السينما السورية الجديدة، شابة تلتقط أنفاسها: رغم ما يسميه البعض بإنهاك إخباري عالمي من سوريا، تستمر الأفلام القوية بالظهور/ مايا أبيض
خضعت السينما السورية لرقابة قاسية بشكل خاص، لعقود طويلة تحت حكم نظام الأسد. البوصلة الإيديولوجية لحزب البعث، المتأثرة بالسوفييت، آمنت بقوة السينما في تشكيل وإلهام العقول والقلوب، لسوء حظ السينما.
حصرت صناعة الأفلام بالإنتاج الرسمي للمؤسسة العامة للسينما، التي لم تنتج أكثر من فيلمين في السنة، أعطيت لحفنة من محابي النظام، العاملين ضمن أجنداته الإيديولوجية والرقابية الصارمة.
حتى الأفلام الأجنبية التي كانت تعرض في الصالات السورية تعرضت لرقابة قاسية، فلم يسمح بعرض معظم الأفلام “الغربية” أو الهوليوودية. مع استثناء يتيم لسينما فندق ٥ نجوم في وسط العاصمة (أوتيل الشام) خلال التسعينات.
انتفاضة عام ٢٠١١ شكلت منصة دفع للأصوات المستقلة لتكسر المحددات على صناعة السينما التي فرضها النظام، وذلك بفضل التطور التكنولوجي، الاهتمام العالمي والمواضيع الغنية بشكل استثنائي.
لجأ معظم صنّاع الأفلام الصاعدين إلى النوع التسجيلي، جزئيا، بسبب انخفاض كلفته الانتاجية. ولكن أيضا بسبب زيادة الطلب في سوق صناعة الأخبار، فضلا عن الحاجة شبه الغريزية لديهم لتوثيق ما يشهدونه.
بقيت الأفلام الدرامية الطويلة بمعظمها موالية للمؤسسة، ملتزمة بخطوط خطاب النظام. على الرغم من أن بعض المحاولات لصنع أفلام روائية قصيرة، أنجزت من قبل صناع الأفلام الشباب المستقلين، العاملين في ظروف خطرة ومتأرجحة. إلا أنّ قلة منها نالت الاهتمام العالمي الذي حصدته نظيراتهن التسجيلية.
شهدت سنة (٢٠١٨) أول ترشّح في تاريخ السينما السورية لجوائز الأوسكار لفيلم سوري الصنع، الأمر الذي ساعد وثائقي فراس فياض “آخر الرجال في حلب” على كسر دوائر المهرجانات النخبوية في أوروبا والوصول إلى منصات عرض جماهيري متاحة عالميا مثل نيتفليكس. لحقه بالترشح للأوسكار العام الماضي وثائقي طلال ديركي “آباء وأبناء” الذي يحكي قصة عائلة إسلامي راديكالي مسلح في شمال سوريا.
أيضا، فيلم وعد الخطيب “إلى سما”، الذي يحكي قصة الحرب وسقوط حلب من وجهة نظر أم شابة، نال أكثر من ٢٥ جائزة دولية حتى الآن منذ إطلاقه في بداية العام ٢٠١٩، بما في ذلك جائزة العين الذهبية في مهرجان كان الفرنسي، ووصل لقائمة ترشيحات الأوسكار لهذا العام أيضا. ورغم ما يسميه البعض بإنهاك إخباري عالمي من سوريا، تستمر الأفلام القوية بالظهور.
خاض فريق حكاية ما انحكت، مع شركائنا في أوبن ديموكراسي، عديد النقاشات الحامية حول الوضع الحالي للسينما السورية اليوم، نتج عنها مشروع ملف الخريف المطوّل حول السينما السورية الصاعدة: السياسة، التحديات الانتاجية، الرقابات، الجمهور، وإلى أين قد تتجه الآن؟
هنا، إحدى هذه النقاشات بين ثلاث صنّاع أفلام تسجيلية شاركوا في نوفمبر من العام الماضي في مهرجان إدفا للافلام التسجيلية بأمستردام، الذي عرض عدة أفلام سورية أو متعلقة بسوريا.
داليا خوري (خصوصية الجراح) وإياد الجارود (القربان) وليلى أبيض (رسائل إلى س.). استغلوا فرصة تواجدهم سويا في المهرجان كي يجتمعوا ويتحدثوا عن وضع الأفلام السورية وبعض أهم التحديات التي تواجهها وعلاقتها بالمجتمعات التي تروي حكاياتها.
جمهور منهك؟
داليا: آتي إلى مهرجان إدفا وأبعث رسائل لبعض الأصدقاء السوريين، أقترح مشاهدة أحد الأفلام السورية المعروضة، لكنهم غالبا يترددون ويفضلون مشاهدة أفلام أجنبية عن قضايا لا يعرفونها كثيرا. لذلك عندما نتحدث عن المصاعب التي يواجهها السوريون في الوصول إلى الأفلام السورية، عليّ أن أسأل: هل يريد السوريون مشاهدة حكاياتهم؟
إياد: خلال عملي في تغطية أحداث عنيفة ومؤلمة في سوريا، كنت أشكّك في الهدف من توثيق العنف، ثم إعادة عرضه على ضحاياه مجددا. ألم يكفي تحمله؟ لم نعيد اجترار الألم؟
داليا: لكن الناس تريد أن تروى حكاياتها. يريدون أن يشعروا أنهم لم يتم نسيانهم أو التخلي عنهم، وأن أحدا ما يحاول إخبار العالم عنهم والتأكد من أنهم لن يُنسوا.
إياد: أعرف ولكن برأيي يختلف الأمر بحسب الموضوع. هذه الحكايات والرسائل يجب أن ترسل لأحد آخر، لمجموعة أخرى في مكان آخر. لم أعد أصنع الافلام لأغيّر العالم، لا أؤمن بذلك. لن تغيّر السينما رأي كبار الساسة وصانعي القرار، هؤلاء يعرفون الحقائق. لكني في عملي أخاطب مجموعة إنسانية أخرى. أحاول ترجمة حكاياتنا وتقريبها منهم عن طريق خلق روابط ومقارنات مع أحداث مشابهة في مجتمعاتهم وتاريخهم، كي يتمكنوا من التواصل على مستوى إنساني بطريقة أفضل. أيضا أصنع الأفلام لتقديم رواية بديلة للتغطية الإعلامية التقليدية لأحداث بلدنا، للتأكد من أننا نكتب تاريخنا ونروي حكاياتنا بأنفسنا.
داليا: أنا أيضاً لا أصنع الأفلام لأني أظن أنها ستغيّر العالم، ولا يوجد في ذهني مجموعة جغرافية معينة من الجمهور عندما أصنعهم. أصنع الأفلام حين تشدّني حالة إنسانية معينة، وأود معاينتها سينمائيا من خلال الفيلم. إن كان الفيلم جيدا في النهاية، سيصل لأي متلقي يشاهده.
في فيلمي هذا (خصوصية الجراح) عن المعتقلين السياسيين السوريين السابقين، لم أختر أن أصنعه لأنهم سوريون. شاءت الأقدار أن أكون من المنطقة (المشرق العربي) لذلك غالبا ما تكون هي موضوعي. صنعت الفيلم لأني كنت مشدودة بالكيفية التي ينجوا فيها البشر من صدمة تروما من هذا النوع. كان هناك بعض النكت والمزاح المرتبط بالثقافة المحلية، قد يقول المرء أنها صعبة الفهم بالنسبة لجمهور أجنبي، لكني لم أنوي إزالتها. الفكاهة هي وسيلة قوية جدا يستعملها الناس للتغلب على التروما والصدمات والتعامل معها.
إلا أنه بعد أن أصبحت مسودة الفيلم جاهزة، عرضتها على مجموعة من الأصدقاء. كانت إحداهن سورية ونصحتني ألا أضمّن هذا القدر من الفكاهة في الفيلم لأنها من الممكن على سبيل المثال أن تكون مهينا بالنسبة ل… فلنقل لوالدة شخص قتل تحت التعذيب، أن تحكي نكتة حول الاعتقال السياسي.
بالتأكيد لم يكن هدفي أن أهين أحد. لذلك قمت بإزالة بعض النكات، وأبقيت بعضها. الفكاهة هي جزء من واقع هذه الحالة الإنسانية. وفي النهاية، المعتقلون السابقون هم أنفسهم من يلقي النكات حول تجربتهم، لست أنا. لكني سعيدة أنني قمت بالعرض التجريبي، فمن المهم أن نبقى على اتصال مع المجتمعات التي نتحدث عنها في أفلامنا.
ليلى: تماما! بالنسبة لي غياب ردود الفعل من المجتمعات المعنية هو مشكلة. لكن أيضا، عدم وصول الأفلام إليهم يعقّد عملي أكثر. كما قالت داليا، يريد الناس أن تُروى حكاياتهم. كان هذا الأمر واضحا وبسيطا جدا عام ٢٠١١. في بعض المناطق، كان يكفي أن نأتي مع كاميراتنا كي يسرع الناس إلينا ليحكوا قصصهم، أو يرونا مبنى تعرّض للقصف، أو يأخذونا للقاء جريح، الخ… كان الأمر أكثر من أن نتمكن من الاستجابة له. مع مرور الوقت، وشعورهم أن العالم بات يعرف ما يحصل، ومع ذلك لم يقدم عونا يذكر، لذا عام ٢٠١٢ بدأ الناس بالتردد بالحديث أمام الكاميرا، خاصة، وأن الأمر يهدد حياتهم، إن قبض النظام عليهم بعد العرض. عندما فقدوا الأمل بأن أحدا ما سيساعدهم على إيقاف النظام إن عرف ما يرتكبه، فقدوا الثقة بدور الإعلام ككل. وفي عام ٢٠١٣، بات المصورون المحليون يعانون لتصوير مجرّد مبان قصفها النظام في بلداتهم. لأن السكان لم يريدوا أن يعرض التوثيق بالفيديو على اليوتيوب، نتيجة استعمال النظام سياسة العقاب الجماعي بالقصف على البلدات التي تنشر أخبار هجماته عليها. جعل هذا الأمر الكاميرا مستهدفة على جبهتين، الأولى من النظام، والثانية من نفس الناس الذين تحاولين رواية حكاياتهم.
مع ذلك، عندما يعرض فيلم في مهرجان أجنبي شهير، يتحمّس السوريون، ويسعدون لرؤية قصصهم تروى على الشاشة الكبيرة. يسألون: لم لم تذكري أيضا هذا الأمر أو ذاك… لكن عندما ترفعين الكاميرا وتحاولين تصوير الأمر، لا أحد يريد أن يأخذ مخاطرة أن يتم تصويره.
الحلقة الانتاجية المتعثرة
داليا: إذا كيف تتعاملون الآن مع انقطاع الاهتمام الحالي في القصص السورية؟ لدي فكرة لفيلم جديد ألهمتني إياها تجربة المنفى التي يخوضها سوري أعرفه. إلا أنني مترددة في اختياره كشخصية رئيسية. في النهاية ما يمر به في منفاه هو مشترك مع كل الأجانب الآخرين في نفس البلد. إن كنت بولنديا أم يمنيا التجربة واحدة…
إياد: هل كان هناك اهتمام كبير سابقا؟
ليلى: نعم، بين ٢٠١١،٢٠١٣. الا أننا نتعامل مع الأمر لأن علينا ذلك. عملنا من الأساس صعب جدا في كافة جوانبه الإنتاجية الأخرى.
إياد: لم أكن أعرف الكثير عن مصادر التمويل في تلك الفترة. صورت فيلمان (دفاتر العشاق والقربان) بين ٢٠١١-٢٠١٣، واستغرق الأمر خمس سنوات حتى تمكنت من إنهاء الفيلم الثاني (القربان) وعرضه الآن!
كما قلت، أنا أصنع الأفلام كوثائق تاريخية، لأزيح عن كاهلي مسؤولية الشاهد. كنت مدرس رياضيات قبل أن يبدأ كل هذا. متابع شغوف للسينما، لكن لم يكن لدي تدريب أو خبرة سابقة في صناعة الأفلام. عندما بدأت الثورة شاركت بالمظاهرات وكتابة الغرافيتي على الحيطان وما إلى ذلك. وبما أني كنت أملك كاميرا، كنت أوثق بعشوائية ما كنا نقوم به. مع مرور الوقت واستيعابنا أنّ الأمر سيدوم أطول مما كنا نظن، ليس موضوع أسابيع أو أشهر، بدأت النشاطات تصبح أكثر تنظيما، وتغيرت الحياة بكافة جوانبها من حولنا بسرعة: أصدقاؤنا، ديناميكيات تفاعلنا الاجتماعي، نقاشاتنا واهتماماتنا، عملنا، حتى الشوارع والمدينة التي نقطنها تغيّرت. عرفت حينها أنّ مجرد صور فوتوغرافية على صفحة فيسبوك لن تتمكن من إيصال كل ذلك. هذا الأمر يحتاج إلى سينما.
داليا: أعرف، هذا هو أكثر ما يشدني في القصص حول سوريا. لقد مررتم بالكثير من التغييرات بسرعة كبيرة، من الصمت المطبق على الجميع إلى كم هائل من الأصوات والتجارب المختلفة و محاولات اكتشاف الذات، الأمر يكاد يشبه المرور بمرحلة المراهقة، بكل عواطفها واكتشافاتها المتسارعة.
إياد: نعم، إنها تجرية غنية جدا بالطبع. إلا أنني لم أكن أعرف شيئا عن الإنتاج السينمائي، المنح، شبكات التوزيع وما إلى ذلك… قمت بمعظم العمل بنفسي وبالكاد حصلت على منحة أو اثنتين لتغطية بعض التكاليف التقنية. عندما أنهيت فيلمي الأول، أرسلته لزميل لي لديه بعض العلاقات الإعلامية لأرى ما إذا كان من الممكن بثه على قناة ما، إلا أنه لم يجب على رسالتي إلا بعد أن وصل الفيلم إلى العرض في أول مهرجان له.
رغم أنّ معظم المخرجين اليوم يعرفون بعضهم أو لديهم معارف مشتركة، إلا أننا لازلنا لا نعمل كمجتمع سينمائي يقوم بدور الفلتر أو المرشح الأول للإنتاج لاختيار وترويج أعمال بعضنا البعض. علي أن أذهب للمهرجانات الدولية، ويتم التعريف عني في الخارج أولا، وبعد ذلك قد أحصل على فرصة عرض في الفضائيات العربية. لا منتج لدي وأملك كافة حقوق النشر لأفلامي، بإمكاني وضعها على يوتيوب ببساطة، لكن حينها لن يشاهدها سوى حفنة من أصدقائي.
بين المهرجانات والتلفزيون
داليا: هذه مشكلة الأفلام الوثائقية في كل العالم، لطالما كان الأمر على هذه الشاكلة. من الطبيعي أن يكون هناك تنافس بين صانعي الأفلام. على الأقل سنحت لك الفرصة أن تعرض على التلفزيون.
ليلى: ولكن العودة من المهرجانات إلى عالم التلفزيون قد يساعدك أيضا في التفاوض مع رقابتهم التي يحاولون فرضها على الفلم.
داليا: … وذلك في أفضل الأحوال! معظم القنوات العربية لا يهمها إن حزت على جوائز عالمية أم لا، إن لم يرغبوا بترويج الأفكار التي في فيلمك فلن يعرضوه.
ليلى: هذا صحيح، المشاهد ليس بوصلتهم. تمويلهم سياسي ويعملون كمكبرات صوت لمموليهم. لا يهمهم ما يريد المشاهدون متابعته، ولا نسب المتابعة ولا حتى المعلنين.
داليا: على كل حال، العرض على التلفزيون هو كإقناع المقتنع. إن كان أحدهم مختلفا معك سياسيا لن يشاهد العمل ولو عرض على التلفاز.
ليلى: نعم ولكن حتى أولئك المتفقين معك بالرأي لا يجدون فرصة لمشاهدة العمل. بالنسبة لي، أحاول متابعة مهرجانات الأفلام لأبقى على اطلاع حول ما ينتجه مخرجون سوريون آخرون. من المريح لي أن أجد أحدا قد غطى أحد المواضيع التي تنخر في رأسي. أشعر أن بإمكاني الاسترخاء قليلا وتضييق إطار عملي ليصبح أكثر دقة.
داليا: ولكن ألا تفكرين أن: “لا! لقد أخذوا الفكرة ولم أعد الآن أستطيع العمل عليها”؟
ليلى: نهائيا! يوجد كم هائل من الحكايات لتروى. الكثير مما لم يسمع به أحد بعد. الأحداث الجارية كثيرة لدرجة أنك لا تعرفين أين تبدأين.
إياد: الأمر أشبه بلعبة التركيب/ البازل. أنا ساهمت بقطعتي وأنظر حولي لأرى من وضع قطعة ثالثة ورابعة وهكذا.
داليا: نعم ولكنك لست صانع الأفلام التقليدي. أنا لا يوجد ٢٠ فيلم في رأسي سويا كل الوقت!
ليلى: غياب التمويل المحلي، الحاجة للعمل بالخارج دوما، من خلال المنح أو المهرجانات أو الموزعين، يحد كثيرا من المواضيع التي يمكن أن نختار أن نغطيها. لأن لكل جمهوره الذي يضعه في الحسبان. ما يشد السوريين لمشاهدته عن سوريا يختلف عما يشد الأجانب. أنا لا يهمني أن أصنع أفلاما تتحدث عن من هاجم ماذا، أو كيف حوصرت هذه المدينة وكيف أفرغت تلك. أنا لا أصنع أفلام العناوين الإخبارية العريضة. لذلك، فإن مواضيعي يحد منها كثيرا واقع اغتراب الإنتاج والتوزيع هذا. كما قلت، إياد، حصل الكثير من التغيير على الحياة من حولنا بسرعة كبيرة، لم تتح لنا الفرصة بعد لالتقاط أنفاسنا. ما يشدني الآن هو متابعة ذلك وإعادة عرضه على السوريين كي نتمكن من مواجهة الأمر جمعيا وفتح حوارات حوله. لكن هذا غالبا ما يعتبر شأنا محليا أو تفصيليا جدا بالنسبة للمنصات العالمية.
إياد: أنا أيضا لا أصنع أفلام أخبار حربية. ولدي حكايات أرغب بأن أرويها لجمهور عالمي، لذلك فإن هذا الأمر لا يقلقني دوما. بالطبع هناك بعض المواضيع التي تشعر أنه يجب التعاطي معها على مستوى محلي وسريع بين السوريين، لكن بإمكاني صنع فيديوهات يوتيوب حول هذه الأمور، هي مناسبة أكثر.
أنا لم أكن جزءا من المنظومة السينمائية الدولية في البداية. معظم فرص التمويل من حولي كانت، إما منظمات دولية لا علاقة لها بالإعلام ولكن لديها ميزانية صغيرة للتواصل، وبالتالي المنحة كانت محدودة بموضوع معين وبقيت الأفلام خارج دوائر عروض السينما، أو كانت فرص التمويل من وكالات وقنوات إخبارية، أي أقرب لمواضيع وعناوين التلفزيون الإخباري.
الثمن المقابل
ليلى: لم يكن لدينا في سوريا قط معهد سينمائي وكثير من صانعي الأفلام بدؤوا كما فعلت أنت إياد. هذا أدى إلى أن صناعة الأفلام الوثائقية تداخلت مع العمل الإخباري السمع/ بصري. العاملون في المجالين، الأدوات والكاميرات والعلاقات والترتيبات اللوجستية، شبكات التمويل والتوزيع… أثر هذا بشكل كبير على ما يتم تغطيته.
إياد: الكثير من النشطاء الإعلاميين في بلدتي حصلوا على كاميرا فقط عن طريق وكالة إخبارية وسمح لهم باستعمالها فقط لتغطية أنواع الأحداث التي يمكنهم بيعها لهذه المؤسسات كمواد إخبارية. الوكالات كانت مهتمة فقط بالحرب، الدمار والموت. الحياة، الحياة بأكملها، والتغيير الهائل الحاصل في كل جوانبها المتنوعة، ترك دون توثيق! يوصلني هذا إلى مشكلة أكبر.
الأرشيف السوري!
ليلى: باع بعض الشباب أرشيفهم الذي صوروه على مدى سنوات بالكيلو لبعض وكالات الأنباء وقنوات التلفاز!
داليا: الكيلوبايت؟
ليلى: لا، الكيلوغرام!
إياد: دفع لهم وفق وزن القرص الصلب الذي حفظت المواد عليه! هناك بعض القنوات العربية التي اشترت كميات هائلة من المواد، وصنعت تقريرا بسيطا فقط منها. لكنها احتفظت بالبقية عبر عقود ملكية حصرية. تملك هذه القنوات اليوم جزءا كبيرا من تاريخنا، توثيق ما حصل، تملك الأدلة حول كيف كانت بعض المجموعات تتصرف. يمكنها إعادة كتابة التاريخ كيفما شاءت، تجعل أحدا ما يبدو إرهابيا والآخر معتدل، وفق أجنداتها.
ليلى: بدأ الأمر قبل الأرشيف بكثير. حتى لو امتلكت كاميرتك الخاصة، إن إمكانية الوصول للتصوير في الأماكن العامة في بعض المناطق أصبح مرتبطا بمن يمول هذه المجموعة أو تلك. أي فصيل مسلح صغير، أصبح بإمكانه قطع الطريق بوضع حاجز وتقرير من يمكنه التصوير في المنطقة التي يسيطر عليها. أذكر أنه في أواخر ٢٠١٢ في حلب، تم منعنا من الدخول إلى حلب القديمة لأننا كنا نحمل كاميراتنا، طلبوا منا الحصول على إذن تصوير من مكتب لا أدري من… الكل عمل تحت أسماء مستعارة بالطبع، لم تكن تعرف من يمولهم ولا ماهي أجنداتهم. ولم يسمحوا لك بتصوير حتى شوارع مدينتك إلا إن كان خطابك مروّجا لهم أو لروايتهم عن الأحداث. كانت عملية معقدة جدا، التفاوض للحفاظ على موقع مستقل في عملك وسط كل هذا. رقابة الممولين بدأت في الشوارع، في مرحلة التصوير، من خلال السلاح، قبل أن تصل إلى أجندات محطات التلفاز في البث والأرشفة.
تحديات الحرب
داليا: بالطبع، إنها حرب.
إياد: لكن الحرب أيضا فرضت تحديا آخر علي، وهو سؤال: أين أتوقف عن التصوير؟
كان هناك الكثير من الفوضى، الكثير من التغييرات السريعة حولنا مما جعل من المستحيل كتابة سكريبت فيلم بالشكل المعتاد والالتزام به. أنت تعمل تحت احتمالية خسارة أي جزء من فيلمك في أي لحظة: كاميرتك، موادك، شخصياتك، قدرتك على الوصول إلى كل ذلك.
في فيلمي الأول (دفاتر العشاق) ظننت أن النهاية ستكون بسقوط النظام ومتابعة كيف تكمل الشخصيات حياتها من بعده. لم يحصل لذلك، قررت شخصيتي الرئيسية، بطل الفيلم، التوقف عما كان يقوم به، وتأقلمت أنا مع ذلك. في فيلمي الثاني (القربان) توفيت الشخصية الرئيسية (الشهيد محمد حاف) بعد بدء التصوير بفترة قصيرة، فكان علي أن أنقل تركيزي إلى شخص آخر كنت أقدره بسبب الحياة التي يعيشها، وليس بسبب موته. ولكن حتى ذلك لم يفلح، فبعد أن ظننت أني قد أنهيت التصوير وتركت المنطقة، اضطررت لطلب مواد مصورة من قبل آخرين كانوا لا يزالون هناك، لأعيد التأقلم مع التغييرات في الحكاية.
داليا: هذا صعب جدا. لقد شاهدت أصدقاء ينهارون فريسة المرض حرفيا خلال عملهم على أفلام عن سوريا. كان الأمر مرهقا جدا، نفسيا وعقليا.
إياد: قبل ٢٠١١، لم أكن قد رأيت جثة ميتة قط في حياتي. ولأني أملك كاميرا، خرجت لأوثق ما يجري: القصف، المعارك، المشفى الميداني والجثث، كان علي التأقلم.
بعدما غادرت إلى تركيا، حاولت العودة إلى الشخص الذي كنته سابقا. يقولون أن الأمر يصبح أسهل مع الوقت وأنك تتعوّد عليه. بالنسبة لي حصل بالعكس، كان من الأصعب علي العودة لمشاهدة المواد التي صوّرتها. عملية المونتاج كانت صعبة ومؤلمة جدا. كنت أضع كل أقراصي الصلبة بجانب الكمبيوتر وأجلس محدقا بها.
ليلى: حتى أني تفاجأت عندما شاهدت بعض المواد التي صورتها للمرة الأولى! وكأني لم أرى المشهد من قبل قط. ففضلا عن الأدرينالين المتدفق، عملت الكاميرا بالنسبة لي بمثابة الدرع، تحاول أن تغرق نفسك في التفاصيل التقنية: “هل أقوم بسحب الفوكس بدقة كافية؟ أي ضوء تغير في المشهد؟ وكيف هو توازن البياض في إعدادات الألوان لدي الآن؟”.
تحافظ على عين خارج الكادر لتبقى جاهزا لمتابعة أي حركة تدخل على المشهد… كل ذلك يخلق فقاعة عاطفية تحميك في تلك اللحظة. ولا تستوعب فعلا ما كان يجري حولك حتى تعود لمشاهدة المواد لاحقا.
أذكر أني في إحدى المرات قضيت نصف النهار أناور من جانب المدينة إلى الآخر محاولة تصوير القناص الذي كان يقطع أحد الطرق الرئيسية في مدينة حمص. فقدنا الأمل بالتقاطه من مبنى آخر وقررنا المخاطرة بتصويره من الشارع مباشرة. كنت أركز كثيرا على حمل الكاميرا بثبات مع الزوم الكبير الذي كنت أستعمله، لدرجة أني لم أستدر لأصور الطلقة التي جاءت خلفي مباشرة من القناص الثاني على الطرف الآخر من الشارع!
إياد: استعملت زوم قوي جدا للتقريب في إحدى المرات وأنا أصور من هضبة مشرفة على أرض معركة، لدرجة أنه عندما دخلت فوهة سبطانة الدبابة في الكادر قفزت راكضا!
مخرج عن بعد
داليا: ولكننا الآن لسنا مغتربين عن موادنا فقط، وإنما منفيين خارج سوريا بالكامل. ماذا نفعل الآن؟ هل نستمر بصنع أفلام عن سوريا من الخارج؟ كيف يمكن لذلك أن ينجح؟
كان لدي فضول كبير حول ذلك وسألت مخرجا سوريا شهيرا يسكن في باريس عن الأمر. أجابني ببساطة أنه من غير الممكن أن تصنع أفلاما عن سوريا عن بعد. أعني حتى لو قام شخص آخر بالتصوير، ونحن نتابعه عن كثب ونعمل عبر الأنترنت، فهذا ليس عمل إخراج سينمائي حقيقة، أليس كذلك؟ أعني أنه يخلق أدوار صناعة فيلم جديدة، مخرج عن بعد ومساعد مخرج ميداني؟ ماذا تفعلون؟
إياد: بالنسبة لي، لا يمكن أن ينجح ذلك. على المخرج أن يكون في موقع التصوير خلال جزء كبير من التصوير على الأقل. عليك أن تكون حاضرا الواقع الذي تصنع فيلما حوله.
ليلى: شاهدت للتو الفيلم الثاني لصديقة لي، قالت أن فيلمها الثالث سيكون دراميا لأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكنها فيها العودة لسوريا في أفلامها. أعرف أنه كلما طالت فترة بقائنا في الخارج، كلما ضعف تمثيل أفلامنا للواقع المعاش داخل البلد اليوم. لكن بالنسبة لي، القصص لم تنته بعد، هي بالكاد بدأت، والسوريون حول العالم أخذوا قصصهم معهم.
هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين حكاية ما انحكت وأوبن ديموكراسي، حول السينما السورية الصاعدة منذ عام ٢٠١١: السياسة، التحديات الانتاجية، الرقابات، الجمهور، والى اين قد تتجه الآن.