هنا/الآن ما هي وظيفة الثقافة في اللحظة العربيّة الراهنة؟/ أوس يعقوب
(1)
كشفت لنا الثورات العربيّة التي اندلعت في نسختها الأولى في عدّة بلدان عربيّة أواخر عام 2010 وبداية 2011 والتي عرفت بـ”الربيع العربيّ”، وكذلك في نسختها الثانية التي نعيش فصولها اليوم في لبنان والعراق والجزائر والسودان، وساهمت في إسقاط أو زعزعة عدد من الأنظمة الاستبداديّة التي كانت جاثمة على رقاب الشعوب في هذه البلدان؛ كشفت عمّا أنفقته تلك الأنظمة الديكتاتوريّة خلال عقودٍ من الزمن من ثروات وطنية وجهود بشريّة وهي تشنُّ حربها الإلغائيّة ضدّ الثقافة الحقيقيّة ذات الجذور العميقة، وضدّ المثقّفين الملتزمين بقضايا الأمة والشعوب الأساسيّة، بهدف محو الثقافة الفاعلة المؤثرة بحمولتها القيميّة الملتزمة بمطالب الناس بالحريّة، والعدالة، والكرامة، والقيم الإنسانيّة من جهة، وفرض بدائلها الثقافيّة بإفرازاتها المشوّهة التي تسلب الإنسان كافة حقوقه الشرعيّة وتمنع عنه العيش بحريّة وكرامة من جهة ثانية.
في هذا الملف نناقش مع نخبة من الكتَّاب والباحثين الأكاديميّين العرب، من الّذين يشكّلون رافعة من روافع الثقافة العربيّة الحديثة، إشكالية “راهن الثقافة العربيّة، وواقعها والمأمول منها”، متوجّهين إليهم بالسؤال التالي: من منظوركم، ما هي وظيفة الثقافة في اللحظة العربيّة الراهنة؟ وكيف ترون وظيفتها (أي الثقافة) في تغيير الشارع العربيّ لا تكريسه، في أوطاننا العربيّة التي تشهد الآن موجة ثانية من ثورات الربيع العربيّ، في ظلّ غياب الدور الجدّي للمؤسّسة الثقافيّة الرسميّة ومسؤوليّاتها تجاه كلّ مَنْ يحمل راية الثقافة، التي تمثّل ضلعاً من أضلع النضال ضدّ أيّ ممارسات وانتهاكات تُرتكب بحقّ الإنسان العربيّ من المحيط إلى الخليج؟
هنا الجزء الأوّل:
خـالـد زيادة (كاتب ومؤرخ ودبلوماسيّ لبنانيّ، مدير فرع بيروت للمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات): دعوة لدراسة التراث الثوريّ العربيّ
إنّنا بحاجة لأن ندرس الموجة الأولى والموجة الثانية من الثورات على ضوء التاريخ
الثقافة مفردة شديدة العموميّة. وتشمل الأفكار والآداب والفنون بما في ذلك التعبيرات الشعبيّة. والذي أفهمه أنّ السؤال يقصد كلّ ذلك ولكلّ باحث أن ينظر إلى الزاوية التي تعنيه.
وإذا راجعنا في لمحة سريعة ثورات الموجة الأولى والموجة الثانية من الربيع العربيّ، نجد أنّ كلّ ثورة كانت تختصر شعاراً واحداً: “الشعب يريد إسقاط النظام”، إضافة إلى شعار فرعيّ يخصّ كلّ بلد. إلّا أنّ الثورة وإسقاط النظام لم يترافقا مع برنامج أو رؤية ولا عبّرا عن نخبة قادرة على الصياغة والقيادة. وبهذا المعنى فإنّ الثورات افتقدت إلى الأفكار في زمن عالميّ يفتقر إلى الأفكار الكبرى.
كذلك لاحظنا غياباً للمثقّف، في الموجة الأولى والثانية من الثورات، وهو أمر لا يتعلق بأسباب ذاتيّة وإنّما يعبّر عن تطور يتجاوز العالم العربيّ، حيث يفقد المثقّف دوره المفترض.
ما أقترحه على الباحثين في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وخصوصاً المؤرخين وعلماء الاجتماع، هو دراسة التراث الثوريّ العربيّ، منذ الحرب العالميّة الأولى، مع الثورة العربيّة 1916 وثورة مصر 1919 وثورة العراق 1920 وثورة الريف 1921 والثورة السوريّة 1925.
والدراسة أو الدراسات المقارنة مع ثورات مطلع القرن الحادي والعشرين يمكن أن تشرح لنا التطورات والاختلافات خلال سحابة قرن من الزمن. أي أنّنا بحاجة لأن ندرس الموجة الأولى والموجة الثانية من الثورات على ضوء التاريخ لكي نستطيع أن نفهم أسباب الإخفاق وسُبل التقدم والنجاح واستعداداً للموجات الثوريّة القادمة لا محالة.
فإذا لم يكن المثقّف منخرطاً في الثورات، من الضروريّ أن يقوم بدوره كمحلّل وناقد وباحث على ضوء الدراسات والنظريّات التي حلّلت الثورات والحركات الاجتماعيّة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن السابع عشر.
أحمد دلباني (كاتب وباحث جزائريّ): الانتفاضات العربيّة كشفت عن عوائق سوسيولوجيّة وثقافيّة
جذر المشكلة بالأساس هو عدم انبثاق ما أسميه “الكوجيتو العربيّ” في حياتنا
تسألني عن الثقافة العربيّة، وعن واقعها والمأمول منها؟ أعتقد أنّ الإجابة لا يختلف حولها اثنان، وهي أنّ ما نسمّيه “الثقافة العربيّة” اليوم تعيش على هامش التاريخ ولا تسهم في صنع العالم أو طرح أسئلة جديدة عليه اللهم إذا استثنينا الأسئلة والهواجس الأمنيّة المرتبطة بتنامي الأصوليّة الدينيّة لا غير.
لماذا؟ كيف أصبحنا عبئاً أمنيّاً على العالم ومجرد مجال حيويّ وإستراتيجيّ لمصالح المتكالبين على ثرواتنا؟
يتموقع عالمنا العربيّ – الإسلاميّ ضمن دائرة الاهتمام الإثنوغرافيّ والسياسيّ – الإستراتيجيّ الغربيّ منذ مدة طويلة لم تشارف على الانتهاء رغم زوال الاستعمار التقليديّ قبل عشريّات. لقد بقيّ هذا العالم بعيداً عن التطور الطبيعيّ والتثاقف الإيجابيّ مع العالم منذ وقع ضحية للمطامع الإمبرياليّة المرتبطة بالسيطرة على مصادر الطاقة. وكان لنا أن نعرف التحديث الشكليّ والتبعيّة لدوائر صنع القرار الأجنبيّة بعيداً عن الحداثة والاستقلال الفعليّ والتنميّة الشاملة. والنتيجة: فشل في التحديث الإيجابيّ وإخفاق في بناء الدولة الحديثة التي تقطع مع بنيات الاستبداد القديم والسلطة الأبويّة.
لقد بقيت مجتمعاتنا بهذا رهينة لزمن ثقافيّ وسياسيّ يهيمن عليه العنف الرمزيّ والماديّ ويشهد هزات خطيرة وعودة لقوى سوسيو- ثقافيّة وسياسيّة تمثل ممانعة أمام التحديث الكسيح، وترفع شعارات الهوية والأصالة كما هو معروف.
إنّ التحليل الثقافيّ – في اعتقادي – سيقود حتماً إلى إدراك شيء مهم، وهو أنّ مشكلتنا تكمن في أنّنا لم نشهد قتل الأب في ثقافتنا وإنّما أعدنا إنتاجه في أشكال جديدة من الأصوليّة العقائديّة والانغلاق الأيديولوجيّ المذهبيّ فضلاً عن شراسة التاريخ الإمبرياليّ الذي ظلّ دائماً يتربص بنا ويعيق مشاريعنا النهضويّة والتنمويّة أو طموحنا إلى الاستقلال وسيادة القرار.
لقد كشفت الثورات العربيّة والانتفاضات المختلفة قبل سنوات قليلة عن عوائق سوسيولوجيّة وثقافيّة تقف حجر عثرة أمام تحرر الإنسان العربيّ أو الحلم ببناء مجتمع حرّ وديمقراطيّ تعدديّ يقوم على قيم العدالة والمواطنة والمساواة.
ربما لم نشتغل كثيراً على بناء الإنسان وتحريره من ارتهانه للماضي وكان همنا يرتكز على شعارات كلفتنا الكثير داخلياً وخارجياً. تشهد على هذا خيباتنا وهزائمنا.
أعتقد أنّ جذر المشكلة بالأساس هو عدم انبثاق ما أسميه “الكوجيتو العربيّ” في حياتنا وعدم احتلاله مركز الفاعليّة الثقافيّة في المجتمع. لا يمكن، في اعتقادي، انتظار أيّ شيء من ثقافة لا تزال تتوجّس – سياسيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً – من ميلاد الفرد الفاعل الحرّ الصانع لمصيره والمنسلخ من مرجعيّة المقدّس الموروث.
المشكلة في الثقافة العربيّة – وأنا هنا أتحدث عن الثقافة الرسميّة والسائدة والمكرّسة – هو أنّها تعيد سيرة “كتاب الموتى” المصريّ الشهير إن جاز التعبير.
وبغض النظر عن إسهامات الأنتلجنسيا العربيّة وجموع المثقّفين النقديّين العرب الّذين يمارسون الصعلكة خارج قلعة النظام الثقافيّ السائد، إلّا أنّ ما يسمّى “الثقافة العربيّة” اليوم يتمحور، بكلّ أسف، حول ما هو آيل للسقوط من معجم العصر في احتجاجاته وأسئلته وفتوحاته المعرفيّة.
غسان حمدان (روائيّ ومترجم عراقيّ): اللون الرماديّ ليس لون الثقافة ولن يكون
لا تخرج المظاهرات في عموم العراق عن كونها منبثقة من دائرة الوعيّ الثقافيّ لدى الشعوب المنتفضة ضدّ السلطات المستبدّة والأنظمة الحاكمة الفاسدة
أرى أنّ مفهوم الثقافة يرتكز في الأساس على الوعي ونشره بكلّ الوسائل المتاحة حتى يصل إلى الجميع بما يساعدهم على تجديد رؤيتهم لكلّ شيء محيط بهم، ولا تخرج المظاهرات الحاليّة في عموم العراق عن كونها منبثقة من دائرة الوعيّ الثقافيّ لدى الشعوب المنتفضة ضدّ السلطات المستبدّة والأنظمة الحاكمة الفاسدة، هذا فيما يخصّ الشارع، لكن في المستوى الأعلى الذي يجب أن تؤصله وظيفة الثقافة (وأقصد بالثقافة كلّ من يمكن أن نسمّيهم “مثقّفين” من أدباء ومفكّرين وفنّانين وموسيقيّين وناشطين حقوقيّين..) يتمحور في مجالين رئيسيين لا يمكن التغافل عنهما، إذ ما يحدث اليوم هو جزء من صيرورة أمة وشعوب في حلقة ضمن سلسلة كبيرة سيأتي اليوم الذي تبرز ملامحه للدراسة والفحص والتدقيق من قبل الأجيال القادمة، وهذان المجالان هما:
ـ التوثيق. وأقصد به كلّ المجالات الممكنة التي نستطيع بما نمتلكه من أدوات في توثيق هذه الأحداث، فهي ليست ملكاً لنا وحدنا – نحن أبناء اليوم- بل هي ملك لأبنائنا وأحفادنا واللاحقين أيضاً، فالروائيّ والقاصّ وظيفته الثقافيّة بل واجبه يتركز على حفظ هذه المظاهرات والأحداث المحوريّة في المدونة السرديّة العربيّة بما ينفع أجيال المستقبل من فهم السيرورة التي وصلتهم، وكذلك الفنان من خلال العمل المسرحيّ الموَّثق واللوحات والتمثيل التلفازيّ والسينمائيّ، والمفكّر من خلال الدراسة المعاصرة النقديّة الفاحصة لهذه الأحداث وأسبابها ومآلاتها، والموسيقيّ من خلال إنتاج وتأليف الموسيقى التعبيريّة عن هذه الظروف، لذا لا بد أن نوسع من مفهوم الثقافة لتشمل الزوايا المعتمة أيضاً لا تلك التي لحقتها النمطيّة التعريفيّة ففقدت بريقها ودورها بل وأضحت مطيّة للأنظمة بحيث لا يمكن التمييز بين المثقّف الحقيقيّ والتابع للأنظمة الذي يلهج بذكر اسمها ليل نهار.
– المساهمة الآنيّة الحقيقيّة. دور المثقّف اليوم هو في تعميق الوعيّ عبر الوسائل التي استخدمها في التوثيق، وهنا يجب أن نميّز بين “التوثيق ذي الرؤى المستقبليّة” الذي يحتاج إلى تمهل وتأنٍ في العمل، وبين استخدام بعض وسائل هذا التوثيق في زيادة الوعيّ الشعبيّ بالحقوق والطرق الصحيحة التي يجب أن تتبع دون التخبط في ظلمات العبثيّة والفوضى التي يحاول الكثير من طَغام السلطة توجيه الجموع نحوها حتى يطمسوا في المستنقع الذي ليس هو ميدان عملهم بل ميدان الأنظمة الفاسدة التي تبحث عن أيّ هفوة تستغلها في تثبيت عروشها. وفي هذا الظرف المحوريّ مع موجة المظاهرات الثانية التي يشهدها ختام عقدنا بعد الموجة الأولى التي شهدتها بواكيره، لا يمكن بتاتاً فهم الحياد أو المواقف الرماديّة. إن اللون الرماديّ ليس لون الثقافة ولن يكون لونها، وهو اليوم تهمة أكثر مما هو فضيلة أو حكمة، والمثقّف الذي لم تجعله الثقافة – التي يتشدق بها ويقضي وقته جاهداً في تعزيزها – يتّخذ موقفاً صريحاً واضحاً يعزز فيه موقف الشارع المنتفض فإنّنا ندخل في أزمة في المفهوميّة الثقافيّة التي نخرها تشويه المفاهيم لعقود، وسنكون بحاجة إلى هزة قويّة، ومثقّف اليوم إن لم يتّخذ موقفاً واضحاً إيجابيّاً فإنّ تغيير الأنظمة الحاكمة وإن لم ينجح بالكليّة فستتبعه غربلة شديدة للثقافة سواء من ناحية المفاهيم والرؤى أو العاملين والمشتغلين والمصدرين أنفسهم في الواجهة الثقافيّة.
أحمد الخميسي (قاص وكاتب صحافي مصري): على الثقافة أن تشتبك مع كلّ ما يهدد الوطن
وظيفة الثقافة – سواء أكان ذلك في هذه اللحظة أو قبلها أو بعدها – هي الوظيفة التي استقر عليها تطور الفكر الإنسانيّ عامّة
تتسع الثقافة العربيّة في إطارها العامّ الجامع لعدّة ثقافات عربيّة، وربما تختلف وظيفة الثقافة بعض الشيء من بلد لآخر حسب المهام التاريخيّة المطروحة. ربما يكون التنوير مثلاً هو المهمّة الأولى للثقافة في المجتمع المصريّ، وقد تكون المهمّة الأولى هي مقاومة الغزو الأجنبيّ كما هي الحال في ليبيا مثلاً. لكن تلك الاختلافات لا تمنع أنّ للثقافة العربيّة دورها العامّ، ومهامّها المشتركة بحكم الظروف المتشابهة. والحقّ أنّ وظيفة الثقافة – سواء أكان ذلك في هذه اللحظة أو قبلها أو بعدها – هي الوظيفة التي استقر عليها تطور الفكر الإنسانيّ عامّة، أي: التنوير وغرس القيم الإنسانيّة وتوجيه الفكر والشعور للبحث في قضايا المجتمع والوجود الإنسانيّ، وتصحيح المفاهيم المتوارثة، وتربية الشعور بالكرامة في النفس الإنسانيّة والتعاطف مع الآخرين.
ما زالت المهام أو الوظائف العامّة للثقافة هي وظائف الثقافة العربيّة الآن، في هذه اللحظة. وفي ذلك الإطار الشامل تبرز وظائف خاصّة للثقافة العربيّة مرتبطة بالمرحلة التاريخيّة التي نمر بها، وفي مقدمتها ابتعاث الروح الوطنيّة والقوميّة في مواجهة موجة الغزو الخارجيّ الجديدة، الأعنف في تاريخ الغزو، والتي دمرت العراق وليبيا واليمن وسورية وتمد براثنها إلى ما تبقى.
أعتقد أنّ ترسيخ وابتعاث الشعور الوطنيّ مهمّة رئيسيّة للثقافة العربيّة في اللحظة الراهنة، وطالما قامت الثقافة بذلك في مواجهة الأعاصير التي عصفت بنا، ورسمت الطريق للخروج من الأزمة منذ التحرر المصريّ من الاحتلال العثماني حتى وقتنا. سيبقى للثقافة العربيّة دور مستمر في الارتقاء بالشعور والفكر وتربية الوجدان، وسيكون عليها إلى جوار ذلك أن تشتبك مع كلّ ما يهدد الوطن إلى أن يزول الخطر، لأنّه لا ثقافة من دون وطن، ولا زهرة من دون أرض تسكنها، وقد كان ذلك هو دور رفاعة الطهطاوي، وطه حسين، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ وأدباء ومفكّرين عظام آخرين من البلدان العربيّة الأخرى.
سلام الكواكبي (كاتب وباحث أكاديميّ في العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة، المدير التنفيذيّ للمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في باريس): علينا الانتظار جيلاً أو أكثر للانتقال من “ثقافة” الخضوع إلى ثقافة الإبداع
في المنطقة العربيّة، بمكوّناتها المختلفة، تمّ تغييب الثقافة والمثقّفين لعقود عبر التخويف أو القمع أو الاستقطاب أو الافساد، أو جميعها معاً
أكاد أصاب بمرض بعض المتحذلقين وأسأل عن تعريف الثقافة، وماذا نعني بالثقافة، وربما أطالب أيضاً بتحديد مفهوم الثقافة، ولكنني أُنقذ نفسيّ، كما القارئ، من هذا المطب غير الصالح لأتوقف عند مطب مختلف يستحق التمعّن، وهو يتعلق بحمولة اللحظة العربيّة الراهنة والتي هي، وإن كانت جزءاً من اللحظة الكونيّة، إلّا أنّها تتميّز بخليط معقد من عوامل التشاؤم البنيويّ والتفاؤل الحركيّ. فالمنطقة العربيّة تمرّ بتغيّرات جذريّة تكاد توقظ أصحاب الرؤى المتشائمة، وأنا منهم، بإشاراتها الخجولة إلى نهايات مضيئة نسبيّاً لأنفاق يسودها ظلام دامس وتفوح منها رواح نتنة ما فتئت تمتد دون نهاية منذ بدء عمليّة بناء الدولة الوطنيّة الفاشلة في غالبيّة المنطقة العربيّة غداة زوال الاحتلالات المباشرة.
والثقافة بمختلف عناصرها تغتني، أو أنّه من الضروريّ أن تغتني، بمثل هذه المراحل التاريخيّة التي طال انتظارها وظنّ الكثيرون منّا بأنّها لن تنبثق من رماد الدمار الفكريّ والماديّ لعناصرها تلك. وفي المنطقة العربيّة، بمكوّناتها المختلفة، تمّ تغييب الثقافة والمثقّفين لعقود عبر التخويف أو القمع أو الاستقطاب أو الافساد، أو جميعها معاً. وسادت ثقافة الخوف والنفاق والخضوع والانتفاع. واستثمرت الأنظمة المستبدّة في ثقافة جوفاء نهلت من تراث غنيّ وعريق. وبدأت الأنظمة، على مختلف أشكالها، ملكيّة أو جمهوريّة، تقدميّة أو رجعيّة، تبني “ثقافة” رسميّة تساهم في عمليّة السيطرة على المجتمع ونخبه، كما لا يمكن لها بأيّ حال أن تنتج إبداعاً ولو في حدوده الدنيا. للانتقال الكامل من “ثقافة” الخضوع والخوف والظلام إلى ثقافة الإبداع المتحصّن وراء حريّة الفكر والتفكير والتعبير، علينا أن ننتظر ربما جيلاً أو أكثر، مع توفر كلّ مقوّمات الانعتاق من الاستبداد السياسيّ الّذي يتحالف معه أحياناً استبداد الظلاميّين أو أنّه يحاربه طمعاً في سلطته وليس ذوداً عن حريّة الناس بكلّ تأكيد.
والثقافة مطلوب منها الجرأة كما تُطالب هي بالحريّة، فالاستبداد سريع التكوّن وإن بعد الزوال. وكما قال عبد الرحمن الكواكبي منذ نيف ومئة عام فقد “أطلقت الأمم الحرّة حريّة الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنيّةً القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرَّة الفوضى في ذلك خير التحديد؛ لأنَّه لا مانع للحكّام أنْ يجعلوا الشّعرة من التقيّيد سلسلة من حديد، ويخنقون بها عدوّتهم الطبيعية، أي الحريّة”.
خالد الحروب (كاتب وأكاديميّ فلسطينيّ): إحدى المهمّات الأساسيّة للثقافة تعزيز فكرة وقيمة “التعايش“
المجتمع المتنوّع والحرّ هو الأكثر صموداً أمام التحدّيات، وأمام أثقال التخلّف التي تعيقنا من التقدّم للأمام
الثقافة هي نتاج سياقها، وموقعها ووظيفتها يتحددان وفق السياق المجتمعيّ والتاريخيّ الذي يفرض نفسه. وهكذا يمكننا تعقل الثقافة بكونها ديناميّة دائمة التحوّل والتفاعل والاستجابة للواقع السياقيّ، ولا تأخذ شكلاً جامداً ثابتاً في كلّ الأوقات والأزمنة.
من هنا، ولأنّ لحظتنا العربيّة (والعالميّة) مخنوقة بالأزمات والاحتلالات والاستبدادات والتخلّف، يصير من الأجدى أن نرى وظيفة الثقافة من منظور تراكم تلك الأزمات واستكناه إمكانيّات مساهمتها في مواجهة ذلك كلّه.
في نفس الوقت، علينا أن نكون واقعيّين ومنصفين في رسم سقف توقعاتنا من الثقافة ودورها، وعدم تحميلها أوزار وفشل المؤسّسات الراسخة والأكثر سيطرة وتأثيراً على المجتمع، مثل الدولة، والدين، والقبيلة، وشبكات الاقتصاد والمال، ووكلاء الخارج.
العواصف التي تحاصرنا بأزماتها نواجهها مع الأسف في مجتمعات ممزقة، متوترة، فيها انشطارات رأسيّة هي خلاصة جماع الاستبداد الطويل وتدمير قيم العيش المشترك، والتحالفات الاستعماريّة الخارجيّة التي دعمت ذلك الاستبداد لتأمين مصالحها. ونرى جميعاً حدّة الاستقطاب السياسيّ والطائفيّ والدينيّ والأيديولوجيّ والمصلحيّ الذي يفاقم من تشطير المجتمعات ونصب الحدود بين الجماعات داخل الوطن الواحد، وكلّ منها يزعم أنّه الأنقى والأحرص على الوطن، والأكثر كفاءة للقيادة، بالقوّة إن لم يكن بغيرها. وبالتوازي مع شبكات الولاء المصلحيّة والطبقيّة والطائفيّة، هناك شبكات الولاء الدينيّ والأيديولوجيّ الإقصائيّة للآخر، خاصّة في تعبيراتها القصوى (وليس بالضرورة كلّها).
وفي مواجهة هذا القدر العرمرم من الخراب، رأيي أنّ إحدى المهمّات الأساسيّة للثقافة هي تعزيز فكرة وقيمة “التعايش”، على اعتبارها الجذر المؤسّس للحياة المشتركة التي يمكن أن توفر مناخاً صحياً ومعقولاً للأفكار المتنافرة والمتصارعة كي تعيش في إطار وطن واحد من دون سيطرة النزعات الاقصائيّة تجاه الآخر. كيف يمكن أن يتعايش المتديّن والملحد في وطن عربيّ واحد، كلاهما ينتميان له ويريدان خدمته؟ كيف يمكن أن يتعايش أبناء طوائف متناقضة، أو طبقات متنافسة، من دون اللجوء إلى السلاح والعنف والدم؟ كيف يمكن أن يتعايش من لا يحب المثليّين على سبيل المثال مع مثليّي بلاده ويقتنع بأنّ مثليّتهم لا تنتقص من مواطنتهم؟ كيف يمكن أن ننقل مجتمعاتنا من فكرة تنميط الأفراد في قالب واحد وتوقع أن يكونوا في لون واحد، إلى فكرة التنوّع الغنيّ للمجتمعات، وأنّ ليس هناك سلطة أخلاقيّة لفرد أو لفكرة على فرد آخر أو فكرة أخرى ما دامت ممارسة الحريّة لا تعتدي على حريّة الآخرين. المجتمع المتنوّع والحرّ هو الأكثر صموداً أمام التحدّيات، أمام الغزو والتدخل الأجنبيّ، وأمام أثقال التخلّف التي تعيقنا من التقدّم للأمام. ودور الثقافة والمثقّفين مركزيّ هنا.