاء، ونجاعة على نحو ساهم في التفاف الناس حولهم، وزاد من عزلة النظام الحاكم.
ثار النّاس في القاهرة، كما في الخرطوم، وفي بيروت، كما في بغداد ووهران، لأنّهم سئموا طبقة سياسية تقليدية، وملّوا أحزاباً كرتونية قديمة تكرّر شعاراتها وبرامجها، ولا تجدّد قادتها وهياكلها. بل تهادن النظام القائم، وتعد ولا تفي، وتتعامل مع الحكم باعتباره غنيمة. وكره المحتجّون أيضاً سطوة العسكر، وهيمنة الطائفة، واحتكار الفرد، أو الأسرة، أو الحزب، دواليب الحكم. فالموجة الثورية الجديدة صرخة احتجاج في وجه طبقة سياسية متهرّمة بالية، تفتقر إلى الابتكار والتطوير، وترفض التشبيب والقيام بإصلاحات جذرية. وهي طبقة لا تمارس النقد الذّاتي الموضوعي، بل تدّعي امتلاك الحقيقة. وتستأثر في الوقت نفسه بأسباب السلطة، والثروة، والحصانة، والفخامة. وليس عليها رقيب ولا حسيب. بل تجد سنداً من عصبية حزبيّة، أو طائفية، أو قبلية، أو عسكرية. ومن ثمّة فقد فقدت هذه الطبقة السياسية، الحاكمة، أو المعارضة، على التدريج، ثقة الناس بها، واستنفدت، أو تكاد، وعودها البرّاقة. وخبر المواطنون تقصيرها في تأمين الكرامة والرّفاه، وضمان الحرّيات العامّة والخاصّة، وتحقيق العدالة والحوكمة الرّشيدة والتنمية المستدامة. لذلك تداعى المتظاهرون إلى الشوارع، وامتلكوا
الميادين ليشكّلوا قوّة ضغط على الطبقة السياسية الحاكمة، وخيّروها بين القبول بمشروع التغيير والتداول السلمي على السلطة، أو الرحيل. واللافت للنظر هنا أن الحراك الاحتجاجي العربي الجديد عام 2019 لم يُطالب بإصلاحات جزئية، أو حلول مرحلية، كما فعلت الانتفاضة السورية، أو الليبية، أو اليمنية، في بداياتها عام 2011، بل طالب منذ البداية بتغيير شامل وتبديل كلّي للمنظومة السياسية السائدة. جلّت ذلك شعارات من قبيل “الشعب يريد إسقاط النظام”، “فِلّوا عنّا… كِلّن يعني كلّن”، “يتنحّاو قاع”، أي “يرحلون الآن جميعاً”، وفي ذلك دليل على وجود رغبة شعبية جامحة، توّاقة إلى التغيير، وميّالة إلى التأسيس لمعالم دولة جديدة. دولة طالب المحتجّون بأن تكون “مدنية لا عسكريّة” وفي ذلك إخبار بأنّ المواطن العربي الجديد لا يثور لأجل أسباب معيشية فحسب، تتعلّق بتدهور مقدرته الشرائية ومعاناته الفقر والبطالة، بل يثور أيضاً لرغبة منه في تغيير هوية النظام السياسي للدولة، وبغاية الانتقال بها من دولة عسكرية إلى دولة مدنية. والتوق إلى تمدين الدولة يحمل طيّه توقاً إلى تحرير الفضاء العام من سطوة البوليس والعسكر، وشوقاً إلى تكريس الحرّيات والتمكين للدمقرطة في سياق عربي. والثابت أنّ المحتجّين عام 2019 استفادوا من مآلات الدرس الاحتجاجي في مصر عام 2011، فاطمئنان النخب المصرية إلى بقاء العسكر مديراً للمشهد السياسي أدّى تالياً إلى تقويض التجربة الديمقراطية جملة وتفصيلاً. لذلك يحرص المحتجّون الجدد على تمدين الدولة وتحييد العسكرـ والتخفّف من وطأة الحزب، أو الطائفة، قدر الإمكان، حماية لمشروعهم الاحتجاجي من مطبّات الاحتواء، أو المصادرة، أو الهيمنة، من هذا الطرف، أو ذاك.
ختاماً، يبدو أنّ مشروع الدولة الشمولية العربية بدأ ينحسر، وأحرى بالفاعلين السياسيين بدل الحنين إلى الحكم الأحادي، تعديل ساعاتهم على مستجدّات الزمن الاحتجاجي العربي الجديد.
خيري حمدان (شاعر وروائي ومترجم فلسطيني): موجة الربيع الثانية مقدّمة للخلاص
يحتاج التغيير الاجتماعي، وإنجاز عمليات الإصلاح الحقيقية، إلى عقود طويلة، فهذه العملية مرتبطة عضوياً بأنماط التفكير التقليدي الرافض للتغيير الجذري القادر على قلب الموازين السياسية والاقتصادية، بما في ذلك هدم أساليب توزيع المنتوج القومي الظالمة بصورة عامّة.
موجة الربيع الأولى، التي وسمها كثيرون بالخريف القاتم، لم تتمكّن من تحقيق كثيراً من الأهداف المتأمّلة، لكنّها تركت مذاقاً مرّاً لدى معظم المواطنين الذين يتوقون للتحرّر من نير الاستبداد، كما أبقت أسساً هامّة لرفع هرم الديمقراطية، وتوخّي الشفافية. الموجة الأولى حصدت مئات الآلاف من الأرواح، وتسبّبت في تشريد الملايين، وأدّت كذلك إلى العبث بالتوزيع الديمغرافي في بعض دول المشرق، لكنّها في الوقت ذاته خلّصت المواطن من الخوف الكامن في أعماقه، وحثّته على رفض الرقيب الذاتي ليطرق أبواب الحرية والديمقراطية، كما هي حال العوالم المتقدّمة.
ربّما يتوجّب على الرؤساء وأصحاب القرار إعادة قراءة “مقدّمة ابن خلدون”، الذي وضع أسس علم الاجتماع لفهم أصول وأهمية بناء وتطوّر المجتمعات، وقراءة “طبائع الاستبداد” لعبدالرحمن الكواكبي، لإدراك تبعات التسلّط والتحكّم بمقادير السلطة، وتجميعها بين أيدٍ محدّدة لفترات زمنية طويلة، دون التقيّد بمتن كتاب “الأمير” لنيكولا مكيافيلي، الذي وضع أسس المكيافيلية والفقه السياسي، ومبادئ البقاء للنخب الحاكمة.
شهدت المنطقة عاصفة تمرّد جديدة أطلق عليها موجة الربيع الثانية، وأسوة بالموجة الأولى، نرى المجتمع العراقي الذي خرج إلى الشوارع والميادين قد قدّم كثيراً من الضحايا، لكنّ هذا لم يمنعه من التعبير عن رفضه وسخطه لتفشّي الفساد، وتغليب الطائفية في التقسيم الإداري، وتوزيع مقدّرات الدولة العراقية التي تعدّ ضمن كبرى الدول المنتجة والمصدّرة للنفط، لكنّ كثيراً من طبقات المجتمع العراقي بقيت دون خطّ الفقر تعاني الفاقة وتخلّف البنى التحتية.
الأمر لا يختلف كثيراً في لبنان. قد يبدو الفارق بطرق تعبير رفض الفساد، وثراء رجال الدولة والمتنفّذين، الطرق التي أخذت طابعاً أوروبياً، خاصّة ما شهده إقليم أوروبا الشرقية مع بداية المرحلة الانتقالية، وما بعد ذلك.
تبدو الموجة الجديدة ذات طابع شعبي، وموجّهة بصورة مؤطّرة للمناداة بمحاكمة الفاسدين، وبإقصائهم عن المناصب الرفيعة، محاولة في الوقت ذاته تهميش البعد السياسي والحزبي عن الطابع العام للإضرابات المعلنة. الأهداف التي وضعتها حركات الاضراب، والتمرّد الشعبي، تنحصر كما هو واضح في تحسين المعيشة، والتوزيع العادل لمقدّرات الدولة، والخزينة العامة. الحراك المدني هو الغالب على طبيعة الموجة الجديدة، بعد أن سئمت فئات المجتمع المختلفة سبل التفرقة الطائفية، ونهج التخوين والتكفير والعنف المصطنع، والأفكار الوطنية التي تدعم سياسة الأمر الواقع للإبقاء على سيادة وأمن الدولة، لكن يصعب الحفاظ على أمن الدول وسيادتها دون تحقيق ما يصبو إليه المجتمع من حياة كريمة وفرض العدالة، في القضاء، وكافّة المجالات والمرافق الحيوية.
أعتقد أنّ المجتمعات العربية تعيش حالة مخاض قد تمتدّ لفترات زمنية طويلة نسبياً، ما يعني كذلك إمكانية اندلاع موجة ربيع ثالثة، ورابعة، يصعب قمعها ومواجهتها، لأنّ الموجات المستقبلية ستكون أكثر نضوجاً وقادرة على طرح مطالب واضحة وعادلة. الحراك المدني المسؤول قادر على فرض أجندة قوية للضغط على الحكومات للحدّ من الفساد، ونهب مقدّرات البلدان الخاضعة للأنظمة الاستبدادية، وهذا ما لاحظناه خلال الثورات التي أطلقتها شعوب إقليم البلقان التي خضعت هي كذلك لأنظمة شرسة ومستبّدة على مدى عقودٍ طويلة، لكن الجدير ذكره أنّها كجزء من القارة الأوروبية تمتّعت بتاريخ برلماني إبّان الحقب التي سبقت الاشتراكية، لذا تمكّنت من تجاوز هذه المرحلة دون سفك دماء، باستثناء بعض الدول، كرومانيا مثلاً.
إذا سألت المواطن العربي عن ممارسته لحقّه الانتخابي، فقد تفيد إجابته بأنه شارك في استفتاء لانتخاب الرئيس ثانية، أمّا الأنظمة الملكية فحق الانتخاب غير وارد فيها على الإطلاق، بل وحتى انتخابات السلطة المحليةـ كالبلديات، والمحافظات، تبقى خاضعة لاعتبارات عشائرية وطائفية، يتمّ خلالها شراء الذمم بصورة مكشوفة ومفضوحة.
لعلّ الموجة الثانية، خلافاً للأولى، تتمكّن من فراز أوضاع مواتية لرفع مستوى عمل وأداء المؤسسات المدنية، باعتبارها المقياس الحقيقيّ لنضوج المجتمع، والتعبير عن طموحاته.
بيار عقيقي (كاتب وصحافي لبناني): انتفاضات ضد الطائفية
بين 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2019، تسع سنوات تقريباً من “الربيع العربي”. في 17 ديسمبر 2010، لم يكن يدرك التونسي محمد البوعزيزي لدى إحراق نفسه، أنه سيتحول إلى أيقونة ومفتاح لكل الموجات الأولى للتظاهرات والاحتجاجات التي أسقطت أنظمة، بينما في نوفمبر الحالي، يدرك العراقيون واللبنانيون أنهم في سياق تفعيلهم زخم الموجة الثانية من هذا الربيع، إنما يمسّون أحد أخطر تركيبات الأنظمة في تاريخ الدول العربية.
المقارنة بين الموجتين وبلدانها تظهر أن الحراك في الموجة الأولى كان في البلاد ذات الطبيعة المائلة للأنظمة العسكرية، مثل تونس وليبيا ومصر، بينما استوعب المغرب والأردن التحولات، فيما غرقت سورية واليمن في حربيهما. أما الموجة الثانية، فعدا عن شمولها السودان، كبلدٍ ذي نظام عسكري ـ إسلامي يشبه الرئيس المتنحي عمر البشير، فإنها وصلت إلى الجزائر والعراق ولبنان. وإذا كان النظام العراقي الطوائفي المولود بعد الغزو الأميركي ـ البريطاني عام
2003، منسوخاً عن النظام اللبناني، واحتمالات سقوطه أكبر من احتمالات سقوطه في لبنان، خصوصاً أن عمره لم يبلغ عشرين عاماً في السياق الزمني، إلا أن سيل الاحتجاجات والتظاهرات التي عصفت به وبالنظام اللبناني، تشي بأمر كبير حصل.
في بغداد وبيروت، تبدو ما يُمكن تسميته بـ”الموجة الثانية” من الاحتجاجات العربية، أكثر وضوحاً عن الموجة الأولى. في البلدين رغبة عارمة بكسر القيود الطوائفية التي تحكم الحركة السياسية والبيروقراطية في البلاد، تحت اسم “حقوق الطوائف”، وهو ما يعوّق عملياً أي تقدمٍ اجتماعي أو تنموي، على اعتبار أن معظم المنخرطين في العمل تحت شعار “حماية الطوائف” هم من الفاسدين، كما تكشف الملفات العراقية واللبنانية. لكن الاختلافات بين الدولتين حاضرة أيضاً، فالعراق أسير الصراع الإيراني ـ الأميركي، وذو مخزون نفطي هائل. في المقابل، فإن الوجود الأميركي في لبنان رمزي، في مقابل وجود تيار مؤيد لإيران في النظام اللبناني، أكثر قوة من التيارات الأخرى.
هنا يكمن التحدّي، في الحالة العراقية سقط أكثر من 300 شخص ضحية التظاهرات والاحتجاجات، أما في لبنان فسقط 3 أشخاص (حتى لحظة كتابة هذه السطور). في العراق تبدو السلطة وكأنها تتجاهل إرادة الشعب، خصوصاً مع تمسكها بالحكومة، أما في لبنان، فصحيح أن الحكومة استقالت، لكن المطروح حالياً، أخرى مشابهة. يعني ذلك أن السلطات في البلدين، مدعومتين من جهات إقليمية أو دولية، ترفض تلبية مطالب المحتجين، بما ينبئ بتطورات أكثر حدّة مما يحصل حالياً. وهو ما لا “يراه” النظامان العراقي واللبناني. لكن هل يعني هذا نجاح، أو فشل هذه الموجة؟
بالطبع، إن مجرد حصول الانتفاضة على النظام هو مكسب للبنان والعراق، وإن تأخرت نتائجه، ذلك لأن الحقوق البديهية التي يطالب بها الناس ليست موضع مساومة، وإن كانت موضع نقاش حول كيفية تأمينها، لأن المساومة بما يمسّ البديهيات، هو نوع من أنواع إنكار وجود حالة إفساد واسعة النطاق. الأرقام لا تكذب. السرقات بلغت مليارات الدولارات في العراق ولبنان، في ظلّ غياب أي حالة محاسبة، أو سجن. جميع من في السلطة في بغداد وبيروت محمي من رجال دين في طائفته. العراقيون واللبنانيون يدركون ذلك، ويعلمون أن المسار طويل، ولا يمكن حصول كل شيء سريعاً. ستنجح هذه الموجة من الاحتجاجات، لكنها ستحتاج لوقتٍ، وهو ما يصبّ في خانة المنتفضين، لا في خانة السلطات، التي لم تقدّم حلولاً، ولم تبادر للحوار الحقيقي، ولم تسجن فاسداً واحداً، ولم تستعد أموالاً، بل قامت بما تجيده حقاً أي سلطة فاسدة: القمع.
محمد أحمد بنيس (شاعر وكاتب مغربي): الموجة الثانية وإعادة تعريف النظام السياسي
لا شك أن الحراك الشعبي في السودان والجزائر ولبنان والعراق يعيد إلى الواجهة قضايا كثيرة واكبت الموجة الأولى من الربيع العربي. فمرة أخرى تعود سردية المؤامرة إلى الخطاب الرسمي العربي الذي يربط هذا الحراك بجهات أو دوائر خارجية تستهدف هذه البلدان. ورغم اجتهاد الدولة العميقة والثورة المضادة في الترويج لهذه السردية، من خلال إعلام تابع وفاسد، إلا أنه يمكن القول إن الحراك الحالي وجه ضربة موجعة لهذه السردية، وكشف القوى التي تقف خلفها في الداخل والخارج.
في الموجة الأولى (2011)، طالب المحتجون بالحرية والديمقراطية والكرامة، وهي المطالب التي اختزلها الشعار الشهير ”الشعب يريد إسقاط النظام”، لكن هذا النظام اختزلته ثورات هذه الموجة في رأس النظام، وهو ما سمح للدولة العميقة بترتيب أوراقها جيداً من خلال التضحية برأس النظام، والانحناء للعاصفة، في انتظار استعادة المبادرة، وهو ما حصل فعلاً، سيما في الحالة المصرية، حين اعتقدت القوى الثورية والمدنية في ميدان التحرير أن نظام مبارك قد سقط بتنحيه. وقد أثبتت الوقائع اللاحقة خطأ هذا التقدير. أما في الموجة الحالية، فالمطالبة بإسقاط النظام تأخذ دلالات جديدة، من خلال إعادة تعريف هذا النظام الذي يشمل، إضافة إلى رئيس الدولة وعائلته وحاشيته، منظومة تصطف بداخلها نخب متعددة المشارب (قادة أحزاب، وزراء، برلمانيون، زعماء طوائف وميليشيات، رجال أعمال مقربون من السلطة…) استفادت من زواجِ سفاحِ بين السلطة والمال.
إعادة تعريف النظام السياسي الحاكم يعود إلى تَشكّل شعور عام في المنطقة مفاده أن النخب بمختلف مكوناتها الحزبية والحكومية والطائفية ليست إلا واجهة لإعادة إنتاج الريع السياسي. فهذه النخب تقف في صف الأنظمة حفاظاً على مصالحها، خاصة أنها تعاني نقصاً مهولاً في شرعيتها، بسبب غياب الديمقراطية في تدبير شؤونها. ولا مبالغة في القول، إن التحالف بين الأنظمة والنخب، والذي يتخذ أوجها متعددة حسب ظروف كل بلد، يمثل أحد العناوين البارزة لمعضلة الفساد في العالم العربي. ففي الجزائر مثلاً، تمثل الانتخابات الرئاسية بالنسبة للدولة العميقة (الجيش)، والأحزاب والشخصيات التي ستشارك فيها تجديداً، أو تعديلاً، لتحالف الطرفين في أفق الالتفاف على الحراك الجزائري.
كشفت الموجة الأولى انتهازية هذه النخب التي استغلت الاحتجاجات واستخلصت، بحكم خبرتها التنظيمية، جزءاً من العائد السياسي لهذه الاحتجاجات التي لم تكن شريكة في إطلاق شرارتها، وقفزت على تضحيات القوى الثورية والمدنية التي لم تكن تتوفر على قيادات قادرة على تحويل مطالبها إلى برنامج متكامل يمكن اعتماده في سياق قواعد جديدة للتدافع السياسي. وفي هذا الشق، لم تستفد الموجة الثانية (2019) من سابقتها، فعدا السودان الذي استطاع الحراكُ الشعبي فيه أن يفرز مخاطَباً في مواجهة تسلط المجلس العسكري، تبدو الاحتجاجات في الجزائر، ولبنان، والعراق، إلى غاية الآن، غير قادرة على إفراز قيادة سياسية تخترق جدار التعنت الذي تتحصن به الدولة العميقة.
من ناحية أخرى، تشكل مكافحة الفساد أبرز ما يميز الموجة الثانية من الربيع العربي. ففي الوقت الذي يتفشى فيه الفساد في مختلف مؤسسات الدولة العربية، تعاني فئات اجتماعية واسعة من انسداد الآفاق أمامها في ظل ارتفاع نسب البطالة والفقر وتردي الخدمات العامة.
كذلك ينبغي ألا نغفل أمراً في غاية الدلالة؛ فأن يتجاوز المحتجون، في لبنان والعراق تحديداً، سلطة الطائفية، والانخراط في حراك شعبي يسعى إلى الإطاحة بالفساد وتفكيكه، فذلك يدل على أن الفساد بات يشكل معضلة بنيوية لا يمكن السكوت عنها. صحيح أن مطلب مكافحة الفساد كان حاضراً في احتجاجات الموجة الأولى، لكنه لم يكن بالحدة نفسها التي نشهدها الآن.
شورش درويش (كاتب سوري): “الربيع العربي” بين موجتين
سعت دار ترجمة عربيّة إلى الحصول على الحق الأدبي لترجمة كتاب “قوّة المستضعفين” للرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافل، ولمّا كان الوسيط في هذا الشأن صديق الرئيس والمترجم الخاص، بول ويلسون، فإن موافقة هافل جاءت بعد حوار مقتضب، إذ سأل الأخير، وهو على سرير المرض: هل العرب مستعدّون للديمقراطية؟ ليجيبه ويلسون: وهل كنتم أنتم مستعدّون لها عندما قمتم بثورتكم عام 1989؟.. “فهمت ما تعنيه” أجاب هافل.
على منوال سؤال الرئيس التشكي، وأحد أبرز قادة “الثورة المخملية”، طُرحت أسئلة مشابهة تحمل ذات المعنى منسوجة من ركود الواقع العربي المستنقِع نتيجة سنوات الاستبداد والشراكة المتينة بين كارتيلات الفساد والدولة الأمنية التي صاغت شكلاً للدولة العربية وُصفت بدقة بالغة بأنها دول “الأنظمة السلطانية المحدّثة”، أنظمة سلالية تُحكم القبضة على المجتمع، وتحول دون أي تقدّم ديمقراطي، ومن قلب الانقسام حول جدوى الثورات المفتوحة على كل الاحتمالات، كان من حسن طالع الموجة الثورية الأولى انطلاقها من تونس التي وصفت بأنها الحلقة الأضعف في سلسلة الدول المستبدّة. هشاشة النظام التونسي تبدّت في الأدوار الحاسمة للجيش والأجهزة الأمنية، وفقدان نظام بن علي للمدد الشعبي الذي يمكّنه من إحالة الثورة العارمة إلى ثورة منقسمة ومشكوك في نسبها الشعبيّ، ذلك أن بنية المجتمع التونسي متجانسة بدرجة أكبر من مثيلاتها العربية، لجهة الدين والقومية والمذهب، الأمر الذي فوّت على النظام التونسي
فرصة استعارة الحكمة الكولونيالية “فرق تسد”. إلى ذلك، جسّدت تونس المعنى الفعلي لنظرية “أثر الفراشة” التي عرّفت بتطرّف وفق مقولة أن من شأن الهواء المنبعث من جناح فراشة في الصين إحداث إعصار في الولايات المتحدة، وإن كنّا في إزاء مبالغة دلالية هنا، فإننا شهدنا أثر جناح الفراشة التونسية في ليبيا، واليمن، وسورية، ومصر، وفي البحرين، الاستثناء الملكي الوحيد في سلسلة الثورات التي عصفت بأنظمة “جمهورية”.
تعثّر الربيع العربي في ليبيا ابتداءً، وفي بقية دول الموجة الأولى برمتها، حروب واحتكام للعنف والقمع العاري، فضلاً عن ظهور مريع للمؤسسات العسكرية والأمنية، وما استتبعه من بروز انقسامات طائفية وتدخّلٍ للجوار، كما في حالتي اليمن، وسورية، ومع تعمّل الوضع ازدادت حظوظ الحركات الإسلامية في بلدان الموجة الأولى التي تحيّنت الفرصة وفقاً لمنطق “إدارة التوحّش” القائم على إدارة الفوضى المتأتية من الفراغ، وانكفاء الدولة، وغياب البديل الوطني.
باستثناء تونس، أخرجت الموجة الأولى من تاريخ الثورات، ودخلت وفق ما لم ترغب إلى عالم العنف والحرب الأهلية، وانسداد أفق الانتقال الديمقراطي. في الأثناء، ركنت الأنظمة العربية التي لم تطلها الاحتجاجات الشعبية إلى راحة نسبية، حيث أنّ دوّامة العنف في بلدان الربيع العربي كانت كفيلة بوقف العدوى، بيد أن بدء الموجة الثانية قوّضت آمال الأنظمة الجمهورية المتبقّية، ففي الجزائر لم يكن في الحسبان أن يشهد بلد “العشرية السوداء” حركة احتجاجية سلميّة تحقّق هدفها المرحليّ في إطاحة الرئيس السقيم بوتفليقة، متحفّزة لاستكمال المسيرة، إلى ذلك نجح السودان في استيفاء شروط دخول نادي الثورات الناجحة بأكلاف أقل نسبياً مما طاولته يد العنف في بلدان الموجة الأولى. ولا يغيب عن مسرى موجة الربيع العربي الثانية إمكانية دخول لبنان والعراق إلى نفق الانسداد جرّاء الانقسامات الطائفية التي تطبع المجتمعَين، فضلاً عن حضور إيران في قلب المشهد في البلدين. وبقليل من استذكار المثال السوري، يمكن استشراف ما يمكن لإيران أن تحدثه في مناطق نفوذها العربية هذه. لكن أيّاً يكن من أمر، فقد طوّر المحتجّون في هذين البلدين ترسانة أسلحتهم السلمية عبر القفز على الطائفية والخروج من حفلة التكاذب المديدة التي تغنّت بالعيش المشترك، أو التجاور الأهلي، إلى فضاء المواطنة، وإن كان تجاوز الطائفية هو الشرط اللازم وغير الكافي، فإن مسألة إفراز قيادات تمثّل الحركة الاحتجاجية بات لزوم ما يلزم، كي لا تترك الثورات نُهباً للسياسات السلطوية، وروّاد الحروب الأهلية.
من المتعذّر التنبؤ بمآلات الموجة الثانية التي تبدّت أنضج من سالفتها، وفقاً لقراءات شعبية لكرّاسة الأخطاء التي انتابت الموجة الأولى، كالانزياح نحو العسكرة، ونموّ العصبيات الطائفية والإثنية والجهويّة، والاستقواء بالخارج، لكن المحتّم أن الموجة الثانية تبشّر بموجات ثالثة ورابعة، وفي هذا سلوى للقوى الديمقراطية، وللثورات الموءودة.
(3)
حسام ميرو (شاعر وباحث سوري، مدير تحرير دورية ملفات أسبار): الحراك الاجتماعي مدخل إلى الحداثة
كان اشتعالُ ثوراتٍ تُطالب بالديمقراطية في العالم العربي أشبه بالمستحيل، ليس فقط بالنسبة لرجل الشارع، بل أيضاً بالنسبة لمفكرين عرب، كان مبضع نقدهم يعمل نظرياً في أكثر من اتجاه، لمقاربة قضايا التنوير والحداثة وما بعدها، حتى بدت بعض تلك السجالات أقرب إلى المبارزة الفكرية الشخصية، كما في السجالات التي دارت بين المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، وعددٍ لا يستهان به من المشتغلين بقضايا الفكر العربي، حول مشروع الجابري “نقد العقل العربي”.
حَمل عقدُ التسعينيات من القرن الماضي، وتحديداً في سنواته الخمس الأولى، صدماتٍ وآمالاً عديدة، فمع سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، بَدا أنّ الفكر نفسه بحاجة لإعادة نظر، مع طرح اشتراكيين مشرقيين قضايا الإصلاح في الفكر الاشتراكي، على غرار البيريسترويكا، من أجل تحديد موقع نظري وعملي جديد للأحزاب الثورية الاشتراكية.
أيضاً، انهار النظام الدولي، وذهبت منظمة التحرير الفلسطينية، وسورية، إلى التفاوض مع إسرائيل، في أوسلو ومدريد، في محاولة لاستدراك نتائج انهيار الكتلة الشرقية، بعد أن فقدا شرعية الدولة السوفييتية المنهارة، والتي كانت قد دخلت مرحلة من الاضطراب والفوضى.
في تلك الفترة، ربما، كان الصحافي والكاتب رياض نجيب الريس الوحيد تقريباً الذي تجرأ على عنونة مقال له بـ”قطار الحرية يعبر إلى الشرق”، في واحدة من أعداد مجلة “الناقد”، وعلى الرغم من أنه كان يتحدث عن وصول الحرية إلى أوروبا الشرقية، لكنه كان من الواضح أنه كان يقول إنّ القطار سيصل، ولو متأخراً، إلى عالمنا العربي.
بالمجمل، إنّ معظم البلاد التي طالتها النسخة الأولى من الربيع العربي هي الأنظمة التي حكمتها النخب العسكرية، تحت غطاء أيديولوجي قومي، وكان قد مضى على حكمها عقود عديدة، من دون أي تحديث للدولة والمجتمع، بل كانت قد عَمِلت على تفريغ الدولة من أي مضمون حداثي، كما عَمِلت على جعل الفئات الاجتماعية في وضع تَساكن، مع بتر أي إمكانية للتفاعل الحيوي فيما بينها.
إن تاريخ الأنظمة السياسية والدول يقول إنه، في الأعمّ الغالب، تسقط الأنظمة والدول من داخلها، وهو ما كان قد جرى في الاتحاد السوفييتي السابق، فلم تَحمِه قوته النووية من الانهيار تحت ضربات الفشل الاقتصادي، وسوء الإدارة، والفساد، وإقصاء المجتمع لمصلحة الحزب، كما أنّ الخطاب الأيديولوجي لم يتمكن من الوقوف في وجه الحاجة إلى التغيير.
إذاً، ليس العالم العربي خارج نطاق قوانين التغيير، لكن أيضاً ليس فاقداً للخصوصية، فقد كانت النسخة الأولى من موجة الربيع العربي قاسية ومُكلفة، فالأنظمة السياسية الحاكمة أخذت شرعيتها من تبعيتها غير المباشرة للكولونيالي بصيغ متعددة، كما أنها تحوز فائض قوّة عسكرياً وأمنياً، راكمته خلال عقود، وقد تبدّت أبشع صور استخدام هذا الفائض في سورية.
النسختان الأولى والثانية من الربيع العربي هما محصلة منطقية لنهاية النظام السياسي الشمولي الذي حكم المنطقة، في ظل أوضاع الحرب الباردة، واستمرّ من دون أن يتكيف مع معطيات العولمة، وثورتي التقانة والاتصالات، بل هرب إلى الأمام في تبني اقتصاد نيوليبرالي في مجتمعات ذات اقتصاد ريعي، منخفض الإنتاجية.
ما يميز النسخة الثانية أنّ الاحتقان الشعبي يطال بشكل مباشر دولا أصابها الفشل (بالمعايير الدولية للدول الفاشلة)، بالإضافة لخضوعها المباشر أو غير المباشر للنفوذ الإيراني، كما في لبنان والعراق، مع ملاحظة أن النظام السياسي الإيراني هو نفسه يشهد احتجاجات داخلية ضده منذ سنوات، وهو قد أصبح مُفارقاً للحظة ولادته، وعاجزاً عن التكيّف مع العالم، ومع متطلبات شعبه.
ما هو مهم التأكيد عليه هو أنّ العالم العربي ينهي مرحلة تاريخية تمتد إلى ما قبل ولادته من رحم السلطنة العثمانية، وهي إنهاء الدولة السلطانية نفسها، التي كانت قد لبست ما سمُي “الدولة الوطنية”، ويدخل في عصر جديد، باحثاً عن المغزى الحقيقي لمفاهيم مثل الدولة والسياسة والديمقراطية والكرامة والمواطنة والحقوق الفردية والجماعية وشكل نظام الحكم، وفي خضم كل ذلك هو باحث عن معنى وجوده الإنساني خارج دائرة الاستلاب والشمولية، معبّراً عن توق إلى الحرية، بل وعن تصميم على تحقيقها.
من غير المؤكد أن نجاحات كبيرة يمكن حصادها بسرعة في حركة التاريخ، كما أنها تبقى مرهونة بعوامل كثيرة، منها خصوصية التجربة، لكن ما هو مؤكد أن العالم العربي ينتمي اليوم، وللمرة الأولى، إلى عصر الحداثة، ليس عبر حركة النخب، بل عبر الحراك الاجتماعي الكبير.
حيّان جابر (كاتب فلسطيني): عن الخلل المستمر
تعيش المنطقة اليوم تجليات موجة ثورية جديدة ذات ملامح أكثر وعيا ونضجا سياسيا وثقافيا مقارنة بالوضع السائد في أثناء الموجة الثورية الأولى، غير أن الاتكاء على هذه الملامح، والاحتفال بها منذ الآن، خطيئة سياسية وثقافية، لأننا ما زلنا نشهد تطورات الموجة الثورية الثانية، التي قد تمضي نحو مزيد من الوعي السياسي إن تمكنت من بناء تنظيمها السياسي المعبر عنها، والقادر على إدارة نضالها بالشكل الأمثل حتى تأسيس الدولة التي تنشدها. أو قد تشهد نكوصا وتقهقرا ثقافيا وسياسيا ومعرفيا، يتمخض عنه الفشل في هدم صرح المستبدين والفاسدين، والانجرار خلف صراعات فئوية مضللة وخطيرة.
طبعا لا نقصد بذلك إثارة المخاوف، أو وضع العصي في دواليب الحركات الثورية، بقدر ما نحاول التنبيه إلى خطأ الاعتماد على بعض المقولات الرومانسية الثورية، التي تعتبر الحركة الثورية عملية ميكانيكية ذات مسار صاعد حتمي ووحيد، سوف يصل إلى نهايتها الحتمية، مهما تكالبت عليه القوى الرجعية وقوى الثورة المضادة، ومهما استفحل إجرام المجتمع الدولي والإقليمي في مواجهتها من جهة، ومن جهة أخرى مهما تشظت الحركة الاحتجاجية إلى مجموعات مناطقية متباعدة ومتباينة من حيث الأهداف والغايات، ومهما تشبثت بعفويتها وتسامحها تجاه جميع الأصوات الناقمة على النظام دون التدقيق بغاياتهم وأهدافهم وتوجهاتهم، التي قد لا تختلف بجوهرها عن النظام القائم. إذا تتجاهل هذه النظرة الرومانسية خطر انحراف الحركة الثورية عن مسارها وأهدافها، فهذا يفسح المجال أمام قوى الثورة المضادة كي تمتطيها وتوجهها بما يخدم مصالح الممولين والداعمين.
طبعا لا يخفى على أي منا حجم التطور والنضوج السياسي الذي تُعبّر عنها ثورات الموجة الثانية، كما تعرف إعلاميا، وخصوصا فيما يتعلق بالوعي الوطني الجمعي، ورفض التدخلات الخارجية، وتحييد مجمل القوى السياسية التقليدية والرجعية سواء أكانت جزءا من منظومة الحكم، أو من منظومة المعارضة التقليدية المدعومة خارجيا، والذي كتب وسيكتب عنه الكثيرون وهم محقون. لكن ينبغي علينا أيضا أن نسلط الضوء على أبرز جوانب الخلل المستمرة منذ بداية المرحلة الثورية وحتى اليوم، لتخوفنا من تأثيرها السلبي على الحركة وعلى مستقبل المنطقة، كغياب الرؤية أو البرنامج الوطني المعبر عن تطلعات الشعوب، وبالتالي غياب القيادة التي تمثله؛ حيث يتصاعد خطر هذا الخلل في ظل تصاعد بعض الأصوات المندفعة التي تتغنى بعفوية الحركة الاحتجاجية وفوضويتها، على اعتبارها عنصرا من عناصر قوتها الحالية والمستقبلية، وعلى أثر الأصوات المستعجلة التي تدفع، بقصد أو دون قصد، نحو فرض أي قيادة سياسية وتنظيمية دون مراعاة حاجة الشعوب والثائرين إلى تعزيز أجواء النقاش والحوار السياسي الحدثي واليومي، الثقافي والتنظيمي، قبل أن يتمكنوا من خلق هياكلهم ومجالسهم الثورية الحركية والسياسية.
عفوية الحركة الاحتجاجية، وغياب الرؤية السياسية الشاملة والواضحة، يعدان أبرز سمات الانتفاضات والثورات العربية حتى الآن، من دون أن نغفل بعض الاستثناءات القليلة جداً على مستوى إدارة الحراك وتوجيهه، وخصوصا في التجربة السودانية، وبدرجات أقل بكثير في كل من تونس والجزائر، حيث تميزت الثورة السودانية بإدارة مركزية موحدة للحركة الاحتجاجية، مما أكسبها زخما شعبيا وقوة ميدانية تمكنت من فرض ذاتها بصورة واضحة على كل من الدولة العميقة، والمجتمع الدولي، والإقليمي. إلا أن غياب الرؤية الواضحة والشاملة سياسيا واقتصاديا ودستوريا للثورة عموما، ولدى قيادة الثورة ممثلة بقوى الحرية والتغيير؛ أو غياب التوافق على رؤية موحدة بالحد الأدنى، ساهم في تخفيض سقف المطالب وفرض التعلق بحلول غير ناجزة وغير مكتملة، متخفية خلف بعض الشعارات الفضفاضة كحكومة مدنية ودستور ديمقراطي، غير قادرة، رغم أهميتها، على تقديم تصور واضح لحل المشاكل والأزمات التي يعيشها السودان، والتي ثارت الجماهير من أجلها. وهو ما يفرض علنيا الإشارة إلى أهمية تعزيز الحوارات والنقاشات الشعبية السياسية والثقافية حتى تنضج وتتمخض عن برنامج وقيادة ثورية تحظى بثقة ودعم الشارع.
سعاد قطناني (إعلامية فلسطينية): ربيع لم ينته…
لم تكن الأصوات وهتافات الربيع العربي التي خرجت في نهايات 2010 وقرر الاستبداد العربي على امتداد بلاد القهر كتمها، سوى البداية، وكانت التعبير المشترك عما عاناه ويعانيه المواطن العربي من قهر واستبداد على امتداد الجغرافيا… وظل شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” هو الهتاف الأثير لشعوب كسرت حاجز الصمت، وكان هذا الشعار وما زال الأكثر جوهرية في التعبير عن إرادة الشعوب.
خلال ما يقرب من تسع سنوات ونحن نرقب إخفاقات أغلب الانتفاضات الشعبية بتحقيق مطالبها واحدة تلو الأخرى، ونتحسس حلمنا وهو يصير خريفاً أمام أعيننا، ونعاين المآلات المرعبة لأجمل ما حدث في هذا البلاد التي عانت من دوام الاستبداد وكأنه أبدية لا تنتهي.
تحسست الدول الواقعة في المجال الجيوسياسي لبلدان الثورات آفاق ومستقبل نجاح هذه الثورات وتأثيره عليها، فنسجت التحالفات الإقليمية والعالمية محاولة حرف أهدافها ومآلاتها ونجحت إلى حد بعيد.
لم يكن في الحسبان ما حدث في مصر بعد أن ابتكر المصريون شعار “يسقط يسقط حكم العسكر”، ديمقراطية ناشئة تتهشم تحت صلابة الدولة العميقة، وتحالفاتها الخليجية، وهشاشة وضيق أفق الحكام الجدد، ليصعد ديكتاتور جديد والجميع يصفق.
لم تسلم الثورة في اليمن ولا ليبيا من المجال الجيوسياسي وتعقيداته في رسم التحالفات وتأثيرها على مآلات الثورة، فلم يكن في الحسبان أن يذهب اليمن الجميل إلى قتل وقتال واقتتال فمجاعة وموت.
لم يخطر ببالنا ونحن نسمع اللكنات الليبية وهي تصيح ضد معمر القذافي أن تصل مآلاتها إلى احتراب وحرب، ويوميات كر وفر، في بلاد تعفرت بالخوف والموت والتراب.
وضمن هذا المشهد، تبيّن للمواطن العربي نفاق “ديمقراطية” الغرب حيث تحالف هذا الغرب المتحضر وساند وتواطأ لاستمرار الاستبداد في بلادنا، ولم تتغير هذه المعادلة إلا بحسب ما تتضرر مصالحه.
أما تونس فظلت رغم تعسر مساراتها هي الاستثناء العربي الوحيد في طريقها نحو الديمقراطية، وظلت هي وحدها تحكمنا بالأمل، رغم دروب الألم التي نعايشها لحظة بلحظة.
في سورية حيث يبدو التأثير الجيوسياسي مكثفاً بوجود الاحتلال الإسرائيلي، وامتداداته الإقليمية والدولية، ما إن خرجت أولى هتافاتها حتى بدأ الرسم لمآل أفظع، لأن أي تحول ديمقراطي حقيقي في هذا البلد سيغير كل معادلات الصراع في المنطقة، ويشعل كل ما كان مسكوتا عنه تحت شعارات المقاومة الكاذبة، فطغى صوت البارود على ورود غياث مطر، وغطت الرايات السود والصفر والخضر على مستقبل الثورة، وحرفت مآلاتها، وصار السوري يحمل ثورته كجرح في القلب، ويمشي كي لا يموت الحلم ولا تموت الثورة.
في بدايات الحراك وثورات الربيع العربي كانت الشعوب تمضي إلى هدفها ولا تتحسس المجهول… هي تعي مطالبها ولا تدرك مدى العنف الذي سيسلكه المستبدون، أما اليوم فهي تعرف أنه رغم الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب في سبيل القضاء على الفقر والحرمان والاستبداد، فهذا الحراك ليس سوى حلقة أولى في سلسلة الثورات التي ستصل الهدف.
وبالرغم من أن الطغاة لم يرتدعوا، ومارسوا سياسة الإنكار والقمع، استمرت الشعوب بالاحتجاجات، وقامت بموجة أخرى من الثورات، وظلت أمواج الحرية تعلو وتمتد. أعاد السودان إلى الأذهان هتافات بلدان “الربيع العربي” الأولى التي لم تغب يوماً عن الذاكرة: “الشعب يريد إسقاط النظام”، ثم ما لبثت هذه الشعارات الأثيرة أن شكلت جزءاً من حكاية السودان فسمعنا صوت كنداكا سودانية، وسمعنا هتافها في كل مكان “الطلقة ما بتقتل يقتل سكات الزول”، وامتدت الشعارات والهتافات وتبلورت حتى وصلت إلى “رص العساكر رص.. الليلة تسقط بس”، وسقط البشير!
وأعاد الجزائريون ألق لحظة الحلم. احتجاجات جماهيرية تعود للشارع رفضاً للعهدة الخامسة التي بدأت بشعار مستوحى من هتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”: “الشعب لا يريد… بوتفليقة والسعيد”، ومع قرارات السلطة القائمة التي لم ترتق لمطالب الشعب ارتفع شعار “يتنحاو قاع” لإسقاط جميع رموز النظام والانتقال إلى مسارات ديمقراطية، وصولاً إلى هتافات تدعو لفتح ملفات الفساد بشعار “أيها القاضي.. ما رانيش راضي”، تعبيراً عن رفض الحلول الهلامية.
وفي لبنان الذي انتفض على فقره وتغول الطغمة السياسية الطائفية الحاكمة، بدأ الحراك باحتجاجات مطلبية، وما لبث أن وصل إلى المطالبة بإسقاط الحكومة كاملة دون استثناءات، فكان شعار “كلن يعني كلن”، اختصاراً لكل الشعارات السياسية وانتفاضة على واقع طائفي استمر لعقود.
وابتكر العراقيون شعار “شلع قلع” في ساحة التحرير، ليعيد تشكيل عراق يشبه العراقيين بلا محاصصات وبدون طائفية.
ومع عودة الشباب للشوارع في موجة الربيع الثانية، عادت الروح للساحات، وعادت النداءات، وعادت الشعوب تعيد لهذه البلاد نسغ الحياة رغم الموت المتربص عند كل زاوية يختبئ وراءها حاكم.
إياد الدليمي (كاتب وصحافي عراقي): الثورة بناء متراكم.. العراق بين ثورتين (1)
عندما هبت نسائم الربيع العربي عام 2011 على تونس ابتداءً، ومن ثم مصر وبقية البلدان العربية، لم يكن العراق بعيداً عن التأثر بها على الرغم من الطبيعة المغايرة للعراق بعد 2003 عن بقية بلدان الربيع العربي.
العراق، كانت الحكومة منتخبة والبرلمان منتخبا، وتجري انتخابات تشريعية كل أربع سنوات منذ الاحتلال الأميركي، ورغم ذلك كان هناك شعور لدى شريحة من العراقيين أن كل تلك الآليات إنما هي تكريس لديكتاتورية من نوع جديد، يمكن أن نطلق عليها اسم ديكتاتورية الصناديق، فهي تعمل بكل آليات الأنظمة الديمقراطية إلا أنها بالمحصلة لا تفرز إلا سلطة من نوع واحد، وشكل واحد، وربما حتى من حزب واحد، وفق أسس محاصصة طائفية أسست لها سلطة الاحتلال الأميركي.
هذا الشعور المبكر بكذبة الديمقراطية التي جلبتها دبابات المحتل الأميركي، كان محصوراً إلى حد ما في الطبقة المتعلمة التي تتصدر تيارا مدنيا، يرى أنه هُمّش في ظل ديمقراطية العراق الجديد، وهو تيار مدني وجد في ثورات الربيع العربي عام 2011 فرصته من أجل النزول إلى الشارع، فكانت التظاهرات العراقية في شباط/فبراير من ذلك العام امتدادا للربيع العربي، شملت العديد من المدن العراقية، قبل أن تجابهها القوات الحكومية بالقمع والاعتقال وتسليط البلطجية عليهم. ورغم كل هذا الترويع؛ استمرت التظاهرات قرابة الشهرين.
ثم كانت تظاهرات المدن ذات الغالبية السنية عام 2013، والتي استمرت لعام كامل، قبل أن تقمعها الحكومة بقسوة، وما أعقب ذلك من دخول تنظيم الدولة الإسلامية للعديد من تلك المدن، وإعلانه خلافته عليها.
وما لبثت التظاهرات والموجات الاحتجاجية أن عادت بعد توقف استمر لأكثر من عامين، هو عمر وجود تنظيم الدولة في مدن شمال وغرب العراق، ولكنها هذه المرة كانت تظاهرات مطلبية غالباً ما تخرج في فترة الصيف بسبب تردي الكهرباء والخدمات الأخرى، وصولاً إلى تظاهرات 2019 والتي تمثل الموجة الثانية من الربيع العراقي.
ولعلنا هنا يجب أن نشير إلى أن التظاهرات التي يمكن أن نطلق عليها تظاهرات ثورية بمطالب سياسية واضحة في العراق، تمثّلت في الثورة العراقية الكبرى، كما أطلق عليها منسقوها عام 2011، وأيضا انتفاضة تشرين 2019. وما بينهما، كانت تظاهرات في غالبها تظاهرات مطلبية اجتماعية أكثر منها تظاهرات ذات بعد ووعي سياسيين.
في الثورة العراقية الأولى، كان تأثير ثورات الربيع العربي واضحاً، ويمكن القول إنها كانت امتدادا لهذا الربيع، ورغم امتدادها في العديد من المدن العراقية، إلا أنها لم تنجح في تحقيق مطالبها التي تمثلت في تغيير النظام السياسي، وإلغاء المعاهدة التي وقعت مع الولايات المتحدة الأميركية، وإغلاق القواعد العسكرية الأميركية في العراق، ولكنها كانت شرارة لها ما بعدها، خاصة في ظل القمع الكبير الذي جوبهت به من سلطة يفترض أنها سلطة منتخبة.
في العام 2019، ورغم أن موجات ثورية عربية اندلعت في السودان والجزائر وحققت جزءاً من مطالبها، فإن العراق لم يتأثر بهذه الثورات، وإنما هذه المرة رسم لنفسه مساراً خاصاً، بعد أن أدركت القوى المجتمعية أن الوضع العراقي بحاجة إلى ثورته الخاصة.
جاءت ثورة تشرين 2019 شعبية مطلبية، بلا قيادة حزبية أو سياسية أو دينية كما جرت التظاهرات السابقة في العراق، وركزت على إجراء تغييرات شاملة في النظام السياسي العراقي.
في 2011 كان ما يزال بوسع العراقي أن يتأمل تغييرا من قبل الطبقة السياسية والحزبية الحاكمة والدينية الداعمة للنظام السياسي، بينما الحال في 2019 اختلفت بالكامل، فقد خرج العراقيون بتظاهرات أطلقوا عليها اسم الثورة منذ يومها الأول، فلم يعد باستطاعتهم الصبر على نخبة سياسية حاكمة طالما كذبت عليهم وقدمت الوعود تلو الوعود من دون تنفيذ.
ويمكن أن نجمل في هذه القراءة التحليلية السريعة، مجموعة من العوامل التي كان لها تأثير بالغ في اندلاع ثورة 2019 العراقي، منها:
تراكم الخبرات لدى الشارع العراقي في التعامل مع الطبقة الحاكمة، وفسحة الحرية وحرية التعبير التي توفرت للعراق خاصة عقب 2016، والفضاء الإلكتروني الذي أتاح للعراقيين التواصل بشكل أكبر وموسع مع العالم الخارجي، ونمو تيار مدني فرض نفسه على الشارع العراقي وبات رقماً صعباً دفع بمقتدى الصدر وتياره الشعبوي إلى التحالف مع هذا التيار الذي يمثله الحزب الشيوعي العراقي في انتخابات 2018، والفساد المالي الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وانتشار البطالة التي بلغت نحو 42% بحسب لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي، وفشل الأحزاب السياسية وخاصة إسلامية التوجه في الاستجابة لطبيعة وتحديات مرحلة جديدة في عراق ما بعد “داعش”.
كل هذه الأسباب وغيرها الكثير شكلت مرتكزات لثورة عراقية الهوية تجاوزت الطائفية والعرقية والإثنية، ورفعت شعار “نريد” في محاولة لاستعادة هوية وطنية جامعة، كادت أن تتلاشى في ظل سيطرة أحزاب الإسلام السياسي وتبعيتها المطلقة للخارج.
وبغض النظر عما يمكن أن تحققه ثورة تشرين العراقية، إلا أنه يمكن القول إنها نجحت في إيجاد أرضية مشتركة بين العراقيين، أرضية تصدعت كثيراً بعد 2003، وكادت أن تؤدي إلى تقسيم البلاد، كما أنها أعادت الكرة إلى الشارع بعد أن صودرت إرادته طيلة 16 عاماً، هذا ناهيك عما أرسلته هذه الثورة من إشارات إلى الخارج، وتحديداً الإقليمي، بأن عملية السيطرة على العراق لن تكون سهلة، وهو ما دعا إيران، اللاعب الإقليمي الأبرز في الساحة العراقية، إلى تحسس رأسها خاصة وأن هناك شعوراً بالخوف من ارتدادات ما يجري في العراق على الداخل الإيراني.
- كتبت هذه الشهادة قبل انطلاق “انتفاضة البنزين” في إيران (المحرر)
(4)
محمد حلاّق الجرف (باحث سوري): ضدّ الأضواء
علينا إزاحة الاستثناء التونسي جانباً عند كلّ حديث عن موجة الربيع العربي الأولى، وإن كنّا نعتقد أنّ الحالة التونسية لا تُشكّل استثناء فعلياً، فربّما ينتظر هذا البلد ربيعٌ آخر، ذلك أنّ موجة الربيع العربي الأولى حملت معها موتها لأنّ “المنطق” الذي حكم ثورتها هو ذات المنطق الذي ثارت عليه، ولعلّ سورية هي مثال يصلح لدراسة وتحليل ذلك.
لم تنتهِ الموجة إلى الفشل لأنّها أعادت إنتاج “النظام القديم” كما حدث في مصر، أو لأنّ العسكرة والعنف والجهادية سيطروا عليها كما حصل في سورية واليمن وليبيا، هذه ظواهر اجتماعية تُرافق الثورات ولكنّها لا تقتلها. ما قتل موجات الثورة الأولى عربياً في رأيي هو أنّها لم تُنتج نخبها، أو لنقل أنّها لم تُنتج نخبها كما يجب، فقد تمكّنت الأنظمة الحاكمة والفضائيات الكبرى وموظفو الخارجيات الغربية وممولو منظمات المجتمع المدني من إعادة تدوير النخب المستهلكة، أو تصنيع نخب على قياسها، وتصديرها إلى الواجهة الإعلامية بحيث أنّنا أصبحنا فجأةً أمام ظاهرة “النجم الثوري” وصار هذا النجم، سواء كان ذا تاريخ بارز كميشيل كيلو، أو شاب كهادي العبد الله، يُقرّر على شاشات التلفزة ما يجب وما لا يجب. وعند ذاك أصبحت مهمة الأنظمة سهلة، عليهم فقط أن يفاوضوا النجم، أو أن يتفاوضوا عليه، ليستعيدوا المجال العام الذي فقدوه مع بداية الثورات.
الموجة الثانية يبدو أنّها استوعبت هذا الدرس وأدركت، أقلّه في العراق ولبنان، أنّ محاربة هكذا أنظمة يجب أن تنطلق من “منطق” يناقضها، فلم نرَ حتّى الآن قيادات أو مؤتمرات أو هياكل معارضة بهيكلية تراتبية لأنّ شباب الحراك في كلّ من البلدين عرفوا، وبذكاءٍ فطري يُحسدون عليه، أنّ ما يهزّ طبيعة هذه السلطات المُتخمة بالتسلسل وخطاب التسلط الحزبي الضيق هو وجود معارضة على مستوى “الشارع كله” ذات قيادة واسعة ومشبعة بالتشاركية. وعندما طالب حسن نصر الله بقيادة للثورة اللبنانية لمعرفة مطالب المحتجين كان الجواب أنّ المطالب مطروحة في الشارع وما عليكم سوى الاستجابة لها، أما في العراق فقد رفع المحتجون قائمة بأسماء 300 شهيد عراقي يمثلون قيادة ثورتهم. هكذا صنع الحراكان “نخبهما”، من شارع الحراك نفسه، لا من أناس “كليي القدرة” لديهم ذاك النزوع اليقيني نحو تحليل كل شاردة وواردة. لكن كانت يقينية وشمولية نخب الربيع الأول هي المشكلة بحدّ ذاتها.
إذاً، لم يقع ثوريو الموجة الثانية بـ”هوى السلطة”، ولم تُغرهم أضواء الشهرة فعرفوا أنّها قاتلة. بل على العكس تماماً، صرنا نرى “نجوم مجتمع” مشهورين باتوا حريصين على التقاط صورهم في الساحات.
ولكن، هل كان للموجة الثانية أن تقوم لولا الموجة الأولى؟ بالطبع لا. تُشبه موجات الربيع الأولى بأثرها ما عاشته أوروبا بعد احتجاجات 1968 الفرنسية. فقد أطلقت المشاعر تجاه الحق في امتلاك المجال العام المسلوب من أنظمة التسلّط منذ الاستقلال، وكذلك أعلنت “موت الأب” وانتفضت في وجه أبوية أحزاب المعارضة التقليدية، وهي لم تفشل إلاّ لأنّها كانت بمعنى ما “تمهيدية”، فالشارع الذي عاش “فراغ” السياسة واحتقار الشأن العام على يد الآباء، أدرك أبناؤه الآن أنّهم “ليسوا دمىً معزولة وعاجزة تتحكم فيها مؤسسات لا يستطيعون السيطرة عليها ولا فهمها” على حدّ وصف دانييل سنجر لشباب ثورة مايو الفرنسية.
مايا مجذوب (إعلامية لبنانية ومؤسسة مبادرة “التجمع المناهض للفصل العنصري”): متغيرات الربيع العربي..
بين مرحلتين
الثورة سيرورة تتعاقب مراحلها و”أمواجها”. وما بين الموجتين الأولى والثانية لما عرف بـ”ثورات الربيع العربي”، شهدنا عدة متغيرات:
– لا دينية ولا عسكرية، بل مدنية: نلاحظ في الموجة الثانية تصاعد وهج “الدولة المدنية” في أدبيات الثورة كمطلب شعبي عام يعد بالعدالة الاجتماعية، بعد فشل نماذج الإسلام السياسي في الحكم (الإخوان المسلمون في مصر)، وانحدار أغلبها نحو العنف الوحشي (داعش والنصرة في سورية)، إلى جانب فساد وديكتاتورية نموذج الحكم العسكري (مصر السيسي). لذا، فإن أهم الهتافات التي خرجت في السودان مثلاً هي “إما النصر أو مصر”، بحيث رفضوا أن تسلبهم السلطة العسكرية ثورتهم، برغم كل محاولات القمع، بعكس مصر التي سلّمت السلطة الانتقالية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. كما نشهد اليوم تراكماً لوعي جمعي لدى شعبي العراق ولبنان يربط بشكل ماديّ مباشر بين الطائفية والفساد في البلدين، فبات يُنظر للطائفية على أنها سياسة “تفقير” للشعبين. لذا نراهم يتصدون لها و”يعيدون تعريف” هويتهم ضمن إطار المواطنة (عراقي ولبناني) لا ضمن إطار طائفي كما اعتاد أن يُعرّف عنهم، فيتمسكّون بمطلب “الدولة المدنية”.
– لم تستفد الموجة الثانية من تجربة الموجة الأولى ضرورة بلورة قيادة واضحة: كي يُكتب النجاح لحراك شعبي يتعدّى بمطالبه فقط إسقاط حكومة أو وجه رئاسي ما، على الحراك أن يُشكّل قيادة وطنية موحدة تفرض برنامجها ووجوهها على مراكز صنع القرار في السلطة. لكن اليوم، الرأي السائد في خطاب الانتفاضة الشعبية في لبنان مثلاً، هو تغييب متعمّد لأي قيادة للحراك على قاعدة أن لا أحد يمثّل بشخصه جموع الثوّار وأن لا مركزية للقيادة، وبأن هذا يمنع السلطة من “تلفيق ملفّات” على القادة. الحق يقال، كانت هذه نقطة قوة للحراك في مرحلته الأولى لحين إسقاط الحكومة، لكن اليوم، مع دخوله مرحلة تشكيل حكومة جديدة تُمثّل تطلعات الثوار، يجب الدفع باتجاه أسماء وبرامج تمثيليّة يفرضها الحراك كبدائل، كي لا يُترك الباب مفتوحاً أمام أركان السلطة بالاختيار نيابةً عن الناس، كما يحصل اليوم، كونها قوى سلطوية “مُنظّمة” بعكس الثوّار. لا يكفي بناء الوعي الثوري لدى الجموع، المهم أيضاً أن يُنتِج ذلك مؤسسات وقوى سياسيّة تُمثّلها – وإلاّ وقعنا كذلك في فخ النقطة التالية:
ـ فخ عدم إدراك (نتيجة غياب خطاب تمثيلي موحّد) مدى عمق الأهمية الاستراتيجية في إعلان موقف جذري من “إسرائيل”: ولا أعني هنا خطاباً صوريّاً فقط، كحرق العلم الإسرائيلي مثلاً، بل من حيث تعزيز استراتيجيّات مضادة للاستعمار وإلغاء اتفاقيات السلام مع الاحتلال الإسرائيلي. مثلا، “الإخوان المسلمون” في مصر أبقوا على معاهدة كامب ديفيد، وحافظوا على سياسة خارجية خاضعة للولايات المتحدة الأميركية، بدل أن يتبّعوا سردية 25 يناير الثورية الساعية إلى نفض منظومة الحكم العسكري وتحالفاته، وإعادة بناء منظومة ثورية ضد الاستعمار. الأمر نفسه ينطبق على العديد من نماذج المعارضة الليبراليّة. واليوم، لا أفق لحركة تغييرية في أي بلد عربي تُنادي بدولة “مدنية” لكن لا تتبنى كذلك طرحاً مضاداً للاستعمار يحوز على إجماع عام ويمنحها شرعية. في العراق مثلاً، الانتفاضة على التدخلات السلطوية الإقليمية، منها الإيرانية، لا يجب أن تعني بالمقابل عدم اتخاذ موقف قاطع من “إسرائيل” والإدارة الأميركية. في انتفاضة لبنان، تبرز الحاجة إلى التأكيد على أن الحراك المطلبي لن يمس باستراتيجية البلاد الدفاعية القائمة ضد الاحتلال الإسرائيلي، أي بسلاح المقاومة وأن شعار “كلن يعني كلن” المحق من حيث تحميل كل الأطراف الحاكمة – من ضمنها حزب الله – مسؤولية الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي آلت إليه البلاد، لن يكون أشبه بـ”حصان طروادة” تتلطى داخله بعض الأطراف الخارجية والداخلية التي تستهدف فعلياً سلاح الحزب تحت عناوين مطلبية محقة. على الحراك الشعبي أن يحمي المقاومة، برغم محاسبته إياها على الأداء السياسي في الداخل.
– اكتسبت الموجة الثانية خبرة أكبر في التصدي لأدبيات الثورة المضادة، وأبرزها تفادي الوقوع في فخاخ السياسات الهوياتية: مثلا، نرى التركيز الأكبر على البنية المطلبية المشتركة العابرة للهويات الطائفية والمناطقية بوجه سلطة تُحرّك وتغذي الهويات المتصارعة على وزن: سني- شيعي في سورية، إسلامي- علماني في مصر مما سهّل انقضاض العسكر على الثورة، سني- شيعي- كردي- عربي في العراق. في الانتفاضة الشعبية في لبنان مثلاً انتشر شعار “طبقية مش طائفية” للتركيز على طبيعة معركة الحراك اللبناني ضد النظام الطائفي الطبقي الرأسمالي بدل الوقوع في فخ انقسام “هوياتي” طائفي، رغم انزلاق البعض فيه، لكن كان ذلك يستجلب في كل مرة حملات إدانة شعبية واسعة رافضة لخطاب “الحرب الأهلية”. كذلك بات الشارع الحراكي اليوم أكثر إلماماً وخبرة في التعاطي مع اتهامات السلطة لإجهاض الحراك: تمويل سفارات، نحن أو الفوضى، نحن أو الفراغ، ستقعون في حرب أهلية، البلد سيفلس…
– تفادت الموجة الثانية الدخول في صراع مسلّح مع القوى الأمنية برغم القمع (القمع الدموي في العراق خاصةً) لتجنب سيناريو ليبيا وسورية متمسّكةً بشعار “سلميّة”.
ختاماً، طالما أن أسباب قيام ثورات “الموجة الأولى” لا زالت قائمة حتى اليوم – من فساد، قمع، بطالة، ديكتاتورية – فمن المتوقع أننا سنشهد في المنطقة المزيد من الموجات القادمة.
أنيس محسن (كاتب وصحافي فلسطيني من لبنان): ربيع لبنان.. ساحات الشعب وشوارع أحزاب السلطة
ليست الاحتجاجات حديثة العهد في لبنان، بل هي قديمة ومتنوعة؛ بعضها كان سلمياً على غرار الاحتجاجات التي كان ينظمها طلاب وأساتذة الجامعة الوطنية وعمال مصانع غندور، وتظاهرات صيادي الأسماك، في الربع الأخير من ستينيات القرن الماضي، ومطلع سبعينياته؛ وبعضها كان دموياً على غرار احتجاجات 1958 التي تحولت إلى حرب أهلية مصغرة، ثم احتجاجات ما قبل الحرب الأهلية (1975 – 1990)، التي شهدتها غالبية المدن اللبنانية، والتي قوضتها تلك الحرب التي تسببت بإزهاق أرواح وتغييب قسري لمئات الآلاف من المواطنين، فضلاً عن فرز ديموغرافي على أساس الدين والطائفة.
ما بعد 1990، شهد لبنان كذلك سلسلة من الاحتجاجات؛ بعضها كان محدوداً مكاناً ومكوّناً، على غرار تظاهرة 9 آب/أغسطس 2001 لأحزاب مسيحية أمام قصر عدل بيروت، قُمعت بعنف؛ واحتجاجات 1992 التي سادت الشارع بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، والتي كانت موجهة وذات هدف، هو تسليم مقاليد الاقتصاد للرئيس الراحل رفيق الحريري، عبر تسلمه رئاسة الحكومة، بتسوية سورية – سعودية – أميركية. على أن أكبر وأعظم تلك الاحتجاجات كانت تلك التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، والتي تسببت بخروج جيش النظام السوري من لبنان، لكنها أعادت توزيع السلطة على القوى والمحاور السياسية التقليدية، وحالت دون إحداث تغيير اقتصادي واجتماعي، بل قادت إلى مزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والعُقم السياسي.
أما الاحتجاجات التي جاءت بعد دخول تيار الرئيس الحالي ميشال عون (التيار الوطني الحر) “جنة” السلطة، فكانت تلك التي شهدها وسط مدينة بيروت احتجاجاً على تكدس النفايات وكانت عبارة عن تظاهرات تحت اسم “طلعت ريحتكم”، والتي بدأت في 22 آب/أغسطس 2015، لكن أجهضت أيضاً، عبر زج “زعران” ميليشيات السلطة بين المتظاهرين، والتسبب بصدامات مع قوى الأمن التي عمدت إلى قمع تلك الاحتجاجات.
“كلن يعني كلن”: في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2019، أُعلن عن ضريبة 6 دولارات شهرياً على المكالمات عبر تطبيق “واتساب”، فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، إذ خرجت تظاهرات في مختلف المناطق تطالب بإسقاط السلطة كلها، وتتهم كل السياسيين بالفساد، وهي تظاهرات واعتصامات استمرت على الرغم من إلغاء القرار بعد 24 ساعة، وتواصلت بأشكال مدنية سلمية لافتة، بعد مرور أكثر من شهر ونصف شهر على اندلاعها، وعلى الرغم من محاولات زجّ الجيش والقوى الأمنية في صدام مباشر مع المحتجين، فقد لعب عاملان لافتان في نزع فتيل تلك المحاولات: رفض الشارع الاصطدام مع الجيش والقوى الأمنية واحتواء الأمر، وتمنع الجيش خصوصاً عن استخدام العنف المفرط مع المحتجين، على الرغم من حدوث صدامات محدودة مكاناً وزماناً، علماً أن تصرف قيادة الجيش هذا وضعها تحت سيف الانتقاد المباشر و/ أو غير العلني لتحالف الثنائي الشيعي (حزب الله وأمل) والتيار الوطني الحر (التيار العوني).
المفاجأة التي أربكت السلطة ولا تزال، كانت بخروج آلاف اللبنانيين من منازلهم إلى الشوارع والساحات: من أقصى الشمال في عكار مروراً بطرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، التي عُدت عروس ثورة 17 أكتوبر 2019، لما شهدته ساحتها الرئيسية (ساحة النور أو ساحة الله – بسبب كلمة الجلالة وسطها، واسمها الرسمي ساحة عبد الحميد كرامي) من إبداعات احتجاجية مدنية وحضارية، أزالت عن المدينة وصمة التطرف والأسلمة، التي رُميت بها لسنوات طويلة؛ مروراً بمدن وبلدات منطقة كسروان المسيحية، المحسوبة عادة على تيار الرئيس ميشال عون، وبيروت التي لم تهدأ لحظة وصيدا التي أبدعت باحتجاجاتها أيضاً؛ على أن المفاجأة الثانية كانت تلك التظاهرات والاعتصامات التي شهدتها مناطق سيطرة حزب الله وأمل، في العمق الشيعي، في صور والنبطية وبعلبك والهرمل، والتي تحدت القمع المباشر والعنيف واستمرت بدورها.
خلاصة: قد يكون فرط تفاؤل التعويل على تغيير جذري تُحدثه ثورة 17 أكتوبر في لبنان، لكن بعض ما تحقق يمكن البناء عليه:
– إجبار رئيس الحكومة سعد الحريري على الاستقالة، على الرغم من ضغوط حزب الله والتيار الوطني الحر (التابع لرئيس الجمهورية)، وبالتالي خلط أوراق تحالف الأوليغارشية الحاكمة.
– خروج مناطق محسوبة على مختلف أحزاب وقوى الأوليغارشية الحاكمة، ورفع مطالب فوق طائفية ومناطقية.
– تقويض هالة الزعيم السياسي وقُدسية رجال الدين وقادة الطوائف، والنظام الطائفي برمته.
– تحييد الجيش اللبناني والقوى الأمنية، من خلال احتضان الجمهور المحتج لها، واقتصار القمع على بعض الوحدات التابعة مباشرة لبعض قوى السلطة.
ربما لا تحقق ثورة 17 أكتوبر مُرادها، كون الأُوليغارشية الحاكمة والمتحكمة والمتجذرة والمتوجسة من أي تغيير، سوف تستخدم كل خبرتها وأسلحتها في تقويض جذوة الثورة، لإحداث حالة من الإحباط تدوم طويلاً، وتجعل الشعب خانعاً مجدداً. وقد تَمثل ذلك في عدم دعوة الرئيس عون لاستشارات نيابية ملزمة لتكليف رئيس وزراء جديد تشكيل الحكومة، بعد مرور أكثر من شهر على استقالة الحريري (دعا أمس الأربعاء إلى استشارات كهذه- المحرّر)، وبإصرار حزب الله على رفض تلبية المطلب الرئيس للمحتجين، وهو: حكومة بوزراء مستقلين لمعالجة سريعة وفورية للأزمة المعيشية والتحضير لانتخابات نيابية مبكرة، وتعبئة جماهيرية مباشرة أو عبر وسائل إعلام، هدفها شيطنة الانتفاضة، من خلال اتهام أحزاب وقوى كانت جزءاً من تجمع “14 آذار”، وخصوصاً القوات اللبنانية وتيار المستقبل، بالوقوف خلف عرقلة حركة السير على بعض الطرقات (حزب الله وحلفاؤه يصرون على وصف هذا الاحتجاج السلمي بـ “قطع الطرقات”، وهو وصف غير دقيق البتّة، كونه كان دائماً يتم الحفاظ على تسيير المواصلات عبر طرق فرعية).
قد يُلاحظ أن وتيرة الاحتجاجات تنخفض بين حين وآخر، وتشتعل عند مفاصل سياسية أو اقتصادية معينة، لكن الأكيد، وبغض النظر عن معادلات الربح والخسارة الآنية، أنه استراتيجياً وما بعد ثورة 17 أكتوبر لن يكون الوضع مثل ما قبلها.
جودي الأسمر (كاتبة وإعلامية لبنانية): انتفاضة لبنان.. نعم لعراق ثانٍ
يُتّخذ العراق مثالاً تهويلياً ليرتدّ اللّبنانيّون عن انتفاضهم. منذ سنوات وبصورة متقطعة، يلوّح الخائفون في لبنان بـ”عراق ثانٍ”، متأثّرين بالمخوّفين الّذين تصدح أصواتهم اليوم أعلى وبضراوة للجم الدفق التّغييري، فيبنون على شروخات داخلية أفرزت أبشع الحروب على أرض العراق، بدءاً بالاجتياح الأميركي وانتهاءً بداعش.
وهكذا، يأخذون بتسمين فزّاعة الطائفيّة الّتي يفضّلون التّعايش معها أو إنكارها، عوضاً عن الإقرار بوجودها وقتلها. هذه الحال، تحديداً، تشترك فيها كلُّ من لبنان والعراق، لذلك من السّليم وربّما الضّروري الاستلهام من العراق وليس التهويل به، طمعاً بإنماء الانتفاضة وليس تهديمها.
فالعراق ينضمّ إلى لبنان، بفارق أيام، إلى قافلة البلدان العربيّة الّتي تخوض ربيعها العربيّ الثّاني، بتجربة أنضجتها السردية السياسية الذّاتية، وتستقي الدّروس أو بالحدّ الأدنى تمتلك الفرصة لاستقاء الدّروس من الرّبيع الأوّل الّذي لم ينتهِ بدون مصائب جلل خصوصاً في سورية، ولكن بعهد مشرق بدأ في تونس.
لذلك نتمنّى أن يكون لبنان اليوم عراقاً ثانياً، لأسباب سنعالجها لاحقاً إنّما ينبغي تثبيت أن ما يحدث في لبنان مهيب. ويظلّ شرفاً للشعب وتشريفاً للبنان بصرف النّظر عن مآله. ومهمّة المؤمنين به هو حمايته من الاشتباه به، ومن تقزيمه. والسؤال التالي يأتي حول كيفية القبض على قوته والبناء عليها، وهو الأصعب.
قيامة لبنان وعراق على أنقاض الترهيب: هي قيامة بحقّ، من الموت إلى الحياة، وحدثت أيضاً كالقيامة، في لحظة غير متوقّعة كانت خلالها الشيعيّة الحزبية مستقوية، ومنظومتها العسكرية تحكم قبضتها على المنطقة، بعد رسوّها في سورية والعراق، وتخصيب هذا الوجود من خلال الدعم الإيراني. الصّدمة الّتي أحدثها هذا التّغيير، جاء في قلب الطّاولة على كلّ رموز السلطة الفاسدة والنّهّابة والمترهّلة في لبنان بما فيها حزب اللّه الّذي حاول الاستعانة بترهيبه المزمن، ومحاولة تحويل 17 تشرين الى 7 أيار جديد، ولبنان الى عراق آخر، ولكن المختلف أنّ هذا التّرهيب يخدم اليوم كلّ السّاسة المدانين وليس فقط الحزب. في مقاله في “النهار” يصف جهاد الزين هذه القوة بـ”الفاشية” التي تضرب بيروت لحماية السياسيين برمّتهم “فالدور الذي تلعبه خلال الثورة ليس مجرد دفاع عن النفس أمام اختراقات الثورة لقلب مناطقها وسكانها الشيعة. كل الطبقة السياسية المدانة في الشارع المزدحم بالناس الغاضبين هي اليوم مدينة للشيعية المسلحة بإرباك وإضعاف هذه الثورة”.
فـ ـ”جوكر” العراق الوشيك في لبنان، استخدمه السيّد حسن نصر الله في خطابه بتاريخ 25 أكتوبر “بمعزل عن خلفيات وتفاصيل ما يجري في العراق، ماذا يجري اليوم في العراق؟ (…) أتريدون أن يصبح لبنان هكذا؟”، في وصفه بـ”الحرب الأهلية” لما يحدث في العراق من تظاهرات شبابيّة انطلقت بعفوية ممتازة، بنفس النّبض والسّلميّة الّتي تنتفض في لبنان ضدّ نقص الخدمات واستنسابية العدالة وانفلات السلاح، وفساد يقفز نحو معدلات غير مسبوقة. تهويل نصر الله في لبنان، سبقه الشهر الماضي قول رئيس الحشد الشعبي العراقي فالح الفياض بأن “مؤامرة تحاك ضد أمن العراق الغرض منها إسقاط النظام السياسي القائم منذ 2003”. وتقع الترجمة الأبشع لهذا التخويف المقرون بالتخوين في النجف العراقي، حين تسابق متظاهروه للنجاة من زخ الرصاص بعدما أقدم مندسون على إضرام النار في قنصلية إيران، في محاولة لخرق الانضباط والهدوء اللافتين في تظاهرات النجفيين، الّذين أداروا الأذن الصماء لكل هتافات الكراهية والعداء. والموقف المرتجل والمتوقع لقادة الحشد الشعبي يأتي في تصريحهم عن تهديد طاول علي السيستاني الذي تطوعوا لحمايته بإزهاق الأرواح، “في حين لم يقترب أحد من مكتب المرجع أو منزله” حسب جريدة السفير العربي.
إنّ الكرّ والفرّ وأيضاً الموت الرّاهنين بين المتظاهرين والأمن العراقي، حجّة وجيهة بنظر الشيعية المسلحة وبائدة بنظر المتظاهرين في لبنان، الّذين يؤمنون بأنّ النسخة اللبنانية لا تمتلك اليوم سوى عداء إسرائيل كمسوّغ أوحد لاستخدام قوته (وسلاحه)، لا تبرره توجيهها على المتظاهرين العزّل الّذين لا يربطهم أي منطق، عقائدي أو مطلق، بإسرائيل. وهنا يكمن الفارق الجوهري الّذي يطمئننا مبدئياً الى أنّ الربيع الراهن خلع عن نفسه عباءة الدّين، في انكماش الهالة التهويليّة عن الحزب في لبنان الّذي استمدّ قوّته السابقة من تصوّرات دينيّة خاطئة في دمشق. التظاهرات في صور والنبطية وبعلبك بما تمثله من مكونات شيعية، تفهم أنّها أسقطت هذا التّصور.
نعم.. لعراق ثانٍ، يستلهم منه المتظاهرون في لبنان الثبات، ومقارعة التهويل مهما اشتد مثلما يجيد أقرانهم العراقيون، وهؤلاء يقابسون اللبنانيين بتحويل ساحاتهم الى واحات فنّ في الموصل (موسيقى) وبغداد (غرافيتي). وفي كلا البلدين تصدح الـ”بيلا شاو” الإيطالية تعبيراً عن مناهضتهما لفاشية القرن الواحد والعشرين.
فالفزّاعة تبقى عصا هزيلة تعلوها كومة قش، مهما جرّبنا إتخامها بالتصورات الخاطئة. ومن التّصورات الّتي ينبغي إسقاطها، هو تحوّل لبنان الى عراق مفكّك ومدمّى. من الضروري اليوم تكثيف الإلهام والاستلهام بين شباب البلدين، خصوصاً الاستمرار بالمرونة والحكمة والوعي المدهشين حقاً في مواجهة الاستثارات الطائفية وما تتضمنه من عنف.
(5)
شفيق ناظم الغبرا (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت): حراك 2019 يتميّز بالوعي الجديد
تتدفق الأخبار عبر الكيان العربي المشتت بين دول بعضها صغير وبعضها كبير، لكنها تتساوى بشكل أو بآخر بمحن عدة. فهي تتميز، وإن بدرجات مختلفة، بضعف المؤسسات وانعدام الحريات، وغلق المساحات العامة في ظل معاقبة من يجرؤ على فتحها.
حالة العرب هي الأغرب في العصر الحديث: شعوب محاصرة من قبل أنظمتها، دول هشّة من الداخل والخارج، بينما تخضع بطرق مختلفة للإرادات الإقليمية والدولية المختلفة. لقد سقط العرب في الامتحان الإنساني والحضاري، لكنهم لم ينهزموا، فما زالت فيهم روح مقاومة وروح صعود. ومن هنا تنبع القيمة التاريخية الكبرى لثورات 2011 ثم للحراكات الثورية المندلعة في 2019. والأوضح في حراكات وثورات 2019 أنها وقعت في مجتمعات عربية لم يشملها الربيع العربي الأول في 2011.
عند السؤال بماذا تختلف ثورات 2011 عن 2019، تبدو ظاهرة الفساد والحكم الرشيد في المقدمة، بل وفي المقدمة قضايا الاقتصاد والبطالة والفساد والكهرباء والمياه الملوث والغلاء وسقوط العملة وازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء. لكن الجزائر تحركت بفضل قضية سياسية، هي دورة جديدة لحكم الرئيس بوتفليقة، الذي لم يعد يقوى على القيام بأي واجب تجاه الشعب. إن ثورات وحراكات 2019 أدخلت، ومن الباب الواسع، كتلاً اجتماعية مهمشة من فقراء المدن إلى الحياة السياسية. ففي 2011 لعبت الطبقات الوسطى، كما وطلاب الجامعات، والخريجون الجدد، والمثقفون، دورا كبيرا، لكن في حراكات 2019 اختلف الدور بسبب خروج أكثر الفئات تهميشا نحو المساحات العامة. وقد تبين في الحراكات الجديدة صعود دور المرأة، فهي حاضرة بصورة غير مسبوقة. وفي هذا يمثل لبنان نموذجاً صارخا.
لكن الحراكات العربية في 2019 سرعان ما توجهت ضد كل النخب الحاكمة في السلطة، وشعاراتها شملت كل المتورطين. كما تميزت الحراكات بالوعي بأن سقوط الرئيس (بوتفليقة في الجزائر، والبشير في السودان) أو فئة صغيرة من القادة في النظام لا يعني تحقيق المطالب. بذل الجهد في المرحلة التي تلي الانفجار الأول هو المسؤولية الأكبر التي تواجهها حراكات 2019، ويبدو أن بعض الوضوح ينير طريق تلك الحراكات.
في 2019، يحمل التغير نفسا براغماتيا. فالمتظاهرون لا يسعون للسلطة أو لأخذ دور في الدولة، بل يبحثون عما يجعلهم قوة ضغط، ولوبيا شعبيا كبيرا على الطبقة الحاكمة وقراراتها. مثلا في لبنان، يتميز الواقع اللبناني بوجود جيش وطني لبناني يجمع عليه اللبنانيون، وجيش لحزب الله محط إجماع من نمط آخر، خاصة إن ركز بصورة أكبر على حماية الجنوب وعدم التدخل في المعادلات الداخلية. ومع ذلك يسعى التيار الشعبي للضغط على الدولة برمتها وكل النخب لتغير النهج.
وبينما يسجل التاريخ أن ثورات 2011 كانت سلمية، وأن سورية وليبيا تعسكرتا بفضل دموية النظامين، فإن ثورات 2019 أكثر التزاما بالسلمية، وأكثر وعيا بطرق الحفاظ عليها. الرصاص المنهمر على المتظاهرين في العراق، وفي حالات في السودان، والقمع الذي واجه متظاهري بيروت والجزائر، لم يتم التعامل معه من قبل المتظاهرين إلا بالسلمية الحقيقية. وبنفس الوقت، يتردد المتظاهرون في إبراز قادة جدد، وذلك خوفا من مصادرة مطالب التغير أو قتل القادة. هكذا تبدو معظم الحراكات بلا رأس وبلا قيادات. مع ذلك، تمهد دورة الربيع العربي الثانية 2019 لبروز نمط جديد من القادة الميدانيين، ونمط جديد من الأحزاب اللاطائفية، وغير المنحازة لأقليات أو أغلبيات أو قوميات مختلفة ضمن المشهد الوطني.
لقد تميز حراك 2019 بالوعي الجديد في صفوف المتظاهرين الذي ينطلق من أهمية استيعاب كل الفئات والطوائف والقبائل. لهذا بالتحديد لا نجد الاسلام الشيعي أو السني، السياسيين في قيادة الحراكات، ولا نجد سيطرة للقوى الحزبية العربية التقليدية. إن السعي لبناء هوية إنسانية جامعة لكل الفئات التي يتشكل منها المجتمع يميز هذه الحراكات، فهناك حالة مواطنة صاعدة في 2019. العربي يريد أن يكون مواطنا صالحا في بلد يتفاعل مع تأمين مطالبه وحماية حقوقه الإنسانية كاملة، في بلد يستطيع اختيار قادته وعزلهم.
في حراكات 2019 ترتفع نسب الوعي حول ضرورة الحد من دور الجيوش في السياسة كما هو الوضع والموقف في السودان والجزائر، وهذا تغير هام مقارنة بمرحلة 2011، إن الوعي بدور الجيوش ومخاطر سيطرتها على السلطة السياسية والاقتصادية، يستمد زخمه من دور الجيش المصري منذ انقلاب 2013. إن دفع الجيوش للعودة لثكناتها ليس من وحي الخيال، بل أصبح أمرا مرتبطا بحراك قائم في عدة بلدان عربية.
سيكون التحدي الأكبر في المرحلة القادمة إمكانية نجاح نموذج واحد للتغير الديمقراطي في نظام عربي عسكري، كما أن نجاح رحلة تغير وإصلاح تنتهي بحكومة مساءلة فعلا، وتستمد سلطتها من الشعب في دولة جمهورية أم ملكية، سيشكل سابقة في مشهد التغير المستمر. سنستقبل عام 2020 في ظل حراكات مرشحة لمراكمة التجربة في ظل فرص الانتشار نحو مجتمعات عربية أخرى.
جنى الدهيبي (كاتبة وصحافية لبنانية): “الرّبيع العربيّ” لم يلفظ أنفاسه
يُشارف العام 2019 على طيّ صفحته، لنستقبل العام 2020 شاهداً على ولادة موجةٍ ثانيةٍ من موجات “الربيع العربي”. وما بين ثورات 2010 وثورات 2019، عايشت الشعوب العربية تسع سنوات من التّوق إلى الحريّة والكرامة، وكانت سنواتٌ عجاف مليئة بالخذلان والموت والقهر والدّم. ومع ذلك، لم تنطفئ شرارة “الربيع” ولم يصبح “خريفاً”، رغم كلّ المآسي، كما أرادته الأنظمة الحاكمة لهذه الشعوب.
قد يكون ما أفرزته الانتفاضات الشعبية التي اندلعت منذ العام 2010، في تونس وسورية وليبيا واليمن ومصر، جزءاً لا يتجزأ من مشهديات الانتفاضات الشعبية التي بدأت عدواها تتنقل هذا العام كالنار في الهشيم بين العراق ولبنان والجزائر. ثمّة ما يجزم أنّ “الرّبيع العربيّ” لم يلفظ أنفاسه، وإنّما هو روحٌ تتجدد وتحيا في كلّ مرّة تُضرب نحوه سهام ورصاصات السلطات وحاشيتها وأتباعها، من أجل قتله والقضاء عليه شيطنةً وفتنةً وتخويناً.
هي لحظات تاريخيّة مجيدة نعيشها، بين لبنان والعراق، لتقاطع الأحداث وتشابهها، مع اختلاف الظروف والتركيبة النظامية في البلدين. وبينما تعلو فيهما أصوات شعبيّة ضدّ الطائفية والمناطقية ومنطق المحاصصات والفساد المستشري في قطاعات الدولتين ومفاصلهما العميقة، فأكثر ما يشدّ الأنظار في ساحات هذين البلدين، هي ثورة شبابية غير معهودة، هزّت عروش الأحزاب وكسرت قدسية الزعامات في طريق سحق رمزياتها “المُألهة”.
وواقع الحال، هو أنّ هذه الثورات يديرها ويشعل فتيلها، شباب وشابات جيل التسعينيات، وحتّى أوائل الألفين. هذا الجيل العصري، لم يستطع أن يسجل دوراً تشاركياً فعالاً في الموجة الأولى من ثورات “الربيع العربي”، لصغر سنّه حينها ربما، أو لأنّه كان مسحوقاً ومهمشاً من أجيالٍ سبقته، لا تتوانى عن إطلاق الاتهامات “التنمرية” بحقّه جزافاً، على أنّه “جيل البابجي” (نسبة للعبة بابجي الإلكترونية) و”جيل الإنترنت والسناب شات”، وأنّه جيل خمولٌ وكسولٌ لا يقرأ ولا يتابع ما يدور حوله، ويمضي وقته بأسخف الأمور وأقلّها منفعة. لكنّ اندلاع شرارة الموجة الثانية من الثورات العربية، جاء فرصةً ذهبيةً لهذا الجيل، لكي يقلب الطاولة على النظام والسلطة بأدواته ووسائله، وحتّى ينتقم من ادعاءات أجيالٍ سبقته، آباءً وأمهات وأجداداً، وحتّى ينتقم أيضاً لأحلامه ومستقبله في بلادٍ كان يعيش فيها غريباً ومنسلخاً عن انتماءات لا تشبهه، قبل أن يعلنها ثورةً ليستردّ هذه البلاد، وكلّ ما سُلب منه قسراً.
هذا الجيل الذي كسر كلّ الحواجز وتخطّاها عبر الشبكة العنكبوتية، لم يعد يستوعب موروثات كان يتلقاها حشوا، وتدفع به للتقوقع تحت لواء الحزب والطائفة والمنطقة، فتمرد على كلّ هذه العصبيات التي لم تجلب لأجيالٍ سبقته سوى الخراب والحروب. في الشكل، هي ثورات مطلبية وحقوقية ضدّ الفساد والمفسدين، من أجل لقمة العيش والطبابة والتعليم والحصول على أدنى مقومات العيش الكريم. لكنّها في المضمون، هي ثورات يقودها جيل جديد على الأنظمة في عمقها، وتعبّد الطريق لإعادة انتاج منظومةٍ سياسية واجتماعية وثقافية، تكون عابرةً للطوائف والمناطق، وتقف على طرفيّ نقيضٍ مع منظوماتٍ سبقتها.
يُدرك الثائرون والثائرات في الساحات العربية، أنّ مشوار الثورة بموجتها الثانية محفوف بالدّم والألغام والمخاطر، وأنّ إزالة النظام الطائفي لصناعة تيارٍ مدني لا طائفي، ليست مهمةً سهلة يمكن إنجازها بين ليلةٍ وضحاها. دفع الفاتورة في هذا المشوار، لهو أمر حتمي، وقد يكون الثمن باهظاً. ومع ذلك، كانت أدوات هذا الجيل الثائر وأساليب تعبيره الثورية فتنةً ودهشةً للنظر والعدسات التي توثّقها، وهو يواجه في الشارع سلطات هرمة وعجوز ومترهلة، لا تعرف غير البطش في قمعها، بالشعارات الحداثية والألوان والفنّ والموسيقى، وعبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي بالفيديوهات والصور. أمّا ما يميزها، فهي أنّها ثورات بلا رأسٍ يقودها، جعلت سلطات الأنظمة حائرةً بخصمها، ولا تجد سبيلاً لمواجهته سوى بالقتل والاعتقالات والتخوين والتشكيك واختلاق سيناريوهات مزيفة سعياً لتبرئة ذمتها.
هذا الجيل الذي يقود ثورته، وتجاريه أجيال سبقته، يطمح لبناء دول أقلّ طائفية وديكتاتورية، وأكثر ديمقراطية وعدالة اجتماعية. لذا، نجد أنّ أبناء هذه الثورات، قد يميلون إلى استيعاب الدروس المستفادة من الثورات العربية السابقة، ويتفادون أخطاءها بالوقوع في مستنقع الهويات والانتماءات، دفاعاً عن هويتهم الوطنية الجامعة والموحدة. ولأنّها ثورة اتصالات أيضاً كسرت الحواجز واستبدلتها بجسورٍ وأوصالٍ بين الدول، نجد أنّ الساحات في العراق والجزائر ولبنان، تتوحد تحت مطلب واحد، وهو إنجاز تغيير جذري بالطبقة الحاكمة، وتحقيق تحوّل ملموس، عبر تفعيل الديمقراطية بانتخابات برلمانية تصدر نتائجها من الشعب خارج أيّ قيدٍ طائفي أو مذهبي أو مناطقي. فهل يتحقق هذا الحلم الذي أرادته الأنظمة مستحيلاً؟
علي سفر (شاعر وصحافي سوري): نؤمن أن الثورات حياة لا تنتهي
الثورات، وكما تشرح المادية التاريخية في النظرية الماركسية، لا تحدث بسبب نزعة يمتلكها فرد أو مجموعة بشرية، بل تتفجر وطبقاً لقوانين الديالكتيك من بؤرة التناقضات الاجتماعية، حيث يؤدي صراع المكونات المجتمعية إلى ما يعرف بنفي النفي. فكل مرحلة تنفي بالضرورة ما سبقها، وأي اجتماع مؤقت بين مرحلتين لا بد أن تحتشد فيه قوة التناقض ما يجعل إمكانية الوفاق والهدوء مستحيلة الاستمرار!
التحليل الماركسي هنا ما زال صالحاً، وهذا ليس مديحا للنظرية، بل إقرار بأن وعي الجدل المادي وكذلك التاريخي، يجعلنا نفسّر لمن لا يريدون أن يعوا أنهم في مرحلة تغيير كبرى: لماذا لم ولن يتوقف الربيع العربي، ولماذا كنا حين انتمينا إليه، إنما ننتمي لقوة المستقبل، وليس لقوة الماضي المتقهقر؟
منذ بدأت ثورات بعض الشعوب العربية في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وصولاً إلى ثورات شعوب أخرى تفجرت في نهاية هذ العقد، كنا نسجل في الروزنامة أو المفكرة الزمنية ذروتي مخاض طويل، قوامهما الصراع بين أنظمة ذات تكوين هجين مائع يجمع بنى اشتراكية مشوهة مع برجوازية بيروقراطية، وكذلك أخرى طفيلية، مع أحزاب ملحقة بها، وبين ثائرين وجدوا أنفسهم وحيدين وعزلاً في مواجهة كارثة كبرى هي تحالف الأنظمة ومعارضاتها التقليدية والتيارات الإسلامية الجهادية من بينها، لقد عاشت مكونات هذا الحلف مع بعضها وتغذت بذات الغذاء من خلال حبل سرتهما المشترك، وقادت البلاد والعباد إلى مستويات غير مسبوقة من الفساد والتخلف، ما جعلها تتشابه وتتحالف في مواجهة الثورات الطافحة بعنفوان شبابي غير قابل للمهادنة، الأمر الذي أدى في المحصلة إلى وقوع فرز حادٍ بين الفئات المجتمعية بشكل عام، فإما أن تقف مع الأنظمة التي باتت عنواناً للقمع والفساد، وكذلك المنظمات المتطرفة التي صارت صورة للتخلف وللعنف، وإما أن تنتمي للثورات التي قامت من أجل نفي الماضي واكتساب المستقبل! وضمن هذا المسار كنا وما زلنا نتحدث في نقاشاتنا المستمرة عن تحالف بين عدوين للثورة ضدها، وضد شبابها، وضد وجهها الساطع المنير!
بين الذروتين السابقتين، سيكون المخاض مؤلماً ومرعباً في دمويته وفي أثمانه الكبرى، إذ إن تحالف القمع والفساد والتخلف والعنف ضد الثورات النقية سيجد دعماً لا محدوداً من دول خليجية محددة، ومن تيارات في دول أخرى بالغت في براغماتيتها أثناء تدخلها في السياقات المحلية للثورات، وسيصطلح على هذا الدعم والتدخل بتسمية لائقة هي “الثورات المضادة”!
وكذلك سيجد دعماً غير قليل، وليس بسهل المواجهة، نتج عن تعقدات الصراعات الجيوسياسية في المنطقة أدى إلى تدخل قوى إقليمية كبرى، نقلت تناقضاتها فيما بينها إلى المساحات الداخلية للبلدان التي قامت فيها الثورات، فصارت بعض قوى الثورات أدوات بيد بعض هذه الدول، وصارت بعض الأنظمة واجهات لسيطرة دول أخرى كإيران وروسيا، مع دعم إسرائيلي لم يخف على أحد لبقاء هذا النظام أو ذاك.
ولعل الجميع يعرف أن الثمن الدموي الذي دفعته الثورة السورية، أريد به أن يكون المثال المفجع لما يمكن أن يلحق بمن يرفضون الانصياع، ولكن فات من يديرون هذه المقتلة أن الثورات ليست قراراً شخصياً لهذا الفرد أو ذاك، أو لهذه المجموعة البشرية أو تلك، إنها ثورات لا حزبية، فهي غير مرتبطة بالأيديولوجيا، كما أنها وقبل أي شيء عفوية في إطارها العام وليست مؤامرات ضد الأنظمة خطط لها ذات ليل كما يعتقد مؤيدوها. وهي قابلة للتجدد والاستمرار بشكل دائم، طالما أنها تكونت إجرائياً في مساحات شبكات التواصل الاجتماعي، فصارت منفتحة على آفاق حضارية مختلفة، وعلى تجارب عالمية في التغيير أدت إلى نمو المجتمعات وتغير بناها الاقتصادية والذهاب نحو رفاه الفرد، مروراً بتداولية السلطة والتحولات الديموقراطية التي تغير بنى مؤسساتها.
ومع كل ما سبق، يمكن العودة إلى بداية الفرضية ونقضها، فنحن لسنا أمام موجتين، بل نحن أمام واحدة، نلمح لها ذرى متعددة، تمتد على مساحات زمنية لا يمكن تحديدها، بل يمكن توصيفها بأنها مرحلة الثورات، وكذلك لا يمكن الحديث عن فرادة هذه الثورات، فهي لا تختلف عما حدث في أوروبا في القرن التاسع عشر، أي في المرحلة التي أعقبت الثورة الفرنسية، سوى بتفاصيلها المحلية.
نور القيسي (إعلامية عراقية): الموجة الارتدادية الأولى للربيع العربي
عاد في نهاية عام 2018 مشهد توافد الشباب إلى الشوارع بلافتات “الشعب يريد إسقاط النظام” إلى الواجهة، من الجزائر إلى السودان، ثم مصر وبغداد وبيروت، حيث ترتسم الآن في هذه اللحظات ملامح أكثر وضوحاً لأول موجة ارتدادية لثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس عام 2010.
موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية الرافضة لسياسات الأنظمة الحاكمة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، أو ما يتعلق بجوانب الإصلاح السياسي وحرية التعبير وحقوق الإنسان.
قد تختلف طبيعة ومضمون ثورات الربيع العربي بموجتيها الأولى والثانية في بعض الدول، كما تختلف الخصوصية الثورية التي يتميز بها كل بلد من البلدان التي وصل اليها الربيع أو ارتداده نظراً لخصوصية كل دولة، وتركيبتها الديمغرافية والعرقية والطائفية والاجتماعية بصفة عامة، وحتى أدوار القوى الخارجية التي تتقاطع أو تتداخل مصالحها مع الثورة، لكن لهذه الثورات أرضية مشتركة انطلقت منها كانت أهم أسبابها:
أولاً، تعتبر الشعوب العربية من أكثر الشعوب الفتية، لكن رغم ذلك لا توجد أي خطوات جدية من قبل الحكومات لاستيعاب هذه الموارد البشرية.
ثانياً، شعور هذه الطبقة من الشباب بالغضب والإحباط بعد أن تمت سرقة ثورتها من قبل أنظمة وأحزاب لا تمثل طموحاتها.
ثالثاً، عجز الحكومات ومؤسساتها عن استيعاب طريقة تفكير هذا الجيل، إذ ما زالت هذه الحكومات تفكر بطريقة تقليدية لا ترقى لروح العصر.
رابعاً، تفشي الفساد المالي والسياسي في دول الربيع العربي.
خامساً، لم تستوعب الأنظمة الجديدة حجم التغير في الوعي الذي أنتجته ثورات الربيع العربي الأولى والتغيرات الفكرية والاجتماعية والأيديولوجية التي طرأت على فكر الشباب الثائر.
سادساً، جاءت الموجة الارتدادية التي نعيش أحداثها الآن طامحة إلى تصحيح أخطاء الموجة الأولى، التي أدت إلى انتكاسات؛ حروب داخلية، كما في سورية واليمن وليبيا؛ بروز الخطاب الاسلامي المتشدد؛ ضياع الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية.
السمات الأساسية لِثورات 2019:
– الطابع السلمي للاحتجاجات، حيث أن الشباب في البلدان التي تشهد ثورة ضد أنظمتها يصرون على الحفاظ على سلمية احتجاجاتهم، رغم القمع الحكومي الشرس في بعض البلدان مثل العراق، إلا أن المحتجين هناك ما زالوا مصرّين على تفويت الفرصة على الحكومة في جرِّهم إلى صراع مسلح، وإعادة السيناريو السوري في العراق.
– بدأ في هذه الموجة تبلور أفكار تؤسس لوعي جديد، منها فكرة أهمية مشاركة المرأة في العمل الثوري، والتأكيد على دورها في صنع الحراك، والحفاظ على وجودها كوقود للثورة.
– ذوبان الهويات الفرعية والرجوع إلى الهوية الوطنية، كما في العراق ولبنان. نعم، ما زالت أمام هذه الموجات الثورية وصانعيها تحديات حقيقية، لكن ما يبدو واضحاً للعيان، أن لشباب هذه الثورات قدرة هائلة بالسرعة والتعلم من أخطائهم، وقدرة بارعة على إدارة أنفسهم واستغلالها موارد لضمانة استدامة هذا الحراك.
– تقويض السلطة الدينية والحزبية التي كانت جاثمة على صدور هذه الشعوب طويلاً.
– التكافل الاجتماعي الذي أنتجته “اللاسلطوية” التي انتهجها، بدون تخطيط مسبق، شباب الثورة لإدامة زخم التظاهرات، نعم هو منهج غير مفيد ومؤذ على المدى البعيد، لكن ما زال هو الحل الأمثل للوضع الراهن، حيث يلتحف الثائرون السماء، ويتوسدون الأرض، لحين تحقيق مطالبهم المشروعة.
واخيراً، أقول: أثبت العام 2019 أن دوافع ثورات ربيع عام 2011 لا تزال موجودة بقوة في دول عدة، وأن فترة الهدوء التي استمرت لثمانية أعوام كانت كافية بالنسبة للشباب لإعادة الحسابات، ودراسة الأخطاء والبدء بموجة الجديدة.
وتبدو الموجة الراهنة من الثورات أكثر تركيزا على تحطيم الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي، والمؤسسات الغارقة في الفساد والمحسوبية، واستنزاف موارد الدول لصالح الطبقات السياسية الحاكمة المتنفذة. وختاما أستطيع القول إنه بات واضحاً أن دوام الموجات الارتدادية الثورية من دوام فساد السلطة واستبدادها.
(6)
باسل العودات (كاتب سوري/ رئيس تحرير شبكة جيرون الإعلامية): الثورة التي لا تقتلك تقويك
قبل تسع سنوات، بدأ الربيع العربي، أو ما فضّل البعض أن يطلق عليه مصطلح “الموجة الأولى من الثورات”، وافترض المراقبون، بل والشعوب، أن الأنظمة السياسية العربية في البلدان التي تحقق فيها ما سمي بالربيع العربي، سوف تشهد الاستقرار والأمن والأمان، ورسوخ معايير الدولة الحديثة وأسسها، وستشهد خلال هذا العقد نشوء دول ديمقراطية تعددية تداولية، تضع المواطنة أساساً وهدفاً وركيزة لها.
اعتقد كثيرون أن ظروف القرن الحادي والعشرين، لم تعد تسمح للديكتاتوريات والأنظمة الشمولية أن تُطلق عنفها المطلق في وجه حركات التحرر الداخلية، وأن الظروف الموضوعية باتت ناضجة للخلوص من الأنظمة الأمنية، وتركيب أنظمة سياسية ديمقراطية دون أي إشكالات أو مفاجآت، واعتقدوا أن المجتمع الدولي لن يسمح لأنظمة أمنية تمييزية متجذرة فاسدة بأن تخرق كل المحظورات الأممية والدولية والإنسانية لتُحافظ على بقائها، بل سيكون هذا المجتمع الدولي لها بالمرصاد، وهو ما لم يحصل.
مارست الأنظمة السياسية العربية والسلطات الحاكمة والموالون لها في دول “الثورات الأولى” أعتى وأغرب أنواع الممارسات اللاعقلانية، التي تدرجت من سرقة الثورة (مصر) إلى افتعال حرب أهلية (اليمن) إلى ارتكاب أكبر مجازر التاريخ الحديث (سورية)، وقالت جميعها إن ما حصل هو “مؤامرات خارجية” قامت بها السلطات الاستعمارية وأتباعها في البلدان العربية، بهدف القضاء على الحركة القومية العربية وعلى الأنظمة المعادية للاستعمار، وأنظمة المقاومة والممانعة، لوقف تقدّمها وتحررها وإغراقها في حروب أهلية طائفية أو إثنية أو مناطقية، وتدمير المجتمعات العربية والعودة بها عشرات السنين إلى الوراء.
بالمقابل، طالبت غالبية شعوب “الموجة الأولى من الثورات العربية” بتطبيق معايير الحرية والديمقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات، ونبذ الطائفية والتمييز والمحسوبيات، واحترام ثقافة حقوق الإنسان، ولم تحد عن هذه المطالب رغم الضغوط الكبيرة التي مورست عليها، ورغم الوسائل والأساليب الكثيرة التي وُجدت لتغيير مسارات الثورات وعكسها وسرقتها.
كان من الطبيعي والعقلاني أن تستفيد الشعوب العربية من تجارب الشعوب التي سبقتها في الثورة، وأن تُغني تجاربها، وأن تُبدع طرقاً مُبتكرة لاستمرار ثوراتها والنجاح فيها، وأن تتجنب كل ما مرت به الثورات السابقة لها من أزمات وتحديات ومصائب، لكن هذا لم يحدث.
كما كان من الطبيعي والعقلاني أن تستفيد الأنظمة العربية من تجارب الأنظمة الأخرى التي دمّرت بلدانها من أجل مصالح ضيقة وفردية، طائفية أو أسرية أو مناطقية أو قومية، لكن هذا لم يحدث أيضاً.
قررت غالبية الأنظمة العربية التي شهدت “الربيع” أن تختار الطريق المتعثر والدموي، ولم تخطُ خطوة واحدة في اتجاه شعوبها، ولم تقبل نهائياً بتداول السلطة أو حتى الإصلاح، واستمرت تعيش وتمارس سياساتها نفسها وقيمها وثقافتها، وقمعها وعنفها وعنجهيتها.
بعد تسع سنوات، تبيّن، أن الأسس النظرية والفلسفية والسياسية للأنظمة العربية التي حصلت فيها ثورات هي نفسها، والظروف السياسية الضاغطة والسياسات القمعية هي نفسها، فلا تطبيق لمعايير الدولة الحديثة، وهناك تغوّل للأجهزة الأمنية بكل ما فيها من فساد واستبداد وهضم حقوق المواطن والإنسان، ومصادرة لمؤسسات الدولة والمجتمع وتنظيماته، وفرض لقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وإذلال وبطالة وفشل في التنمية، وينطبق الأمر نفسه على بقية البلدان العربية التي تحكمها نظم بتقاليد شمولية، أو فئات سياسية واجتماعية واقتصادية تستولي على السلطة.
التشوهات السياسية والاجتماعية والقيمية والأخلاقية التي تتمثل بها الأنظمة الشمولية العربية خلال عقود تُشكّل أرضية واحدة لها جميعها، لكن خلال تجربة تسع سنوات من الثورات العربية، تبيّن أيضاً أن بعض أخلاقيات الأنظمة الشمولية ومفاهيمها وسلوكها انتقلت إلى بعض التيارات السياسية المعارضة، فكانت الشعوب سابقة لها دوماً، ومتقدمة عليها، وبقيت هذه الأحزاب، التي كان يُعتقد أنها ستكون أملاً للثورات، مُسيّرة مرتهنة وقاصرة، وتحمل أمراض الأنظمة التي نشأت وترعرعت فيها خلال عقود، وبقيت الديمقراطية واحترام الرأي الآخر وقيم الدولة الحديثة ومعاييرها والشفافية وغيرها، خارج ثقافة غالبية التيارات السياسية المعارضة، فأبعدت الشركاء الرماديين المحتملين، وقدّست المصالح الحزبية أو الفئوية أو ما يشبهها.
في ظل هذه المعادلة، بدأت ما استطيب للبعض أن يطلق عليها مصطلح “الموجة الثانية من الثورات”، وربما استفادت هذه الموجة الجديدة من درس ضرورة تهميش التيارات السياسية المعارضة، التقليدية منها والجديدة، لكنّها وقعت في مطب التمثيل أو الريادة والقيادة، فالشارع لا يمكن أن يضع سياسات الثورة، بل السياسيون هم من يضعوا الشارع في مساره الطبيعي، ويبدو أن الاستفادة من التجارب ما زالت في حدها الأدنى، والجميع يتجاهل الثقافة الجديدة للثورات التي تحتاج إلى ممارسات جديدة وتراكم تجارب.
صحيح أن الموجة الأولى من الثورات العربية لم تفشل بعد، بالنظر إلى حقيقة أن الثورات قد تستمر لسنوات وعقود، ضمن مراحل مدّ وجزر، لكن لا بد لثورات الربيع الثاني أن تستفيد من التجارب الأولى السيئة لشعوب الربيع العربي، وربما تكون ملهمة تستعيد نجاحاتها دول الربيع الأول، فالكل في الهم واحد، والجميع يسعى إلى دول ديمقراطية وحديثة تحترم الحريات وحقوق الإنسان والمساواة والمشاركة وتعطي المواطن حقوقه، وعليهم التذكر أن التجارب تزيد من قوة الإنسان إن لم تقتله.
كفاح علي ديب (كاتبة وفنانة تشكيلية سورية/ مديرة تحرير القسم العربي في Handbook Germany): “البعبع” السوري والثورة “المسروقة”!
ثماني سنوات مرت على بدء الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي؛ تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. اختلفت مسارات ونتائج انتفاضات/ ثورات شعوب هذه البلدان، وللأسف لم تكن المسارات ولا النتائج إيجابية في معظمها؛ ما عدا في الحالة التونسية، حيث ما يزال التونسيون يحاولون استكمال مسيرة الديمقراطية حتى الآن. في باقي البلدان أفضت معظم الانتفاضات إلى تغيير رأس النظام، دون أي تغيير يذكر في شكل الحكم، أو الحصول على الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي خرجت الشعوب مطالبة بها.
وفي الحالة السورية بشكل خاص، لم تثمر انتفاضتنا نحن السوريين عن نتائج إيجابية تذكر، فلا النظام ولا رأسه تغيّرا، ولم تستطع المعارضات، بكل أطيافها، كسب أي نتائج لصالح من تدّعي تمثيلهم، بل إنها وبعد تشكلها بمدة قصيرة راحت تخسر “حاضنتها الشعبية” في معظم الداخل السوري وخارجه.
بنظرة عامة إلى السنوات الماضية، سيكون من السهل ملاحظة أن الدول التي تم فيها استخدام السلاح والعنف من قبل الأنظمة، ثم العنف المضاد من المعارضات، وطلب استقدام التدخل الخارجي من قبل الطرفين أيضاً، قد استحال الوضع فيها إلى خراب. لم يبادر أي من شعوب بلدان الموجة الأولى لاستخدام السلاح، بل كان التسلح ردة فعل على عنف الأنظمة وأساليب القمع التي اتبعتها. وإذ لا يمكن لوم من هم تحت الحصار والرصاص على حملهم السلاح، فمن الواجب أيضاً الإشارة إلى المحرضين على حمله، من المحسوبين على المعارضة، وخاصة النخب السياسية والثقافية.
على أي حال لم يتمكن الثوار، قليلو الخبرة السياسية، من تنظيم صفوفهم وفرز قادتهم، ما شكل فراغاً أتاح للكيانات السياسية المتشكلة، أن تنصّب نفسها قائدة وناطقة باسم الشباب الثائر.
في الحالة السورية باعت الكيانات السياسية مختلف أشكال الوهم للمتظاهرين، معشّمة إياهم باستجلاب التدخل الخارجي مرة، وفرض حظر جوي فوق بعض الأماكن لتأمينها مرة أخرى، ثم مدّهم بالسلاح لمقارعة آلة النظام العسكرية، وغير ذلك من الوعود التي أثبتت السنوات التالية لها كذب هؤلاء، وعدم قدرتهم على الوفاء بأي من هذه الوعود، بعد أن صدقهم المتظاهرون، تصديق الموشك على الغرق بأن قشة ستنجيه.
تحولت الحالة السورية إلى “البعبع” الذي يشهره الحكام العرب في وجه شعوبهم. وقال البعض إن سورية ستكون “مقبرة للربيع العربي” بسبب نتائجها الكارثية، لكن هل حقاً هي كذلك؟ أم أنها شكلت درساً للشباب العربي فباتوا أكثر خبرة وقدرة على تنظيم ثوراتهم اللاحقة؟
في نهاية عام 2018 انطلقت ثورة السودان، حاول رئيسها عمر البشير إشهار بعبع سورية في وجه المتظاهرين، كما أطلق ضدهم قوات “الجنجويد” والرصاص الحي. لكن الثوار صمدوا وثابروا على سلميتهم أكثر من ثمانية أشهر، خلالها كانت نخبهم السياسية، والثقافية، تطل من مختلف المنابر تحثهم على التمسك بالسلمية، سلاحهم الوحيد في وجه عنف النظام، لم يناشد المتظاهرون ولا النخب السياسية أي تدخل خارجي، ولم يسمحوا للإسلام السياسي بامتطاء ثورتهم، وكان ذلك دليلاً على تعلمهم الكثير من الدرس السوري.
ثم انطلقت ثورة اللبنانيين والعراقيين؛ حالتان لا يمكن إلاّ أن تتم مقارنتهما بجارتهما سورية، ليس فقط من باب السلمية، فالوقت لا يزال مبكراً للحكم إن كان الحال سيستمر سلمياً، وخاصة أمام ضغط القوى السياسية، واستخدامها للعنف في وجه المتظاهرين. لكن يمكن النظر إلى الحالتين من حيث وعي الثوار حتى الآن لخطر الطائفية، التي يحاول السياسيون دفعهم إليها. فكل ما شاهدناه من فيديوهات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كانت تبرز الثوار ونخبهم نابذين وعابرين للطوائف. بل يصح القول إنه، حتى الآن، أثبتت الثورتان أنهما قامتا لدفن عقود من الطائفية حكمت البلدين، في حين انزلق العديد من المثقفين والنخب، السوريين خاصة، في هوة الطائفية التي ما كف معظمهم يبرر لنفسه ذلك بذريعة أن النظام هو من صنعها. إذا كنت تعلم وأنت متيقن من فخ صنعه النظام لك، إذاً لماذا سقطت فيه؟!
كما انزلق العديد من أبناء اليسار في فخ آخر، هذه المرة “نصبه لهم” الإسلام السياسي للانطواء تحت رايته، بحجة أن “المعركة اليوم ضد النظام، ولا مانع من التحالف مع الإسلاميين لإسقاطه”. لكن ما إن بدأت علامات هزيمتهم أمام النظام، وخذلانهم من دولهم الداعمة، حتى برروا لأنفسهم بمقولة “لقد سُرقت الثورة!”.
هل حقاً سرقت الثورة من قبل الإسلاميين، أم أن العلمانيين واليساريين لم يكونوا أوفياء لأفكارهم و”ثورتهم” وبالتالي لم يستطيعوا حمايتها من “السرقة”؟
هل يمكن أن “تسرق” ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي؟ أم أن الشباب باتوا أكثر وعياً، وتعلموا درس أن الدكتاتوريات لا يمكن إسقاطها بذات أدواتها؟ هل ستشكل الموجة الثانية من الثورات حجر أساس لثورات ثانية في البلدان التي لم تتحقق فيها مطالب ثوراتها الأولى؟ أنا أعتقد نعم. فالموجه الثانية من الربيع العربي أعطت أملاً كبيراً لكثير من الشباب في البلدان التي لم تنجح بها الثورة الأولى، والتي تحولت، بتدهورها الاقتصادي، والتعليمي، والاجتماعي، إلى بيئة لثورات جديدة، مختلفة عن الأولى، ستشهدها ولو بعد حين.
نزار السهلي (كاتب وصحافي فلسطيني): مسألة الحرية والديمقراطية ليست رفاهية بل قضية جوهرية
لا تندلع ثورة من العدم. عبر التاريخ، ارتبطت بنشوء الخلق والعقل، والأخير محور التفكير والتفكر، ومنطلق للتغيير الذي بدأه الإنسان في استنباط وسائل الحياة وتكييفها، أو تسخيرها لتلائم زمنه وحياته، ثم وضع لها النظريات والأسس، التي تطورت مع تطور عقله ووسائله، فكانت ثورات دينية وصناعية وسياسية وعسكرية، فكرية وعلمية، اجتماعية واقتصادية، كل مرحلة تلغي ما قبلها، أو تجددها بمرجعية معرفية معينة، ولا يمكن للثورات بأي حال من الأحوال أن تكون حسب رغبة المراقب لها، بـ “نتائج وغنائم”.
كما لا توجد حقب زمنية سائدة، دون ثورة وحراك، ولا مجال هنا لتعداد أثر الثورات ومراحلها، وانعكاسها على البشرية، خصوصاً تأثير الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية، إلا أن الحقبة الأهم في التاريخ المعاصر عربياً، كانت ثورات العالم العربي، في موجتها الأولى، أسقطت طغاة، واستعصى آخرون خلف متاريس من دم ولحم وحطام لمدن، أو خلف سعير الثورات المضادة.
الثورة السورية مثلت أداة متقدمة لجرأة الانسان العربي في مواجهة الطغيان المسنود من تحالف متين بنى عرشه طويلاً على الخرافات الفكرية والنضالية والشعاراتية والسياسية، قبل الموجة الثانية من الثورات العربية، كان الخيال السياسي يلوذ بالماضي، الذي أصبح الغوص فيه ضرورة تعالٍ إرادية، لاجترار الأحلام لتلطيف جور الحاضر، وإزاء بؤسه وترديه في الواقع، يدخل واقع السياسة والثقافة والأدب والفن الملتصق بمراتب وتمتمات الطاغية في كهولة وموت، يقود تجاهل الحقائق إلى تبسيط وتحلل الصراعات بمنطق وهمي، كما أن حجب التناقض مع الطغيان والاستبداد ومخلفاتهما يقود إلى تساقط الشعارات الكبرى وتقزيم قضاياها، وأن المعادلة التي سرت على مدار عقود بالتناقض مع العدو أولاً، لا تعني أن لا يكون سلاحها الطبيعي الحرية والكرامة والمواطنة، وهذا يلخص إصرار الطاغية مع عصاباته، على تجريد السوريين من أسلحتهم، لكن التخفيف من قيمة هذا السلاح وتجاهله أجهض وأعاق “حلم” الطاغية للأبد، ألا يكفي السوريين فخرهم بما أُنجز إلى موعد حرية مطلقة؟
كانت الثورة السورية سباقة إلى إسقاط وهم المقدس، ووفرة جرأة المساس بزعزعة هذا التقديس وتجريده من شعاراته، الثورة السورية ومآلاتها المؤلمة التي أريد لها أن تكون فزاعة للشارع العربي، تحولت إلى أمل في مقارعة أنظمة لا تتفوق على نظام الأسد وحلفائه وحشية.
بالمحصلة لم تُجدِ الوحشية الفجة في التعاطي مع الشعب السوري، ومع مجتمعات عربية ثائرة في مصر واليمن وليبيا، والتي مارستها النظم العربية، وأحزابها وحركاتها السياسية ونخبها، للقضاء على تطلعات الشارع العربي في الحرية والكرامة والمواطنة، لذلك خابت آمال الثورة المضادة حين اكتسحت الموجة الثانية من الثورات مدناً وشوارع عربية، من بغداد وبيروت إلى الجزائر والخرطوم، متمسكة بسلمية الحراك، مستفيدة من سد ثغرات وإخفاقات تسلل إليها النظام العربي، وأجهزته الأمنية عبر وسم الثورات والمجتمعات بالإرهاب.
الأسئلة التي طرحتها ثورات 2011 تستكمل إجاباتها في ثورات 2019، والأسئلة التي طرحت في دمشق تستكمل إجاباتها في بغداد والقاهرة وبيروت والجزائر والخرطوم. وهنا يجب تقدير الدور المعرفي الذي قدمته الثورة السورية بالنسبة للميادين التي تعيد اندلاع الموجة الثانية من الثورات، بما فيها أساليب المواجهة، ودرس الإخفاق الذي احتل حيزاً كبيرا للدلالة على عدم فائدة ثورات عربية أخرى كي لا تتحول إلى” نموذج سوري” تردد بالإجابة على شوارع عربية ثائرة.
ينظر البعض للثورات بموجتيها الأولى والثانية، إلى صراع أجندات دولية وإقليمية، ليعزز الصراع القديم مع فكرة ونظرية المؤامرة، ذلك الصراع الذي يمثله أساساً الإنسان العربي الذي أصبح عنوان المواجهة في وجه الطغيان والفساد، لكن إلى أي مدى أصبحت هذه الأفكار مقبولة في المسار العام للثورات في الموجة الثانية؟ إذا أخذنا لبنان والعراق نموذجين وبطريقتين مترابطتين من حيث التركيبة المذهبية والطائفية وحجم الفساد وتأثير لوردات الطوائف على لجم الثورة في الشارع، نجد أن الأفكار القديمة وآليات المواجهة قد تبلت ولم تعد تفيد لإخماد الثورات، وأصبحت وسائل مواجهة الشارع شائنة وغبية، ومنحطة أخلاقياً بعدما تم نسخها على علاتها من قاموس مواجهة الثورة السورية.
أخيراً، ربما استثمر الاستبداد والطغيان والفساد الرسمي العربي رواسب المذهبية والعشيرة والطائفية، لإدامة السيطرة وحكم المجتمعات، واستخدم مفهوم الحرية والثورة لربط أي تحول وتطور بشعار محاربة “المؤامرات” ومقاومة الاحتلال، وأبعد فكرة الحرية والديمقراطية التي تعني الإنسان الفرد والجماعة، وكلها أسباب موضوعية لاندلاع ثورة ضد الاستثمار الرديء، وهو الذي نشهد خسارته في العراق ولبنان على هذا الصعيد في مواجهة الموجة الثانية من الثورة، أما في سورية فمع وصول الإطباق والسيطرة الفاشية للنظام لذروته، ستبقى ظواهر اندلاع موجات ثورية قادمة متوفرة، بعدما باتت الحرية والديمقراطية قيمة إنسانية عالية، ولأن الثورة ظاهرة ليست عابرة في التاريخ، ومرتبطة مع الإنسان وحريته لبناء مجتمع المواطنة والعدالة، ومن هنا ستبقى مسألة الحرية والديمقراطية ليست رفاهية بل قضية جوهرية لا يمكن القفز عنها.
ضفة ثالثة