الثورة المضادة حين تقرأ التاريخ/ وسيم الشرقي
حالها كحال أغلب الجمهوريّات التي كانت يوماً دولاً استعماريّة، أو مراكزاً لامبراطوريات قديمة، لا تحضر تركيّا في المخيّلة العربيّة كجمهوريّة حديثة تطلّ على المنطقة العربيّة من شمالها فحسب، بل كان الحال أنّ العلاقة مع تركيّا كانت وما زالت في نَوَسان دائم بين صور متناقضة تماماً، فمرّة نرى تركيّا بعدسة قصص حب نور ومهنّد وطبخات بوراك وقدرة الإسلاميين على الدخول في اللعبة الديمقراطيّة، ومرّات أخرى نراها بعيون السفربرلك وعناصر الشرطة العنصريين في مطار أتاتورك وأحلام أردوغان السلطانيّة.
لم نكن في سوريا استثناءاً لهذا النَوَسان المحموم، ففي التسعينات كان ممثّل تركيّا هو جمال باشا السفّاح الذي يتلصّص على مشهد إعدام الوطنيين العرب في مسلسل أخوة التراب الشهير، أمّا في الألفينات، فتحوّلت جارتنا الشماليّة إلى صورة أردوغان هاوي كرة القدم الذي يتبادل قمصاناً رياضيّة مع وريث حافظ الأسد أثناء افتتاح ملعب حلب الدولي، في المدينة التي قرّر الوريث لاحقاً هدم نصفها فوق رؤوس أهلها، لأنّهم عملاء لأردوغان.
أمّا بعد ثورات الربيع العربي، فقد اتّسع خندق معاداة كلّ ما له علاقة بتركيّا ليشمل قطّاعات واسعة في المنطقة العربيّة، من بعثيي سوريا وقوميّيها السوريّين وسائر أعداء الثورة السوريّة، إلى رعاة موجة الثورة المضادّة الرئيسيّين في السعوديّة ومصر والإمارات.
ضمن هذا السياق الوردي، عرضت قناة MBC السعوديّة قبل أسابيع قليلة أولى حلقات مسلسل ممالك النار، الذي عُرضت حلقته الأخيرة في التاسع من شهر كان الأول/ ديسمبر الماضي. ويعالج المسلسل فترة سقوط أجزاء من بلاد الشام ومصر في قبضة السلطان سليم الأوّل وجيشه العثماني، بعد معارك مع جيوش المماليك وسلطانهم قانصوه الغوري ومن ثم وريثه طومان باي.
الطغاة والغزاة
في منتصف العقد الماضي، كانت الدراما التاريخيّة العربيّة قد طوّرت قراءات نقديّة للتاريخ العربي، على الأٌقل في أعمال الثنائي وليد سيف وحاتم علي. كانت أعمال مثل ثلاثيّة الأندلس، قد أنجزت قراءات لم يبذل صُنّاعها جهداً كبيراً في إخفاء إسقاطاتها المباشرة على الواقع السياسي العربي يومها.
«إنّ الطغاة كانوا دائماً سبب الغزاة»، جملةٌ كانت تتكرّر في مقدّمة وحلقات مسلسل ملوك الطوائف المُنتَج عام 2005، أي بعد عامين من غزو العراق باسم التخلّص من الطاغية صدّام حسين. لم تكن الإسقاطات السياسيّة يومها سرّاً يخفيه صنّاع المسلسلات التاريخّية في السنين القصيرة السابقة للربيع العربي، بل إنّ العلاقة بين صنّاع الدراما التاريخيّة كانت في حالات كثيرة علاقة معقّدة مع منتجي هذه المسلسلات، سواءَ في حالة ثلاثيّة الأندلس التّي كانت تعلّل الغزو بالاستبداد وتندّد به، بينما يتم إنتاجها من شركة سورية الدوليّة المملوكة لرجل الأعمال محمّد حمشو، أحد أعمدة نظام القمع السوري، والخاضع اليوم للعقوبات الدوليّة؛ أو كما في حالة مسلسل عُمَر، الإنتاج المشترك السعودي القطري (قبل أيام الحَرَد الخليجي)، الذي عُرِضَ للمرّة الأولى والأخيرة على التلفاز عام 2012.
في أيّام ما قبل الثورات العربيّة، والثورة المضادّة التي تلتها، لم تكن أسباب الإنتاج التلفزيوني الضخم بريئة أيضاً، سواءَ كان الهدف منه التربّح المادّي كما في حالة مسلسلات سورية الدوليّة، أو مناكفة إيران كما في حالة عُمًر، حيث كانت الدراما الإيرانيّة قد حقّقت شعبيّة كبيرة حينها في الشارع العربي عبر مسلسلات مثل يوسف الصدّيق، الذي كان يشكّل تهديداً عبر ترويج ما رآه صنّاع القرار في السعوديّة وقطر رواية إيرانيّة- شيعيّة للتاريخ الإسلامي، فكان لا بدّ من التدخّل العربي- السنّي لإنقاذ الموقف.
لكنّ التدخّل يومها كان يتم عن طريق «أهل المصلحة»، أو الفنّانين الذين يملكون أيضاً أجنداتهم الخاصّة، ورغباتهم النقديّة في إعادة قراءة التاريخ العربي الرسمي، بغضّ النظر عن دوافع المنتجين، وهو الأمر الذي يفسّر عدم إعادة عرض مسلسل عمر رغم المال الكثير المُستثمَِر فيه، ذلك بعد أن قدّم نصّ وليد سيف حينها مقاربة نقديّة بالحدّ الأدنى لأكثر حوادث التاريخ الإسلامي إشكاليّة، وهو الصراع على الخلافة.
أمّا في أيام الثورة المضادّة، وبالعودة إلى ممالك النار، فلا يبدو أنّ المساحة للفنّانين العرب متروكة أصلاً لإنجاز أجنداتهم الخاصّة، فالفريق الفنّي الذي أنجز المسلسل كان بمعظمه أجنبّياً، تكنوقراطاً، ودون أي أجندة نقديّة سوى أجندة مُنتجيّ العمل، والّتي لا يصعب تلخيصها بعبارة نقيضة لعبارة ملوك الطوائف، فالطغاة ليسوا سبب الغزاة، بل إنّ الطغاة هم خلاصنا في وجه الغزاة.
الشرّ التركي
يعود المسلسل في حلقاته الأولى إلى طفولة السلطان العثماني سليم الأوّل، ومنذ أولى حلقاته يظهر سليم الطفل كصورة حيّة للشرّ المطلق وحبّ السيطرة، نظراته مليئة بالكراهية، تعليقاته لاذعة، وما يلبث أن يقتل طفلاً آخر من أبناء عمّه المتحارب مع أبيه في الحلقات الأولى من العمل. سليم، الطفل الذي يتدلّى قرط من إحدى أذنيه، سيتحوّل سريعاً إلى سليم الشاب الذي سيؤديّه الممثّل السوري محمود نصر بصورة شرّير عُصابي كاريكاتوريّة، تذكّر بالشخصيات الشرّيرة الكارتونيّة، أكثر منها بأيّ أداء تلفزيوني أو سينمائي طبيعي.
ومقابل كلّ هذا السّواد الذي يمثّله سليم المتوحّش، نجد على الضفة الأخرى الأمير المملوكي طومان باي أبيض القلب نقيّ السريرة، الطفل الطيّب الشجاع الخيّر على طول الخط، والذي يؤدّي دوره الكاريكاتوري حين يكبر الممثّل المصري خالد النبوي، حيث تتسارع أحداث المسلسل لتصل إلى النقطة التي يتشابك فيها جيشا المماليك والعثمانييّن، بعد أن يُحكم سليم الأوّل سيطرته على الأناضول من جهة، وبعد وراثة طومان باي للقب السلطانيّة على مصر وبلاد الشام من عمّه السلطان قانصوه الغوري من جهة ثانية.
بعد معركتين، الأولى في مرج دابق والثانية في الريدانيّة على مشارف القاهرة، سينهزم الجيش المملوكي، وسيدخل الجيش العثماني العَبوس الحاقد إلى القاهرة رغم الخطاب الناصري الحماسي لبطلها خالد النبوي، الذي سيُعدَم بعدها في مشهد يستلهم عبقريّة المخرج السوري بسّام الملّا في مسلسل الخوالي، حيث ترفرف روح الشهيد البطل فوق زغاريد النساء وغبار المدينة المهزومة، بينما يلتقط مصحفه طفلٌ سيكمل الطريق بعده غالباً، كما علّمنا مصطفى العقّاد في مشهد إعدام عمر المختار في الفيلم الشهير، والذّي شفَّ صُنّاع ممالك النار مشهده الأخير شفّاً دون كثير من الجهد لإخفاء فعلتهم.
أمّا سليم العابس، والذي ظنّه أحد الشيوخ في الحلقة الرابعة عشرة لوهلة مفتوناً بالمدينة المصريّة، فإنّه يسارع ليوضّح لنا أنّه مفتون بها فتنة الغيور، إسطنبول يجب أن تصبح أجمل وأغنى، و«لو اضطررتُ إلى نقل بيوتها ومآذنها وقبابها كما هي إلى هناك فسأفعل!»، ليرمي صنّاع المسلسل حطبة أخرى في نار عداوة تاريخّية مفترضة بين المصريّين والأتراك، في قراءة مغلقة لتاريخ المنطقة، قديمه وحاضره، تجعله قائماً على السرقة والنهب واستعراض العضلات بين الأمراء الشباب، وفق مقولة بسيطة مفادها «إذا كان التاريخ يضع لنا قواعد اللّعبة، فلماذا إذن لا نستمرّ في لعب اللعبة بهذه الطريقة اليوم؟ّ»، أي لعبة الهويّات المتنوّعة، من عرب وأتراك وإيرانيين وأكراد، حيث البقاء للأقوى والأشد ذكورة، وكأنّ الدول وأنظمة الحكم والعلاقات الدوليّة الحديثة لم تُخترَع بعد، وكما لو أنّنا ما نزال نعيش عام الـ 1517 بكلّ حلوه ومرّه.
صناعة تُعاند روح العصر
مثل باقي المسلسلات التاريخيّة العربيّة كبيرة الإنتاج، يستفيد ممالك النار من خبرات ممثلّين وفنيّين وكتّاب من دول عربيّة مختلفة، حيث يساعد نصّ العمل المكتوب بالعربيّة الفصحى على ذلك. إلّا أنّ الّلافت في كاستينغ ممالك النار هو عدم اختيار أي ممثّلين مصريّن لأداء الأدوار «الشرّيرة»، كسليم المتوحّش وسائر الخونة من المماليك الذين يساعدونه في الاستيلاء على حلب والقاهرة، حيث أدّى أدوار هؤلاء جميعاً ممثلّون سوريّون، بينما ذادَ عن أسوار القاهرة شخصيّات يلعب دورها ممثّلون مصريّون لم يكن منهم أيّ خائن، وهي تفاصيل لا يبدو أنّها قد كانت اعتباطيّة في العمل، أو أنّها تمّت لأسباب تتعلّق باللهجة، فالمسلسل يعرض شخصّيات تتحدّث بلهجات مغاربيّة واضحة على أنّهم من أهل مدينة حلب السوريّة.
أمّا حقيقة استخدام تونس كموقع لتصوير أحداث المسلسل فتشكّل المفارقة الأقسى ضمن مفارقاته العديدة، فالبلد الذي شهد أولى ثورات الربيع العربي، وأنجز مشروع التحوّل الديمقراطي الوحيد الذي لم يُمنَ بالفشل، يشهد اليوم تصوير عمل لا يشجّع على عداوات تاريخّية مفترضة بين شعوب المنطقة وحسب، بل يجسّد بركاكةٍ خطابَ أنظمة عربيّة تضمّ سجونها آلاف المعتقلين السياسيّين، ينتظرون موتهم البطيء، أو ربّما السريع في سفارات بلدانهم، و للمفارقة في إسطنبول نفسها! أي من حيث يأتي الهمج والبرابرة وفق ممالك النار.
أمّا بعيداً عن سياقه السياسي، فيبدو ممالك النار تغريداً شرقَ أوسطيٍّ جديد خارج سرب «روح العصر» فيما يتعلّق بصناعة الدراما التلفزيونيّة في العالم. ففي حين يتجّه العالم نحو استهلاك أكبر للمحتوى التلفزيوني المعولم المنتج من قبل منصات كبرى كنيتفلكس وأمازون، بلغات مختلفة، وبمواقع تصوير متنوّعة وبأجندات إيديولوجية غائبة، أو كونيّة الطابع كسياسات الهويّة وغيرها؛ في ظلّ ذلك كلّه، يسبح الإنتاج التلفزيوني في منطقتنا بالاتجاه المعاكس، أي باتجاه أعمال قوميّة يمينيّة تُنجز قراءات مُغلقة للتاريخ، سواءَ كان ذلك في منطقتنا العربيّة، أو في إيران، أو حتّى في تركيّا التي يفخر منتجوا ممالك النار أن عملهم يشكل رداً على مسلسلاتها التاريخيّة.
كميّة البروباغاندا السيّاسيّة في ممالك النار، تجعل مهمّة قراءة تفاصيله بمعزل عن السياق المحتقن الذي أنتج فيه مهمّة في غاية الصعوبة، سواءَ كانت تلك التفاصيل إيجابيّة أم سلبيّة، فبعض المشاكل في حبكة المسلسل، أو التشويق الذي ينجح المسلسل في الحفاظ عليه على طول حلقاته، والأداء الجيّد نسبيّاً من بعض الممثّلين، كلّ ذلك يغدو تفاصيل ثانويّة على هامش المقولة السيّاسية الركيكة التي يُتخمنا بها العمل على طول حلقاته، والتي ترسم صورة مبسّطة لعالم أبيض وأسود، أشراره أتراك، وأخياره مصريّون، دون أيّة مساحة رماديّة في ما بينهما.
في حين أنّ تلك المساحة الرماديّة في المنتصف هي غالباً ما يصنع الدراما الجيّدة، والتي يبتعد عنها صُنّاع ممالك النار، ومن ورائهم منتجوه، بانضباط وتفان يستدعي الضحك والأسى في الوقت ذاته.
موقع الجمهورية